الفصل الرابعة : الحالة العامة في معسكر الأعداء

     

وَاقْبِضْ أَيْدِيَهُمْ عَنِ الْبَسْطِ، وَاخْزِمْ أَلْسِنَتَهُمْ عَنِ النُّطْقِ، وَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ وَنَكِّلْ بِهِمْ مَنْ وَرَاءَهُمْ، وَاقْطَعْ بِخِزْيِهِمْ أَطْمَاعَ مَنْ بَعْدَهُمْ»..

اللَّهُمَّ افْلُلْ بِذَلِكَ عَدُوَّهُمْ:

وهو «عليه السلام» يريد أن يكون كل هذا الذي طلبه من الله تعالى للمرابطين على الثغور سبباً في قهر عدوهم، وكسر شوكته.

وقد بدأ أولاً بطلب أن يتسبب بفلِّ حد العدو.. فإن الشفرة الحادة إنما تتثلَّم بسبب اصطدامها بما هو أصلب منها، وبذلك لا تعود صالحة لفري، أو قطع، أو كسر ما يراد فريه، أو قطعه، أو كسره بها..

وهذا معناه: أن أول ما يلزم في مواجهة العدو: هو مواجهته بضربات حادة بهدف إحداث ثغرات وثلمات في خطته، وفي مواضع تأثيرها، وإبطال هذا التأثير، ومن ثم تعطيلها بحيث تفقد جدواها..

وهذا بالطبع من موجبات اختلال عمل العدو وإرباكه، وتبديد جهوده، وتعجيزه عن بلوغ أهدافه. أي أن المطلوب في البداية هو التركيز على نقاط بعينها، ومواجهتها بما يسقطها، سواء أكانت نقاطاً ترتبط بالتخطيط، أو التجهيز، أو غير ذلك.. شريطة أن تكون هذه المواضع من الكثرة بحيث تصبح هي الظاهرة الطاغية عليه، وهي تبدو للناظر بمجرد نظره إليه، و إلى أحواله.

وَاقْلِمْ عَنْهُمْ أَظْفَارَهُمْ:

ثم تأتي بعد ذلك مرحلة قلم أظافر العدو، بمعنى إبطال قدرته على التأثير والجرح والأذى في مختلف المواضع، فيصير حال وسائله، وأدواته حال الأظافر المقلمة، فإنها وإن كانت في حد ذاتها تملك صلابة بدرجة ما، ولكن ليس لها امتداد يمكنها من أن تنغرز فيما عداها لكي تجرحه، أو أن تؤذيه.. وهو ما يؤدي إلى تعطيل فعالية أسلحة العدو، وإبطال تفوقه فيها..

وَفَرِّقْ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ أَسْلِحَتِهِمْ:

ثم تأتي مرحلة تبديد قوة العدو، وكسر صلابته الذاتية في عمق وجوده. وقد ذكر الإمام «عليه السلام» من وسائل ذلك:

السعي للحيلولة والتفريق بينه وبين أسلحته.. وقد يتجلى هذا الأمر في مظاهر عديدة، فمثلاً:

من جملة أسلحة العدو: الحرب النفسية، ويكون ذلك من خلال إطلاقه الشائعات الكاذبة، أو الضخ الإعلامي لمعلومات مضخمة عن حجم قدراته، أو إنجازاته المدهشة، أو عن الضربات التي سددها، أو عن الخسائر التي أوقعها بالمجاهدين، أو عن العمليات الناجحة التي أنجزها.. وقد يكون ببث سموم الريب وإثارة الشبهات والتشكيكات بالقادة، بإخلاصهم، أو بقدراتهم، أو الحديث عن اختلافات فيما بينهم، أو غير ذلك..

فلا بد من التشويش على وسائله الإعلامية، أو القيام بإعلام تحصيني يجعل جهده هذا خائباً، وغير ذي أثر..

وقد يكون ذلك بالتفريق بين العدو وبين أسلحته المادية، وتعطيل جهوزيته، وإسقاط قدرته على استعمال السلاح، أو الإستفادة من سائر خدمات الدعم القتالي..

وقد يكون ذلك بتسديد ضربات إستباقية مفاجئة له. أو ضرب خطوط إمداده الحربي.. أو التأثير على استعانة قواته ببعضها البعض، ولو بالتشويش على أجهزة اتصالاته..

وربما يتمكن المؤمنون من تحديد مخازن أسلحته، فيعملون على تدميرها، أو الحيلولة بينه وبين الإستفادة منها، ولو عبر الكمائن، التي يفقد معها الثقة بالحصول عليها في الوقت المناسب..

وربما يكون هذا التفريق بجهد إعلامي، أو بتحركات معينة تثير الشكوك بين قادة قطعاته، وما إلى ذلك..

وَاخْلَعْ وَثَائِقَ أَفْئِدَتِهِمْ:

والمرحلة الأوضح والأصرح هي: الإخلال بالتوازن النفسي للعدو، وسلب إرادة القتال، أو ما يعبر عنه بهزيمة الوعي لديه، حيث يفقد العدو فيها مناشئ الثقة والطمأنينة بما تنتهي إليه الأمور، فإن ذلك يجعله كالريشة في مهب الريح، قال تعالى: ﴿وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ([1])، وهي هزيمته في روحياته، ومعنوياته، فإن الإنسان الذي لا يجد ما يربط على قلبه، ويبقى يعيش القلق في نفسه، ويعاني من الوحدة والوحشة، والتردد، لا ينتصر في الغالب على عدوه، حتى لو ملك أسباب القوة، لأن الحرب تحتاج الى الثقة، والتفاؤل، والحزم، والتعاون، والثبات والإقدام.

فلا بد في الإعلام الحربي من استهداف مناشئ الإعتماد والطمأنينة لدى الأعداء.. وخصوصاً المقاتلين منهم في ساحات القتال..

وَبَاعِدْ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ أَزْوِدَتِهِمْ:

ثم إن قطع طرق الإمداد في منطقة العمليات، وفي منطقة المواصلات، وشل قدرته على تأمين حاجات القتال، واختلال طرق التموين، ووضع مناشئه في دائرة الخطر، من شأنه أن يربك مقاتلي العدو، ويخل بتصميمه وقاطعيته في قراراته، ويحس بخطر الجوع، وفقدان سائر حاجات القتال. ويقلل من قدرته على المواجهة، ويضعفه عن اتخاذ قرار الإقدام والثبات عليه، ويزين له التخلي عن ذلك كله، وتقدير أنه معذور في ذلك. فإن الإنسان يرضى بأن يستشهد، لكنه لا يرضى بأن يموت جوعاً.

والقتل يبقى في دائرة الإحتمال، قد يغيب هاجسه وقد يحضر..

لكن عقارب الجوع، وأشباحه المرعبة تبقى هي الأشد حضوراً، والأقوى تعبيراً عن نفسها بصورة دائمة ومتتالية..

من أجل ذلك نقول:

إن أدنى تهديد للإمدادات بالأزودة سيكون أقوى وأبعد أثراً من أي خطر آخر، وهو السلاح الأمضى والأشد فتكاً في صمود العدو وفي ثباته على مواقفه، واستمرار تصميمه على القتال.

فلا بد من أن يدخل ذلك كله في الخطط الحربية، وفي الإعلام الحربي بصورة أساسية ومؤثرة.

وَحَيِّرْهُمْ فِي سُبُلِهِمْ:

ومن أهم أسباب فشل العدو، جعله في مواقف غامضة، لا يستطيع معها تحديد القرار المناسب، حيث تضعف ثقته في خياراته التي يعتمدها، ويتحر في أي سبيل يسلك، وأي المخارج يختار.

فإثارة الإحتمالات والأسئلة والشكوك لديه بصوابية اختياراته، والترويج الإعلامي لوجود خيارات أخرى، يؤثر في فقدانه ثقته بنفسه، وسيرتاب الجند بقادتهم، وسيثير لديهم احتمالات المغامرة والمقامرة بأرواحهم، التي هي أعز وأغلى ما لديهم.

كما أن ذلك يضعف الجبهة الداخلية، بما يثيره من شكوك لدى أهلهم، ومن وراءهم بسلامة تدبير أولئك القادة، ويثير الكثير من البلابل والقلاقل.

فلا بد من تركيز الإعلام الحربي على هذا الأمر، وزعزعة ثقتهم بالخطط الحربية التي يعتمدها قادتهم، ولو باستخدام تكتيكات تفرض عليهم التغيير فيها، ثم استغلال ذلك في الإعلام الحربي كدليل على قصورهم، وسقوط خططهم، وعلى أنهم يقومون بمغامرات لا مبرر لها..

وذلك ولا شك يضعف من مستوى الأداء، حين يفقد العدو الثقة بنفسه، وبخططه. حيث تراوده احتمالات الفشل، أو عدم الجدوى..

وَضَلِّلْهُمْ عَنْ وَجْهِهِمْ:

وهذه الفقرة تشير إلى ضرورة وضع خطط لتحركات تضليلية تؤدي إلى بعثرة جهد العدو، وعدم قدرته على تحديد وجهة سير العمليات القتالية، وهذا أمر ضروري جداً في جميع المهمات، وقد يحتاج ذلك إلى بعض العمليات الصغيرة هنا وهناك..

أو تحريك بعض القطعات العاملة باتجاه.. في حين يكون الهدف الأساس في اتجاه آخر.

وقد يحتاج ذلك إلى التظاهر بسرية تلك التحركات، ثم تسريب معلومات عنها بطريقة ذكية ومدروسة.

وقد يكون الهدف من ذلك هو تشتيت قوى العدو، ونقل اهتماماته، أو تحريك النخبة عنده نحو مواقع موهومة، أو غير ذات أهمية، أو ليست هي المقصودة، وإلهائه عن النقطة الحساسة التي يراد ضربها..

كما أن تعمية السبل على العدو في الوصول إلى أهدافه، وتضليله عنها مهم جداً في زرع الفشل والشعور بالخيبة لديه..

والخلاصة: أن التخفي في التحركات، وتضليل العدو عن أهدافه، وجره إلى أهداف موهومة.. أمر هام جداً وأساسي للنجاح في الحرب. بل لا يجوز تمكينه من معرفة الأهداف الكبرى والحقيقية بأي حال..

وَاقْطَعْ عَنْهُمُ الْمَدَدَ:

ومما يزيد في شعور أفراد العدو بالخيبة، وفي تشكيكهم بجدوى مخاطرتهم بأرواحهم أن تحاصر وتعزل القوات العاملة، وتمنع من الحصول على المساندة والدعم، ولا أقل من أن يشعروا بأن إنجادهم بالمقاتلين وقت الحاجة يعاني من مشكلات، ويصطدم بموانع.

وهذا يؤكد لديهم الشعور بضعف الإستعدادات، أو ضعف التدبير لدى قادتهم، ويعطيهم الشعور بالهيبة لعدوهم، وقيام الإحتمالات لديهم بأن عدوهم يملك قدرات مؤثرة في حسم الحرب لصالحه. وبذلك تصبح مقاومتهم غير ذات جدوى، بل هي مجرد هدر للطاقات، وتعرض للخطر بلا موجب..

وربما يكون نفس شعور الأفراد باختلال خطوط الإمداد، كافياً لإثارة شكوكهم في سلامة التدبير العسكري في سائر المجالات..

ومع اختلال الوضع في هذه الجهة، فإن كل فرد منهم سوف يعتبر أن أي خسارة يتعرض لها فريقه، ربما لا تتهيأ الفرصة لتعويضها، وستزيد بذلك قوة عدوهم وقدرته على إلحاق المزيد من الأذى بهم، أي أن إحساسه بالخطر سوف يتنامى ويكبر في كل لحظة. وسيزداد اهتمامه برصد الخسائر التي تلحق بفريقه، وسيكون لها تأثيرها القوي في نفسه، لأنها تنقص من احتمالات السلامة لديه، وربما ينتهي الأمر إلى أن يصبح القليل أعظم أثراً في نفسه، وأضخم وأكبر من حجمه الطبيعي. ويزيد شعوره بأنه محاصر بالخطر، وأنه يقترب منه، ويزحف نحوه شيئاً فشيئاً.

وقد يفكر أيضاً في أن عدوه أصبح أكثر ميلاً للحرب، لشعوره بأن قوته قد تضاعفت، فيكون على حد قول أمير المؤمنين «عليه السلام»: «ما لقيت رجلاً إلا أعانني على نفسه»([2])، وذلك لأنه «عليه السلام» مصمم على قتله، وهو أيضاً يحدث نفسه بأن علياً «عليه السلام» سوف يقتله. فهو إذاً يكون بانتظار ما يرد عليه، ولا يكون فاعلاً ولا مبادراً.

وقطع المدد بالرجال قد يحتاج إلى إشغال القطعات التي يتوقع إمدادها له بحروب جانبية، والسعي إلى تشتيت جهده القتالي.. أو زرع الخوف في طرق الوصول، ولو بعمليات خاطفة، أو نصب كمائن ذكية، أو زرع ألغام، أو غير ذلك مما يؤثر في زيادة الإحساس بخطر التردد في المسالك..

وَانْقُصْ مِنْهُمُ الْعَدَدَ:

وتتحدث هذه الفقرة أيضاً عن المقاتلين في جيش العدو بما هم أفراد، لا عنهم بما هم جماعة. فإن من المفيد جداً: أن يضاف إلى ما تقدم، العمل على استنزاف طاقات العدو البشرية، وسلب قدرته على القتال المجدي، ولو عن طريق السعي لتوجيه ضربات، من شأنها أن تنقص من عديد أفراده، وإخراجهم من ساحة الحرب، إما بقتلهم أو بجرحهم، أو بإيجاد أجواء ومناخات تساعد على حملهم على التراجع، والإنكفاء، واتخاذ خطوات ناقصة، ثم تقوية الدواعي لتركهم ساحة القتال.

فإن ذلك سيؤثر على معنويات الباقين، ويضعف إندفاعهم للحرب، ويزيد من ميلهم إلى خلق الذرائع، اللحاق بمن خرج منها.. حتى لا يُلْحِقَهم عدوهم بمن قتل أو جرح من إخوانهم..

وذلك يعني: أن ظهور النقص في عديد العدو مطلوب ولازم، لإيجاد المناخ النفسي الذي يضعفهم، ويقلل من خطرهم، ويقوي من عزائم أهل الحق في مواجهتهم، ويطمعهم بالنصر عليهم..

وَامْلَأْ أَفْئِدَتَهُمُ الرُّعْبَ:

وقد روي عن النبي «صلى الله عليه وآله» أنه قال: «نصرت بالرعب»([3]).

مما يعني: أنه لا بد من توجيه ضربات صاعقة، قادرة على نشر الرعب في قلوب الأعداء، فإن ذلك يهيؤه نفسياً للهزيمة، ويشل قدرته على القيام بدوره..

ويلاحظ هنا: أن المطلوب هو الإمتلاء بالرعب، لا مجرد دخول الرعب إلى القلوب..

كما أن المطلوب هو امتلاء الأفئدة، لا القلوب.

ولعل الفرق بينهما أن الفؤاد هو القلب لتوقده أو لتحركه، لأن أصل الفأد الحركة والتحريك، وقيل: الفؤاد هو العقل..

فاستعمال هذه الكلمة دون كلمة القلب، لإفادة خصوصية تحرك الرعب في قلوبهم باستمرار، أو توقده، وحرارته، أو أن تصبح العقول غير قادرة على الإدراك والتدبر، فيكون حالها كحال الممتلئ رعباً. وربما يقصد بالفؤاد: القلب وسواه مما في داخل الإنسان.

وفي جميع الأحوال، نقول:

لا بد من انتهاج سياسة تؤدي إلى أن تمتلئ أفئدة الأعداء رعباً، ويسيطر على كل وجودهم، بحيث يذهلهم عن كل تفكير وتدبير، فإن ذلك من بشائر النصر، بل هو من مكوناته الأساسية.

وَاقْبِضْ أَيْدِيَهُمْ عَنِ الْبَسْطِ:

والمطلوب أيضاً: تعطيل قدرة العدو على الحركة، وجعله في موقع العجز عن تحقيق أي إنجاز، فلا يكفي أن لا تمتد أيديهم إلى قتال، بل المطلوب هو: أن تنقبض تلك الأيدي، وتتراجع إلى حد القيام بعمل مضاد لما يطلب منها في ذلك. لأن تلك العناصر قد فقدت الداعي والمحرك للقتال، الذي يكون هو الداعي لبسط اليد، كما أشير إليه في قوله تعالى: ﴿لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ([4]).

ويلاحظ: أن المطلوب هو: أن تقبض أيديهم عن البسط، لا أنها تقبض عن أهل الإيمان. أي أنهم لا يريدون لأيديهم أن تبسط لأي شيء. مما يعني أن حركتهم قد تعطلت بالكلية.. وأن الرعب قد أفقدهم القدرة على أية مبادرة مهما كانت، ووضعهم في حالة انكماش وانطواء طبيعي..

وَاخْزِمْ أَلْسِنَتَهُمْ عَنِ النُّطْقِ:

والمطلوب أيضاً: محاصرة العدو، وإجباره على السكوت، فلا يستطيع أن يتكلم بشيء، لأن أي كلام يصدر عنه سيكون في مصلحة أهل الإيمان، وسوف يعود بالضرر عليه..

يقال: خزم اللؤلؤ، شكه ونظمه.

والبعير جعل في جانب منخره الخزامة.

وخزم أنف فلان، أذله وتَسَخَّره. فإذا خزم اللسان، فإنه لا يعود قادراً على النطق.

وهذا الرباط المهيمن على اللسان لا بد أن يتكوَّن وفق خطة مرسومة، إن في مجال الإعلام، وإن في مجال العمل الميداني العسكري، أو في غير ذلك من مجالات.

وهذا يحتاج أيضاً إلى رصد لكل ما يقوم به العدو، وإلى هيمنة تامة على حركته، وجعله عاجزاً عن الحركة في جميع الإتجاهات، حتى حين يريد أن يتحدث عن قوته، أو حين يريد أن يعبئ جنوده روحياً، ويرفع من معنوياتهم. وغير ذلك..

وسبب هذا هو: أنه يرى جهده هذا سينقلب عليه خيبة وفشلاً وخسراناً.

وَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ:

لقد طلب «عليه السلام» أن توجه ضربات قوية ومدوية إلى الحد الذي يخيف القوات التي لم تشارك بعد بالقتال، ويدفع العدو إلى ارتجال مواقف غير مدروسة، وتأكيد الشعور لدىه بعدم جدوى العمل بالخطط المقررة، وإن ذلك من شأنه أن يربك حركته، ويفقده القدرة على الإمساك بزمام الأمور.

بل لا بد من إنزال ضربات هائلة بمقاتلي العدو، تكون بحيث إذا رآها من خَلفهم من القوات المهيأة للقتال، دعاهم ذلك إلى نفور عاجل، يصاحبه اضطراب وتشويش، ومن دون تحديد هدف..

وهذا هو معنى التشريد بهم، أي أن تشعرهم تلك الضربة بالخطر الجسيم يتهددهم، من خلال تصورهم لحجم الأضرار التي حلت بأولئك، الذين كانوا في المواجهة، وكانوا يملكون القوة، والخبرة، والخطة، والسلاح وغير ذلك!! ويتضاعف شعورهم بهذا الخطر بسبب فقدهم لأية ضمانة وحماية من الخطر الذي يتوقعونه، وهم لا يملكون شيئاً من الخبرة، أو الإمكانات، أو الإعداد والإستعداد، أو الخطط، أو المعلومات عما آلت إليه الأمور، فلا يرون لأنفسهم خلاصاً إلا بالنفور والفرار من مواقعهم، إلى مواضع أكثر أمناً، وهم لا يعرفونها بالتحديد، لأن الأمن أصبح خاضعاً لإرادة عدوهم، ولتحولات لم يعرفوا عنها شيئاً، فيتفرقون مع اضطراب وتشويش، ومن دون أن يكون لهم هدف محدد..

وَنَكِّلْ بِهِمْ مَنْ وَرَاءَهُمْ:

ثم إن انفراط جمع العدو على النحو الذي ذكرناه آنفاً، وإن كان إنجازاً كبيراً وهاماً جداً، ولكنه يبقى غير حاسم. فقد يكون ثمة من يعيد لملمة القوات المنتشرة، وربما يضم إليها طائفة ممن شهدوا عن كثب ما جرى لهم، ويفهمهم أن الجيش قد يتعرض لنكسة، ولكن ذلك قد لا يفقده القدرة على إعادة تنظيم صفوفه، ثم الدخول في التجربة من جديد، على أساس استخلاص الدروس والعبر..

فالمطلوب هو: أن توجب الضربة التي تنزل بالعدو تشريده، بحيث يكون هذا التشريد قد حصل لهم بسبب شعورهم بالألم الحاد لما يرونه من حالهم..

مما يعني: أنه لا بد أن تظهر آثار تلك الضربة في مقاتلي العدو جراحاً، وذلاً، وإندهاشاً، ورعباً.. ينعكس على من خلفهم فراراً ذليلاً، واندهاشاً ومعاناة ورعباً. وذلك من موجبات انقطاع آمالهم بأي نصر، وانصرافهم عن التفكير بأية حركة..

وَاقْطَعْ بِخِزْيِهِمْ أَطْمَاعَ مَنْ بَعْدَهُمْ:

والخزي: الهوان. وأصله ذل يستحيا منه.

وغني عن البيان: أن الذي يرى هزيمة غيره، قد يتوّهم أنه لو كان مكانهم لم يجر له ما يجري لهم، لأنه يرى نفسه أصح تدبيراً، وأمضى عزماً منهم، وأن ما جرى لهم لعله كانت نتيجة خلل في خطتهم، أو فشل في عزيمتهم.

كما أن كل واحد من المنهزمين قد يلقي تبعة ما جرى له على غيره. وذلك يخفف من وقع ذل الهزيمة عليه، ويفتح له باباً للتفكير بأن يجرب حظه في مقارعة أهل الإيمان من جديد.

ولكن هذا التفكير قد يتضاءل تأثيره حين يرى أن حجم ما جرى على المنهزمين من ذل وهوان، وخزي، لا يمكن تحمله لأحد من البشر، ولا يستطيع هو أن يرضاه لنفسه مهما كان الثمن.

وإذا تمثل نفسه بهذه الحال، لو حل الفشل فيه، فسيضطر إلى البحث عن ضحية يحملها تبعة الهزيمة، وسيجد أن ذلك لن ينفعه في تخفيف وقعها عليه، لأن النتيجة هي ذل يستحيا منه، ولن يكون في هذه الحال قادراً على مواجهة الناس ليقدم لهم عذره..

ولو تشجع وظهر لهم، فسوف يسقط نفس ظهوره هذا ما يعتذر به عن صلاحية التأثير، حين يكون سبباً في ازدرائه، وازدراء كل ما يصدر منه وعنه.

وهذه عقبة أخرى تعترض تفكيره بأي شيء يحمل معه احتمالات فشل آخر يؤدي إلى مثل هذه الحالة. وسوف يبحث عن المعذرات له سلفاً، وسينأى بنفسه عن أن يمر حتى في وهمه خيال معاودة الكرة..

فيكون خزيهم نفسه من موجبات قطع أطماع من بعدهم في تحقيق أي نصر، أو في الحصول على أية نتيجة.

والخلاصة:

أن الهزيمة في الحرب تنشأ عن الشعور بعدم جدوى القتال.. سوىَ تكبُّد المزيد من الخسائر.. فلا بد من العمل على تكوين هذا الشعور لدى الأعداء، من خلال الضربات التي توجه إليه، ثم توظيف تلك الضربات في المجال الإعلامي وغير ذلك..


([1]) الآية 43 من سورة إبراهيم.

([2]) نهج البلاغة (بشرح عبده) ج4 ص75 والبحار ج34 ص347  وشرح النهج للمعتزلي ج19 ص226.

([3]) تقدمت مصادر هذا الحديث.

([4]) الآية 28 من سورة المائدة.

     

فهــرس الكتــاب

     

موقع الميزان