الفصل الخامس: الحالة العامة في معسكر أهل الإيمان

     

«اللَّهُمَّ وَقَوِّ بِذَلِكَ مِحَالَ أَهْلِ الْإِسْلَامِ، وَحَصِّنْ بِهِ دِيَارَهُمْ، وَثَمِّرْ بِهِ أَمْوَالَهُمْ، وَفَرِّغْهُمْ عَنْ مُحَارَبَتِهِمْ لِعِبَادَتِكَ، وَعَنْ مُنَابَذَتِهِمْ لِلْخَلْوَةِ بِكَ حَتَّى لَا يُعْبَدَ فِي بِقَاعِ الْأَرْضِ غَيْرُكَ، وَلَا تُعَفَّرَ لِأَحَدٍ مِنْهُمْ جَبْهَةٌ دُونَكَ»..

اللَّهُمَّ وَقَوِّ بِذَلِكَ مِحَالَ أَهْلِ الإِسْلَامِ:

المحال ـ بكسر الميم ـ: الكيد، والقوة والشدة، والتدبير، والمكر..

وبعد أن كان الحديث عن الآثار التي قد تصيب المرابطين، أطلق هنا في المطالب، لكي تعمهم، وتعم جميع أهل الإسلام.

وهذا يعطي: ضرورة رسم خطط عملية تؤدي في مقام تنفيذها إلى هذا الشمول. فإن بناء القوة القادرة على حسم الحروب لصالح أهل الإيمان، من أهم وسائل ردع العدو عن التفكير في العدوان، حاضراً ومستقبلاً، الأمر الذي يهيئ لأهل الإيمان الفرصة للعيش في ظل حالة من السلام، ثم تحقيق الرخاء والإزدهار.. وعلى هذا الأساس جاء قوله تعالى: ﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ([1]).

فالمطلوب هو الردع عن الحرب، وليس الحرب نفسها، لأن الحرب قد تتحول إلى عبث، أما الردع فهو يحفظ الطاقات، ويحولها إلى وسيلة للبناء والتطور، ويجعل منها سبباً للسلام الفردي والجماعي على حد سواء..

وفي جميع الأحوال نقول:

قد جاء اختيار كلمة «المِحال»، المحتملة لعدة معان، لتكون الخطط قادرة على تحقيق هذه المعاني كلها..

فلا مانع من المكر بالعدو، ولا النكاية به بصنوف من الكيد، وفق ما ألمحت إليه الفقرات السابقة.

ولا مانع من تدبير الشؤون بصنوف من الخطط، وأنواع الخدع للعدو.

ولا مانع من تحصيل القوة والشدة بوسائل أشير إليها في الفقرات السابقة.

وقد يكون لفظ «المحال» قد استعمل في القدر الجامع لجميع المعاني المشار إليها آنفاً، وقد يكون استعماله في المعاني على نحو استعمال المشترك في أكثر من معنى، تماماً كما هو الحال في التورية، ولا يحتاج ذلك إلى أن يكون من يستعمل اللفظ أحول العينين كما أشار إليه المحقق الخراساني «قدس سره» في كفاية الأصول، فإن استعمال الألفاظ أيسر من ذلك.

وتقوية المحال يفرض التمتع ببصيرة وخبرة عالية بكل الوسائل الموصلة إلى هذا الهدف. حسبما تقدم في الفقرات السابقة.. ومنها ما يحتاج إلى تهيئة قدرات مادية مناسبة. وإلى الحصول على صنوف من الآلات، والخبرات، والإمكانات من أجل ذلك. وقد تحتاج إلى دراسات علمية، وربما لابتكارات واختراعات أيضاً. بالإضافة إلى خدع لا بد من استنباطها، وصنوف من المكر والحيلة يلزم التوسل بها، وخطط بالغة الدقة، صالحة للتعويل عليها في تنفيذ ذلك كله.

وَحَصِّنْ بِهِ دِيَارَهُمْ:

كما لا بد من استثمار جميع ما ذكر في الفقرات السابقة في تحصين ديار أهل الإسلام. بحيث تصبح بعيدة عن متناول أيدي الأعداء، منيعة عصية على أي تعرض واستهداف منهم لها بسوء..

وقد يتم ذلك بإيجاد الروادع للعدو، إما من حيث إثارة الشعور لديه بأن ثمة قوة ذاتية رادعة على قاعدة: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ}([2]).

أو بإحساس العدو بالضعف في نفسه، من حيث شعوره بالإنكشاف الأمني، وبعدم قدرته على تحصين نفسه من أي ردة فعل موجعة له حتى في داخل محيطه، الأمر الذي يجعله يعرض عن التفكير بالعدوان على ديار أهل الإسلام.. وتصبح ديار المسلمين بنظره صعبة المنال، لا تنفع معها حيلة، ولا يؤثر فيها سلاح..

ولا يكفي في تحقيق الردع أن يرى العدو الصعوبة والحصانة في مواقع المواجهة فقط.

وَثَمِّرْ بِهِ أَمْوَالَهُمْ:

ومن الواضح: أن كل هذه المنعة، وقوة الردع، من شأنها أن توفر الفرصة للإزدهار الإقتصادي الذي هو سلاح آخر يرهب العدو أيضاً، ويدعوه إلى التفكير ملياً قبل الإقدام على أية خطوة باتجاه اتخاذ قرار الحرب، لذلك نقول:

إن من المهم جداً أن لا تتوقف عجلة الإنتاج، وأن تبقى الدورة الإقتصادية في حركة متنامية، فالإسلام لا يريد مالاً راكداً، لا في حال الحرب، ولا في حال السلم([3]). وإن نفس أن يرى العدو أهل الإسلام في رخاء اقتصادي، وفي نمو مطرد، ثم يرى ضعفه في هذه الناحية سيزيده شعوراً بالمرارة وبالخيبة. كما أن ذلك يطمئن أهل الإسلام إلى المستقبل، ويزيدهم ثقة، وثباتاً، ورغبة في الدفاع عن منجزاتهم.

وَفَرِّغْهُمْ عَنْ مُحَارَبَتِهِمْ لِعِبَادَتِكَ:

ثم إن السياسة الحربية يجب أن تؤدي إلى عجز العدو عن اللجوء إلى خيار الحرب، فتخف أعباء الإعداد والإستعداد على المرابطين، ويجدون الفرصة للتفرغ لعبادة الله، وتربية أنفسهم، وبذل الجهد في سبيل نيل مقامات القرب والرضا الإلهي، لا ليكون الفراغ من أسباب الملل والكسل، أو من دواعي التفكير بالدنيا وزخارفها، والبحث عن وسائل الحصول عليها، أو من موجبات الخوض في كرامات الناس، والتعدي عليهم بكشف معايبهم عن طريق الغيبة، أو من موجبات الإنصراف لإرضاء الشهوات..

فإذا تفرغ المجاهدون والمرابطون لعبادة الله، فإن ذلك يحتم على المسؤولين وضع برامج توجيه ورعاية لهم في عباداتهم هذه..

كما أنه لا بد من وضع آلية تعطي المجاهدين فرصة للعبادة من جهة.. وتحفظ من جهة أخرى للثغور حصانتها، بحيث يتواصل شعور العدو بأن العيون ساهرة، والعقول مستنفرة، فلا غفلة في البين يستطيع من خلالها أن يورد ضربته في أي موقع..

على أن من الواضح: أن الجهاد وإن كان من العبادات، إلا أنه عبادة مشوبة بالصوارف والشواغل، بخلاف الصلاة والدعاء في الخلوات، فإنه أكثر صفاءً، وأعظم أثراً في التصفية والتزكية، وإثارة كوامن المعرفة الروحية والإيمانية..

والمثوبة على الجهاد إنما هي ـ في الأكثر ـ بسبب مشقاته، وأهواله، وآثاره العظيمة في حفظ بيضة الإسلام بالدرجة الأولى، بخلاف الصلاة ونحوها، فإن أثرها يتجلى في رسوخ قدم العبد في تزكية نفسه وتهذيبها.

وفي المحاربة يكون السعي ـ غالباً ـ لحفظ الجسد، وفي العبادة يكون الغالب هو السعي لحفظ الروح.

وَعَنْ مُنَابَذَتِهِمْ لِلْخَلْوَةِ بِكَ:

والحرب ليست هدفاً في حد ذاتها، وإنما هي استثناء، يراد منه أن يكون وسيلة لردع العدوان، لتحقيق الأمن وإنتاج السلام الذي يأتي معه بالمزيد من الفرص، لتجسيد العبودية، طاعة، وانقياداً، وتسليماً، وخضوعاً لله سبحانه.. ولذلك كانت الحرب شرفاً، وعزاً وعملاً مقدساً..

ومن البديهي: أن الخلوة مع الله تهيئ الفرصة للإنسان ليبوح له بكل ما في ضميره، وليكشف ما يسعى العبد عادة لستره عن كل أحد، أو يتظاهر بإنكاره والبراءة منه، فإن معايب الإنسان ونقائصه كثيرة، وهو أعرف الناس بها. والإعتراف بها والسعي للتخلص منها إنما يصبح ميسوراً له حين يختلي بنفسه بين يدي الله تعالى..

وهذه من أهم وسائل التربية. ومن موجبات تواضع الإنسان، وتخليصه من الغرور، وإبعاده عن حالات البغي، والإستكبار، وتعطيه حجمه الطبيعي.

فلا بد من تهيئة الفرص للمرابط لمثل هذه الخلوات العبادية. ولا يصح إشغاله المستمر بغيره، ومع غيره.

والمنابذة هي المكاشفة والمجاهرة بالحرب. وهي ضد الخلوة.. وهي تحتاج إلى الإنشغال بمراقبة العدو، والعمل على إفشال خططه، والسعي لتنفيذ خطط هجومية، ملازمة للتركيز على ما حوله.. والإنصراف عن التفكير في الله، أو الإستغراق في تأملاته الروحية والتربوية.

وأما قوله «عليه السلام»:

حَتَّى لا يُعْبَدَ فِي بِقَاعِ الأَرْضِ غَيْرُكَ:

فإنه يفهم من ناحيتين:

الأولى: أن يراد بهذه الفقرة: أن تتمحض عبادتهم لله، فلا يعبدون سواه، فلا يعبدون المال، ولا الجاه، ولا السلطان، ولا القائد، ولا.. ولا.. إلخ..

وهذا يحتاج إلى مزيد من الوعي العقائدي، والإلتزام الإيماني، والإلتفات إلى سلبيات زيادة التعلقات بغير الله تبارك وتعالى. فالمؤمنون والصالحون لا يقدسون زعماءهم، ولا يطيعونهم من دون تدبر ووعي، وفي غير رضا الله. وهم يضعون الأمور في نصابها.. ولا يعطونها أكثر من حجمها.

وأما ما نراه من اختلافات في هذا المجال، فهو سلوك خاطئ، ومرفوض من الناحية الدينية والإيمانية، ولا بد من الإقلاع عنه..

الثانية: أن يكون المراد بهذه الفقرة هو: أن يبذل الجهد في نشر عبادة الله بين الناس في أقطار الأرض، ومحاصرة الشرك، ومحاربته، والقضاء عليه.. أي أن المطلوب هو استمرار الجهاد، بكل أنواعه.. إلى أن يزول الشرك من جميع بقاع الأرض، قريبها وبعيدها، مهما اختلفت صفاتها وحالاتها.. لأن الجهاد كما تقدم، يعطي الإنسان الحرية، والأمن والسلام، والفرصة لكل الناس ليجسدوا عبوديتهم لله في طاعاتهم وعباداتهم. وأن يعملوا بكل سكينةٍ وطمأنينة على نشر الخير والصلاح للبلاد والعباد..

أما الحرب الظالمة، والعدوانية، فلا ثمرة لها إلا التدمير والخراب، وهي مرفوضة ومدانة وممقوتة. وهي تعرض صاحبها لغضب الله وانتقامه، إن لم يكن في هذه الدنيا، ففي الآخرة من دون ريب.

على أن العبادة هي ـ كما يقول السيد علي خان ـ أعلى درجات الخضوع والتذلل، فلا تصلح ولا يستحقها إلا من يُوليِ العبد أعلى النعم، وأعظمها، من الوجود، والحياة، وتوابعهما، وهو الله سبحانه..

ولأجل ذلك دعا «عليه السلام» بإضعاف أهل الشرك، وتقوية أهل الإسلام. ثم جعل الغاية من هذا هي تخصيصه تعالى بالعبادة التي لا يستحقها غيره.

وبذلك يكون قد أرغم أهل الشرك أيما إرغام، وأعز الإسلام أيما إعزاز.

والتعبير بكلمة «بقاع» لعله للإشارة إلى بلوغ العبادة والطاعة أعلى المواضع والمواقع في الأرض كلها، مهما اختلفت في مكوناتها، وفي حالاتها.. فقد فسرت البقعة بأنها أعلى قطعة من الأرض، على غير هيئة التي إلى جنبها.. كما قاله صاحب المحكم.

وَلا تُعَفَّرَ لأَحَدٍ مِنْهُمْ جَبْهَةٌ دُونَكَ:

وتعفير الجبهة بالتراب وتمريغها به هو غاية الخضوع، لدلالة ذلك على تأكيد توحد ممازجة أشرف الأعضاء لأهون الأشياء. فلا يستحق هذا التعفير أحد من المعبودين غير الله تبارك وتعالى..

وهذه مرتبة أخرى من مراتب إسقاط الشرك، ودحره من العقول، والنفوس، والقلوب. وتأكيد آخر على انتصار الإيمان وأهله.. فلا بد من إظهار هذه المعاني، والتسويق لها، وإسقاط الشرك وهيبته، وكل ما يعتز به، وإزالة كل ما فيه تأييد لخط الباطل من عقول وقلوب الناس.


([1]) الآية 60 من سورة الأنفال.

([2]) الآية 60 من سورة الأنفال.

([3]) وهذا يشير إلى الحكمة البالغة في كون نصيب المرأة في الإرث نصف نصيب الذكر {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأنْثَيَيْنِ}، فإن المرأة تجد المال في الغالب، لأنها لا تحتاج غالباً إلى تحريك، ولا تجد ضرورة للسعي لتداوله، وتبديله إلى سلع أو غيرها مما يفيد في دفع عجلة الإقتصاد، لأنها إما غنية بزوجها، أو في كفالة الأب وغيره. كما أنها في الغالب لا تجد الفرصة للقيام بهذا الأمر، بسبب دورها الطبيعي في الأسرة.

أما الرجل، فهو أقدر على تحريك المال في الإتجاهات المختلفة، وهو يحوله إلى سلعة تارة، وإلى خدمات أخرى..

     

فهــرس الكتــاب

     

موقع الميزان