الفصل السادس: السياسة.. والأهداف

     

«اللَّهُمَّ اغْزُ بِكُلِّ نَاحِيَةٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى مَنْ بِإِزَائِهِمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، وَأَمْدِدْهُمْ بِمَلَائِكَةٍ مِنْ عِنْدِكَ مُرْدِفِينَ حَتَّى يَكْشِفُوهُمْ إِلَى مُنْقَطَعِ التُّرَابِ قَتْلًا فِي أَرْضِكَ وَأَسْراً، أَوْ يُقِرُّوا بِأَنَّكَ أَنْتَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ وَحْدَكَ لَا شَرِيكَ لَكَ.

اللَّهُمَّ وَاعْمُمْ بِذَلِكَ أَعْدَاءَكَ فِي أَقْطَارِ الْبِلَادِ مِنَ الْهِنْدِ وَالرُّومِ وَالتُّرْكِ وَالْخَزَرِ وَالْحَبَشِ وَالنُّوبَةِ وَالزَّنْجِ وَالسَّقَالِبَةِ وَالدَّيَالِمَةِ وَسَائِرِ أُمَمِ الشِّرْكِ، الَّذِينَ تَخْفَى أَسْمَاؤُهُمْ وَصِفَاتُهُمْ، وَقَدْ أَحْصَيْتَهُمْ بِمَعْرِفَتِكَ، وَأَشْرَفْتَ عَلَيْهِمْ بِقُدْرَتِكَ»..

اللَّهُمَّ اغْزُ بِكُلِّ نَاحِيَةٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى مَنْ بِإِزَائِهِمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ:

الغزو هو مهاجمة العدو في بلاده.. فهذه الفقرة تشير إلى أن المطلوب هو التخطيط لنقل المعركة، إلى أرض العدو، وتكون في بلاده، ليعيش حالة الخوف والترقب باستمرار، فإنه ما غزي قوم في عقر دارهم إلا ذلوا([1]).

وإذا كانت الحرب معلنة، وكان الإستنفار قائماً، فلا يصح الإكتفاء بالإحتفاظ بالمواقع في داخل أرض وبلد المسلمين، وانتظار مبادرة العدو للهجوم على تلك المواقع.

فإن الدفاع هو موقف آني يلجأ إليه الطرف الأضعف، ليحتوى به هجوم العدو، وليجد الفرصة لتهيئة الأسباب التي تنقله إلى مرحلة الهجوم، لأنه هو الذي يحقق الحسم للمعركة.

كما أن أفضل حالات الدفاع هو الإنتقال إلى الهجوم المضاد، لأن قوات العدو تكون مكشوفة، وعرضة للتهديد المباشر، كما أن أرضه تكون غير مهيأة للدفاع..

وهذه الفقرة تعطي أيضاً: أن من الضروري أن لا تتركز قوة المسلمين في منطقة واحدة دون سواها. بل لا بد من حفظ حالة التوازن في الإنتشار..

يضاف إلى ذلك: أن المطلوب هو أن يحفظ أهل كل ناحية ناحيتهم، فلا يتم استقدام قوى لا ارتباط لها بالأرض، لكي تدافع عنها، فإن دفاعها، واندفاعها، والجهد الذي تبذله لا يصل إلى جهد واندفاع أصحاب الأرض أنفسهم..

على أن هذا الإنتشار يساهم في منع العدو من تجميع قواته في جهة واحدة، بهدف كسر شوكة وقوة المسلمين بصورة حاسمة. فإنه لا يقدم على ذلك وهو يرى أن قوات المسلمين منتشرة، وأن بالإمكان أن تدخل عليه من أية جهة، بمجرد الإستعانة بقليل من المدد..

على أن هذا الإنتشار يتطلب وجود ما يكفي من الأسلحة، والأعتدة، والأزودة، في مختلف المواضع والجهات، فإذا حاول العدو القيام بعملية اختراق في أي موقع، فلا يحتاج صدُّه إلى مؤونة كبيرة، كما أن المعلومات الكافية تكون متوفرة، والإستعدادات قائمة، والخبرة بالأرض وبالناس، وبالأوضاع القائمة حاصلة و.. و.. الخ..

وهذا الإجراء يفرض إعداد سرايا وكتائب، قادرة على التحرك لنجدة أية جهة تحتاج إلى النجدة، أو تسديد ضربات في مواقع مختلفة من شأنها أن تجبر العدو على الإنكفاء إلى مواقعه، والكف عن التعرض لمن بإزائه من المرابطين من أهل الإسلام.

وقد عبّر «عليه السلام» بكلمة «ناحية»، ليفيد: أن إعداد الناس للحرب وممارستهم لها يجب أن تكون شاملة لجميع النواحي، فلا يقتصر التدريب على نخبة منهم، فالكل حَمَلة سلاح، والكل قادرون على القيام بالمهمات التي توكل إليهم..

وفي جميع الأحوال نقول:

إن الإمام «عليه السلام» يشير إلى أن بالإمكان الجمع بين الدفاع المتحرك، المتمثل بالعمل على احتواء هجوم العدو واستدراجه ـ من خلال استخدام مرنٍ للقوات ـ للقتال في المواضع المناسبة لأهل الإيمان..

وإنما قال «عليه السلام»: اغز بهم، ولم يقل: أَغْزِهِمْ، أو أرسلهم للغزو، ربما لكي يكون هو معهم، يحفظهم، ويرعاهم، ويكلؤهم..

ولو قال: ابعثهم للغزو، لأفاد الإنقطاع عنهم، كما يقال: أذهبه، وذهب به. فمعنى أذهبه: جعله ذاهباً. ومعنى ذهب به: استصحبه ومضى به.

وَأَمْدِدْهُمْ بِمَلائِكَةٍ مِنْ عِنْدِكَ مُرْدِفِينَ:

والإمداد المتواصل بالمقاتلين ضرورة لحفظ روحيات المرابطين والمجاهدين، وطمأنينتهم إلى وجود الناصر، وأنهم ليسوا وحدهم، بل هناك من يفكر بهم.. (فإن الإمداد هو إعطاء الشيء حالاً بعد حال).

كما أن من الضروري أن يشعر الجيش المؤمن بالله، المجاهد في سبيله بأنه موضع عناية ورعاية الله تبارك وتعالى، وأنه هو الذي يمده بالقوة وبالعون، وربما يمده بالملائكة. فإن حدث ما يتجلى فيه اللطف الإلهي، فلا بأس بالتنويه به، ولا ضير في الحديث عنه ونشره.

والمردف: هو الذي يجعل غيره رديفاً لنفسه، أو من يجعل نفسه رديفاً لغيره.

حَتَّى يَكْشِفُوهُمْ إِلَى مُنْقَطَعِ التُّرَابِ:

أي حتى يدفعوهم إلى منتهى العمارة من الأرض، حيث لا تقع العين بعده على تراب، فإن منقطع التراب هو حيث ينتهي إليه طرفه، وكشفهم أي رفعهم عما يغطونه بسلطتهم وهيمنتهم. وهو عبارة أخرى عن هزيمة العدو، وتخلّيه عن مواقعه..

وهذا يساوق القضاء التام على جميع قدراته، وإخضاعه. إذ لا مجال للإكتفاء بتبادل الضربات، لأن ذلك كما يستنزف قدرات العدو، فإنه يستنزف قدرات أهل الإيمان أيضاً..

ويتجلى هذا الإسقاط لقدرات العدو، وإخضاعه، حين يحصر العدو في مواضع لا قدرة له على تدبير أموره فيها، فضلاً عن أن يتفرغ لمواجهة غيره.. فإنه إذا انقطع التراب، أصبح العيش متعسراً عليه، إن لم يكن متعذراً، ولم يعد يمكنه الإعداد للحرب بصورة صحيحة ومرضية، ولا التفكير فيها، بل ينشغل بنفسه، وهذا يدعوه إلى التخلي عن المنابذة والعودة إلى البخوع والخضوع..

وهذا هو التجسيد العملي لمبدأ مصادرة قدرة العدو على التفكير في الحرب فضلاً عن مباشرته لها، أو اتخاذه قرار الدخول فيها.

قَتْلا فِي أَرْضِكَ وَأَسْراً، أَوْ يُقِرُّوا بِأَنَّكَ أَنْتَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ وَحْدَكَ لا شَرِيكَ لَكَ:

وذكر «عليه السلام»: أن المطلوب هو أن يكون نصيب المحاربين للمؤمنين، وهم المنكرون ـ غالباً ـ للوحدانية هو القتل والأسر في جميع أرض الله تعالى.. أو كشفهم إلى منقطع التراب بواسطة القتل والأسر.

وهذا يشير إلى لزوم التشدد والعنف والضراوة في حربهم إلى الحد الأقصى.. شرط أن يكون ذلك في جميع الإتجاهات، بحيث يتم سد جميع الثغرات. فإن ذلك من شأنه أن يردع العدو عن التفكير في الحرب، أو في مواصلتها، ويقطع أطماعه منها ما دام أن ثمنها سيكون باهظاً.. وأنها ستكون بهذا المستوى من العنف والضراوة..

وهذا يختلف عن سياسة علي «عليه السلام» في حروبه مع البغاة، فإنه اعترض على بعض من كان يرغب في الإمعان في قتلهم، وقال له: «أتريد أن تقتلهم كلهم»؟!([2]).

وهذا هو الفرق بين المشركين والبغاة، فإن أهل الشرك يقتلون في كل أرض الله تعالى، ويؤسرون. وليس كذلك البغاة، فإن المطلوب هو درء فتنتهم، وكسر شوكتهم، وإعادتهم إلى صوابهم..

ويلاحظ: أن نسبة الأرض لله في هذه الفقرة تعطي المبرر لهذا التشدد، لأن المحارب، وخصوصاً المشرك الذي لا يعترف بالألوهية على حدها.. يجب أن يخلي أرض الله، ويخرج منها وعنها، وإلا فإن عليه أن يواجه الإجلاء عنها بالقوة، ولو بالقتل والأسر.

والجحود والإنكار لوحدانية الله سبحانه ليس من حرية الرأي في شيء، بل هو ظلم عظيم، ولا بد من محاربة الظلم، فكيف إذا كان عظيماً؟!

ومن مظاهر ظلمهم هذا، محاربتهم لأهل الإيمان، وسعيهم إلى تدمير الإيمان وأهله. لمجرد كونهم مؤمنين موحدين.

اللَّهُمَّ وَاعْمُمْ بِذَلِكَ أَعْدَاءَكَ فِي أَقْطَارِ الْبِلادِ مِنَ الْهِنْدِ وَالرُّومِ وَالتُّرْكِ وَالْخَزَرِ وَالْحَبَشِ وَالنُّوبَةِ وَالزَّنْجِ وَالسَّقَالِبَةِ وَالدَّيَالِمَةِ وَسَائِرِ أُمَمِ الشِّرْكِ، الَّذِينَ تَخْفَى أَسْمَاؤُهُمْ وَصِفَاتُهُمْ، وَقَدْ أَحْصَيْتَهُمْ بِمَعْرِفَتِكَ:

ولا بد أن تكون السياسة العامة هي: وضع جميع الأعداء أمام هذا الواقع الصعب، فلا تترك الفرصة لأي فريق منهم ليستجمع قواه، ويرسم الخطط لضرب حماة الثغور، أو للعدوان على بلاد المسلمين من جهته..

كما أن على أهل الإيمان أن لا يفهموا الموضوع بطريقة خاطئة، فيظنوا أن مشكلتهم مع فئة من الناس، أو نوع، أو عرق منهم بعينه، ويكون ذلك ذريعة لحصر الصراع في ذلك الفريق دون سواه، ثم تبدأ عمليات التحريض، وإثارة النعرات والعصبيات، لتصبح هي الأساس للصراع كله، فإن هذا خطأ فادح ومميت، لأن هذه الأمور بالغة التفاهة، عديمة الصلاحية، لا تصلح لأن تكون أساساً لأي خلاف، وإنما منشأ الخلاف والمشكلة في موقع آخر أهم وأعظم من ذلك، إنها مشكلة القيم والمبادئ الإيمانية والإنسانية، التي يرفضها الظالمون والمعتدون، ويعادونها، ويحاربونها..

وتحديد أهداف الحرب والقتال، أمر هام وأساسي جداً، ولا بد من الوعي التام، والحرص الأكيد على هذه الأهداف، فلا تتعرض للتحريف، والتزوير، والتلاعب، كما هو ظاهر..

ثم إن المطلوب هو: معرفة الأعداء بأشخاصهم، وأعيانهم، والوقوف على حالاتهم، وطبيعة تقلباتهم وأوضاعهم في حياتهم الخاصة والعامة، بما في ذلك ميزاتهم الشخصية وأخلاقهم، وغيرها.. إذ الأسماء تدل على الذوات، والصفات تدل على الأحوال.

مما يعني: لزوم إعداد جهاز جمع معلومات قوي جداً، يعرف عن قرب وبدقة وانتباه.

كما أن ثمة حاجة إلى إجراء مسح دقيق يكشف تاريخ ذلك العدو.

بالإضافة إلى إعداد إحصائيات عن كل شؤونه.. ومعرفة حجمه في مختلف حالاته..

ومن ذلك معرفة قدراته، وقياداته، ومعنوياته، ودوافعه، وتدريبه وانتشاره، ومعرفة طبيعة الأرض والجو، وغير ذلك، من أجل استكشاف نواياه.

ولا بد أيضاً من الوقوف على مواضع القوة والضعف لديه، للقيام بالإعداد الصحيح والإستعداد لمواجهته بما يبطل خططه، ويحبط جهده، بخطط قادرة على تحقيق ذلك، ثم لا بد من تطوير تلك الخطط تبعاً لما يستجد من معلومات..

وإنما قلنا: إنه يجب أن تكون هذه الإحصائيات، وتلك المعرفة على درجة عالية من الدقة، لأن مبدأها ومعيارها هو معرفة الله تعالى بخلقه. بملاحظة أن المثل الأعلى هو إحصاء الله تعالى الذي لا يفوته دقيق ولا جليل.

والإحصاء: العد والحفظ.

والمراد بمعرفة الله تعالى بأعداء أهل الإيمان: علمه تعالى بهم.

وقد قيل: إن المعرفة تتعلق بالفرد، والعلم يتعلق بالنسبة الخبرية التامة.

وقد يقال: إن المعرفة تقال فيما تدرك آثاره، وإن لم تدرك ذاته، والعلم يقال فيما أدرك ذاته، فيقال: عرفت الله بنقض الهمم، ولا يقال: علمت الله. والمعرفة تقال فيما يتوصل إليه بتفكّر وتدبّر، والعلم أعم من ذلك.

وذلك كله مهم جداً في تحديد المراد من قوله «عليه السلام»: «أحصيتهم بمعرفتك»، حيث يحتاج إلى الإستدلال بالآثار، وإلى الإستنتاج. ومورد المعرفة هو الأمور الجزئية، والدقائق والتفاصيل، وهي تحتاج إلى تأمل وتدبّر.

وَأَشْرَفْتَ عَلَيْهِمْ بِقُدْرَتِكَ:

ثم إن المعرفة بالأعداء يجب أن تكون عن حضور وحس وشهود، وهيمنة، كما يعطيه التعبير بكلمة «أشرفت عليهم»، لأن معنى الإشراف هو النظر من مكان عالٍ، وهذا يؤدي إلى الإحاطة التامة بالمنظور إليه، فالمطلوب هو:

أولاً: الإشراف، لأجل التعرف على الأحوال.

ثانياً: الإشراف بمعنى السيطرة والهيمنة من خلال القدرة..

وكلاهما يحتاج إلى وسائل وقدرات تناسبه، فلا بد من إعدادها..


 

([1]) راجع: نهج البلاغة  (بشرح عبده) ج1 ص68 شرح النهج للمعتزلي ج2 ص74 وكتاب سليم بن قيس ص213  والإحتجاج للطبرسي ج1 ص256 والإرشاد للمفيد ج1 ص281 والكافي ج5 ص5 والبحار ج29 ص465 وج34 ص64 و 138 ومصباح البلاغة (مستدرك نهج البلاغة) للميرجهاني ج1 ص310 والمبسوط للسرخسي ج10 ص35.

([2]) كنز العمال ج4 ص471 والإستـذكار لابن عبد البر ج5 ص133. وراجع: المحلى لابن حزم ج7 ص294.

     

فهــرس الكتــاب

     

موقع الميزان