«اللَّهُمَّ أَخْلِ قُلُوبَهُمْ مِنَ الْأَمَنَةِ،
وَأَبْدَانَهُمْ مِنَ الْقُوَّةِ، وَأَذْهِلْ
قُلُوبَهُمْ عَنِ الِاحْتِيَالِ، وَأَوْهِنْ
أَرْكَانَهُمْ عَنْ مُنَازَلَةِ الرِّجَالِ،
وَجَبِّنْهُمْ عَنْ مُقَارَعَةِ الْأَبْطَالِ،
وَابْعَثْ عَلَيْهِمْ جُنْداً مِنْ مَلَائِكَتِكَ
بِبَأْسٍ مِنْ بَأْسِكَ كَفِعْلِكَ يَوْمَ بَدْرٍ،
تَقْطَعُ بِهِ دَابِرَهُمْ وَتَحْصُدُ بِهِ
شَوْكَتَهُمْ، وَتُفَرِّقُ بِهِ عَدَدَهُمْ».. |
|
1 ـ اللَّهُمَّ أَخْلِ
قُلُوبَهُمْ مِنَ الأَمَنَةِ:
ومن
المفيد أيضاً:
إشعار العدو بأنه في معرض المفاجأة في أي وقت، وأي مكان. لكي يبقى
في خوف دائم، فلا يشعر بالأمن في أي ساعة أو لحظة.
وهذا يؤدي إلى إصابتهم
بالإرهاق والتعب النفسي، ويذهب بصبرهم، ويؤدي بهم إلى الخرق
والنزق، وارتجال المواقف، وتظهر من ثم الثغرات في قراراتهم
وتصرفاتهم.
وتحقيق ذلك قد يحتاج إلى القيام بعمليات متنوعة،
وفي مختلف الأزمنة والأمكنة، تزرع الخوف في قلوبهم من كل شيء.
وتشعرهم بقدرة المجاهدين على الوصول إليهم في كل حين، وفي كل موقع،
وبأنهم ملاحقون فعلاً. ومستهدفون في كل لحظة.. وأن تراودهم الشكوك
في كل ما ومن حولهم.
2 ـ وَأَبْدَانَهُمْ مِنَ
الْقُوَّةِ:
وبما أن رعبهم المستمر
يحتم عليهم بذل جهد مضاعف، فإنه سوف يستنزف قواهم البدنية، ويكون
الإنهيار..
وقد يكون من المفيد أيضاً القيام بضرب بعض منشآتهم،
لكي يضطروا لبذل جهود بدنية لإعادة بنائها، أو مواجهتهم بما يوجب
قلقهم وفزعهم، حتى لا يلذ لهم نوم، وتضعف قوتهم بسبب السهر والأرق،
والجهد المضني.
3 ـ وَأَذْهِلْ
قُلُوبَهُمْ عَنِ الاحْتِيَالِ:
ولا بد أيضاً من إثارة
الأمور الرنانة والمدوية، التي تستأثر باهتمام الأعداء، وتضطرهم
إلى التفكير فيها، بحيث يذهلون عما سواها، وينصرفون عن التماس
المخارج من المآزق الحقيقية التي هم فيها، ولا يبقى لديهم حذق في
التدبير، ولا يتمكنون من تقليب الفكر، وإعمال الرأي..
وينبغي أن لا يقتصر الأمر على شؤون الحرب، بل
المطلوب هو أن يعم
ذهولهم
ويشمل كل أمر يهمهم، ويحتاج خروجهم منه إلى التدبير، وحسن الحيلة..
4 ـ وَأَوْهِنْ
أَرْكَانَهُمْ عَنْ مُنَازَلَةِ الرِّجَالِ:
والأركان كما قيل:
هي الجوارح التي يعتمد عليها، كالأيدي ونحوها مما يقوم به الجسد،
ويستند عليه.. فإذا وهنت هذه الأركان، وضعفت، لم يعد الإنسان
قادراً على منازلة الرجال.
فلا بد من التدبير الذكي،
الذي يؤدي إلى وهن أركانهم، فيمكن الإستفادة من كل ما يؤدي إلى
ذلك، حتى لو كان ذلك باستخدام بعض الوسائل الموهنة لأجسادهم، وقد
يكون من ذلك حملهم على معاناة أعمال صعبة، تحتاج لبذل جهد وتعب
وسهر.. فإذا وهنت أركانهم، فإنهم سوف يتحاشون الدخول فيما يحتاج
إلى جهد وقوة..
5 ـ وَجَبِّنْهُمْ عَنْ
مُقَارَعَةِ الأَبْطَالِ:
والمطلوب أيضاً هو:
جعلهم يجبنون عن مقارعة الرجال، فلا بد من
دراسة وسائل الوصول إلى هذه
الغاية، سواء أكان ذلك بالإعلام المثبط للعزائم، أو بالقيام بعمليات
تبعث الرعب في قلوبهم، أو بنشر الإشاعات التي تخدم هذا الهدف، أو
بالترويج لأي شيء يفيد في ذلك، أو إشاعة تعاطيه فيما بينهم.
ونستفيد من
هذه الفقرة:
أن الجبن أمر يمكن إيجاده في النفوس بعد أن لم يكن.. فلا بد من دراسات
تفيد في معرفة وسائل ذلك.. فإن المطلوب هو حصول الجبن الحقيقي، المانع
من مقارعة أي بطل كان، خصوصاً أبطال أهل الإسلام.
ولعل الأمور الخمسة المتقدمة
تستند إلى مبدأ المفاجأة للعدو في الزمان والمكان غير المناسب له، فإن
من يكون قادراً على الإستفادة من هذا المبدأ، ويباشر الإستفادة منه
بصورة صحيحة وناجحة سوف يحقق هذه النتائج بلا ريب، لأنه سينتج عنه
امتلاء العدو رعباً، وإبطال خططه، وعجز قادته وجنوده عن اتخاذ القرارات
القتالية، بل الوقائية الصحيحة.. واليأس من الحصول على نتائج حاسمة
ومرضية من المواجهة.. حيث إن المفاجأة أفقدته القدرة على المبادرة،
وعلى احتواء الموقف.
علماً، بأن الإستفادة من عنصر
المفاجأة لا يحتاج إلى قدرات متفوقة، ولا إلى عديد كثير..
وَابْعَثْ عَلَيْهِمْ جُنْداً
مِنْ مَلائِكَتِكَ بِبَأْسٍ مِنْ بَأْسِكَ كَفِعْلِكَ يَوْمَ بَدْرٍ:
ولا بد أن يتوجه المرابطون المؤمنون إلى الله تبارك
وتعالى، وأن يشعروا بالحاجة إليه، وبأنهم لا حول ولا قوة لهم إلا به،
وأن يطلبوا منه أن يمدهم بملائكته، وأن يعلموا: أن كثرتهم لا تغني عنهم
شيئاً، كما لم تغن عن المسلمين شيئاً يوم حنين
{وَيَوْمَ
حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ
شَيْئاً}([1]).
وعليهم أن يقتنعوا بأن القلة والكثرة ليست هي الميزان
في النصر. بل القلة تنتصر على الكثرة إذا كان الله تعالى هو الناصر
{كَمْ مِنْ
فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ}([2])،
وأن يضعوا نصب أعينهم نصر الله لعباده في بدر، وأنه أمدهم بالملائكة،
وكثر بهم قلتهم في أعين المشركين، وأن يكون هناك جهد تربوي لتركيز هذا
المفهوم في عقول وقلوب المرابطين من أهل الإيمان.
ولا بد لهم من أن يطلبوا منه تعالى أن يواجه أهل الكفر
ببأس من بأسه على يد ملائكته، فإذا اعتقد المقاتل أن كثرته لا تغني
عنه، وأن النصر بيد الله، وأن الله ينصر عباده مهما قل عددهم، وأنه
يكثر قلتهم بملائكته، فإنه يصبح في مأمن من الغرور بالنفس، وبالقدرات
التي هيأها،
ويزداد شعوره بالحاجة الى الله، وبالرغبة في نيل رضاه،
واستنزال نصره.
فالإمام «عليه السلام» يطلب
الجند من الملائكة، لا ليكون حضورهم لمجرد التكثير والمعونة، بل يريد
«عليه السلام» أن يكون معهم عذاب الله أو بأس من بأسه تبارك وتعالى،
ليصبوه على أعدائه.
وهذا يعطي:
أن على المرابطين أن يلتجأوا إلى الله عز وجل ليرسل إليهم من جنده،
ليكون ذلك علامة رضاه عليهم، وغضبه على أعدائهم.. كي يفرح المؤمنون
بنصر الله.. ويكبت أعداءهم، ويخزيهم، ويذلهم بذلك.
تَقْطَعُ بِهِ دَابِرَهُمْ:
الدابر ـ
كما قيل ـ:
أصل الشيء.
وقيل:
هو آخره، أو آخر ما بقي منه..
والذي يبدو
لنا:
أن دابر الشيء ما يكون في حالة إدبار وتلاشٍ، بصورة طبيعية.. فالمراد:
الكناية عن استئصال العدو بكل مراتب الإستئصال.
ولا بد أن يكون ذلك هو ما
يطمح إليه أهل الإيمان، وهو غايتهم، وله وبه يكون همهم وهمتهم، وهو محط
نظرهم، ولأجله يكون إعدادهم واستعدادهم، لا مجرد دفع العدو عن البلاد،
أو عن الأطراف، إذ يمكن للعدو أن يجمع صفوفه ويبني قوته من جديد، ويعيد
الكرة، ولا يفيد بعد ذلك الندم ولا تنفع الحسرة..
وَتَحْصُدُ (وَتَخْضُدُ) بِهِ
شَوْكَتَهُمْ:
الشوكة:
شدة البأس، والقوة في السلاح، أو الحدة.
وحصده
حصداً:
قطعه.. وخضد: قطع.
وغني
عن البيان:
أن كسر حدة اندفاع العدو أمر هام في التمهيد لحسم الأمور، لا سيما وأن
العدو الذي لا علاقة له بالله إنما يعتمد على سلاحه ووسائله المادية
بالدرجة الأولى، فإذا سقطت هذه وتلك عن التأثير، وبطل عملها، فسيضيع
ويقع في الإرتباك والحيرة، وتتلاشى آماله، وتنتقض أحواله..
وَتُفَرِّقُ بِهِ عَدَدَهُمْ:
وحيث إن المفروض بالعدو الذي
يريد خوض الحرب هو: أن يعبئ قدراته ويحشد عديده، فقد جاء التوجيه في
هذا الدعاء الشريف إلى ضرورة منع العدو من تحقيق هذين الأمرين. ولو
بتسديد ضربات استباقية تؤدي إلى بعثرة جهده في تعبئة القدرات، وفي
بعثرة ما حشد من عديد القوات..
وحتى لو لم يمكن حصول ذلك في البدايات، فإنه بعد كسر
الحدة، وإبطال فعل السلاح، يأتي دور تفريق عدد الأعداء، حيث إن نفس
الإجتماع، وظهور الكثرة في العدو يعطيه نفحة قوة، وبصيص أمل بإعادة
التجهيز، وتلافي النقص. وتبدأ عملية مراجعته لأسباب الهزيمة، واجتراح
المبررات والمعذرات لها. وإطلاق الوعود بإحكام الأمور، وعدم تكرار
الأخطاء..
ثم إن تجمع الأعداء يوحي
للناظر بقوة أخرى قد يتخيلها أكبر من حجمها الطبيعي، هي حاصل اجتماع
هذه الأفراد والأعداد..
أما حين يصبح الجمع أفراداً
متفرقين، فإنه يراهم مجرد جزئيات تحتاج إلى تخيل حالة الإنضمام.. وقد
يتوانى الفكر عن ملاحقة هذه الحالة، ويتقاصر عن استنزال هذا الخيال
وينصرف عنه، إلا إذا أريد تعمد إرادة ذلك منه، وجره إليه..
وحتى لو فعل ذلك، فإن تصور
حالة الإجتماع وتفاعلها فيما بينها وتأثيرها، يبقى هو الآخر في دائرة
الإفتراض والتخيل، الذي يعجز عن إعطاء الإنطباع عنه بالمستوى الذي
يظهره مشاهدة الإجتماع الفعلي للأعداد، ورؤية حجمها وكثرتها.
وهذا يفسر إلى حدٍ مَّا
التعبير بكلمة «عددهم»، بدل كلمة «جمعهم»، فإن القاعدة والحساب هنا
إنما هو للأفراد، ولعددهم. وهي الأساس الذي يكون الإنطلاق منه، وليس
الجمع هو الأساس والمنطلق.
وأخيراً..
فإننا نلاحظ: أن هذا الدعاء لا يزال يؤكد على أنه لا بد من أن نولي
عناية خاصة للتأثير على العدو، قيادات وأفراداً، ولو بالسعي لإرباكه في
خططه، ولإحباط أفراده نفسياً، وتحضيرهم للهزيمة.. والقيام بكل ما يؤكد
لديهم الشعور الدائم بالخطر، حتى لا يجدون فرصة لالتقاط الأنفاس، ولا
يمكنهم التخطيط الهادئ، ويفقدون بذلك زمام المبادرة..
([1])
الآية 25 من سورة التوبة.
([2])
الآية 249 من سورة البقرة.
|