«اللَّهُمَّ وَأَيُّمَا غَازٍ غَزَاهُمْ مِنْ
أَهْلِ مِلَّتِكَ، أَوْ مُجَاهِدٍ جَاهَدَهُمْ
مِنْ أَتْبَاعِ سُنَّتِكَ لِيَكُونَ دِينُكَ
الْأَعْلَى وَحِزْبُكَ الْأَقْوَى وَحَظُّكَ
الْأَوْفَى فَلَقِّهِ الْيُسْرَ، وَهَيِّئْ لَهُ
الْأَمْرَ، وَتَوَلَّهُ بِالنُّجْحِ، وَتَخَيَّرْ
لَهُ الْأَصْحَابَ، وَاسْتَقْوِ لَهُ، الظَّهْرَ،
وَأَسْبِغْ عَلَيْهِ فِي النَّفَقَةِ، وَمَتِّعْهُ
بِالنَّشَاطِ، وَأَطْفِ عَنْهُ حَرَارَةَ
الشَّوْقِ، وَأَجِرْهُ مِنْ غَمِّ الْوَحْشَةِ،
وَأَنْسِهِ ذِكْرَ الْأَهْلِ وَالْوَلَدِ.
وَأْثُرْ لَهُ حُسْنَ النِّيَّةِ، وَتَوَلَّهُ
بِالْعَافِيَةِ، وَأَصْحِبْهُ السَّلَامَةَ،
وَأَعْفِهِ مِنَ الْجُبْنِ، وَأَلْهِمْهُ
الْجُرْأَةَ، وَارْزُقْهُ الشِّدَّةَ، وَأَيِّدْهُ
بِالنُّصْرَةِ، وَعَلِّمْهُ السِّيَرَ
وَالسُّنَنَ، وَسَدِّدْهُ فِي الْحُكْمِ،
وَاعْزِلْ عَنْهُ الرِّيَاءَ، وَخَلِّصْهُ مِنَ
السُّمْعَةِ، وَاجْعَلْ فِكْرَهُ وَذِكْرَهُ
وَظَعْنَهُ وَإِقَامَتَهُ، فِيكَ وَلَكَ».. |
|
اللَّهُمَّ وَأَيُّمَا غَازٍ
غَزَاهُمْ مِنْ أَهْلِ مِلَّتِكَ، أَوْ مُجَاهِدٍ جَاهَدَهُمْ مِنْ
أَتْبَاعِ سُنَّتِكَ لِيَكُونَ دِينُكَ الأَعْلَى وَحِزْبُكَ الأَقْوَى
وَحَظُّكَ الأَوْفَى:
وقد أشارت هذه الفقرة إلى
أهداف جهاد العدو، فلاحظ ما يلي:
1 ـ
ذكر الواو العاطفة بعد كلمة «اللهم» ليشير إلى كمال
اتصال ما بعدها بما قبلها، حتى استحقت أن تعطف عليها.
2 ـ
كلمة «أي» اسم شرط، وهي مبتدأ، وخبرها ما بعدها بدليل
مجيء الفاء في الجواب..
3 ـ
كلمة «ما» مزيدة، لتأكيد معنى «أي»، ولزيادة إبهامها.
4 ـ
الملة: ما شرعه الله لعباده، على ألسنة أنبيائه.
وتستعمل في جملة الشرائع لا في آحادها.
وقيل:
الشريعة من حيث يجتمع عليها تسمى ملة، ومن حيث يتعبد بها تسمى ديناً..
5 ـ
المجاهد أعم من الغازي. فالغزو يكون لبلد العدو،
والجهاد قتال العدو بمشقة في كل مكان..
ولعل الإهتمام بمبدأ الغزو في
هذا الدعاء يشير إلى ضرورة اعتماد مبدأ الهجوم، وعدم الإكتفاء بالدفاع
عن المواقع والثبات فيها، فإنه «ما غزى قوم في عقر دارهم إلا ذلوا»([1]).
والهجوم هو الذي يحقق الأهداف من الحرب ويحسم الأمور فيها.
6 ـ
الأعلى: الأقوى، والأرفع شرفاً ومقاماً. والتعريف بلام
الجنس ليفيد قصر وحصر العلو به دون سواه.
وكلمة «الأعلى» لا تفيد
التفضيل، إذ لا علو لغيره تبارك وتعالى..
7 ـ
الحظ: النصيب، أي نصيبه من الدين، والإقبال والدولة..
8 ـ
لقَّاه الشيء: ألقاه إليه.
وبعدما تقدم نقول:
تحدثت هذه الفقرة عن أشخاص
أهل الإيمان، من حيث هم أفراد، يتخذون قرار الدخول في حرب المشركين.
لأن هذا القرار يرجع إليهم بما أنهم مكلفون بعمل عبادي.. ولا يصح
إجبارهم على اعمالهم العبادية، لأن ذلك يبطل العبادة، من حيث إنه
يفقدها قصد القربة، وبذلك يبطل أجر المقاتل، وإن قتل في هذه الحال كان
قتيلاً، لا شهيداً..
ثم هي أكدت إبهام كلمة «أي»
بواسطة زيادة كلمة «ما» حيث قال: «وأيما» لتشير إلى أن هذا الأمر لا
يختلف فيه الشريف والوضيع، والرئيس والسوقة، والقريب والبعيد الخ.. فهو
كالصلاة التي يطالب بها، ويحاسب عليها كل أحد..
وقد أفاد ذلك أيضاً أن الغزو
والجهاد مفروضان على أشخاص الناس، على نحو الوجوب الكفائي تارة،
والعيني أخرى..
ولعله ذكر الغازي أولاً ليشير
إلى تمييزه عن سائر المجاهدين، بإقدامه على ما قد يتردد بالإقدام عليه
كثير غيره، وربما يكون تقديمه بالذكر من أجل أن يترقى منه إلى رتبة
أعلى. وهي رتبة المجاهد:
أولاً:
لأن المجاهد يعتبرالجهاد عبادة.
وثانياً:
من حيث إنه يجد نفسه ملزماً بتأدية هذه العبادة في جميع أحواله، وليس
له أن يتخير أي نحو من أنحاء الجهاد وموارده على غيره، بحيث يكون ذلك
سبباً في ضعف إقدامه في أي ناحية أخرى عما ينبغي أن يكون عليه..
ولعل هذا
يتلاءم مع قوله:
«من أهل ملتك»، الظاهر بإرادة إضافة هذا الغازي إلى المسار العام، ثم
عبر بكلمة «من أتباع سنتك»، الظاهر في أن المجاهد يتوخى بجهاده التقرب
إلى الله، واتباع السنن الإلهية..
وقيل المراد
بالغازي:
من أراد الغزو.
ولكننا نقول:
الظاهر هو
أن المراد به:
من اتخذ قرار الغزو، وباشر تطبيق قراره بصورة عملية.. ولأجل ذلك جاءت
الفقرات التالية لتبين ما يحتاج إليه في كل مرحلة من مراحل عمله.
ولو كان المراد مجرد أرادة
الغزو، لكان التعبير بصيغة المضارع: «ويغزوهم» و «يجاهدهم» أقرب وأنسب.
ونستفيد مما
تقدم:
أن المطلوب هو تهيئة غزاة من أهل الإسلام، وإعدادهم وفق ما تتطلبه هذه
المهمة من تدريبات واختصاصات مختلفة، وتجهيزهم بالمعدات والوسائل
المناسبة.
كما أن المطلوب هو إعداد مجاهدين ذوي معرفة بالإختصاصات
المختلفة، تمكنهم من ممارسة المهمات التي توكل إليهم، مهما تنوعت
واختلفت.
ثم أشارت الفقرة المتقدمة إلى
لزوم وضوح الهدف من الغزو والجهاد لدى الغازي والمجاهد.. وان لا يكتفي
بمجرد إثارة الحماس والإندفاع.
ويجب أن لا يكون هذا الهدف
شخصياً، ولا دنيوياً، بل يكون إلهياً أولاً، ثم لمصلحة أمة أهل الإيمان
ثانياً، من حيث هم أهل الله، وحزبه، وينتسبون إليه.. لا من حيث
انتسابهم إلى أعراق قبلية أو عنصرية، أو انتمائهم إلى الجغرافيا، ولا
للحصول على العظمة والجاه. ولا لأجل الحصول على القدرات المادية،
كالأموال، والتجارات، وامتلاك مصادر الطاقة، والثروة والغنى، وما إلى
ذلك..
ولذلك حددت الفقرات الهدف بأن
يكون:
دين الله هو الأعلى، أي هو المهيمن وحده، إذ لا علو ولا
شرف لغيره..
وأن يكون حزب الله هو
الأقوى.. وحظ الله هو الأوفى..
ولنا حول المقصود من «حزب
الله» الذي يجب إيجاده وإعداده كلام يحسن الوقوف عليه، من أجل إعداد
الخطط المناسبة للمواصفات المطلوبة فيه([2]).
ويلاحظ هنا:
أولاً:
أن المطلوب هو تحقيق الهيمنة والإعلاء لدين الله، وذلك من خلال العمل
والإلتزام المستمر بأن تجري الأمور وفقاً لأوامره ونواهيه. وتتخذ
منحاه، وتتوخى ما يتوخاه.
ثانياً:
هناك مطلوب آخر يجب تحقيقه وهو الأقوائية لحزب الله تبارك وتعالى.
ثالثاً:
أن يكون حظ الله هو الأوفى في كل شيء، وذلك يعني: أن تصبح كل الأمور
مرتبطة به سبحانه، ومنتهية إليه، من حيث التقرب إليه بها.
ولكن بما أن جعل كل شيء لله تعالى لا يتحقق، بل يبقى
هناك نصيب للإنسان في أعماله، خصوصاً ما يوافق منها هواه، وميوله، جاء
قوله «عليه السلام» ليفيد: أن المطلوب هو أن يكون معظم الأعمال لله
سبحانه وتعالى.. على حد قوله تعالى: ﴿وَابْتَغِ
فِيمَا آَتَاكَ اللهُ الدَّارَ الْآَخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ
مِنَ الدُّنْيَا..﴾([3]).
ثم بدأ «عليه السلام» يحدد ما
يحتاج إليه الغازي والمجاهد في مسيرته الجهادية، فقال:
فَلَقِّهِ الْيُسْرَ:
تقدم:
أن معنى قوله «لقِّه»: أي ألق إليه اليسر مرة بعد
أخرى.. فالمطلوب هو تيسير الأمور للغازي والمجاهد باستمرار، فلا
يواجهونه بالعراقيل وبالصعوبات، ولا بالروتينات الإدارية المرهقة،
والمملة، التي تجعله يزهد فيما يقدم عليه، ويعيش الشعور بالحرمان
والمقت، وكأنه يواجه العقوبة لمجرد أنه يريد الجهاد في سبيل الله تبارك
وتعالى.. ثم يدفعه ذلك إلى أن يظن بمن كان يتوقع منهم العون: أنهم لا
يهتمون براحته، أو أنهم قد يفرطون فيه.. بل قد يشعر أنهم أعداؤه، وأن
الجبهة الداخلية أصبحت مخترقة، وغير مأمونة. وهذه من أصعب الأدواء التي
قد تنتهي بالكارثة..
وَهَيِّئْ لَهُ الأَمْرَ:
ثم تأتي مرحلة التهيئة
والإعداد، وإصلاح ما يحتاج إلى إصلاح، حيث لا بد من السعي لهذا الأمر،
لأن المجاهد قد لا يكون قادراً على ذلك. وحتى لو قدر عليه، فلماذا يطلب
منه هو أن يتحمل أعباء ذلك؟! ألا يكفيه تعريضه نفسه للأخطار الجسام؟!
فلا بد من تشكيل فريق يتولى
القيام بهذه المهمة، وتوضع الإمكانات تحت يده وباختياره.
وَتَوَلَّهُ بِالنُّجْحِ:
وقد دلت هذه الفقرة على لزوم
إنجاح المجاهد في حاجاته، وقضائها له. على أتم وجه وأصحِّه.. حتى لو
كانت حاجات شخصية، بل إطلاق هذا الكلام يشمل كل حاجة له، حتى لو لم يكن
لها ارتباط بالقتال أصلاً.
وَتَخَيَّرْ لَهُ
الأَصْحَابَ:
والصاحب الموافق في السفر،
يبعث الراحة والبهجة في النفس، فلا بد من انتقاء الصاحب الصالح..
الرضي.. فإن التعبير بكلمة «تخير» يدل على تكلُّف طلب ما هو الخير،
والأفضل من الأصحاب..
ويلاحظ:
أن ذلك لم يوكل أيضاً للمجاهد والغازي نفسه، بل جعل من الأمور التي
يعان بها.. فلا بد من كفايته ذلك، وإنشاء فريق يتولى هذه المهمة، من
موقع البصيرة بالمواصفات، والمعرفة بالأشخاص، لأن المكلف نفسه قد لا
يتيسر له معرفة من سيكون معه في هذا السفر الخطير، ولو عرفه، فربما لا
يعرف الكثير عن أحواله، وأخلاقه، ومدى صلاحه..
وَاسْتَقْوِ لَهُ، الظَّهْرَ:
ولا بد من اختيار وسائل النقل والحمل القوية، لأن أي
ضعف فيها سوف ينعكس على الغازي والمجاهد، ويوقعه في المحذور، ويسبب له
الإرباك، حين يتبين عدم قدرة تلك الوسائل على القيام بما يراد لها أن
تقوم به..
وينسحب هذا على جميع الوسائل
الأخرى، حيث لا بد أن تتوفر فيها القوة والقدرة على إنجاز ما يراد
إنجازه من خلالها، فتمس الحاجة إلى تشكيل فريق قادر على القيام بهذه
المسؤولية من موقع خبرته واختياراته..
وَأَسْبِغْ عَلَيْهِ فِي
النَّفَقَةِ:
الإسباغ في
النفقة:
توسعتها، وإفاضتها، بحيث تقضي حاجات المرابط والغازي، وتزيد.
ولا بد من القيام بذلك حتى
يكون همَّ المرابط والغازي في جهاد العدو هماً واحداً، كما روي عن أمير
المؤمنين «عليه السلام»([4]).
ولا بد من دراسة طبيعة أوضاع
المجاهد والغازي، والتعرف على نوع حاجاته، فإن الناس يختلفون في ذلك..
فقد يكون لبعضهم مسؤوليات كبيرة، أو يكون من ذوي الشأن،
الذين يتوقع منهم أكثر مما يتوقع من غيرهم، وربما كان لديه أثقال وعتاد
كثير، ويحتاج إلى تأمين وسائل مختلفة لحملها ونقلها وخدمتها، مما قد لا
يحتاج الكثيرون من رفقائه إليه.
ويبدو أن هذه الفقرة لا تتحدث عن المخصصات التي تعطى
للمجاهدين بعنوان راتب، بل هي تتحدث عن النفقات التي يحتاج إليها في
سفره، وفي تحركاته، فهناك من يحتاج إلى مبالغ كثيرة، وهناك من لا يحتاج
إلى هذا المقدار، وقد يختلف ذلك من وقت لآخر، ومن سفر لآخر، وقد يختلف
ذلك باختلاف المهمات الموكلة إلى الأشخاص..
وَمَتِّعْهُ بِالنَّشَاطِ:
ويحتاج المجاهد إلى أجواء
مريحة، تعطيه المزيد من الحيوية والنشاط، وربما احتاج إلى برامج عملية،
وأنشطة من شأنها أن توفر له طيب النفس للعمل، فقد فسر البعض النشاط
بأنه طيب النفس للعمل.
وقيل معنى
نشط في عمله:
خف وأسرع.
ومعنى متعه
الله بكذا:
أطال له الإنتفاع به.
فالمطلوب إذن، توفير ما يفيد
في إعداد المقاتل للعمل الجهادي، ليكون طيب النفس به.
وتوفير ما يوجب خفته وإسراعه
إليه..
وأيضاً توفير ما يوجب إطالة
هاتين الحالتين لديه..
وَأَطْفِ عَنْهُ حَرَارَةَ
الشَّوْقِ:
ولا بد من العمل على إبعاد المجاهد عن التفكير في
أحبائه واهله. وقد رأينا أن أمير المؤمنين «عليه السلام» حين رجع من
حرب الخوارج، وأراد أن يتوجه بجيشه إلى حرب معاوية وأهل الشام أمر
أصحابه بالبقاء في المعسكر، وأن لا يدخلوا إلى أهلهم وأولادهم([5])،
لأن ذلك سوف يثبطهم عن الخروج.. ويشدهم إلى الدنيا، ويزيد من تعلقهم
بها. وهو يشعرهم بالإشباع، وبالحصول على مطلوبهم، ويقلل من إحساسهم
بالحاجة إلى الجهاد المحفوف بالمخاطر، المفعم بالمعاناة.
ولعل من موجبات سلوهم أهلهم وأحبابهم العمل على زيادة
تعلقهم بالله تبارك وتعالى. وازدياد شوقهم إلى الجنة، وتقوية علاقتهم
بالنبي «صلى الله عليه وآله» وأهل بيته، وإشغالهم بذلك عن تذكر الأحباب
والأصحاب، وإيجاد أعمال وأنشطة تصرفهم عن التفكير بهم..
وَأَجِرْهُ مِنْ غَمِّ
الْوَحْشَةِ:
كما لا بد من العمل على إبعاد
المجاهدين والمرابطين عن الخلوات الموحشة، ولا سيما حين يكون الوقت
ليلاً، كما قد يتفق لمن يكلفون بالرصد أو الحراسة. وقد يمكن الطلب منهم
أن يشغلوا أنفسهم ببعض الأذكار، أو بحفظ شيء من القرآن، أو بعض خطب
النبي «صلى الله عليه وآله»، وعلي وسائر الأئمة «عليهم السلام»، أو غير
ذلك مما ينفعهم، ويزيل وحشتهم.
وإجارة المرابط من الغم تعني
لجوءه إلى ركن وثيق، يجد فيه الطمأنينة والسكينة..
وَأَنْسِهِ ذِكْرَ الأَهْلِ
وَالْوَلَدِ:
وقد أشرنا آنفاً إلى أنه لا
بد من العمل على صرف المقاتل عن التفكير بأهله وولده، فإن تذكرهم يثبطه
عن الجهاد، ويزيد من رغبته في حفظ نفسه، ويقلل من مستوى إقدامه
وبسالته.. كما أنه يثير الرغبة لديه بسرعة العودة إليهم، ويهون عليه
التخلي عن واجبه.. وربما يؤدي ذلك إلى ما لا تحمد عقباه.
وَأْثُرْ لَهُ حُسْنَ
النِّيَّةِ:
ولا بد من إثارة الحديث مع
المجاهد عن لزوم تصفيته نيته، فلا ينوي إلا الخير، وما هو حسن، فإن
طهارة الضمير تعين على تزكية النفس وتصفيتها.
وذلك يحتاج إلى جهد تعليمي،
وتربية أخلاقية وسلوكية، ويدخل في ذلك ذكر الأسوة والقدوة، وبيان فضائل
الأخلاق، وأهميتها، وقيمتها، وقد يحتاج إلى ذكر الأخبار والآثار..
ثم إن قرئت الكلمة «وأثر»
بتسكين الهمزة.. فالمعنى: اذكر له حسن النية، مقترناً بما أُثر ونقل من
ذلك..
وإن قرئت هذه الكلمة بالألف
المدودة «وآثر»، فيكون المعنى: رجح، وفضل له حسن النية.. وذلك ظاهر..
وَتَوَلَّهُ بِالْعَافِيَةِ:
ولا بد من الرعاية الصحيحة
للمجاهد، والعمل على حفظه، وصونه عن عروض أية مشكلة صحية تقعده عن
واجباته، أو تدعوه إلى التهرب منها استثقالاً لها، بسبب ما يعانيه من
الوهن والضعف.
وذلك يتم بتعهد صحته
بالمراقبة الدائمة من قبل الأطباء المتخصصين، واختيار الأطعمة المناسبة
والسليمة عن أي محذور، وإيثاره بكل ما يحفظ له التوازن، في مختلف
الحالات..
وَأَصْحِبْهُ السَّلامَةَ:
ولا بد أيضاً من الإهتمام
بالمرابط والغازي في تنقلاته، فلا تتعرض سلامته فيها لأي خطر.. فتكون
ضمانات سلامته متوفرة ومصاحبة له باستمرار، الأمر الذي يحتاج إلى تعاهد
تلك الأسباب مرة بعد أخرى.
وَأَعْفِهِ مِنَ الْجُبْنِ:
والجبن هو ضعف القلب، وهو
رذيلة، لأنه التفريط بفضيلة الشجاعة.. فلا بد من إبعاد كل ما يوجب جبن
المجاهد عن مقارعة الأبطال. فلا يذكر أحد له الأهوال، ولا يريه المناظر
المرعبة، بل يتمخض الإهتمام بإثارة فضيلة الشجاعة فيه، وتقوية قلبه،
وتحريضه على الإقدام بذكر ما يثير حميته. ويزيد من حماسته.. ويذكر له
ما أعده الله تعالى له من منازل وكرامات، وعطايا ومقامات..
وَأَلْهِمْهُ الْجُرْأَةَ:
قال السيد
علي خان:
«الجرأة بالضمة: الشجاعة، وهي صرامة القلب على الأهوال، وربط الجأش في
المخاوف. وهي فضيلة بين التهور والجبن. فالتهور هو الثبات المذموم في
الأمور المعطبة. والجبن هو الفزع المذموم من الأمور المعطبة.
وإنما قدم «عليه السلام» سؤال عافيته من الجبن على سؤال
إلهامه الجرأة، لأن التخلية مقدمة على التحلية» انتهى([6]).
فالمطلوب إذن، هو العمل على
إعداد نشاطات من شأنها أن تزيد من صرامة المرابط والمجاهد في مواجهة
الأهوال.
والتعبير بكلمة «الهمه الجرأة» قد يكون للإشارة إلى أن
الجرأة ترجع إلى حالة من الوعي، الذي يؤدي به إلى اتخاذ قراره بالصمود
في مواجهة الأهوال..
وَارْزُقْهُ الشِّدَّةَ:
هناك من يكون رقيق القلب إلى
درجة أنه لا يستطيع أن يرى عصفوراً يذبح أمامه، فيحتاج إلى المزيد من
التدريب على تقبيل ذلك، فضلاً عن امتلاك الجرأة على الإقدام عليه.
وهذا بالذات هو ما تعالجه هذه الفقرة من الدعاء، فإن
الشدة: هي القوة في النفس والبدن. وتقابلها الرحمة، قال تعالى: ﴿أَشِدَّاءُ
عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ﴾([7])،
فالشدة على العدو شرط أساس في قهره، وكسر إرادته.
فلا بد من إجراء تدريبات متواصلة للمقاتل، تعطيه القوة
في البدن على تحمل الشدائد، وفي النفس لكي لا يتراخى أو يتردد، أو
تتسرب الرحمة أو الضعف إلى نفسه أمام عدوه، فيتمكن عدوه منه، ويسرع إلى
الفتك به، ويسدد ضرباته الحادة والحاسمة إليه.. مع أن المطلوب هو عكس
ذلك تماماً.
فظهر أن الشدة أمر يحصل عليه
الإنسان من خارج ذاته.
وَأَيِّدْهُ بِالنُّصْرَةِ:
وقد
دلت هذه الفقرة على ضرورة تأييد المجاهد وتقويته على عدوه بالمعونات
الحسنة، التي هي النصرة.. ويتجلى هذا الأمر بإنشاء قوى تحسن الإسناد
للقوى المرابطة والغازية، حين تحتاج إلى ذلك.
وقد يكون الإسناد بإنزال
ضربات مفاجئة في موقع لا يحسب العدو أنه سوف يؤتى منه.. وقد يكون ذلك
بتحركات، وتصرفات تؤدي إلى إرباك العدو، وتوزع اهتماماته ونحو ذلك..
والنصرة ـ
كما قيل ـ:
هي حسن المعونة..
وحسن المعونة قد يكون باختيار
أساليب لا يتوقعها العدو، وقد يكون بدقة التنفيذ. وقد يكون باختيار
مواضع الخلل التي يحتاج المجاهد إلى مثلها، ولا يجد الفرصة أو الوسيلة
لذلك. وربما بغير ذلك..
وَعَلِّمْهُ السِّيَرَ
وَالسُّنَنَ:
المراد بالسيِّر في ألسنة
الفقهاء: المغازي، وتعني في الأصل الطريقة..
وقد روي عن
الإمام السجاد «عليه السلام» قوله:
«كنا نعلّم مغازي رسول الله (النبي) «صلى الله عليه وآله» كما نعلّم
السورة من القرآن»([8]).
وقيل:
المراد بالسير: أحكام الجهاد..
والسنن:
جمع سنة، وهي ـ كما قالوا ـ: الطريقةالمحمدية فرضاً،
وندباً، عملاً أو عقيدة..
وقال
الراغب:
المعلوم العملي: «ما يجب أن
يعلم ثم يعمل، ويسمى تارة السنن والسياسات، وتارة الشرايع، وتارة أحكام
الشرع ومكارمه، وذلك حكم العبادات، وحكم المعاملات، وحكم المطاعم، وحكم
المناكح، وحكم المزاجر». انتهى([9]).
فلا بد من توفر خطط عملية لتعليم المجاهد سير رسول الله
«صلى الله عليه وآله»، وسير أمير المؤمنين، والإمام الحسن، والإمام
الحسين، وسائر الأئمة الطاهرين «عليهم السلام» في حروبهم، وسياساتهم،
وإرشاداتهم وطريقة تعاملهم مع عدوهم حين القتال، وقبله وبعده، وإعلامهم
الحربي، والحرب النفسية، وطرائق وفنون القتال التي مارسوها، وكذلك
كيفية تعاملهم مع المجاهدين، وأساليب إعدادهم روحياً وقتالياً،
وثقافياً، وغير ذلك.. ليأخذوا منهم العبرة والأمثولة، وتكون لهم بهم
الأسوة والقدوة..
كما أن معرفتهم بالأحكام
الشرعية أمر ضروري جداً، فالمطلوب هو إعداد برامج ثقافية، لكي
يتعلموها، ويفهموها ويعوها، ويفقهوا معانيها ومراميها على أحسن وجه
وأتمه..
وَسَدِّدْهُ فِي الْحُكْمِ:
كما لا بد من تعليم المجاهد
كيف يتلقى الأمور المختلفة، ويوازن فيما بينها، ويعرف الصواب من الخطأ
فيها بفكره الثاقب، ورأيه الحصيف..
وما أكثر الحالات التي يحتاج فيها المجاهد إلى اختيار الصواب بعد
التأمل والتفكير..
وهذا يعطي:
أن هناك مساحة لا بد وأن يوكل أمر القرار فيها إليه، وهو يواجه
الوقائع، ويرى العناصر المشاركة في تكوينها لأن قراره سيكون أدق
وأصوب..
وَاعْزِلْ عَنْهُ الرِّيَاءَ:
والرياء:
إظهار القدرة، والتباهي بها.. فالمرائي يعمل لكي يراه الناس، فإذا لم
يروه فإنه لا يعمل، وإن عمل، لم يكن مجيداً فيما يعمله..
كما أن المرائي إنما يعمل
لنفسه، لا لله تبارك وتعالى.
فإذا كان الجهاد قائماً على
حب الله، والتقرب منه وإليه، وبذل النفس في سبيله، فإن ذلك لا يناسب
المرائي، بل هو يتناقض مع ما يسعى إليه..
فلذلك لا بد من الحرص على
تربية المقاتل روحياً بحيث يصبح توجهه إلى الله سبحانه وتعالى بكل
وجوده، وفكره، ولا يهتم لنفسه، بل يهتم بما يرضي ربه، ويحفظ له آخرته..
وَخَلِّصْهُ مِنَ
السُّمْعَةِ:
ثم صرحت هذه الفقرة بلزوم
تربية المجاهد، بحيث لا يكون همه الشهرة لنفسه، وأن يسير ذكره في
البلاد، وبين العباد.. بل المطلوب هو تخليصه من هذه الحالة..
وقد ورد عن
السلف:
«آخر ما يخرج من قلوب الصديقين حب الجاه».
فقد يرى المؤمن أن من حقه
الإيماني والإنساني أن يكون محترماً، وأن تكون له سمعة حسنة، وذكر
طيب..
وهذا..
وإن كان بظاهره مقبولاً ومشروعاً، ولكن ربما يختلط الأمر على كثير من
الناس بين هذا وبين طلب السمعة، فإن السمعة هي السعي إلى أن يتسامع
الناس بما يحب هو أن يوصله إليهم، وإلى أن تتضخم صورته بذلك عندهم،
فيصبح ذلك هدفاً، ويتحول بالتدريج إلى غرض شخصي، يراد منه خدمة الذات،
والأنا.
فحب السمعة يعني أن الإنسان
أصبح متشبثاً بذاته، ومنطلقاً من الأنا التي لو اقتصرت على ما سمح الله
تعالى به وأجازه لكانت خيراً للإنسان، وفي خدمته، ومن أجله..
وحين يراد تخليص المؤمن
المجاهد من السمعة، فلا بد من توعيته لمخاطرها، ولفت نظره إلى لزوم
الحذر من آثارها..
أما الرياء فالإنسان يعرف أنه
ليس هو الخط الصحيح والسليم، ويدرك أنه غريب عن ذاته، طارئ عليها. وأن
الأولى له هو أن يعزل الرياء عن ذاته، ويبعده عن شخصيته، ويمنعه من
التسرب إليها..
فكأن هناك حاجز نفسي يحجز
الإنسان عن الوقوع في الرياء، ولا يوجد هذا الحاجز بالنسبة للسمعة..
ولعله لأجل ذلك قال «عليه السلام»: اعزل عنه الرياء، وخلصه من السمعة..
وَاجْعَلْ فِكْرَهُ
وَذِكْرَهُ وَظَعْنَهُ وَإِقَامَتَهُ، فِيكَ وَلَكَ:
وخلاصة جميع
ما سبق هو:
أن يكون هناك عمل تربوي، وتثقيفي، يودي إلى جعل فكر المجاهد متمحضاً في
الله تعالى..
والفكر ـ
كما قيل ـ:
هو تردد القلب في طلب المعاني..
فالمطلوب هو جعل كل ما يمر في
خاطره، ويحضر في نفسه، وكل حركة له أو سكون.. وكل إقامة أو ارتحال، في
سبيل الله، ولأجل رضاه جل وعلا.
وذلك يفرض التقليل من الحديث
بغير الله تعالى عنده، فلا يتحدث في محضر المرابط والغازي عن المساكن
الفخمة والواسعة، ولا عن المال، وأحجامه، ومزاياه، وطرق الحصول عليه.
ولا يتحدث عنده عن اللفتات
الذكية للأطفال، ولا تعرض عليه صور اللذائذ والمغريات من زبارج الدنيا
وبهارجها.
بل تعرض عليه صور رضا الله،
ويتحدث عنده عن نعيم الجنة، وما إلى ذلك..
([1])
راجع المصادر التالية: نهج البلاغة (بشرح عبده) ج1 ص68 والكافي
ج5 ص5 ودعائم الإسلام ج1 ص390 والمهذب للقاضي ابن البراج ج1
ص323 والمبسوط للسرخسي ج10 ص35 ومصباح البلاغة (مستدرك نهج
البلاغة) ج1 ص310 وج3 ص3 وكتاب سليم بن قيس (تحقيق محمد باقر
الأنصاري) ص213 والغارات للثقفي ج2 ص475 وشرح الأخبار ج2 ص75
والإرشاد للمفيد ج1 ص281 والإحتجاج للطبرسي ج1 ص256 وبحار
الأنوار ج29 ص465 وج34 ص64 و 138 ونهج السعادة للمحمودي ج2
ص561 و 571 وج5 ص313 وشرح نهج البلاغة للمعتزلي ج2 ص74 و 84
والأخبار الطوال للدينوري ص310.
([2])
راجع هذا البحث في كتابنا: «دراسات وبحوث في التاريخ والإسلام»
ج3 ص37 ـ 70.
([3])
الآية 77 من سورة القصص.
([5])
راجع: نهج السعادة للشيخ المحمودي ج2 ص514 ـ 516 وأنساب
الأشراف للبلاذري ص379 ونهج السعادة للشيخ المحمودي ج2 ص419.
([6])
رياض السالكين ج4 ص255.
([7])
الآية 29 من سورة الفتح.
([8])
سبل الهدى والرشاد ج4 ص10 والسيرة النبوية لابن كثير ج2 ص355
والبداية والنهاية ج3 ص241 و (ط دار إحياء التراث العربي،
بيروت) ج3 ص297.
([9])
رياض السالكين ج4 ص256 والذريعة إلى مكارم الشيعة ص111.
|