الفصل الثاني عشر: كيف تخلف الغازي، والمرابط؟

     

«اللَّهُمَّ وَأَيُّمَا مُسْلِمٍ خَلَفَ غَازِياً أَوْ مُرَابِطاً فِي دَارِهِ، أَوْ تَعَهَّدَ خَالِفِيهِ فِي غَيْبَتِهِ، أَوْ أَعَانَهُ بِطَائِفَةٍ مِنْ مَالِهِ، أَوْ أَمَدَّهُ بِعِتَادٍ، أَوْ شَحَذَهُ عَلَى جِهَادٍ، أَوْ أَتْبَعَهُ فِي وَجْهِهِ دَعْوَةً، أَوْ رَعَى لَهُ مِنْ وَرَائِهِ حُرْمَةً، فَآجِرْ لَهُ مِثْلَ أَجْرِهِ وَزْناً بِوَزْنٍ وَمِثْلًا بِمِثْلٍ، وَعَوِّضْهُ مِنْ فِعْلِهِ عِوَضاً حَاضِراً يَتَعَجَّلُ بِهِ نَفْعَ مَا قَدَّمَ وَسُرُورَ مَا أَتَى بِهِ، إِلَى أَنْ يَنْتَهِيَ بِهِ الْوَقْتُ إِلَى مَا أَجْرَيْتَ لَهُ مِنْ فَضْلِكَ، وَأَعْدَدْتَ لَهُ مِنْ كَرَامَتِكَ»..

اللَّهُمَّ وَأَيُّمَا مُسْلِمٍ خَلَفَ غَازِياً أَوْ مُرَابِطاً فِي دَارِهِ، أَوْ تَعَهَّدَ خَالِفِيهِ فِي غَيْبَتِهِ:

بدأ «عليه السلام» هنا بالحديث عن وظائف الذين لا ينفرون إلى المرابطة في الثغور لأسباب مشروعة، فذكر العديد من الأمور.. فأشار في البداية إلى الفرق بين الغازي والمرابط، فإن الغازي يغزو العدو، ثم يرجع إلى أهله. والمرابط هو الذي يربط فرسه في الثغور، ويقيم فيها مدافعاً وغازياً..

ثم إن غير المرابط من الغازين يكون تعلقه بأهله، وبداره أشد، لأنه حديث عهد بهم، فحاجته إلى الطمأنينة عليهم آكد.. ولعله لأجل ذلك قدمه «عليه السلام» هنا في الذكر، فقال: «غازياً أو مرابطاً».

وهذا يعطي: لزوم العمل على طمأنة الغازي، والمرابط على أهله وداره بصورة دائمة، ولزوم إيلاء الغازي اهتماماً خاصةً في هذا المجال، حتى لا تترك بلابل صدره، وقلقه على أهله، وداره، أثراً سلبياً على حركته واندفاعه.

كما أننا نستفيد من هذه الفقرة لزوم حفظ الغازي في داره، وتعهد أهله، وإيجاد الوسائل المناسبة التي تحقق ذلك..

والمراد بتعهد أهله: المواظبة على تفقد أحوالهم ورعايتهم، وحفظهم، وقضاء حاجاتهم، وإصلاح شأنهم، والعمل على طمأنتهم، وراحة بالهم. فإن ذلك يدخل في إصلاح شأنهم أيضاً.

ولعله عبر بكلمة «خالفيه» ليشمل جميع من خلف الغازي، والمرابط، وأقام بعده من الأهل وغيرهم، ممن يقع تحت تكفله، أو يهتم بشأنه لسبب أو لآخر..

ولعله «عليه السلام» اختار أولاً ذكر خلافته في داره، ليشير إلى أن الغازي قد لا يكون له اهل، فتبقى داره هي نقطة الإرتكاز في تعلقاته القلبية، فلا بد من حفظها له. فإذا كان له أهل وغيرهم ممن يرى نفسه مسؤولاً عنهم، فلا بد من حفظه فيهم أيضاً.

أَوْ أَعَانَهُ بِطَائِفَةٍ مِنْ مَالِهِ:

وحين يشارك الناس أهل الثغور في الجهد، والبذل، والتضحية ولو بالمال، فإن ذلك يزيد من ارتباطهم واهتمامهم بهم، ويزيد حبهم لهم، ورغبتهم في معونتهم، ومشاركتهم لهم في السراء والضراء..

ولأجل ذلك صرح الإمام «عليه السلام» بأن المطلوب هو إعانة الناس للغازي والمرابط بالمال.. ولو من خلال تنظيم حملات إعلامية وعملية في هذا السبيل.. أو إنشاء فرق تتولى إعداد برامج لحث الناس على جمع المعونات، وتحديد المواضع التي ينبغي أن تصرف فيها، بعد أن يرضى الغازي والمرابط بتوليهم الجمع والصرف في شؤونه. إلا إذا كانت المعونة بعنوان عام لا يحتاج إلى أخذ موافقة الأفراد في ذلك. أو أن المعين هو الذي أراد أن يكون الصرف بهذا النحو، أو في هذا المورد و ذاك..

وإنما تحدثنا عن الموضوع بهذه الطريقة لأن ظاهر كلامه «عليه السلام» هو: أن المعين إنما يعطي لأشخاص الغازين والمرابطين. وليس المراد معونة الدولة في مجهودها الحربي..

وقد أشار «عليه السلام» بقوله: «بطائفة من ماله» إلى أن المعونة تتعدى المبالغ الضئيلة التي يخصصها الإنسان لصدقاته، ومبراته، لتصبح طائفة، أي قطعة من المال. فإن الفتات الضئيل غير مقصود ـ فيما يبدو ـ بهذه التعابير..

أَوْ أَمَدَّهُ بِعِتَادٍ:

وعل الناس أيضاً أن يمدوا الغازي والمرابط بالعتاد، لكي يستفيد منه هو شخصياً، ويدفع به عن نفسه وعن الدين، وأهل الإيمان، وبذلك يطمئن قلبه، وتسكن نفسه..

والمراد بالعتاد: ما أعده الرجل من السلاح، ووسائل النقل، وآلة الحرب.

كما أن المراد بإمداده: رفده المتواصل بما يحتاج إليه من ذلك..

والنتيجة هي: العمل على توفير العتاد للغازي والمرابط بمختلف الأنواع، وبصورة متواصلة، ومن دون انقطاع..

أَوْ شَحَذَهُ عَلَى جِهَادٍ:

والمطلوب أيضاً: التحريض والإلحاح الشديد على الأفراد ليشاركوا في الجهاد في سبيل الله تبارك وتعالى، لأن الشحذ هو السوق الشديد، والإلحاح في السؤال..

ويمكن إعداد خطط وبرامج من شأنها إمضاء همة الغازي والمرابط، وتأكيد عزيمته على جهاد العدو.

فلا بد من الإهتمام ببرامج التعبئة الروحية. ولكن وفق المصطلحات ذات الدلالات الإيمانية الصحيحة، كما ربما يفيد تعبيره «عليه السلام» هنا بكلمة «جهاد» التي هي مصطلح ديني يوحي للغازي والمرابط:

أولاً: بلزوم بذل الجهد في هذا السبيل، فلا تكون المشاركة في الغزو، وفي المرابطة على سبيل الترف، أو التسلية، وما إلى ذلك..

ثانياً: تذكير المجاهد بأن عمله مرتبط بإيمانه، وبدينه، وعقيدته، وهو من العبادات التي يطلب فيها قصد التقرب إلى الله تعالى، وطلب رضاه.. وبذلك يكون قد هيأه لهذا الأمر نفسياً، وعبأه روحياً أيضاً..

على أن موضوع التحريض على الجهاد، كما يكون بالقول، يكون بالفعل أيضاً، وأدنى ذلك: أن يهيء له الأسباب، ويزيل العوائق من أمامه..

أَوْ أَتْبَعَهُ فِي وَجْهِهِ دَعْوَةً:

والتوسل بالدعاء في مثل هذه المواقف مطلوب أيضاً، حتى لا تتأكد لدى الغازي والمرابط مفاهيم خاطئة كأن يعتقد أن الأهمية القصوى، والدور، والقيمة الحقيقية، والكلمة الفاصلة هي للعتاد والسلاح، والجهد البشري، وللخطة الحربية، وحسن إدارة المعركة، وما إلى ذلك من أمور قد تصرف الإنسان عن التفكير بالحاجة إلى الله تبارك وتعالى، فيصاب بالغرور، ثم بالفشل الذريع عند تلقيه الضربة الأولى، حيث يظهر أن العتاد والسلاح والخطط والجهد البشري وإن كان مهماً، ولكنه ليس هو الحكم والفيصل في الحرب. بل لا بد من تذكيره بأن الدور الحقيقي والحاسم هو للطف الله سبحانه، وللرعاية الإلهية، والتسديد الرباني.. وللإيمان به سبحانه، والسعي إلى رضاه وإلى العمل بأوامره، والإنزجار بزواجره..

ولذلك ذكر «عليه السلام»: أنه لا بد من أن يُلْحِقَ المتخلف بالغازي والمرابط في مقصده الذي توجه إليه دعوة، لتكون هذه الدعوة مرافقة لذلك الغازي في أي جهة يتوجه إليها..

وبذلك يتبلور لدى الغازي والمرابط والداعي شعور بأن للدعوة التي صاحبته أثراً في جهده وجهاده، وأنها من أسباب توفيقه وبلوغ أهدافه في الدنيا وفي الآخرة.. وأنه مرعي من الله تبارك وتعالى..

وليست الدعوة مجرد كلمات، صدرت وذهبت في الهواء، بل هي باقية تؤتي أكلها كل حين بإذن الله..

أَوْ رَعَى لَهُ مِنْ وَرَائِهِ حُرْمَةً:

كما لا بد أن لا يقتصر الأمر على حفظ مال المجاهد، وتعهد أهله.. بل يجب حفظ ورعاية حرماته في غيبته.. فيراعي له جاره حرمة جواره، ويراعي من ائتمنه على سره حرمته فيه، فلا يفشي له سره. وما إلى ذلك..

ويمكن تخصيص البرامج الهادية لتوعية الناس وتعريفهم بهذا الواجب، وحثهم على الإلتزام به..

وهذا يعطي الغازي والمرابط المزيد من الإحساس بالأمن وبالسلامة والحفظ..

والمراد بالحرمة: ما وجب القيام به، وحرم التفريط به. وفي القاموس: ما لا يحل انتهاكه به..

غير أن الظاهر: هو شمول ذلك لكل ما يرجح الشارع حفظه منه في غيبته، حتى ما هو مثل حرمة جواره، فضلاً عن المنع من غيبته، أو انتقاصه، أو حفظ سره، ونحو ذلك..

فَآجِرْ لَهُ مِثْلَ أَجْرِهِ وَزْناً بِوَزْنٍ وَمِثْلاً بِمِثْلٍ:

قد تقرأ الكلمة: أجر بفتح الهمزة وسكون الجيم، أي اجعل ذلك جارياً..

وقد تقرأ: بتسكين الهمزة وضم الجيم، بمعنى: أثبه.

وقد تقرأ: بمد الهمزة وكسر الجيم، آجر له.. من الأجر، والثواب أيضاً..

وقد يقال: إن مقام الإنسان هو مقام المربوب، والداعي، والطالب، ومقام الأدب معه سبحانه يقتضي أن لا يوجب على الله تبارك وتعالى.

ونقول:

إن الأمر في الدعاء ليس كذلك، بل المطلوب هو الحتم والجزم في الدعاء، لأنه طلب المحتاج، وليس فيه إيجاب، حاله حال الأوامر التي تصدر من العالي أو المستعلي إلى غيره لتكون من موارد سوء الأدب، لمنافاتها لكمال العبودية والخضوع. بل فيه إيذان بكمال الخضوع، وشدة الإنقياد، من حيث هو تعبير عن شدة الحاجة، وكمال الإنقطاع إليه تعالى. ولذلك لا يحسن بالداعي أن يقول: يا رب اقض حاجتي إن شئت..

ولذلك عدى الإمام «عليه السلام» كلمة أجر باللام: للدلالة على أنه يطلب من الله تعالى أن يوجب هذا الأجر، ويحتِّمه، فقال: «آجر له» أي أوجب، وحتِّم له هذا الأجر..

فالمطلوب هو: أن يحصل من يفعل كل ذلك مع الغازي والمرابط على أجر مماثل لأجر الغازي والمرابط، من حيث المقدار والكم، فيكون وزناً بوزن..

ثم ترقى من ذلك إلى طلب المماثلة مطلقاً في الكم والكيف، وغيرهما، فقال: «ومثلاً بمثل».

وربما يفهم من ذلك ضرورة أن يكون تعامل المسؤولين مع من يخلف الغازي والمرابط بهذا النحو مثل تعاملهم مع الغازي والمرابط نفسه. وعليهم أن يعطوه نفس الإمتيازات..

وَعَوِّضْهُ مِنْ فِعْلِهِ عِوَضاً حَاضِراً يَتَعَجَّلُ بِهِ نَفْعَ مَا قَدَّمَ وَسُرُورَ مَا أَتَى بِهِ، إِلَى أَنْ يَنْتَهِيَ بِهِ الْوَقْتُ إِلَى مَا أَجْرَيْتَ لَهُ مِنْ فَضْلِكَ، وَأَعْدَدْتَ لَهُ مِنْ كَرَامَتِكَ:

ثم صرحت هذه الفقرة بأزيد من ذلك، فذكرت: أن المطلوب هو التعويض المباشر عن تضحيات هذا الخالف في حفظ ذلك الغازي والمرابط، باعتبار أنه يكون من الأعمال التي يقدمها الإنسان لنفسه قبل وصوله إلى موضع حاجته إليها..

فهو نظير الأموال التي يعطيها اليوم، ليأخذ عوضاً عنها وقت الحاجة في المستقبل.

واللافت هنا: أن المطلوب هو حصول الخالف على العوض عاجلاً وآجلاً، ويريده «عليه السلام» عملاً نافعاً من الناحية الواقعية المادية، ومن موجبات السرور الفعلي للعامل، ولكنه سرور بنفس هذه الأفعال التي أتى بها، لا بشيء آخر. ولا هو ناشئ عن شيء آخر..

قال الراغب: السرور: انشراح الصدر بلذة فيها طمأنينة النفس عاجلاً وآجلاً، والفرح: انشراح الصدر بلذة عاجلة غير آجلة.

ثم طلب «عليه السلام» استمرار هذا السرور في الحياة الدنيا كلها، لكي يتصل هذا النفع والسرور الدنيوي بما أعده الله له في الآخرة.

وهذا يعني: أن الثواب على الأعمال الصالحة يكون في الدنيا والآخرة معاً..

وقد يستفاد من هذا: رجحان لزوم رعاية حال هؤلاء الناس، وتخصيصهم بالإمتيازات طيلة حياتهم، مكافأة لهم على فعلهم هذا..

وقد أشار بعض العلماء إلى أن قوله «عليه السلام»: «إلى أن ينتهي به الوقت إلى ما أجريت له من فضلك، وأعددت له من كرامتك» يفيد: أن الروح بعد فراق البدن تتصل بما أعده الله لها من الثواب قبل البعث والحشر، وذلك في مدة البرزخ([1]).

ويدل عليه: ما ورد من أنه إذا وضع المؤمن في قبره يفتح له باب إلى الجنة، فيدخل عليه روحها وريحانها إلى أن يبعث.. ويفتح للكافر باب إلى جهنم، فيدخل عليه زفيرها وحرها إلى أن يبعث([2]).

ويستفاد أيضاً من قوله «عليه السلام»: «أجريت»: أن نعيم الآخرة لا ينتهي، بل هو متواصل ومستمر وجار.

ويستفاد كذلك: أن هذا العوض، منه ما هو مادي، أشير إليه بقوله: «أجريت له من فضلك»، ومنه معنوي أشير إليه بقوله: «وأعددت له من كرامتك»..

فاتضح: أن الإكرام مطلوب أيضاً، كمطلوبية استمرار العطاءات المادية..

كما أن من المستحسن استمرار البر للغازي والمرابط ومن ساعدهما وأيدهما إلى ما بعد الموت. ويمكن أن يكون ذلك بطرق مختلفة.

 

([1]) رياض السالكين ج4 ص272.

([2]) راجع: شرح الأخبار للقاضي النعمان ج3 ص492 ـ 493 والإختصاص للشيخ المفيد ص345 ـ 349  والمحتضر لحسن بن سليمان الحلي ص47 ـ 51 ومدينة المعاجز ج3 ص121 ـ 126 وراجع: البحار ج6 ص148 وج8 ص207 ـ 211.

     

فهــرس الكتــاب

     

موقع الميزان