الفصل الثالث عشر: من لم يشارك في الحرب

     

«اللَّهُمَّ وَأَيُّمَا مُسْلِمٍ أَهَمَّهُ أَمْرُ الْإِسْلَامِ، وَأَحْزَنَهُ تَحَزُّبُ أَهْلِ الشِّرْكِ عَلَيْهِمْ فَنَوَى غَزْواً، أَوْ هَمَّ بِجِهَادٍ فَقَعَدَ بِهِ ضَعْفٌ، أَوْ أَبْطَأَتْ بِهِ فَاقَةٌ، أَوْ أَخَّرَهُ عَنْهُ حَادِثٌ، أَوْ عَرَضَ لَهُ دُونَ إِرَادَتِهِ مَانِعٌ فَاكْتُبِ اسْمَهُ فِي الْعَابِدِينَ، وَأَوْجِبْ لَهُ ثَوَابَ الْمُجَاهِدِينَ، وَاجْعَلْهُ فِي نِظَامِ الشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ»..

اللَّهُمَّ وَأَيُّمَا مُسْلِمٍ أَهَمَّهُ أَمْرُ الإِسْلامِ:

ثم بدأ «عليه السلام» الحديث عن حال من لم يتمكن من الغزو والجهاد، فأشار إلى أمور كثيرة.. ونحن نكتفي بذكر ما تيسر فيها، فنقول:

إنه «عليه السلام» قد زاد كلمة «ما» على «أي»، فقال: «أيما» ليؤكد إبهام أي، وليزيد في شياعها. والهدف من ذلك هو تشويق الناس كلهم، وتحريضهم على القيام بهذا الأمر، وإعلامهم بحساسية هذا الموضوع المصيري، وأنه لا مجال لانتهاج سياسة عدم الإكتراث، أو المسامحة فيه..

ثم إنه «عليه السلام» ذكر أولاً: ضرورة أن يكون القلق على الإسلام كدين سمة كل مسلم، على أن يكون هذا الهم والقلق هو الداعي للتفكير بغزو الذين يريدون بهذا الدين شراً.

وهذا يحتاج إلى ثقافة ووعي، وتربية مشاعر وأحاسيس، وإلى ترسيخ حالة الإعتقاد وقضايا الإيمان في القلوب والضمائر، إذ إن مجرد المعرفة لا توجب القلق، بل لا بد من أن تكون هناك علاقة مشاعرية، واحتضان روحي، ولكل واحد من هذين الأمرين وسائل تناسبه، وتفيد في إيجاده وتبلوره..

ولكنه «عليه السلام» أطلق الكلام حول القلق على أمر الإسلام، ليشمل القلق بسبب ما يراه من خطر يتهدده، والقلق المرتبط بالعوائق من انتشاره، وتعريف الناس به، أو حملهم على الإلتزام بأوامره وزواجره.. أو غير ذلك..

وَأَحْزَنَهُ تَحَزُّبُ أَهْلِ الشِّرْكِ عَلَيْهِمْ:

ثم انتقل «عليه السلام» إلى ما يجب أن يكون عليه موقف المسلمين وهم يواجهون التحدي، فذكر أن على كل مسلم أن يحزن إذا رأى تحزب أهل الشرك على أهل الإسلام، والمراد من تحزبهم: تجمع طوائفهم وجماعاتهم للقيام بأي عمل يضر بأهل الإسلام.. ولم يحدد نوع ذلك الضرر ولا مقداره..

قال الجوهري: «الأحزاب: الطوائف التي تجمع على محاربة الأنبياء»([1]).

والحزن: «هو حالة نفسانية، تحصل لتوقع مكروه، أو وقوعه. أو فوات محبوب في الماضي»([2]).

فذكر «عليه السلام»: أن الحزن يجب أن يكون هو السمة للمسلمين، وهم يرون التحزب قد حصل..

ولكنه ليس حزن العاجزين، أو المهزومين، بل هو حزن الأقوياء الذي يعطي الدافع للتحرك والإقدام، ويحث على التفكير بتقويض هذا التحزب وبتمزيقه، ولو احتاج الأمر إلى التضحية بكل غال ونفيس، أو احتاج إلى الدخول في ساحات الجهاد، وتعريض النفس للخطر.. ولذلك عقبه بقوله:

فَنَوَى غَزْواً، أَوْ هَمَّ بِجِهَادٍ:

فقد دلت الفاء في قوله: «فنوى» على عطف الجملة على ما قبلها، وعلى الترتيب، وعلى السببية في آن واحد.

وقد عبر بكلمتي «نوى» و «همَّ» ربما ليدل بكلمة «همّ» على أن الإرادة فعلية، والمراد حاضر. وبكلمة «نوى»، على أن الإرادة حاضرة، ولكن المراد قد يكون حاضراً، وقد يكون مؤجلاً، أو قد يكون غير محددٍ. ولكنه سيختاره من بين عدة خيارات حاضرة، أو مؤجلة، أو مختلفة من حيث الحضور والتأجيل..

ثم بيَّن بكلمة: «نوى» الغزو، أن الغازي ليس مرابطاً في الثغور، أما من ينوي الجهاد فهو أعم من جهاد الحاضر في الثغر، والغائب عنه..

وفي كلا الحالتين قد يعترضه ما يمنعه من تحقيق ما نوى، ومن مباشرة ما همَّ به..

وقد أشار «عليه السلام» إلى هذه الموانع بقوله:

فَقَعَدَ بِهِ ضَعْفٌ:

فذكر أولاً ما يرتبط بالمانع الذاتي، وهو نقصان القوة عن الحد الذي يحتاج إليه في العمل الذي يريد مزاولته.

وقد قال «عليه السلام»: «فقعد به ضعف»، ولم يقل: أقعده، أي جعله يقعد ربما لينسب الفعل إلى غير الغازي والمرابط، تنزيهاً له عن أن يكون له أي دور في اختيار القعود، أو إرادته، ليصبح الضعف بمثابة المانع له، مع مضي عزيمته في فعل هذا الأمر..

وقد جاءت كلمة «ضعف» نكرة ربما لتشير إلى شدة ذلك الضعف، ولتشير أيضاً إلى أنه ليس محدداً في نوع أو سبب بعينه، نظراً لتعدد أسباب الضعف واختلافها..

أَوْ أَبْطَأَتْ بِهِ فَاقَةٌ:

ثم أشار «عليه السلام» إلى العوامل الخارجية، فذكر أولاً الفاقة، وهي ـ كما في كتب اللغة ـ: الفقر والحاجة، ولكن الذي يظهر من كلام الهمداني في كتابه: الألفاظ الكتابية: أن الفاقة هي شدة الفقر، حيث قال: «الفاقة، والخصاصة، والإملاق، والمسكنة، والمتربة واحد»([3]).

وعلى هذا، فإن الفقر وحده لا يكفي لتحقيق الإبطاء، بل لا بد من أن يبلغ حد الإملاق، ويسكنه عن الحركة، ويجعله يفترش التراب..

وقد أظهر هذا التعبير أيضاً: أن الفقر هو الذي يبطِّئ حركة المجاهد، لأن المجاهد يختار الجهاد، ولا يختار القعود عنه..

وهذا معناه: أنه ليس للإنسان أن يعتذر عن عدم مشاركته في الغزو والجهاد بالفقر، أو بمطلق الضعف. بل لا بد أن يكون الضعف هو الذي يقعد به، وشدة الفقر هي التي تبطئ به..

وكأنه يريد أن يقول: إن المجاهد يصبح محمولاً للضعف وللفقر، وهما اللذان يحركانه في هذا الإتجاه، أو ذاك.

ويلاحظ: أنه تحدث هنا عن الإبطاء، لا عن المنع المطلق.

أَوْ أَخَّرَهُ عَنْهُ حَادِثٌ:

كما أنه «عليه السلام» لم يقل: إنه هو الذي تأخر بسبب الحادث، بل قال: إن الحادث هو الذي أخره.. وقد أبهم الحادث ليصبح الكلام شاملاً لمختلف أنواعه وحالاته، شرط أن يكون هو المؤثر في التأخير.. مع ملاحظة: أن التأخير لا يستلزم الفوت، إذ قد يمكن مع التدارك في الأزمنة، فإن تأخير الشيء لا يستلزم سقوط التكليف به، إلا حين صيرورة العمل مفيداً وذا مصلحة..

أَوْ عَرَضَ لَهُ دُونَ إِرَادَتِهِ مَانِعٌ:

أي أن المانع قد وقف في وجه إرادته، ومنعها من التأثير.. فإرادة الجهاد موجودة على كل حال..

وقد أبهم المانع هنا أيضاً، لنفس السبب الذي ذكرناه آنفاً، وهو: أن يصبح شاملاً لجميع الموانع على اختلاف أنواعها.. شرط أن يكون هو المانع من تأثير إرادته في تحقيق مراده..

وبذلك يكون قد استوعب جميع الإحتمالات التي يمكن تصورها في هذا المجال.

كما أن هذه الفقرة الأخيرة قد أنهت الكلام عند الحد الذي لا مجال معه لتدارك ما فات. وبذلك يظهر الفرق بينها وبين الفقرة السابقة..

فَاكْتُبِ اسْمَهُ فِي الْعَابِدِينَ (وفي نسخة في الغَازِين):

لقد قرر «عليه السلام»: أن من ينوي غزواً، أو يهم بجهاد، ثم يمنعه مانع من تحقيق ما نواه، فهو في جملة الغازين، والعابدين، لأن الجهاد من العبادات.. وقد طلب «عليه السلام» كتابة اسمه فيهم، ولم يقل: فاجعله فيهم. لأن الكتابة تدل على البقاء والدوام، وعلى أنه جزء منهم.. أما مجرد جعله فيهم، فلا يدل على هذه الخصوصية، ولا على تلك..

وقد اعتبر السيد علي خان كلمة «في الغازين» هي الأنسب، ولعله يستند في ذلك إلى أن الدعاء إنما هو لأهل الثغور، فالمتخلف عن المشاركة في الغزو لأجل هذه الأمور إنما يتأسف لفوت الثواب الذي أعده الله تعالى للغازين..

ولكن ربما يكون هناك من يقول:

إن كلمة «في العابدين» هي الأنسب، لأنها توحي للمجاهد بطبيعة عمله، وبالأجواء التي تصونه من الإغراق في حب الإنتقام في هذا القتال، وتقوده إلى الإيثار والتضحية في الله من خلال هذا الجهاد..

وَأَوْجِبْ لَهُ ثَوَابَ الْمُجَاهِدِينَ:

وبما أنه قد يكون بين الغزاة والعابدين من لا ينال نفس ثوابهم. فقد طلب «عليه السلام» أن يكون لهؤلاء أيضاً نفس هذا الثواب، من حيث الكيف والحقيقة..

وقد طلب منه تعالى إيجاب ذلك، أي جعله من الأمور المحتومة والمقضية..

ثم إن التعبير بالثواب أفاد استحقاق الغازي والمرابط له، وأنه لا تشوبه أية شائبة، أو تكدير من حيث صعوبة حصوله عليه، أو المنة عليه به، ونحو ذلك.. وأنه لا بد أن يعطى له مع تعظيم وتبجيل.

قال السيد علي خان «رحمه الله»: «والثواب: هو النفع الخالص، المستحق، المقارن للتعظيم والتبجيل»([4]).

وذلك كله يشير إلى لزوم رعاية ذلك في التعامل مع هؤلاء الناس في الحياة الدنيا أيضاً..

وَاجْعَلْهُ فِي نِظَامِ الشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ:

وقد طلب «عليه السلام» جعل من لم يتمكن من الغزو في نظام الشهداء.

ولعله لم يقل: اجعله مع الشهداء، لئلا يتوهم أن كونه معهم لا يلزم منه أن يكون في مرتبتهم، أو أن له نفس امتيازاتهم.

كما أنه لم يقل: اجعله في الشهداء، بل أضاف كلمة «نظام»، ربما ليفيد: أن له نفس امتيازاتهم ومقامهم، وأنه منهم على الحقيقة..

وربما كان التعبير بالنظام للإشارة إلى قيمة هؤلاء الناس أيضاً..

وقد فسر النظام: بالعقد المنظوم من الجوهر ونحوه، ويطلق على السلك الذي ينظم به، وعلى الصف من الجراد([5]).

ونظام الجراد، وخيط حبات العقد لا اختلاف فيه..

وقد يقال: يحتمل أن يكون المراد عكس هذا المعنى. أي أنه أراد الإشارة إلى أن الشهداء أيضاً يتفاوتون في مقاماتهم ودرجاتهم، كما تتفاوت واسطة العقد مع أخواتها..

ولعله لأجل ذلك: عطف كلمة «الصالحين» على «الشهداء»، عطفاً للعام على الخاص.. حيث إنهم يتفاوتون فيما بينهم..

غير أننا نقول:

إن هذا غير دقيق ولا مقبول، فإن نظام العقد قد لوحظ فيه العقد كله، لخصوصية انتظام حباته المتساوية مع بعضها البعض، والتي تعطي منظراً واحداً بسبب هذا التساوي.. وكذلك الحال بالنسبة للجراد، أما إطلاقه على السلك فهو أكثر وضوحاً في هذا المعنى..

 

([1]) الصحاح للجوهري ص109 ورياض السالكين ج4 ص273.

([2]) رياض السالكين ج4 ص272.

([3]) راجع: مجمع البحرين ج8 ص231.

([4]) رياض السالكين ج4 ص274.

([5]) رياض السالكين ج4 ص274.

     

فهــرس الكتــاب

     

موقع الميزان