مضافا إلى أن إنكار الرازي عدم استعمال أولى مضافا ممنوع على إطلاقه لما عرفت من إضافته إلى المثنى والمجموع، وجائت في السنة إضافته إلى النكرة، ففي صحيح البخاري في الجزؤ العاشر ص 7 و 9 و 10 و 13 بأسانيد جمة قد اتفق فيها اللفظ عن ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وآله قال: ألحقوا الفرايض بأهلها فما تركت الفرايض فلأولى رجل ذكر. ورواه مسلم في صحيحه 2 ص 2، وفيما أخرجه أحمد في المسند 1 ص 313: فلأولى ذكر، وفي ص 335: فلأولى رجل ذكر، وفي نهاية ابن الأثير 2 ص 49: لأولى رجل ذكر.
ويعرب عما نرتأيه في حديث الغدير ما يماثله في سياقه جدا عن رسول الله صلى الله عليه وآله: ما من مؤمن إلا أنا أولى الناس به في الدنيا والآخرة إقرؤا إن شئتم: النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم، فإيما مؤمن ترك مالا فليرثه عصبته من كانوا فإن ترك دينا أو ضياعا فليأتني وأنا مولاه. أخرجه البخاري في صحيحه 7 ص 190 وأخرجه مسلم في صحيحه 2 ص 4 بلفظ: إن على الأرض من مؤمن إلا أنا أولى الناس به، فأيكم ما ترك دينا أو ضياعا فأنا مولاه.
* (كلمة أخرى للرازي) *
وللرازي كلمة أخرى صعد فيها وصوب فحسب في كتابه " نهاية العقول " إن أحدا من أئمة النحو واللغة لم يذكر مجيئ " مفعل " الموضوع للحدثان أو الزمان أو المكان بمعنى " أفعل " الموضوع لإفادة التفضيل. وأنت إذا عرفت ما تلوناه لك من النصوص على مجيئ مولى بمعنى الأولى بالشئ علمت الوهن في إطلاق ما يقوله هو و من تبعه كالقاضي عضد الأيجي في المواقف، وشاه صاحب الهندي في التحفة الاثنى عشرية والكابلي في الصواقع، وعبد الحق الدهلوي في لمعاته، والقاضي سناء الله الپاني پتي في سيفه المسلول، وفيهم من بالغ في النكير حتى أسند ذلك إلى إنكار أهل العربية، و
أنا لا ألوم القوم على عدم وقوفهم على كلمات أهل اللغة واستعمالات العرب لألفاظها فإنهم بعداء عن الفن، بعداء عن العربية، فمن رازي إلى أيجي. ومن هندي إلى كابلي. ومن دهلوي إلى پاني پتي. وأين هؤلاء من العرب الأقحاح؟ وأين هم من العربية؟ نعم - حن قدح ليس منها - وإذا اختلط الحابل بالنابل طفق يحكم في لغة العرب من ليس منها في حل ولا مرتحل.
أو ما كان الذين نصوا بأن لفظ المولى قد يأتي بمعنى الأولى بالشئ أعرف بمواقع اللغة من هذا الذي يخبط فيها خبط عشواء؟ كيف لا؟ وفيهم من هو من مصادر اللغة، وأئمة الأدب، وحذاق العربية، وهم مراجع التفسير، أو ليس في مصارحتهم هذه حجة قاطعة على أن مفعلا يأتي بمعنى أفعل في الجملة؟ إذن فما المبرر لذلك الانكار المطلق؟ نعم، لأمر ما جدع قصير أنفه.
وحسب الرازي مبتدع هذا السفسطة قول أبي الوليد ابن الشحنة الحنفي الحلبي في " روض المناظر " في حوادث سنة ست وستمائة من أن الرازي كانت له اليد الطولى في العلوم خلا العربية. وقال أبو حيان في تفسيره 4 ص 149 بعد نقل كلام الرازي: إن تفسيره خارج عن مناحي كلام العرب ومقاصدها، وهو في أكثره شبيه بكلام الذين يسمون أنسهم حكماء.
م - وقال الشوكاني في تفسيره 4 ص 163 في قوله تعالى: لا تخف نجوت من القوم الظالمين (القصص): وللرازي في هذا الموضع إشكالات باردة جدا لا تستحق أن تذكر في تفسير كلام الله عز وجل والجواب عليها يظهر للقصر فضلا عن الكامل ].
ثم إن الدلالة على الزمان والمكان في " مفعل " كالدلالة على التفضيل في " أفعل ".
وكخاصة كل من المشتقات من عوارض الهيئات لا من جوهريات المواد، وذلك أمر غالبي يسار معه على القياس ما لم يرد خلافه عن العرب، وأما عند ذلك فإنهم المحكمون في معاني ألفاظهم، ولو صفي للرازي إختصاص المولى بالحدثان أو الواقع منه في الزمان
وإنما يريدون أنه اسم لذلك المعنى، إذن فلا شيئ يفت في عضدهم.
وهب أن الرازي ومن لف لفه لم يقفوا على نظير هذا الاستعمال في غير المولى فإن ذلك لا يوجب إنكاره فيه بعد ما عرفته من النصوص، فكم في لغة العرب من استعمال مخصوص بمادة واحدة فمنها: كلمة عجاف جمع أعجف. فلم يجمع أفعل على فعال إلا في هذه المادة كما نص به الجوهري في الصحاح، والرازي نفسه في التفسير، والسيوطي في المزهر ج 2 ص 63 وقد جاء بالقرآن الكريم: وقال الملك إني أرى سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف (سورة يوسف) ومنه شعر العرب في مدح سيد مضر هاشم ابن عبد مناف.
ومنها: إن ما كان على فعلت (مفتوح العين) من ذوات التضعيف متعديا مثل رددت وعددت يكون المضارع منه مضموم العين إلا ثلاثة أحرف تأتي مضمومة ومكسورة وهي: شد. ونم. وعل. وزاد بعض: بث (أدب الكاتب ص 361).
ومنها أن ضمير المثنى والمجموع لا يظهر في شيئ من أسماء الأفعال كصه و مه إلا: ها [ بمعنى خذ ] فيقال: هاؤما، وهاؤم، وهاؤن، وفي الذكر الحكيم قوله سبحانه: هاؤم اقرؤا كتابيه. راجع التذكرة لابن هشام، والأشباه والنظائر للسيوطي.
ومنها: أن القياس المطرد في مصدر تفاعل هو التفاعل بضم العين إلا في مادة (التفاوت) فذكر الجوهري فيها ضم الواو أولا ثم نقل عن ابن السكيت عن الكلابيين فتحه، وعن الغنبري كسره، وحكي عن أبي زيد الفتح والكسر كما في " أدب الكاتب " ص 59، ونقل السيوطي في المزهر 2 ص 39: الحركات الثلاث.
وصرح به ابن قتيبة في أدب الكاتب ص 361، والفيروز آبادي في القاموس 1 ص 343، وفي المزهر 2 ص 49 عن ابن خالويه في شرح الدريدية إنه قال: ليس في كلام العرب فعل يفعل مما فاؤه واو إلا حرف واحد: وجد يجد.
ومنها: إن اسم الفاعل من " أفعل " لم يأت على " فاعل " إلا أبقل. وأورس. وأيفع فيقال: أبقل الموضع فهو بأقل. وأورس الشجرة فهو وارس. وأيفع الغلام فهو يافع: كذا في المزهر 2 ص 40، وفي الصحاح: بلد عاشب ولا يقال في ماضية إلا أعشبت الأرض.
ومنها: إن اسم المفعول من أفعل لم يأت على فاعل إلا في حرف واحد وهو قول العرب: أسأمت الماشية في المرعى فهي سائمة. ولم يقولوا: مسأمة. قال تعالى: فيه تسيمون.
من أسام يسيم. ذكره السيوطي في المزهر 2 ص 47.
وتجد كثيرا من أمثال هذه من النوادر في المخصص لابن سيدة، ولسان العرب، وذكر السيوطي في المزهر ج 2 منها أربعين صحيفة.
* (جواب الرازي عما أثبتناه) *
هناك للرازي جواب عن هذه كلها يكشف عن سوئة نفسه قال في " نهاية العقول ":
وأما الذي نقلوا عن أئمة اللغة من: أن المولى بمعنى الأولى فلا حجة لهم، إذ أمثال هذا النقل لا يصلح أن يحتج به في إثبات اللغة فنقول: إن أبا عبيدة وإن قال في قوله تعالى: مأويكم النار هي مولاكم: معناه هي أولى بكم. وذكر هذا أيضا الأخفش، و الزجاج، وعلي بن عيسى، واستشهدوا ببيت لبيد ولكن ذلك تساهل من هؤلاء الأئمة لا تحقيق، لأن الأكابر من النقلة مثل الخليل وأضرابه لم يذكروه إلا في تفسير هذه الآية أو آية أخرى مرسلا غير مسند، ولم يذكروه في الكتب الأصلية من اللغة. إنتهى.
وكيف تخذ عدم ذكر الخليل وأضرابه حجة على التسامح؟ بعد بيان نقله عن أئمة اللغة. وليس من شرط اللغة أن يكون المعنى مذكورا في جميع الكتب، وهل الرازي يقتصر فيها على كتاب العين وأضرابه؟
ومن ذا الذي شرط في نقل اللغة عنعنة الاسناد؟ وهل هو إلا ركون إلى بيت شعر؟ أو آية كريمة؟ أو سنة ثابتة؟ أو استعمال مسموع؟ وهل يجد الرازي خيرا من هؤلاء لتلقي هاتيك كلها؟ وما باله لا يقول مثل قوله هنا إذا جاءه أحد من القوم بمعنى من المعاني العربية؟ أقول: لأن له في المقام مرمى لا يعدوه.
وهل يشترط الرجل في ثبوت المعنى اللغوي وجوده في المعاجم اللغوية فحسب؟
بحيث لا يقيم له وزنا إذا ذكر في تفسير آية، أو معنى حديث، أو حل بيت من الشعر، ونحن نرى العلماء يعتمدون في اللغة على قول أي ضليع في العربية حتى الجارية الأعرابية (1) ولا يشترط عند الأكثر بشئ من الإيمان والعدالة والبلوغ، فهذا القسطلاني يقول في شرح البخاري 7 ص 75: قول الشافعي نفسه حجة في اللغة. وقال السيوطي في المزهر 1 ص 77: حكم نقل واحد من أهل اللغة القبول. وحكى في ص 83 عن الأنباري قبول نقل العدل الواحد ولا يشترط أن يوافقه غيره في النقل. وفي ص 87 بقول شيخ أو عربي يثبت اللغة. وحكى في ص 27 عن الخصايص لابن جني قوله: من قال: إن اللغة لا تعرف إلا نقلا فقد أخطأ فإنها قد تعلم بالقرائن أيضا، فإن الرجل إذا سمع قول الشاعر:
يعلم أن الزرافات بمعنى الجماعات. وذكر أيضا ثبوت اللغة بالقرينة وبقول شاعر عربي. فهذه المصادر كلها موجودة في لفظ المولى غير أن الرازي لا يعلم أن اللغة بماذا
____________
(1) راجع المزهر 1 ص 83 و 84.
وكأنه في احتجاجه بخلو كتاب " العين " عن ذلك نسي أو تناسى ما لهج به في " المحصول " من إطباق الجمهور من أهل اللغة على القدح في كتاب " العين " كما نقله عنه السيوطي في المزهر 2 ص 47 و 48.
وأنا لا أدري ما المراد من الكتب الأصلية من اللغة؟ ومن الذي خص هذا الاسم بالمعاجم التي يقصد فيها سرد الألفاظ وتطبيقها على معانيها في مقام الحجية، وأخرج عنها ما ألف في غريب القرآن أو الحديث أو الأدب العربي؟ وهل نية أرباب المعاجم دخيلة في صحة الاحتجاج بها؟ أو أن ثقة أرباب الكتب وتضلعهم في الفن وتحريهم موارد استعمال العرب هي التي تكسبها الحجية؟ وهذه كلها موجودة في كتب الأئمة والأعلام الذين نقل عنهم مجيئ المولى بمعنى الأولى.
* (مفعل بمعنى فعيل) *
هلم معي إلى صخب وهياج تهجم بها على العربية (ومن العزيز على العروبة والعرب ذلك) الشاه ولي الله صاحب الهندي في تحفته الاثني عشرية فحسب في رد دلالة الحديث أنها لا تتم إلا بمجيئ المولى بمعنى الولي وأن " مفعلا " لم يأت بمعنى " فعيل " يريد به دحض ما نص به أهل اللغة من مجيئ المولى بمعنى الولي الذي يراد به ولي الأمر كما ولي المرآة: وولي اليتيم، وولي العبد، وولاية السلطان، وولي العهد لمن يقيضه الملك عاهل مملكته بعده.
نعم عزب عن الدهلوي قول الفراء المتوفى 207 في (معاني القرآن) وأبي العباس المبرد: بأن الولي والمولى في لغة العرب واحد. وذهل عن إطباق أئمة اللغة على هذا، وعدهم الولي من معاني المولى في معاجم اللغة وغيرهما كما في " مشكل القرآن " للأنباري، و " الكشف والبيان " للثعلبي في قوله تعالى: أنت مولانا، و " الصحاح " للجوهري 2 ص 564، و (غريب القرآن) للسجستاني ص 154، وقاموس الفيروز آبادي 4 ص 401، و " الوسيط " للواحدي، وتفسير القرطبي 3 ص 431، ونهاية ابن
* (نظرة في معاني المولى) *
ذكر علماء اللغة من معاني المولى السيد غير المالك والمعتق كما ذكروا من معاني الولي الأمير والسلطان مع إطباقهم على اتحاد معنى الولي والمولى: وكل من المعنيين لا يبارح معنى الأولوية بالأمر، فالأمير أولى من الرعية في تخطيط الأنظمة الراجعة إلى جامعتهم، وبإجراء الطقوس المتكفلة لتهذيب أفرادهم، وكبح عادية كل منهم عن الآخر، وكذلك السيد أولى ممن يسوده بالتصرف في شؤونهم، وتختلف دائرة هذين الوصفين سعتا وضيقا باختلاف مقادير الأمارة والسيادة فهي في والي المدينة أوسع منها في رؤساء الدواوين، وأوسع من ذلك في ولاة الأقطار، و يفوق الجميع ما في الملوك والسلاطين، ومنتهى السعة في نبي مبعوث على العالم كله وخليفة يخلفه على ما جاء به من نواميس وطقوس.
ونحن إذا غاضينا القوم على مجيئ الأولى بالشئ من معاني المولى فلا نغاضيهم علي مجيئه بهذين المعنيين، وإنه لا ينطبق في الحديث إلا على أرقي المعاني. أو أوسع الدوائر، بعد أن علمنا أن شيئا من معاني المولى المنتهية إلى سبعة وعشرين معنى لا يمكن إرادته في الحديث إلا ما يطابقهما من المعاني ألا؟ وهي:
1 - الرب | 2 - العم | 3 - ابن العم | 4 - الابن | 5 - ابن الأخت |
6 - المعتق | 7 - المعتق | 8 - العبد | 9 - المالك(*) | 10 - التابع |
11 - المنعم عليه | 12 - الشريك | 13 - الحليف | 14 - الصاحب | 15 - الجار |
____________
(1) لا بسعنا ذكر المصادر كلها أو جلها لكثرتها جدا ولا يهمنا مثل هذا التافه.
(*) في صحيح البخاري 7 ص 57: المليك. وقال القسطلاني في شرح الصحيح 7 ص 77: المولى المليك لأنه يلي أمور الناس. وشرحه كذلك أبو محمد العيني في عمدة القاري. وكذا قال لفظيا العدوي الحمزاوي في النور الساري.
16 - النزيل | 17 - الصهر | 18 - القريب | 19 - المنعم | 20 - الفقيد |
21 - الولي | 22 - الأولى بالشئ | 23 - السيد غير المالك والمعتق | 24 - المحب | 25 - الناصر |
26 - المتصرف في الأمر | 27 - المتولي في الأمر |
فالمعنى الأولى يلزم من إرادته الكفر إذ لا رب للعالمين سوى الله. وأما الثاني والثالث إلى الرابع عشر فيلزم من إرادة شئ منها في الحديث الكذب، فإن النبي عم أولاد أخيه إن كان له أخ وأمير المؤمنين ابن عم أبيهم. وهو صلى الله عليه وآله ابن عبد الله وأمير المؤمنين ابن أخيه أبي طالب، ومن الواضح اختلاف أمهما في النسب فخؤلة كل منهما غير خؤلة الآخر، فليس هو عليه السلام بابن أخت لمن صلى الله عليه وآله ابن أخته. وأنت جد عليم بأن من أعتقه رسول الله لم يعتقه أمير المؤمنين مرة أخرى، وإن كلا منهما سيد الأحرار من الأولين والآخرين، فلم يكونا معتقين لأي ابن أنثى واعطف عليه العبد في السخافة والشناعة. ومن المعلوم أن الوصي صلوات الله عليه لم يملك مماليك رسول الله صلى الله عليه وآله فلا يمكن إرادة المالك منه. ولم يكن النبي تابعا لأي أحد غير مرسله جلت عظمته، فلا معنى لهتافه بين الملأ بأن من هو تابعه فعلي تابع له. ولم يكن على رسول الله لأي أحد من نعمة بل له المنن والنعم على الناس أجمعين فلا يستقيم المعنى بإرادة المنعم عليه. وما كان النبي صلى الله عليه وآله يشارك أحدا في تجارة أو غيرها حتى يكون وصيه مشاركا له أيضا، على أنه معدود من التافهات إن تحققت هناك شراكة، وتجارته لأم المؤمنين خديجة قبل البعثة كانت عملا لها لا شراكة معها، ولو سلمناها فالوصي سلام الله عليه لم يكن معه في سفره ولا له دخل في تجارته. ولم يكن نبي العظمة محالفا لأحد ليعتز به، وإنما العزة لله ولرسوله و للمؤمنين، وقد اعتز به المسلمون أجمع، إذن فكيف يمكن قصده في المقام؟ وعلى فرض ثبوته فلا ملازمة بينهما.
وأما الصاحب والجار والنزيل والصهر والقريب سواء أريد منه قربى الرحم أو قرب المكان فلا يمكن إرادة شئ من هذه المعاني لسخافتها لا سيما في ذلك المحتشد الرهيب: في أثناء المسير، ورمضاء الهجير، وقد أمر صلى الله عليه وآله بحبس المقدم في السير، ومنع التالي منه في محل ليس بمنزل له، غير أن الوحي الإلهي المشفوع
وأما المنعم: فلا ملازمة في أن يكون كل من أنعم عليه رسول الله صلى الله عليه وآله يكون أمير المؤمنين عليه السلام منعما عليه أيضا بل من الضروري خلافه، إلا أن يراد أن من كان النبي صلى الله عليه وآله منعما عليه بالدين والهدى والتهذيب و الارشاد والعزة في الدنيا والنجاة في الآخرة فعلي عليه السلام منعم عليه بذلك كله لأنه القائم مقامه، والصادع عنه، وحافظ شرعه، ومبلغ دينه، ولذلك أكمل الله به الدين، وأتم النعمة بذلك الهتاف المبين، فهو حينئذ لا يبارح معنى الإمامة الذي نتحراه، ويساوق المعاني التي نحاول إثباتها فحسب.
وأما العقيد: فلا بد أن يراد به المعاقدة والمعاهدة مع بعض القبايل للمهادنة أو النصرة فلا معنى لكون أمير المؤمنين عليه السلام كذلك إلا أنه تبع له في كل أفعاله وتروكه، فيساوقه حينئذ المسلمون أجمع، ولا معنى لتخصيصه بالذكر مع ذلك الاهتمام الموصوف، إلا أن يراد أن لعلي عليه السلام دخلا في تلك المعاهدات التي عقدها رسول الله صلى الله عليه وآله لتنظيم السلطنة الإسلامية، وكلائة الدولة عن الملاشات
____________
(1) راجع ص 38 - 41.
* (المحب والناصر) *
على فرض إرادة هذين المعنيين لا يخلو إما أن يراد بالكلام حث الناس على محبته ونصرته بما أنه من المؤمنين به والذابين عنه. أو أمره عليه السلام بمحبتهم ونصرتهم وعلى كل فالجملة إما إخبارية أو إنشائية.
فالاحتمال الأول وهو الإخبار بوجوب حبه على المؤمنين فمما لا طايل تحته، وليس بأمر مجهول عندهم لم يسبقه التبليغ حتى يأمر به في تلك الساعة ويناط التواني عنه بعدم تبليغ شيئ من الرسالة كما في نص الذكر الحكيم، فيحبس له الجماهير، و يعقد له ذلك المنتدى الرهيب، في موقف حرج لا قرار به، ثم يكمل به الدين، وتتم به النعمة، ويرضي الرب، كأنه قد أتى بشئ جديد، وشرع ما لم يكن وما لا يعلمه المسلمون، ثم يهنأه من هنأه بأصبحت مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنة، مؤذنا بحدوث أمر عظيم فيه لم يعلمه القائل قبل ذلك الحين، كيف؟ وهم يتلون في آناء الليل وأطراف النهار قوله سبحانه: والمؤمنون بعضهم أولياء بعض. وقوله تعالى: إنما المؤمنون إخوة.
مشعرا بلزوم التوادد بينهم كما يكون بين الأخوين، نجل نبينا الأعظم عن تبليغ تافه مثله، ونقدس إلهنا الحكيم عن عبث يشبهه.
والثاني: وهو إنشاء وجوب حبه ونصرته بقوله ذلك، وهو لا يقل عن المحتمل الأول في التفاهة، فإنه لم يكن هناك أمر لم ينشأ وحكم لم يشرع حتى يحتاج إلى بيانه الانشائي كما عرفت، على أن حق المقام على هذين الوجهين أن يقول صلى الله عليه
على أن وجوب المحبة والمناصرة على هذين الوجهين غير مختص بأمير المؤمنين عليه السلام وإنما هو شرع سواء بين المسلمين أجمع، فما وجه تخصيصه به والاهتمام بأمره؟ وإن أريد محبة أو نصرة مخصوصة له تربو عن درجة الرعية كوجوب المتابعة، وامتثال الأوامر، والتسليم له، فهو معنى الحجية والإمامة، لا سيما بعد مقارنتها بما هو مثلها في النبي صلى الله عليه وآله بقوله: من كنت مولاه، والتفكيك بينهما في سياق واحد إبطال للكلام.
والثالث: وهو إخباره بوجوب حبهم أو نصرتهم عليه، فكان الواجب عندئذ إخباره صلى الله عليه وآله عليا والتأكيد عليه بذلك لا إلقاء القول به على السامعين، وكذلك إنشاء الوجوب عليه وهو المحتمل الرابع، فكان صلى الله عليه وآله في غنى عن ذلك الاهتمام وإلقاء الخطبة واستسماع الناس والمناشدة في التبليغ، إلا أن يريد جلب عواطف الملأ وتشديد حبهم له عليه السلام إذا علموا أنه محبهم أو ناصرهم ليتبعوه، ولا يخالفوا له أمرا، ولا يردوا له قولا.
وبتصديره صلى الله عليه وآله الكلام بقوله: من كنت مولاه. نعلم أنه على هذا التقدير لا يريد من المحبة أو النصرة إلا ما هو على الحد الذي فيه صلى الله عليه وآله منهما، فإن حبه ونصرته لأمته ليس كمثلهما في أفراد المؤمنين، وإنما هو صلى الله عليه آله يحب أمته فينصرهم بما أنه زعيم دينهم ودنياهم، ومالك أمرهم وكالئ حوزتهم، وحافظ كيانهم، وأولى بهم من أنفسهم، فإنه لو لم يفعل بهم ذلك لأجفلتهم الذئاب العادية، وانتأشتهم الوحوش الكواسر، ومدت إليه الأيدي من كل صوب وحدب، فمن غارات تشن، وأموال تباح، ونفوس تزهق، وحرمات تهتك، فينتقض غرض المولى من بث الدعوة، وبسط أديم الدين، ورفع كلمة الله العليا، بتفرق هاتيك الجامعة، فمن كان في المحبة والنصرة على هذا الحد فهو خليفة الله في أرضه، وخليفة رسوله، والمعنى على هذا الفرض لا يحتمل غير ما قلناه.
* (المعاني التي يمكن إرادتها من الحديث) *
لم يبق من المعاني إلا الولي. والأولى بالشئ. والسيد غير قسيميه: المالك والمعتق. والمتصرف في الأمر ومتوليه. أما الولي فيجب أن يراد منه خصوص ما يراد في الأولى لعدم صحة بقية المعاني كما عرفناكه، وأما السيد (1) بالمعنى المذكور فلا يبارح معنى الأولى بالشئ لأنه المتقدم على غيره لا سيما في كلمة يصف بها النبي صلى الله عليه وآله نفسه ثم ابن عمه على حذو ذلك، فمن المستحيل حمله على سيادة حصل عليها السايد بالتغلب والظلم، وإنما هي سيادة دينية عامة يجب إتباعها على المسودين أجمع.
وكذلك المتصرف في الأمر، ذكره الرازي في تفسيره 6 ص 210 عن القفال عند قوله تعالى: واعتصموا بالله هو مولاكم " الحج " فقال: قال القفال: هو مولاكم سيدكم والمتصرف فيكم، وذكرهما سعيد الچلبي مفتي الروم، وشهاب الدين أحمد الخفاجي في تعليقيهما على البيضاوي، وعده في الصواعق ص 25 من معانيه الحقيقية، وحذا حذوه كمال الدين الجهرمي في ترجمة الصواعق، ومحمد بن عبد الرسول البرزنجي في النواقض، والشيخ عبد الحق في لمعاته، فلا يمكن في المقام إلا أن يراد به المتصرف الذي قيضه الله سبحانه لأن يتبع فيحدو البشر إلى سنن النجاح فهو أولى من غيره بأنحاء التصرف في الجامعة الانسانية، فليس هو إلا نبي مبعوث أو إمام مفترض الطاعة منصوص به من قبله بأمر إلهي لا يبارحه في أقواله وأفعاله وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى.
وكذلك متولي الأمر الذي عده من معاني المولى أبو العباس المبرد، قال في قوله: إن الله مولى الذين آمنوا: والولي والمولى معناهما سواء، وهو الحقيق بخلقه المتولي لأمورهم (2) وأبو الحسن الواحدي في تفسيره الوسيط، والقرطبي في تفسيره 4 ص 232 في قوله تعالى في آل عمران: بل الله مولاكم. وابن الأثير في النهاية 4 ص 246، والزبيدي في تاج العروس 10 ص 398، وابن منظور في لسان
____________
(1) عده من معاني المولى جمع كثير من أئمة التفسير والحديث واللغة، لا يستهان بعدتهم.
(2) حكاه عنه الشريف المرتضى في الشافي.
فاعلموا أن الله مولاكم. وقوله: لن تصيبنا إلا ما كتب الله لنا هو مولانا. فهذا المعنى لا يبارح أيضا معنى الأولى لا سيما بمعناه الذي يصف به صاحب الرسالة صلى الله عليه و آله نفسه على تقدير إرادته.
على أن الذي نرتأيه في خصوص المقام بعد الخوض في غمار اللغة، ومجاميع الأدب، وجوامع العربية، إن الحقيقة من معاني المولى ليس إلا الأولى بالشئ، وهو الجامع لهاتيك المعاني جمعاء، ومأخوذ في كل منها بنوع من العناية، ولم يطلق لفظ المولى على شئ منها إلا بمناسبة هذا المعنى.
1 - فالرب سبحانه هو أولى بخلقه من أي قاهر عليهم خلق العالمين كما شائت حكمته ويتصرف بمشيئته.
2 - والعم أولى الناس بكلائة ابن أخيه والحنان عليه وهو القائم مقام والده الذي كان أولى به.
4 - والابن أولى الناس بالطاعة لأبيه والخضوع له قال الله تعالى: واخفض لهما جناح الذل من الرحمة.
5 - وابن الأخت أيضا أولى الناس بالخضوع لخاله الذي هو شقيق أمه.
6 - والمعتق بالكسر أولى بالتفضل على من أعتقه من غيره.
7 - والمعتق بالفتح أولى بأن يعرف جميل من أعتقه عليه ويشكره بالخضوع بالطاعة.
8 - والعبد أيضا أولى بالانقياد لمولاه من غيره وهو واجبه الذي نيطت سعادته به.
9 - والمالك أولى بكلائة مماليكه وأمرهم والتصرف فيهم بما دون حد الظلم.
10 - والتابع أولى بمناصرة متبوعه ممن لا يتبعه.
11 - والمنعم عليه أولى بشكر منعمه من غيره.
12 - والشريك أولى برعاية حقوق الشركة وحفظ صاحبه عن الأضرار.
13 - والأمر في الحليف واضح، فهو أولى بالنهوض بحفظ من حالفه ودفع عادية الجور عنه.
14 - وكذلك الصاحب أولى بأن يأدي حقوق الصحبة من غيره.
15 - كما أن الجار أولى بالقيام بحفظ حقوق الجوار كلها من البعداء.
16 - ومثلها النزيل فهو أولى بتقدير من آوى إليهم ولجأ إلى ساحتهم وأمن في جوارهم.
17 - والصهر أولى بأن يرعي حقوق من صاهره فشد بهم أزره، وقوي أمره، وفي الحديث الآباء ثلاثة: أب ولدك. وأب زوجك. وأب علمك.
18 - واعطف عليها القريب الذي هو أولى بأمر القريبين منه والدفاع عنهم و السعي وراء صالحهم.
19 - والمنعم أولى بالفضل على من أنعم عليه، وأن يتبع الحسنة بالحسنة 20 - والعقيد كالحليف في أولوية المناصرة له مع عاقده، ومثلهما:
21 - المحب و 22 الناصر، فإن كلا منهما أولى بالدفاع عمن أحبه أو إلتزم
وقد عرفت الحال في الولي 23 - والسيد 24 - والمتصرف في الأمر 25 - والمتولي له 26.
إذن فليس للمولى إلا معنى واحد وهو الأولى بالشئ وتختلف هذه الأولوية بحسب الاستعمال في كل من موارده، فالاشتراك معنوي وهو أولى من الاشتراك اللفظي المستدعي لأوضاع كثيرة غير معلومة بنص ثابت والمنفية بالأصل المحكم، وقد سبقنا إلى بعض هذه النظرية شمس الدين ابن البطريق في العمدة ص 56 وهو أحد أعلام الطائفة في القرن السادس، وتطفح بشئ من ذلك كلمات غير واحد من علماء أهل السنة (1) حيث ذكروا المناسبات في جملة من معاني المولى تشبه ما ذكرنا.
ويكشف عن كون المعنى المقصود (الأولى) هو المتبادر من المولى إذا أطلق كما يأتي بيانه عن بعض في الكلمات حول المفاد ما رواه مسلم بإسناده في صحيحه ص 197 عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يقل العبد لسيده مولاي. وزاد في حديث أبي معاوية: فإن مولاكم الله. وأخرجه غير واحد من أئمة الحديث في تآليفهم.
* (القرائن المعينة) *
إلى هنا لم يبق للباحث ملتحد عن البخوع لمجئ المولى بمعنى الأولى بالشئ، وإن تنازلنا إلى أنه أحد معاينه وأنه من المشترك اللفظي، فإن للحديث قرائن متصلة وأخرى منفصلة تنفي إرادة غيره. فإليك البيان:
* (القرينة الأولى) *:
مقدمة الحديث وهي قوله صلى الله عليه وآله: ألست أولى بكم من أنفسكم. أوما يؤدي مؤداه من ألفاظ متقاربة، ثم فرع على ذلك قوله:
فمن كنت مولاه فعلي مولاه. وقد رواها الكثيرون من علماء الفريقين فمن حفاظ أهل السنة وأئمتهم.
____________
(1) راجع ما أسلفناه عن الدرواجكي وغيره وما يأتي عن سبط ابن الجوزي وغيره، فتجد
هناك كثيرا من نظرائهما في مطاوي كلمات القوم.