الصفحة 15
لولا صروف الاختيار لاعنقوا * لهوى كما اتثقت جمال قطار

وقوله:

أنى تكون كذا وأنت مخير * متصرف في النقض والإمرار؟!

وقوله:

الخير مصنوع بصانعه * فمتى صنعت الخير أعقبكا
والشر مفعول بفاعله * فمتى فعلت الشر أعطبكا

إلا أنه كان يقول بالقدر في تقسيم الأرزاق وأن:

الرزق آت بلا مطالبة * سيان مدفوعة ومجتذبه

ويقول:

أما رأيت الفجاج واسعة * والله حيا والرزق مضمونا؟!؟!؟!

* (قال الأميني) *:

هذا في الرزق الذي يطلبك لا في الرزق الذي تطلبه كما فصله الحديث، ولا تناقض عند القدرية في هذا، لأنهم يقولون بالاختيار فيما يعاقب عليه الانسان ويثاب لا فيما يناله من الرزق وحظوظ الحياة أما القول بالطبيعتين فأوضح ما يكون في قوله:

فينا وفيك طبيعة أرضية * تهوي بنا أبدا لشر قرار
هبطت بآدم قبلنا وبزوجه * من جنة الفردوس أفضل دار
فتعوضا الدنيا الدنية كاسمها * من تلكم الجنات والأنهار
بئست لعمر الله تلك طبيعة * حرمت أبانا قرب أكرم جار
واستأسرت ضعفى بنيه بعده * فهم لها أسرى بغير إسار
لكنها مأسورة مقصورة * مقهورة السلطان في الأحرار
فجسومهم من أجلها تهوي بهم * ونفوسهم تسمو سمو النار
لولا منازعة الجسوم نفوسهم * نفزوا بسورتها من الأقطار
أو قصروا فتناولوا بأكفهم * قمر السماء وكل نجم سار

* (قال الأميني) *

لقد عزى الكاتب هاهنا إلى المترجم هنات لا مقيل لها في مستوى الحقيقة، ومنشأ ذلك بعده عن علم الأخلاق وعدمه تعقله معنى الشعر، فحبسه

الصفحة 16
منافيا للتوحيد الذي جاء به نبي الاسلام، لكن العارف بأساليب الكلام، العالم بما جبل به الانسان من الغرايز المختلفة لا يكاد يشك في صحة معنى الشعر، وهو يعرب عن إلمام ابن الرومي بالأخلاق، والمتكفل لتفصيل هذه الجملة كتب الأخلاق وما يضاهيها، ولخروج البحث عن موضوع الكتاب ضربنا عنه صفحا.

قال: وابن الرومي كان مفطورا على التدين لأنه كان مفطورا على التهيب والاعتماد على نصير، وهما منفذان خفيان من منافذ الإيمان والتصديق بالعناية الكبرى في هذا الوجود، ومن ثم كان مؤمنا بالله خوفا من الشك، مقبلا على التسليم بسيطا في تسليمه بساطة من يهرب من القلق ويؤثر السكينة على أي شئ، وبلغ من بساطته أنه كان ينكر على الحكماء الذين يشكون في حفظ أجساد الأتقياء بعد الموت و يحسبونه من فعل الدواء والحنوط، فقال لابن أبي ناظرة حين تذوق بعض الأجساد ليعلم ما فيها من عوامل البقاء:

يا ذائق الموتى ليعلم هل بقوا * بعد التقادم منهم بدواء
بينت عن رعة وصدق أمانة * لولا اتهامك خالق الأشياء
أحسبت أن الله ليس بقادر * أن يجعل الأموات كالاحياء؟!
وظننت ما شاهدت من آياته * بلطيفة من حيلة الحكماء؟!

ومات وهو يقول في ساعاته الأخيرة:

ألا أن لقاء الله هول دونه الهول

وما كانت الطير عنده إلا شعبة من ذلك التهيب الديني الغريزي، فهو يتفلسف ويرى الآراء في الدين ولكن في حدود من الشعور لا في حدود من التفكير، ولهذا كان الفنان ولم يكن الفيلسوف.

* (قال الأميني) *:

الطيرة ليست من شعب الدين، ولا يركن إليها أي خاضع له وملأ مسامعه قول الصادع به صلى الله عليه وآله وسلم: لا طيرة ولا حام. وإنما هي بين ضعف النفس غير المتقوية بنور اليقين والتوكل على الله في ورد وصدر، ولذا كانت شايعة في الجاهلية ونفاها الاسلام.

قال: وليس من الاجتراء أنه قال بالاختيار ورأى له في الدين رأيا غير ما اصطلح

الصفحة 17
عليه السواد فإنه كان يحيل الذنب على الانسان وينفي الظلم عن القدر في العقاب و الثواب، ويتصور الله على أحسن ما يتصور المتفلسف مثله إلهه؟؟، فكأنما جاءه هذا الرأي من محاباة عالم الغيب لا من الاجتراء عليه، وإنما دفع به إلى رأي المعتزلة مخاوف الشكوك التي كانت تخامره، فلا يستريح حتى يسكن فيها إلى قرار، وينتهي فيها إلى بر الأمان، ولذلك كان يأوي إلى الأصدقاء يكاشفهم بما في صدره ويستعين بهم على تفريج غمته.

ويدمج أسباب المودة بيننا * مودتنا الأبرار من آل هاشم
وإخلاصنا التوحيد لله وحده * وتذييبنا؟؟ عن دينه في المقاوم
بمعرفة لا يقرع الشك بابها * ولا طعن ذي طعن عليها بهاجم
وأعمالنا التفكير في كل شبهة * بها حجة تعيي دهاة التراجم
يبيت كلانا في رضى الله ماحضا * لحجته صدرا كثير الهماهم

بيد أن الإيمان شئ وأداء الفرايض الدينية شئ آخر، فقصارى الإيمان عنده أنه يؤمنه بقرب آل البيت وتنزيه ربه والاطمينان إلى عدله ورحمته، ثم يدع له سبيله يلعب ويمرح كلما لذ له اللعب والمرح، ولا أهلا بالصيام إذا قطع عليه ما اشتهى من لذة وأرب.

فلا أهلا بمانع كل خير * وأهلا بالطعام وبالشراب

بل لا حرج عليه إذا قضى ليلة في السرور أن يشبهها بليلة المعراج.

رفعتنا السعود فيها إلى الفوز * فكانت كليلة المعراج

ذلك أنه كان في تقواه طوع الاحساس الحاضر، كما كان في كل حالة من حالاته يلعب، فلا يبالي أن يتماجن حيث لا يليق مجون، ويستحضر التقوى والخشوع فلا يباريه أحد من المتعبدين، ويخيل إليك أنك تستمع إلى متعبد عاش عمره في الصوامع حين تستمع إليه يقول:

تتجافى جنوبهم * عن وطئ المضاجع
كلهم بين خائف * مستجير وطامع
تركوا لذة الكرى * للعيون الهواجع
ورعوا أنجم الدجى * طالعا بعد طالع


الصفحة 18

لو تراهم إذا هم * خطروا بالأصابع
وإذا هم تأوهوا * عند مر القوارع
وإذا باشروا الثرى * بالخدود الضوارع
واستهلت عيونهم * فائضات المدامع
ودعوا: يا مليكنا * يا جميل الصنائع
اعف عنا ذنوبنا * للوجوه الخواشع
اعف عنا ذنوبنا * للعيون الدوامع
أنت إن لم يكن لنا * شافع خير شافع
فأجيبوا إجابة * لم تقع في المسامع
: ليس ما تصنعونه * أوليائي بضائع
أبذلوا لي نفوسكم * إنها في ودائعي

وله من طراز هذا الشعر الخاشع كثير لا تسمعه من ابن الفارض ولا محيي الدين

* (قال الأميني) *

ليس ما ارتئاه ابن الرومي في باب الاختيار نتيجة مخامرة الشبه والشكوك كما يراه (المترجم) وإنما هي وليدة البرهنة الصادقة، وإنه لم يعط القدر حقه محاباة له، لكن الحجج الدامغة ألجأته إلى ذلك، وكذلك ما يقوله في باب الأرزاق فهي تقادير محضة غير أن الانسان كلف بتحري الأسباب الظاهرية جريا على النواميس الإلهية؟؟ المطردة في النظام العالمي الأتم، وهذه مسائل كلامية لا يروقنا الخوض فيها إلا هنالك.

وأما اعتماد ابن الرومي على العدل والرحمة وتنزيه ربه فهو شأن كل مؤمن بالله عارف بكمال قدسه وصفاته الجلالية، وليس قرب أهل البيت الطاهر عليهم السلام إلا نتيجة مودتهم التي هي أجر الرسالة بنص من الذكر الحكيم، وإنما مثلهم كمثل سفينة نوح من ركبها نجى ومن تخلف عنها غرق، وهم عدل الكتاب وقد خلفهما رسول الله صلى الله عليه وآله بعده وقال: ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي، فأحر بهم أن يكون القرب منهم مؤمنا للانسان نشأته الأخرى، وأما ما عزاه إليه من مظاهر من المجون فهي معان شعرية لا يؤاخذ بها القائل، وكم للشعراء الاعفاء أمثالها.


الصفحة 19

هجاؤه

أخرج القرن الثالث للهجرة شاعرين هجائين هما أشهر الهجائين في أدب العصور الإسلامية عامة: أحدهما ابن الرومي. والآخر دعبل الخزاعي هاجي الخلفاء و الأمراء وهاجي الناس جميعا؟؟ وقال:

إني لأفتح عيني حين أفتحها * على كثير ولكن لا أرى أحدا

وقد جمع المعري بينهما في بيت واحد وضرب بهما المثل لهجاء الدهر لبنيه فقال:

لو أنصف الدهر هجا أهله * كأنه الرومي أو دعبل

وليس للمؤرخ الحديث أن يضيف إسما جديدا إلى هذين الاسمين فإن العصور التالية للقرن الثالث لم تخرج من يضارعهما في قوة الهجاء والنفاذ في هذه الصناعة، و كلاهما مع هذا نوع فذ في الهجاء يظهر متى قرن بالآخر.

فدعبل كما قلنا في غير هذا الكتاب (لا يهمنا ما ذكره في دعبل).

أما ابن الرومي فلم يكن مطبوعا على النفرة من الناس، ولم يكن قاطع طريق على المجتمع في عالم الأدب، ولكنه كان فنانا بارعا أوتي ملكة التصوير ولطف التخيل والتوليد وبراعة اللعب بالمعاني والأشكال، فإذا قصد شخصا أو شيئا بهجاء صوب إليه (مصورته) الواعية فإذا ذلك الشئ صورة مهيأة في الشعر تهجو نفسها بنفسها، وتعرض للنظر مواطن النقص من صفحتها كما تنطبع؟؟ الأشكال في المرايا المعقوفة والمحدبة، فكل هجوه تصوير مستحضر لأشكاله، أو لعب بالمعاني على حساب من يستثيره.

وابن الرومي يسلب مهجوه الفطنة والكياسة والعلم ويلصق به كل عيوب الحضارة التي يجمعها التبذل والتهالك على اللذات، فإذا حذفت من هجوه كل ما أوجبته الحضارة والخلاعة الفاشية في تلك الحضارة فقد حذفت منه شر ما فيه ولم يبق منه إلا ما هو من قبيل الفكاهة والتصوير.

وكان لصاحبنا فنا واحدا من الهجاء لا ترتاب في أنه كان يختاره ويكثر منه ولو لم تحمله الحاجة وتلجأه النقمة إليه، ونعني به فن التصوير الهزلي والعبث بالإشكال المضحكة والمناظرة الفكاهية والمشابهات الدقيقة، فهو مطبوع على هذا كما يطبع المصور على نقل ما يراه وإعطاء التصوير حقه من الاتقان والاختراع، و

الصفحة 20
ما نراه كان يقع عنه في شعره ولو بطلت ضروراته وحسنت مع الناس علاقاته، لكن هذا الفن أدخل في التصوير منه في الهجاء، وهو حسنة وليس بسيئة، وقدرة تطلب وليس بخلة تنبذ، وأنت لا يغضبك أن ترى ابنك الذي تهذبه وتهديه ماهرا فيه خبيرا بمغامزه وخوافيه، وإن كان يغضبك أن تراه يشتم المشتوم ويهين المهين، ويهجو من يستهدف غرضه للهجاء، لأنك إذا منعته أن يفطن إلى الصور الهزلية وأن يفتن في إدراك معانيها وتمثيل مشابهاتها ومنعت ملكة فيه أن تنمو وأبيت على حاسته الصادقة فيه أن تصدقه وتفقه ما تقع عليه، أما إذا منعت الهجاء وبواعثه فإنك تمنع خلقا يستغنى عنه، وميلا لا بد له من التقويم.

ذلك هو فن ابن الرومي الذي لا عذر له منه ولا موجب للاعتذار، فأما ما عدا ذلك من هجاؤه فهو مسوق فيه لا سائق، ومدافع لا مهاجم، ومستثار عن عمد في بعض الأحيان لا مستثير، وإنك لتقرأ له قوله:

ما استب قط اثنان إلا غلبا * شرهما نفسا وأما وأبا

فلا تصدق أن قائله هو ابن الرومي هجاء اللغة العربية وقاذف المهجوين بكل نقيصة لكن الواقع هو هذا، والواقع كذلك أنه كان يسكن إلى رشده أحيانا فيتسأم الهجاء ويعافه ويود الخلاص منه حتى لو كان مهجوا معدوا عليه ويعتزم التوبة عن الهجاء مقسما:

آليت لا أهجو طوال * الدهر إلا من هجاني
لا بل سأطرح الهجاء * وإن رماني من رماني
أمن الخلايق كلهم * فليأخذوا مني أماني
حلمي أعز علي من * غضبي إذا غضبي عراني
أولى بجهلي بعد ما * مكنت حلمي من عناني

وهذا أشبه بابن الرومي لأنه في صميمه خلق مسالما سهلا، ولم يخلق شريرا مطويا على الشكس والعداوة، بل هو لو كان شريرا لما اضطر إلى كل هذا الهجاء، أو هو لو كان أكبر شرا لكان أقل هجاء، لأنه كان يأمن من جانب العدوان فلا يقابله بمثله، وما كان الهجاء عنده كما قلنا إلا سلاح دفاع لا سلاح هجوم، وما كان هجاؤه يشف عن

الصفحة 21
الكيد والنكاية وما شابههما من ضروب الشر المستقر في الغريزة، كما كان يشف عن الحرج والتبرم والشعور بالظلم الذي لا طاقة له باحتماله ولا باتقائه، وكثير من الأشرار الذين يقتلون ويعتدون ويفسدون في الأرض يقضون الحياة دون أن تسمع منهم كلمة ذم في إنسان، وكثير من الناس يذمون ويتسخطون لأنهم على ذلك مطبوعون.

ومن قرأ مراثي ابن الرومي في أولاده وأمه وأخيه وزوجته وخالته وبعض أصدقائه علم منها أنها مراثي رجل مفطور على الحنان ورعاية الرحم والأنس بالأصدقاء و الأخوان، فمراثيه هي التي تدل عليه الدلالة المنصفة وليست مدائحه التي كان يميلها الطمع والرغبة أو أهاجيه التي كان يميلها الغيظ وقلة الصبر على خلائق الناس، ففي هذه المراثي تظهر لنا طبيعة الرجل لا تشوبها المطامع والضرورات، ونرى فيه الولد البار، والأخ الشفيق، والوالد الرحيم، والزوج الودود، والقريب الرؤف، والصديق المحزون، ولا يكون الرجل كذلك ثم يكون مع ذلك شريرا مغلق الفؤاد مطبوعا على الكيد والإيذاء وإذا اختلف القولان بينه وبين أبناء عصره فأحجى بنا أن نصدق كلامه هو في أبناء عصره قبل أن نصدق كلامهم فيه، لأنهم كانوا يستبيحون إيذاءه ويستسهلون الكذب عليه لغرابة أطواره، وتعود الناس أن يصدقوا كل ما يرمى به غريب الأطوار من التهم والأعاجيب، في حين أنه كان يتحاشى عن تلك التهم، ويغفر الاساءة بعد الاساءة مخافة من كثرة الشكاية و علما منه بقلة الانصاف.

أتاني مقال من أخ فاغتفرته * وإن كان فيما دونه وجه معتب
وذكرت نفسي منه عند امتعاضها * محاسن تعفو الذنب عن كل مذنب
ومثلي رأى الحسنى بعين جلية * وأغضى عن العوراء غير مؤنب
فيا هاربا من سخطنا متنصلا * هربت إلى أنجى مفر ومهرب
فعذرك مبسوط لدينا مقدم * وودك مقبول بأهل ومرحب
ولو بلغتني عنك أذني أقمتها * لدي مقام الكاشح المتكذب
ولست بتقليب اللسان مصارما * خليلي إذا ما القلب لم يتقلب

فالرجل لم يكن شريرا ولا ردئ النفس ولا سريعا إلى النقمة، فلماذا إذن كثر هجاؤه واشتد وقوعه في أعراض مهجويه؟! نظن أنه كان كذلك لأنه كان قليل الحيلة

الصفحة 22
طيب السريرة خاليا من الكيد والمراوغة والدسيسة وما شابه هذه الخلائق من أدوات العيش في مثل عصره، فكان مستغرقا في فنه يحسب أن الشعر والعلم والثقافة وحدها كفيلة بنجاحه وارتقائه إلى مراتب الوزارة والرئاسة، لأنه كان في زمن يتولى فيه الوزارة الكتاب والرواة ويجمعون في مناصبهم ألوف الألوف ويحظون بالزلفى عند الأمراء والخلفاء، وقد كان هو شاعرا كاتبا، وكان خطيبا واسع الرواية مشاركا في المنطق والفلك واللغة، وكل ما تدور عليه ثقافة زمان، أو كما قال المسعودي: كان الشعر أقل أدواته.. وكان الشعر وحده كافيا لجمع المال وبلوغ الآمال، فماذا بعد أن يعرف الناس إنه شاعر وإنه كاتب وإنه راوية مطلع على الفلسفة والنجوم؟! إلا أن تجيه الوزارة ساعية إليه تخطب وده، كما جاءت إلى أناس كثيرين لا يعلمون علمه، ولا يبلغون في البلاغة مكانه، ألم يصل ابن الزيات إلى الوزارة بكلمة واحدة فسرها للمعتصم وفصل له تفسيرها وهي كلمة (الكلاء) التي يعرفها عامة الأدباء؟! بلى، وابن الرومي كان يعرف من غرايب اللغة ما لم يكن يعرفه شعراء عصره ولا أدباؤه، فما أولاه إذن بالوزارة؟ وما أظلم الدنيا؟ إذ هي ضنت عليه بحقه من المناصب والثراء.

فإذا لم تكن الوزارة فهل أقل من الكتابة أو العمالة لبعض الوزراء والكتاب المبرزين؟! فإذا لم يكن هذا ولا ذاك فهل غبن أصعب على النفس من هذا الغبن؟!

وهل تقصير من الزمان ألام من هذا التقصير؟!

ونبوءة أبيه ورجاؤه في مستقبله وقوله: (أنت للشرف) أيذهب هذا كله هباء لا يقبض منه اليدين على شئ؟! تلك النبوءات التي تنطبع على أفئدة الصغار بمثل النار، ولا تزال غرارة الطفولة وأحلام الصبا تزخرفها وتوشيها وتعمق في الضمير أغوارها، أيأتي الشباب وهي محو لغو مطموس لا يبين أولا يبين منه إلا ما ينقلب إلى الأضداد وتترجمه الأيام بالسقم والفقر والكساد؟! وكيف يمحى؟! إلا وقد محى القلب الذي طبعت فيه، وكيف ينعكس معناه؟! إلا وقد انعكس في القلب كل قائم والتوى فيه كل قويم، ذلك صعب على النفوس وليس بالسهل إلا على من يلهو به وهو بعيد.

وهكذا كان ابن الرومي يسأل نفسه مرة بعد مرة ويوما بعد يوم:

مالي أسل من القراب وأغمد؟! * لم لا أجرد؟! والسيوف تجرد


الصفحة 23

لم لا أجرب في الضرائب مرة * يا للرجال وأنني لمهند؟!

ولا يدري كيف يجيب نفسه على سؤاله، لأنه لم يكن يدري أن فضائله كلها لا تساوي فتيلا بغير الحيلة والعلم بأساليب الدخول بين الناس، وإن الحيلة وحدها قد تغني عن فضائله جميعا ولو كان صاحبها لا ينظم شعرا، ولا ينظر في كتب الفلسفة و الرواية والنجوم.

حسن إذن تدع الوزارة والولاية والعمالة بعد يأس مضيض يسهل علينا هنا أن نسطره في كلمة عابرة ولكنه لا يسهل على من يعالجه ويشفي بمحنته في ساعة من ساعات حياته، ندع الوزارة والولاية والعمالة ونقنع بالمثوبة من الوزراء والولاة والعمال إن كانوا يثيبون المادحين، فهل تراهم يفعلون؟!.

لا. لأن الحيلة لازمة في استدرار الجوائز والمثوبات لزومها في كل غرض من أغراض المعاش ولا سيما في ذلك الزمان الذي شاعت فيه الفتن والسعايات، وما كانت تنقضي منه سنة واحدة بغير مكيدة خبيئة تؤدي بحياة خليفة أو أمير أو وزير، وربما كانت مصانعة الحجاب والتماس مواقع الهوى من نفوس الحاشية والندمان و اللعب بمغامز النفوس الخفية وإضحاك هؤلاء، وهؤلاء، أجدى على الشاعر في هذا الباب من بلاغة شعره وغزارة علمه.

وبسط الكلام في الموضوع إلى ص 235 فقال:

هو وشعراء عصره

عاصر ابن الرومي في بيئته كثير من الشعراء أشهرهم في عالم الشعر الحسين بن الضحاك، ودعبل الخزاعي، والبحتري، وعلي بن الجهم، وابن المعتز، وأبو عثمان الناجم.

وليس لهؤلاء ولا لغيرهم ممن عاصروه وعرفوه أو لم يعرفوه أثر يذكر في تكوينه غير اثنين فيما نظن هما: الحسين بن الضحاك، ودعبل الخزاعي

* (قال الأميني) *

وكان بين ابن الرومي والشاعر المفلق ابن الحاجب محمد بن أحمد صلة ومودة وجرت بينهما نوادر منها: أن ابن الحاجب سأله ابن الرومي زيارته في يوم معلوم فصاروا إليه فلم يجدوه فقال ابن الرومي فيه شعرا أوله:


الصفحة 24

نجاك يا بن الحاجب الحاجب * وليس ينجو مني الهارب

وأجابه ابن الحاجب بأبيات توجد في معجم المرزباني 453.

قال: فكان ابن الرومي معجبا بالحسين بن الضحاك يروي شعره ويستملح أخباره ويذكرها لأصحابه، وكان ابن الرومي يافعا يحضر مجالس الأدب ويتلقى دروسه و الحسين في أوج شهرته يتناشد أشعاره أدباء الكوفة وبغداد ومدن العراق (ثم ذكر بعض ما رواه ابن الرومي من شعر ابن الضحاك نقلا عن الأغاني) فقال:

وقد مات الحسين بن الضحاك وابن الرومي في التاسعة والعشرين ولم نر في تاريخه ولا في تاريخ الحسين ما يشير إلى تلاقيهما في بغداد حيث عاش ابن الرومي معظم حياته، أو في غير بغداد حيث كان يرحل ابن الضحاك.

أما دعبل فابن الرومي عارضه في موضعين أحدهما القصيدة الطائية التي نظمها دعبل حين اتهم خالدا بسرقة ديكه وإطعامه لضيوفه وقال في مطلعها:

أسر المؤذن خالد وضيوفه * أسر الكمي هفا خلال الماقط (1)

ولآخر في قصيدة لدعبل مطلعها:

أتيت ابن عمرو فصادفته * مريض الخلايق ملتائها

وكان دعبل فيما عدا ذلك متشيعا لآل علي غاليا في تشيعه (2) فجذب ذلك كله نفس ابن الرومي الفتى نحوه وحبب إليه محاكاته ومجاراته، وربما كانت الرغبة في مجاراته إحدى دواعيه إلى الهجاء، ومات دعبل وابن الرومي في الخامسة والعشرين ولا نعلم أنهما تعارفا أو كان بينهما لقاء.

وأما البحتري وأبو عثمان الناجم فالثابت أن ابن الرومي كان على معرفة و صحبة معهما، عرف البحتري في بيت الناجم وكان هذا صديقا له بقي على صداقته إلى يوم موته.

* (قال الأميني) *

لابن الرومي قصيدة في البحتري وأدبه وشعره توجد منها أبيات في ثمار القلوب للثعالبي ص 200 و 342.

____________

(1) راجع من كتابنا ج 2 ص 379 ط ثاني.

(2) عزو باطل لا يشوه به قدس تشيع مثل دعبل.

الصفحة 25
وأما علي بن الجهم المتوفى 249 فقد كان بينه وبين ابن الرومي برزخ واسع من اختلاف المذهب في الدين والشعر، فابن الرومي متشيع، وابن الجهم ناصب يذم عليا وآله (ولا يلتقي الشيعي والناصب) كما يقول ابن الرومي. وكان ابن الجهم شديد النقمة على المعتزلة وعلى أهل العدل والتوحيد منهم خاصة يهجوهم ويدس لهم ويقول في زعيمهم أحمد بن أبي داود:

ما هذه البدع التي سميتها * بالجهل منك العدل والتوحيدا

وابن الرومي كما مربك من هذه الجماعة، فمذهبه في الدين ينفره ابن الجهم ولا يرغبه في مجاراته، ولو تشابها فيما عدا ذلك من المزاح والنزعة، لقد يهون هذا الفارق ويسهل على ابن الرومي الإغضاء عنه، وهو ناشئ يتلمس القدوة، ويخطو في سبيل الشهرة، ولكنك تقره شعر ابن الجهم في فخره ومزاحه فيخيل إليك أنك تقرأ كلام جندي يتنفج أو يعربد لخلوه من كل عاطفة غير عواطف الجند يقضون أوقاتهم بين الفجر و الضجيج واللهو والسكر، وليس بين هذه الطبيعة وطبيعة ابن الرومي مسرب للقدوة أو للمقاربة في الميل والاحساس.

وأما ابن المعتز فقد ولد في سنة سبع وأربعين ومأتين فلما أيفع وبلغ السن التي يقول فيها الشعر كان ابن الرومي قد جاوز الأربعين أو ضرب في حدود الخمسين، ولما بلغ واشتهر له كلام يروى في مجالس الأدباء كان ابن الرومي قد أوفى على الستين وفرغ من التعلم والاقتباس، ولو انعكس الأمر وكان ابن المعتز هو السابق في الميلاد لما أخذ منه ابن الرومي شيئا، أو لكان أفسده سليقته بالأخذ عنه، لأن ابن المعتز إنما امتاز بين شعراء بغداد في عصره بمزاياه الثلاث وهي: البديع. والتوشيح. والتشبيه بالتحف والنفائس. وابن الرومي لم يرزق نصيبا معدودا من هذه المزايا ولم يكن قط من أصحاب البديع أو أصحاب التشبيهات التي تدور على الزخرف، وتستفيد نفاستها من نفاسة المشبهات.

تاريخ وفاته

قال ابن خلكان: توفي يوم الأربعاء لليلتين بقيتا من جمادي الأولى سنة ثلاث و

الصفحة 26
ثمانين. وقيل: وسبعين ومأتين ودفن في مقبرة باب البستان. والذين جاؤا بعد ابن خلكان تابعوه في هذا الشك ولا مسوغ لهذا الشك بأمور (1) الأول قوله:

طربت ولم تطرب على حين مطرب * وكيف التصابي بابن ستين أشيب؟!

فبملاحظة تاريخ ولادته المتسالم عليه بين أرباب المعاجم يوافق ستين مع سنة 281 فهو لم يمت في سنة 276 على التحقيق. ولا يظن أن الستين هنا تقريبية لضرورة الشعر فإنه ذكر الخمس والخمسين في موضع آخر حيث قال.

كبرت وفي خمس وخمسين مكبر * وشبت فألحاظ المها عنك نفر (2)

الثاني: ما في مروج الذهب (ج 2 ص 488) للمسعودي من أن قطر الندى بنت خمارويه وصلت إلى مدينة السلام ابن الجصاص في ذي الحجة سنة إحدى وثمانين ففي ذلك يقول ابن الرومي.

يا سيد العرب الذي زفت له * باليمن والبركات سيدة العجم

* (قال الأميني) *

قال الطبري في تاريخه 11 ص 345: كان دخولهم بغداد يوم الأحد لليلتين خلتا من المحرم سنة 282.

الثالث: مقطوعاته التي نظمها الشاعر في العرس الذي احتفل به الخليفة سنة اثنتين وثمانين.

* (قال الأميني) *

ومما ينفي الشك عن عدم وقوع وفاة المترجم سنة 270 قصيدته التي يمدح بها المعتضد بالله أبا العباس أحمد في أيام خلافته وقد بويع له في شهر رجب بعد عمه المعتمد سنة 279 قال فيها:

هنيئا بني العباس إن إمامكم * إمام الهدى والبأس والجود أحمد
كما بأبي العباس أنشئ ملككم * كذا بأبي العباس أيضا يجدد

قال العقاد: وأما التاريخين الآخرين: أي سنة ثلاث وأربع وثمانين فعندنا تاريخ اليوم والشهر من أولاهما وليس عندنا مثل ذلك من الثانية وهذا مما يرجح وفاته في سنة ثلاث وثمانين دون أربع وثمانين.

____________

(1) نحن نذكر ملخصها.

(2) ذكر الخمس والخمسين في هذا البيت لا ينافي تقريبية الستين في سابقه.

الصفحة 27

* (قال الأميني) *

لم نعرف وجه الترجيح يذكر تاريخ اليوم والشهر لمجرده مع قطع النظر عما ذكره بعد من مضاهاة التاريخ بقوله:

ويقوي هذا الترجيح أن مضاهاة التواريخ تثبت لنا أن جمادي الأخرى من سنة ثلاث وثمانين بدأت يوم جمعة فيكون يوم الأربعاء قد جاء لليلتين بقيتا من جمادي الأولى في تلك السنة كما جاء في تاريخ الوفاة، وقد ضاهينا هذا اليوم على التاريخ الأفرنجي فوجدناه يوافق الرابع عشر من شهر يونيو، أي يوافق أبان الصيف في العراق، وابن الرومي مات في الصيف كما يؤخذ من قول الناجم أنه دخل عليه في مرضه الذي مات فيه وبين يديه ماء مثلوج فيجوز لنا على هذا أن نجزم بأن أصح التواريخ الأول و هو: يوم الأربعاء لليلتين بقيتا من جمادي الأولى سنة ثلاث وثمانين.

شهادته

الأقوال بعد ذلك مجمعة على موت ابن الرومي بالسم وأن الذي سمه هو القاسم بن عبيد الله أو أبوه قال ابن خلكان في وفيات الأعيان (ج 1 ص 386): إن الوزير أبا الحسين القاسم بن عبيد الله بن سليمان بن وهب وزير الإمام المعتضد كان يخاف من هجوه و فلتات لسانه بالفحش فدس عليه ابن فراش فأطعمه خشكنامجه مسمومة وهو في مجلسه فلما أكلها أحس بالسم فقام فقال له الوزير: إلى أين تذهب؟! فقال: إلى الموضع الذي بعثتني إليه. فقال له: سلم على والدي. فقال له: ما طريقي على النار.

وقال الشريف المرتضى في أماليه (ج 2 ص 101): إنه قد اتصل بعبيد الله ابن سليمان بن وهب أمر علي بن العباس الرومي وكثرة مجالسته لأبي الحسين القاسم فقال لأبي الحسين: قد أحببت أن أرى ابن روميك هذا فدخل يوما عبيد الله إلى أبي الحسين وابن الرومي عنده فاستنشده من شعره فأنشده وخاطبه فرآه مضطرب العقل جاهلا فقال لأبي الحسين بينه وبينه: إن لسان هذا أطول من عقله، ومن هذه صورته لا تؤمن عقار به عند أول عتب ولا يفكر في عاقبته، فأخرجه عنك. فقال: أخاف حينئذ أن يعلن ما يكتمه في دولتنا ويذيعه في تمكننا. فقال: يا بني؟ إني لم أرد بإخراجك له طرده فاستعمل فيه بيت أبي حية النميري:


الصفحة 28

فقلن لها سرا: فديناك لا يرح * سليما، وإلا تقتليه فألممي

فحدث القاسم بن فراس بما جرى وكان أعدى الناس لابن الرومي وقد هجاه بأهاج قبيحة فقال له: الوزير أعزه الله أشار بأن يغتال حتى يستراح منه وأنا أكفيك ذلك. فسمه في الخشكنانج فمات. قال الباقطاني: والناس يقولون: ما قتله ابن فراس وإنما قتله عبيد الله.

ثم ضعف الرواية الأولى بأن عبيد الله بن سليمان مات سنة 288 بعد وفات ابن الرومي فلا معنى لقول القاسم له: سلم على والدي. ووالده بقيد الحياة.

واستشكل في الرواية الثانية بأن عبيد الله كانت له سوابق معرفة مع ابن الرومي فلا يتم ما فيها من طلبه رؤيته.

وأنت ترى أن التضعيف الثاني ليس في محله إذ الرؤية المطلوبة لعبيد الله كما يظهر من نفس الرواية رؤية اختبار لا مجرد رؤية حتى تنافي التعارف والاجتماع قبلها، فيحتمل عندئذ أن عبيد الله هو القائل: سلم على والدي. لا ابنه، والله العالم.