علم الهدى وابن المطرز (1)
في (الدرجات الرفيعة): إن الشريف المرتضى كان جالسا في علية له تشرف
على الطريق فرأى ابن المطرز الشاعر وفي رجليه نعلان مقطعان وهما يثيران الغبار فقال
له: أمن مثل هذه كانت ركائبك؟ يشير إلى بيت في قصيدته التي أولها:
سرى مغربا بالعيش ينتجع الركبا * يسائل عن بدر الدجى الشرق والغربا
على عذبات الجزع من ماء تغلب * غزال يرى ماء القلوب له شربا
إذا لم تبلغني إليك ركائبي * فلا وردت ماء ولا رعت العشبا
والبيت الأخير هو المشار إليه فقال ابن المطرز: لما عادت هبات سيدنا الشريف
إلى مثل قوله:
يا خليلي من ذوابة قيس * في التصابي مكارم الأخلاق
غنياني بذكرهم تطرباني * واسقياني دمعي بكأس دهاق
وخذا النوم من جفوني فإني * قد خلعت الكرى على العشاق
عادت ركائبي إلى ما ترى فإنه وهب ما لا يملك على من لا يقبل، فأمر له الشريف
بجائزة.
المرتضى والزعامة
كان سيدنا الشريف وقد انتهت إليه رياسة الدين والدنيا من شتى النواحي منها:
1: غزارة علمه التي حدت العلماء إلى البخوع له والرضوخ لتعاليمه. فكان
يختلف إلى منتدى تدريسه الجماهير من فطاحل العلم والنظر فيميرهم بسائغ علمه،
ويرويهم بنمير أنظاره العالية، فتخرج من تحت منبره نوابغ الوقت من فقيه بارع،
ومتكلم مناظر، وأصولي مدقق، وأديب شاعر، وخطيب مبدع، وكان يدر
من ماله الطائل (2) على تلمذته الجرايات والمسانهات ليتفرغوا بكلهم إلى الدراسة
من غير تفكير في أزمة المعيشة، فكان شيخ الطائفة أبو جعفر الطوسي يقتضي منه في
الشهر اثني عشر دينارا، والشيخ القاضي ابن البراج الحلبي يستوفي ثمانية دنانير، و
____________
(1) هو أبو القاسم عبد الواحد البغدادي الشاعر المجيد المتوفى سنة 439.
(2) كان يدخل عليه من أملاكه كل سنة أربعة وعشرون ألف دينار كما في (معجم الأدباء)
13 ص 154.
كمثلهما بقية تلامذته، وكان قد وقف قرية على كاغذ الفقهاء، ويقال: إن الناس أصابهم
في بعض السنين قحط شديد فاحتال رجل يهودي على تحصيل قوته فحضر يوما مجلس
الشريف المرتضى وسأله أن يأذن له في أن يقرأ عليه شيئا من علم النجوم فأذن له و
أمر له بجراية تجري عليه كل يوم فقرأ عليه برهة ثم أسلم على يديه (1) وكان لم ير
لثروته الطائلة قيمة تجاه مكارمه وكراماته وكان يقول:
وما حزني الاملاق والثروة التي * يذل بها أهل اليسار ضلال
أليس يبقي المال إلا ضنانة * وأفقر أقواما ندى ونوال
إذا لم أنل بالمال حاجة معسر * حصور عن الشكوى فمالي مال
2: وشرفه الوضاح النبوي الذي ألزم خلفاء الوقت تفويض نقابة النقباء الطالبيين
إليه بعد وفاة أخيه الشريف الرضي، وأنت تعلم أهمية هذا المنصب يومئذ حيث
أخذ فيه السلطة العامة على العلويين في أقطار العالم يرجع إلى نقيبهم حلها وربطها
وتعليمها وتأديبها والأخذ بظلاماتهم وأخذها منهم والنظر في أمورهم في كل
ورد وصدر.
3: ورفعة بيته وجلالة منبته فقد كانت سلسلة آباءه من طرفيه متواصلة من
أمير إلى نقيب إلى زعيم إلى شريف، وهذه مشفوعة بما كان فيه من لباقة وحنكة و
حذق في الأمور هي التي أهلته لأن تفوض إليه إمارة الحاج فكان يسير بهم سيرا سجحا
ولا يرجع بهم إلا من دعة إلى دعة، والحجيج بين شاكر لكلاءته، وذاكر لمقدرته،
ومطر أخلاقه، ومتبرك بفضائله، ومثن على أياديه.
4: ولشموخ محله وعظمة قدره بين أظهر الناس ومكانته العالية عند
الأهلين، وجمعه بين سطوة الحماة وثبت القضاة انقادت إليه ولاية المظالم، فتولى
النقابة شرقا وغربا، وإمارة الحاج والحرمين، والنظر في المظالم، وقضاء القضاة ثلاثين
سنة وأشهرا (2).
____________
(1) الدرجات الرفيعة للعلامة السيد على خان.
(2) صحاح الأخبار لسراج الدين الرفاعي ص 61، والمستدرك 3 ص 516 نقلا عن القاضي
التنوخي.
م - قال ابن الجوزي في (المنتظم) 7 ص 276: في يوم السبت الثالث من صفر -
سنة 406 - قلد الشريف المرتضى أبو القاسم الموسوي الحج والمظالم ونقابة النقباء
الطالبيين وجميع ما كان إلى أخيه الرضي، وجمع الناس لقرائة عهده في الدار الملكية
وحضر فخر الملك والأشراف والقضاة والفقهاء وكان في العهد: هذا ما عهد عبد الله أبو
العباس أحمد الإمام القادر بالله أمير المؤمنين إلى علي بن موسى العلوي حين قربته
إليه الأنساب الزكية، وقدمته لديه الأسباب القوية، واستطل معه بأغصان الدوحة
الكريمة، واختص عنده بوسائل الحرمة الوكيدة، فقلد الحج والنقابة وأمره بتقوى
الله. إلخ]
يلقب بالمرتضى، والأجل الطاهر، وذي المجدين، ولقب بعلم الهدى سنة 420
وذلك أن الوزير أبا سعيد محمد بن الحسن بن عبد الرحيم مرض في تلك السنة فرأى
في منامه أمير المؤمنين عليه السلام يقول له: قل لعلم الهدى يقرء عليك حتى تبرأ. فقال: يا
أمير المؤمنين ومن علم الهدى؟ فقال: علي بن الحسين الموسوي. فكتب إليه فقال
رضي الله عنه: الله الله في أمري فإن قبولي لهذا اللقب شناعة علي فقال الوزير: والله ما
كتبت إليك إلا ما أمرني به أمير المؤمنين عليه السلام (1).
وكان يلقب بالثمانين لما كان له من الكتب ثمانون ألف مجلدا ومن القرى
ثمانين قرية تجبى إليه (2) وكذلك من غيرهما حتى إن مدة عمره كانت ثمانين سنة و
ثمانية أشهر، وصنف كتابا يقال له الثمانون.
ولادته ووفاته
ولد سيدنا المرتضى في رجب سنة 355 وتوفي يوم الأحد 25 ربيع الأول
سنة 436 وعلى هذا جل المؤرخين لولا كلهم، نعم: هناك خلاف يسير (3) لا يعبأ به،
وصلى عليه ابنه وتولى غسله أبو الحسين النجاشي ومعه الشريف أبو يعلى محمد بن
____________
(1) ذكره شيخنا الشهيد في أربعينه.
(2) الرسالة الخراجية للمحقق الثاني.
(3) في عمدة الطالب، وصحاح الأخبار في 15 ربيع الأول. وفي كامل ابن الأثير آخر
ربيع الأول. وفي أنساب المجدي آخر سنة 436 أو 437. وعن خط الشهيد الأول يوم الأحد السادس
والعشرين من ربيع الأول. كل هذه مما لا يعبأ به.
الحسن الجعفري وسلار بن عبد العزيز الديلمي كما في رجال النجاشي ص 193، ودفن
في داره عشية ذلك النهار ثم نقل إلى الحائر المقدس ودفن في مقبرتهم وكان قبره
هناك كقبر أبيه وأخيه الشريف الرضي ظاهرا معروفا مشهورا كما في عمدة الطالب،
وصحاح الأخبار، والدرجات الرفيعة.
وهناك فتاوى مجردة من قذف سيدنا المترجم بالاعتزال تارة وبالميل إليه
أخرى وبنسبة وضع كتاب (نهج البلاغة) إليه طورا من أبناء حزم وجوزي وخلكان
وكثير والذهبي، ومن لف لفهم من المتأخرين (1) وبما أنها دعاوي فارغة غير
مدعومة بشاهد، وكتب سيدنا الشريف يهتف بخلافها ومن عرفه من المنقبين لا يشك
في ذلك، وقد أثبتنا نسبة (نهج البلاغة) إلى الشريف الرضي بترجمته، نضرب عن
تفنيد تلكم الهلجات صفحا.
ولابن كثير في (البداية والنهاية) ج 12 ص 53 عند ذكر السيد سباب مقذع
وتحامل على ابن خلكان في ثنائه عليه جريا على عادته المطردة مع عظماء الشيعة [و
كل إناء بالذي فيه ينضح] ونحن لا نقابله إلا بما جاء به الذكر الحكيم: وإذا خاطبهم
الجاهلون قالوا سلاما.
نبذة من ديوان المرتضى
ومن شعر سيدنا علم الهدى المرتضى نقلا عن ديوانه قوله يفتخر ويعرض ببعض
أعدائه يوجد في الجزء الأول منه:
أما الشباب فقد مضت أيامه * واستل من كفي الغداة زمامه
وتنكرت آياته وتغيرت * جاراته وتقوضت آطامه
ولقد درى من في الشباب حياته * أن المشيب إذا علاه حمامه
عوجا نحيي الربع يدللنا الهوى * فلربما نفع المحب سلامه
واستعبرا عني به إن خانني * جفني فلم يمطر عليه غمامه 5
فمن الجفون جوامد وذوارف * ومن السحاب ركامه وجهامه
دمن رضعت بهن أخلاف الصبى * لو لم يكن بعد الرضاع فطامه
____________
(1) نظراء جرجي زيدان في آداب اللغة 2 ص 288، والزركلي في الأعلام ص 667.
ولقد مررت على العقيق فشفني * إن لم تغن على الغصون حمامه
وكأنه دنف تجلد مونسا * عواده حتى استبان سقامه
10 من بعد ما فارقته فكأنه * نشوان تمسح تربه آكامه
مرح يهز قناته لا يأتلي * أشر الصبا وغرامه وعرامه
تندى على حر الهجير ظلاله * ويضيئ في وقت العشي ظلامه
وكأنما أطياره ومياهه * للنازليه قيانه ومدامه
وكأن آرام النساء بأرضه * للقانصي طرد الهوى آرامه
15 وكأنما برد الصبا خوذانه * وكأنما ورق الشباب بشامه
وعضيهة جائتك من عبق بها * أزرى عليك فلم يجره كلامه
ورماك مجتريا عليك وإنما * وافاك من قعر الطوي سلامه
وكأنما تسفى الرياح بعالج * ما قال أو ما سطرت أقلامه
وكأن زورا لفقت ألفاظه * سلك وهى فانحل عنه نظامه
20 وإذا الفتى قعدت به أخواله * في المجد لم تنهض به أعمامه
وإذا خصال السوء باعدن أمرءا * عن قومه لم يدنه أرحامه
ولكم رماني قبل رميك حاسد * طاشت ولم تخدش سواه سهامه
ألقى كلاما لم يضرني وانثنى * وندوبه في جلده وكلامه
هيهات أن ألفى وسيل مسافه * ينجو به يوم السباب لطامه
25 أو أن أرى في معرك وسلاحه * بدل السيوف قذافه وعذامه
ومن البلاء عداوة من خامل * لا خلفه لعلى ولا قدامه
كثرث مساويه فصار كمدحه * بين الخلايق عيبه أو ذامه
والخرق كل الخرق من متفاوت * الافعال يتلو نقضه إبرامه
جدب الجناب فجاره في أزمة * والضيف موكول إليه طعامه
30 وإذا علقت بحبله مستعصما * فكفقع قرقرة يكون زمامه
وإذا عهود القوم كن كنبعهم * فالعهد منه يراعه وثمامه
وأنا الذي أعييت قبلك من رست * أطواده واستشرفت أعلامه
وتتبع المعروف حتى طنبت * جورا على سنن الطريق خيامه
وتباذرت أعداؤه سطواته * كالليت يرهب نائيا إرزامه
وترى إذا قابلته عن وجهه * كالبدر أشرق حين تم تمامه 35
حتى تذلل بعد لاي صعبه * وانقاد منبوذا إلي خطامه
يهدى إلي على المغيب ثناؤه * وإذا حضرت أظلني إكرامه
فمضى سليما من أذاة قوارصي * واستام ذمي بعده مستامه
والآن يوقظني لنحت صفاته * من طال عن أخذ الحقوق نيامه
ويسومني ولان خلوت فإنني * مقر وفي حنك العدو سمامه 40
فلبئسما منته مني خاليا * خطراته أو سولت أحلامه
أما الطريف من الفخار فعندنا * ولنا من المجد التليد سنامه
ولنا من البيت المحرم كلما * طافت به في موسم أقدامه
ولنا الحطيم وزمزم وتراثها * نعم التراث عن الخليل مقامه
ولنا المشاعر والمواقف والذي * تهدى إليه من منى انعامه 45
وبجدنا وبصنوه دحيت عن البيت * الحرام وزعزعت أصنامه
وهما علينا أطلعا شمس الهدى * حتى استنار حلاله وحرامه
وأبي الذي تبدو على رغم العدى * غرا محجلة لنا أيامه
كالبدر يكسو الليل أثواب الضحى * والفجر شب على الظلام ضرامه
وهو الذي لا يقتفي في موقف * أقدامه نكص به إقدامه 50
حتى كأن نجاته هي حتفه * وورائه مما يخاف أمامه
ووقى الرسول على الفراش بنفسه * لما إراد حمامه أقوامه
ثانيه في كل الأمور وحصنه * في النائبات وركنه ودعامه
لله در بلائه ودفاعه * واليوم يغشى الدارعين قتامه
وكأنما اجم العوالي غيله * وكأنما هو بينها ضرغامه 55
وترى الصريع دماؤه أكفانه * وحنوطه أحجاره ورغامه
والموت من ماء الترائب ورده * ومن النفوس مزاده ومسامه
طلبوا مداه ففاتهم سبقا إلى * أمديشق على الرجال مرامه
فمتى أجالوا للفخار قداحهم * فالفائزات قداحه وسهامه
وإذا الأمور تشابهت واستبهمت * فجلاؤها وشفاؤها أحكامه 60
وترى الندي إذا احتبى لقضية * عوجا إليها مصغيات هامه
يفضي إلى لب البليد بيانه * فيعي وينشئ فهمه إفهامه
بغريب لفظ لم تذره سقاته * ولطيف معنى لم يفض ختامه
وإذا التفت إلى التقى صادفته * من كل بر وافرا إقامه
65 فالليل فيه قيامه متهجدا * يتلو الكتاب وفي النهار صيامه
يطوي الثلاث تعففا وتكرما * حتى يصادف زاده معتامه
وتراه عريان اللسان من الخنا * لا يهتدي للامر فيه ملامه
وعلى الذي يرضي الآءله هجومه * وعن الذي لا يرتضى احجامه
فمضى بريئا لم تشنه ذنوبه * يوما ولا ظفرت به آثامه
70 ومفاخر ما شئت إن عددتها * فالسيل أطبق لا يعد ركامه
تعلو على من رام يوما نيلها * من يذبل هضباته واكامه
وقال في الجزء الرابع من ديوانه يرثي الإمام السبط الشهيد عليه السلام في يوم عاشوراء
سنة 427:
أما ترى الربع الذي أقفرا * عراه من ريب البلى ما عرا؟!
لو لم أكن صبا لسكانه * لم يجر من دمعي له ما جرى
رأيته بعد تمام له * مقلبا أبطنه أظهرا
كأنني شكا وعلما به * أقرأ من أطلاله أسطرا
5 وقفت فيه اينقا ضمرا * شذب من أوصالهن السرى
لي بأناسي شغل عن هوى * ومعشري أبكي لهم معشرا
أجل بأرض الطف عينيك ما * بين أناس سربلوا العثيرا
حكم فيهم بغي أعدائهم * عليهم الذؤبان والأنسرا
تخال من لئلا أنوارهم * ليل الفيافي بهم مقمرا
صرعى ولكن بعد أن صرعوا * وقطروا كل فتى قطرا 10
لم يرتضوا درعا ولم يلبسوا * بالطعن إلا العلق الأحمرا
من كل طيان الحشى ضامر * يركب في يوم الوغا ضمرا
قل لبني حرب - وكم قولة * سطرها في القوم من سطرا -
: تهتم عن الحق كأن الذي * أنذركم في الله ما أنذرا
كأنه لم يقركم ضللا * عن الهدى القصد بأم القرى 15
ولا تدرعتم بأثوابه * من بعد أن أصبحتم حسرا
ولا فريتم ادما إمرة * ولم تكونوا قط ممن فرى
وقلتم عنصرنا واحد * هيهات لا قربى ولا عنصرا
ما قدم الأصل امرءا في الورى * أخره في الفرع ما أخرا
طرحتم الأمر الذي يجتنى * وبعتم الشئ الذي يشترى 20
وغركم بالجهل إمهالكم * وإنما اغتر الذي غررا
حلأتم بالطف قوما عن الماء * فحلئتم به الكوثرا
فإن لقوا ثم بكم منكرا * فسوف تلقون بهم منكرا
في ساعة يحكم في أمرها * جدهم العدل كما أمرا
وكيف بعتم دينكم بالذي * استنزره الحازم واستحقرا؟! 25
لولا الذي قدر من أمركم * وجدتم شأنكم أحقرا
كانت من الدهر بكم عثرة * لا بد للسابق أن يعثرا
لا تفخروا قط بشئ فما * تركتم فينا لكم مفخرا
ونلتموها بيعة فلتة (1) * حتى ترى العين الذي قدرا
كأنني بالخيل مثل الدبا * هبت له نكاؤه صرصرا 30
وفوقها كل شديد القوى * تخاله من حنق قسورا
لا يمطر السمر غداة الوغا * إلا برش الدم إن أمطرا
فيرجع الحق إلى أهله * ويقبل الأمر الذي أدبرا
____________
(1) أشار إلى ما أخرجه الحفاظ عن عمر أنه قال: بيعة أبي بكر كانت فلتة وقى الله شرها.
يا حجج الله علي خلقه * ومن بهم أبصر من أبصرا
35 أنتم على الله نزول وإن * خال أناس أنكم في الثرى
قد جعل الله إليكم - كما * علمتم - المبعث والمحشرا
فإن يكن ذنب فقولوا لمن * شفعكم في العفو أن يغفرا
: إذا توليتكم صادقا * فليس مني منكر منكرا
نصرتكم قولا على أنني * لآمل بالسيف أن أنصرا
40 وبين أضلاعي سر لكم * حوشي أن يبدوا وأن يظهرا
أنظر وقتا قيل لي: بح به * وحق للموعود أن ينظرا
وقد تبصرت ولكنني * قد ضقت أن أكظم أو أصبرا
وأي قلب حملت حزنكم * جوانح عنه وما فطرا؟!
45 لا عاش من بعدكم عائش؟؟ * فينا ولا عمر من عمرا
ولا استقرت قدم بعدكم * قرارها مبدي ولا محضرا
ولا سقى الله لنا ظامئا * من بعد أن جنبتم الأبحرا
ولا علت رجل - وقد زحزحت * أرجلكم عن متنه - منبرا
وقال في الجزء الرابع من ديوانه وهو يفتخر:
مالك في ربة الغلائل * والشيب ضيف لمتي من طائل؟!
أما ترين في شواتي (1) نازلا؟! * لا متعة لي بعده بنازل
محا غرامي بالغواني صبغه * واجتث من أضالعي بلابلي
ولاح في رأسي منه قبص * يدل أيامي على مقاتلي
5 كان شبابي في الدمى وسيلة * ثم انقضت لما انقضت وسائلي
يا عائبي بباطل ألفته * خذ بيديك من تمن باطل
لا تعذلني بعدها على الهوى * فقد كفاني شيب رأسي عاذلي
وقل لقوم فاخرونا ضلة: * أين الحصيات من الجراول (2)؟!
____________
(1) شواة: جلدة الرأس.
(2) الجراول جمع جرولة وجرول: الحجارة.
وأين قامات لكم دميمة * من الرجال الشمخ الأطاول؟!
نحن الأعالي في الورى وأنتم * ما بينهم أسافل الأسافل 10
ما تستوي - فلا تروموا معوزا - * فضائل السادات بالرذائل
ما فيكم إلا دني خامل * وليس فينا كلنا من خامل
دعوا النباهات على أهل لها * وعرسوا في أخفض المنازل
ولا تعوجوا بمهب عاصف * ولا تقيموا في مصب الوابل
أما ترى خير الورى معاشري؟! * ثم قبيلي أفضل القبائل؟! 15
ما فيهم إن وزنوا من ناقص * وليس فيهم خبرة من جاهل
أقسمت بالبيت تطوف حوله * أقدام حاف للتقى وناعل
وما أراقوه على واد منى * عند الجمار من نجيع سائل
وأذرع حاسرة ترمي - وقد * حان طلوع الشمس - بالجنادل
والموقفين حط ما بينهما * عن ظهره الذنوب كل حامل 20
فإن يخب قوم على غيرهما * فلم يخب عندهما من آمل
لقد نمتني من قريش فتية * ليسوا كمن تعهد في الفضائل
الواردين من علي ومن تقى * دون المنايا صفوة المناهل
قوم إذا ما جهلوا في معرك * ولوا على الأعراق بالشمائل
كأنهم أسد الشرى يوم الوغى * لكنهم أهلة المحافل 25
إن ناضلوا فليس من مناضل * أو ساجلوا فليس من مساجل
سل عنهم إن كنت لا تعرفهم * سل الظبى وشرع العوامل
وكل منبوذ على وجه الثرى * تسمع فيه رنة الثواكل
كأنما أيديهم مناصل * يلعبن يوم الروع بالمناصل
من كل ممتد القناة سامق * يقصر عنه أطول الحمائل 30
ما ضرني والعار لا يطور بي * إن لم أكن بالملك الحلاحل
ولم أكن ذا صامت وناطق * ولم أرح بباقر وجامل
خير من المال العتيد بذله * في طرق الافضال والفواضل
والشكر مغن أنت مغن فقره * خير إذا أحرزته من نائل
فلا تعرض منك عرضا أملسا * لخدشة اللوام والقوائل 35
فليس فينا مقدم كمحجم * وليس منا باذل كباخل
وما الغنى إلا حبالات العنا * فانج إذا شئت من الحبائل
إلى متى أحمل من ثقل الورى * ما لم يطقه ظهر عود بازل؟!
إن لم يزرني الهم اصباحا أتى * ولم أعره الشوق في الأصائل
وكم مقام في عراص ذلة * وعطن عن العلاء سافل 40
وكم أظل مفهقا عن الأذى * معللا دهري بالأباطل
كأنني وقد كملت دونهم * رضي بدون النصف غير كامل
محسودة مغبوطة ظواهري * لكنها مرحومة دواخلي
كأنني شعب جفاه قطره * أو منزل أقفر غير آهل
فقل لحسادي: أفيقوا فالذي * أغضبكم مني غير آفل 45
أنا الذي فضحت قولا مصقعا * مقاولي وفي العلى مطاولي
إن تبتنوا من العدى معاقلا * فإن في ظن القنا معاقلي
لا تستروا فضلي الذي أوتيته * فالشمس لا تحجب بالحوائل
فقد فررتم أبدا من سطوتي * فر القطا الكدر من الأجادل
50 ولا تذق أعينكم طعم الكرى * وعندكم وفيكم طوائلي
تقوا الردى وحاذروا الشر الذي * شب أواري فغلت مراجلي
وجن تيار عبابي واشتكت * خروق أسماعكم صلاصلي
إن لم أطركم مزقا تحملكم * نكب الأعاصير مع القساطل
فلا أجبت من صريخ دعوة * ولا أطعت يوم جود سائلي
55 ولا أناخ كل قومي كلهم * في مغنم أو مغرم بكاهل (1)
وفي غد تبصرها مغبرة * على الموامي كالنعام الجافل
يخرجن من كل عجاج كالدجى * مثل الضحى بالغرر السوائل
____________
(1) الكل: الضعيف. اليتيم. الكاهل من القوم: سندهم ومعتمدهم.
من يرهن قال: من هذا الذي * سد الملا بالنعم المطافل؟!
وفوقهن كل مرهوب الشذا * يروي السنان من دم الشواكل (1)
أبيض كالسيف ولكن لم يعج * صقاله على يمين صاقل 60
: حيث ترى الموت الزؤام بالقنا * مستحب الأذيال والذلاذل (2)
والنقع يغشى العين عن لحاظها * والركض يرمي الأرض بالزلازل
وبزت الأصلاب أو تمخضت * بلا تمام بطن كل حامل
ولم يجز هم الفتى عن نفسه * وذهل الحي عن العقائل
إن لم أنل في بابل مأربي * فلي إذا ما شئت غير بابل 65
وإن أبت في وطن مقلقلا * أبدلته بأظهر الرواحل
وإن تضق بي بلدة واحدة * فلم تضق في غيرها مجاولي
وإن نبا عني خليل وجفا * نفضت من ودي له أناملي
خير من الخصب مع الذل به * معرس على المكان الماحل
وقال في الافتخار في الجزء الرابع من ديوانه:
ما ذا جنته ليلة التعريف * شغفت فؤادا ليس بالمشغوف؟
ولو أنني أدري بما حملته * عند الوقوف حذرت يوم وقوفي
ما زال حتى حن حب قلوبنا * بجماله سرب الظباء الهيف
وأرتك مكتتم المحاسن بعد ما * ألقى تقى الإحرام كل نصيف
وقنعت منها بالسلام لو أنه * أروى صدى أو بل لهف لهيف 5
والحب يرضي بالطفيف معاشرا * لم يرتضوا من قبله بطفيف
ويخف من كان البطيئ عن الهوى * فكأنه ما كان غير خفيف
يا حبها رفقا بقلب طالما * عرفته ما ليس بالمعروف
قد كان يرضى أن يكون محكما * في لبه لو كنت غير عنيف
أطرحت يا ظمياء ثقلك كله * يوم الوداع على فقار ضعيف 10
____________
(1) شواكل ج شاكلة: الخاصرة.
(2) الزؤام: عاجل. وقيل: سريع مجهز الذلاذل جمع ذلذل وذلذل: أسفل الثوب.