تقديم:

بسم الله الرحمن الرحيم

والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على صفوة الخلق أجمعين، محمد وآله الطيبين الطاهرين، واللعنة على أعدائهم أجمعين، إلى قيام يوم الدين.

وبعد..

فإن من الواضح: أنه قد كان لموقف «الخوارج» في صفين تأثير عميق على مسار الأحداث، ومساس مباشر بالمصير الذي انتهت إليه الأمة ـ بل والبشرية بأسرها عبر التاريخ، حيث إن مواقفهم تلك قد حرمت الأمة من أطروحة أهل البيت (عليهم السلام)، ومكنت لمعاوية ولغيره من الطواغيت والمجرمين من الوصول إلى مآربهم، وتحقيق أهدافهم الشريرة.

ورغم أنهم قد حاربوا الأمويين بعد ذلك لكن حربهم لهم هي الأخرى قد زادت الطين بلة، والخرق اتساعا،ً حيث إن هذه الحروب قد منحت الفرصة لفريق آخر، أكثر عنفاً في مواجهة أطروحة علي عليه

الصفحة 6
السلام وأهل بيته (عليهم السلام)، وهم البيت العباسي، الذي بلغ عنف مواجهته لآل علي (عليه السلام) حداً جعل الشعراء يقولون:


تالله ما فعلت أمية فيهممعشار ما فعلت بنو العباس

ويقولون:


ومتى تولى آل أحمد مسلمقتلوه أو وصموه بالإلحاد

ويقولون:


يا ليت جور بني مروان دام لناولي عدل بني العباس في النار

أما ما ظهر من «الخوارج» من مواقف وأقاويل، فقد كان ولا يزال غير ظاهر الانسجام مع المعايير والضوابط المألوفة والسليمة، بعيداً عن مقتضيات الفطرة الإنسانية السليمة.

وهو أيضاً يصادم ضرورة العقل، وأحكام الدين، ولم يزل مثار بحث وجدل. فهذا يشرّق، وذاك يغرّب، وثالث يخبط خبط عشواء، لا يجد سبيلاً، ولا يهتدي إلى الطريق، كلما طرق باباً، اصطدم بالأسئلة الكثيرة التي تشير إلى التناقضات الظاهرة في أقوالهم، وأفعالهم.

فهل هم عبّاد وزهّاد عزفوا عن هذه الدنيا، وعن كل ما فيها، وأخلصوا لله وطلبوا الآخرة لا يريدون سواها؟!

أم أنهم قد أحبوا الدنيا بكل وجودهم وباعوها بالآخرة. وقد اتخذوا الدين طريقاً إليها، ووسيلة لإيقاع الناس في حبائلهم وخدعهم؟! حتى إنهم ليقاتلون على القدح أو على السوط يؤخذ منهم..

أم أنهم كانوا عبَّاداً، ولكنهم في نفس الوقت يحبون الدنيا، ويعملون

الصفحة 7
من أجلها، فهم يريدون أن يحصلوا على الدنيا وعلى الآخرة معا حسب زعمهم؟!

وتستمر الأسئلة لدى هذا الفريق أو ذاك: هل كان «الخوارج» على قناعة تامة بمواقفهم، وممارساتهم؟ أم كانوا شكاكاً؟!

قد التبست عليهم الأمور، وقد مضوا على شكهم فعالجوا القضايا من منطلق الأهواء الشخصية، ودوافع الحقد والكراهية التي كانت تعتلج في صدورهم؟!.

وهل كانوا علماء بكتاب الله، الذي مازالوا يقرؤونه ويرددونه ويتلونه آناء الليل وأطراف النهار؟!

أم أنهم كانوا أعراباً جفاةً، لم يستضيئوا بنور العلم، ولم يلجأوا إلى ركن وثيق؟!

وهل كانوا من الشجعان الأوفياء والأشداء؟!

أم كانوا من الغدرة الضعفاء والجبناء؟!

إلى غير ذلك من الأسئلة الكثيرة التي يريد هذا الكتاب أن يقدم الإجابة عليها، ولو بصورة موجزة ومحدودة.

وليس لدي ما يوجب أن أخفي على القارئ الكريم حقيقة أنني لم يكن يدور في خلدي أن أتجه إلى البحث حول هذا الموضوع، أو أن تضطرني بعض الاعتبارات إلى ذلك، حتى حدث ما لم يكن في الحسبان، فاستجبت لتلك الحاجة الطارئة التي جعلت من اختيار هذا الموضوع أمراً يكاد يكون ضرورة لا محيص عنها، ولا خلاص منها.

فبادرت إلى ذلك في شهر رجب الأصم سنة 1403هـ فكانت حصيلة المعاناة التي استمرت أسابيع قليلة جداً هي هذا البحث المتواضع

الصفحة 8
الذي بين يدي القارئ الكريم.

ثم هيأته للطبع، وأعدت النظر في بعض مطالبه في صيف عام 1422هـ.ق، وذلك بمقدار ما سنحت لي الفرصة، وساعد الظرف.

وكلي أمل أن ينال هذا الجهد رضا القراء والباحثين، وأن ينيلني الله عليه الأجر والثواب.

والله أسأل: أن لا يكلني إلى نفسي، وأن يجعل عاقبة أمري إلى غفرانه إنه ولي قدير..

وبالإجابة حري وجدير..

والحمد لله، وصلاته وسلامه على عباده الذين اصطفى، محمد وآله الطاهرين.


ذو الحجة سنة 1422 هـ.ق 
جعفر مرتضى الحسيني العاملي


الصفحة 9

تمهيد

الخبر المتواتر:

إن كل من له أدنى اطلاع على الحديث النبوي الشريف، لا يخالجه أدنى شك في تواتر الحديث الذي يتحدث عن ثلاث فئات تحارب أمير المؤمنين علياً (عليه الصلاة والسلام). بل إنه سوف يجد أنه قد رواه جميع المسلمين على اختلاف مذاهبهم ومشاربهم ونحلهم واتجاهاتهم.

وهذه الفئات الثلاث، هي:

1 ـ الناكثون، أي ناكثو البيعة.

وهم أصحاب الجمل، الذي حاربهم علي (عليه السلام).

2 ـ القاسطون، أي الجائرون، فإنه مأخوذ من «قسط» بمعنى جار، لا من «أقسط»، الذي هو بمعنى عدل.

والقاسطون هم الذين حاربوه (عليه السلام) في صفين، وهم معاوية وأهل الشام.


الصفحة 10
3 ـ المارقون(1).

وهم «الخوارج»، الذين حاربوه (عليه السلام) في النهروان(2).

وهناك الحديث الذي زخرت به كتب الحديث والتاريخ، والذي

____________

(1) راجع على سبيل المثال المصادر التالية: مجمع الزوائد ج6 ص235 وج7 ص238 وج5 ص186 وج9 ص111 ومستدرك الحاكم ج3 ص139، وتلخيص الذهبي بهامشه وانساب الأشراف ج2 ص297، [بتحقيق المحمودي]، وترجمة الإمام علي (عليه السلام) من تاريخ دمشق [بتحقيق المحمودي] ج3 ص172 و170 و169 و165 و163 و162 و160 و161 و158 و159 واللآلي المصنوعة ج1 ص213 و214 وتاريخ بغداد ج13 ص186 وج8 ص 340/341 وكنز العمال ج11 ص278 وراجع ص287 و318 و343 و344 وج15 ص96 وشرح النهج للمعتزلي ج3 ص207 و345 وج4 ص221 و462 وج18 ص27 وج6 ص130 وج13 ص183 و185 وج1 ص201 والمناقب للخوارزمي ص125 و106 و282 والبداية والنهاية ج7 ص206 و207 و305 و304 وج6 ص217 وفرائد السمطين ج1 ص332 و285 و283 و282 و281 و280 و279 و150 ومروج الذهب ج2 ص404 والمحاسن والمساوئ ج1 ص68 والغدير وج3 ص192 و194 وج1 ص337 وذخائر العقبى ص110 عن الحاكمي والرياض النضرة ج3 ص226 وكفاية الطالب ص168 و169 ومنتخب كنز العمال بهامش مسند أحمد ج5 ص451 و435 و437 وج4 ص244 ولسان الميزان ج2 ص446 وج6 ص206 وميزان الاعتدال ج1 ص126 و174 وينابيع المودة ص104 و128 و81 والنهاية في اللغة ج4 ص185 ولسان العرب ج2 ص196 وج7 ص378 وتاج العروس ج1 ص651 وج5 ص206 ونظم درر السمطين ص130 وأسد الغابة ج4 ص33 والجمل ص35 والافصاح في إمامة علي بن أبي طالب ص82 وإحقاق الحق ج6 ص37 و59 و79 وج5 ص71 عن مصادر كثيرة تقدمت، وعن: تنزيه الشريعة المرفوعة ج1 ص387 ومفتاح النجا ص68 مخطوط وأرجح المطالب ص 602 و603 و624 وموضح أوهام الجمع والتفريق ج1 ص386 وشرح المقاصد للتفتازاني ج2 ص217 ومجمع بحار الأنوار ج3 ص143 و195 وشرح ديوان أمير المؤمنين للمبيدي ص209 مخطوط والروض الأزهر ص389.

(2) كنز العمال ج11 ص287 عن ابن أبي عاصم وابن عساكر في الأربعين وراجع البداية والنهاية ج7 ص307.


الصفحة 11
يتحدث عن فئة يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية سيماهم التحليق، شر الخلق والخليقة(1) وقد

____________

(1) راجع على سبيل المثال في أمثال هذه العبارات في ما يلي: مسند أحمد ج1 ص88 و92 و108 و113 و131 و147 و151 و156 و160 و256 و404 و411 و441 و435 و380 و395 وج2 ص209 و219 وج3 ص5 و15 و32 و33 و34 و38 و39 و52 و56 و60 و64 و65 و68 و73 و159 و183 و197 و224 و353 و486 وج4 ص422 و425 وج5 ص31 و42 و146 وراجع: ص253 ومجمع الزوائد ج6 ص228 و229 و231 و27 و230 و232 و235 و239 وج9 ص129 ومستدرك الحاكم ج2 ص154 و147 و148 و146 و145 وكشف الأستار عن مسند البزاز ج2 ص360 و361 و363 و364 والجوهرة في نسب علي وآله ص109 والمعجم الصغير ج2 ص100 والمصنف للصنعاني ج1 ص146 و148 و151 و154 و157 وكنز العمال ج11 ص126 و180 و127 و128 و129 و130 و131 و175 و182 و271 و312 عن مصادر كثيرة وكفاية الطالب ص175 و176 وتاريخ بغداد ج12 ص480 وج10 ص305 والعقود الفضية ص66 و70 والمغازي للواقدي ج3 ص948 والإصابة ج2 ص302. والغدير ج10 ص54 و55 عن الترمذي ج9 ص37 وسنن البيهقي ج8 ص170 و171 وتيسير الوصول إلى علم الأصول ج4 ص31 و32 و33 عن الصحاح الستة كلها وعن أبي داود ج2 ص284 وفرائد السمطين ج1 ص276 ونظم درر السمطين ص116 والإلمام ج1 ص35 والخصائص للنسائي ص136 و137 حتى ص149 وميزان الاعتدال ج2 ص263 ترجمة عمر بن أبي عائشة وأسد الغابة ج2 ص140 وتاريخ واسط ص199 والتنبيه والرد ص182 وصحيح البخاري ج2 ص173 وج4 ص48 و122 ومناقب علي بن أبي طالب لابن المغازلي ص53 و57 والجامع الصحيح للترمذي برقم 3896 وصحيح مسلم ج1 ص1063 و1064 وفي هامش مناقب المغازلي عن الإصابة ج2 ص534 وعن تاريخ الخلفاء ص172 وراجع إثبات الوصية ص147 وراجع ذخائر العقبى ص110 والمناقب للخوارزمي ص182 وأحكام القرآن للجصاص ج3 ص400 ونور الأبصار ص102.

وراجع: نزل الأبرار ص57 ـ61 والرياض النضرة ج3 ص225 وراجع ص226 و224 والفصول المهمة لابن الصباغ ص94 والبداية والنهاية ج7 ص379 حتى 350 عن مصادر كثيرة ومن طرق كثيرة جداً فليراجعه من أراد وتذكرة الخواص ص104 وشرح النهج للمعتزلي ج13 ص183 وج1 ص201 وج2 ص261 و266 و268 و269 والكامل في التاريخ ج3 ص347. وإن تتبع مصادر هذا الحديث متعذر فنكتفي هنا بهذا القدر.


الصفحة 12
صرحت طائفة من الروايات بأن علياً (عليه السلام) هو الذي يقتلهم فراجع المصادر.

وفي بعض الروايات: طوبى لمن قتلهم وقتلوه(1).

وفي بعض الروايات أيضاً: أنهم كلاب النار(2).

وهو حديث لا شبهة في صحته.

وقد ذكرت الروايات علامات لفئة المارقين هؤلاء، أبرزها ظهور المخدج، وهو ذو الثدية(3) فيهم، وهو الرجل الذي لا يعرف أحد من أبوه.

____________

(1) راجع مسند أحمد ج4 ص357 و382..

(2) مسند أحمد ج4 ص382 و355 وسنن ابن ماجة ج4 ص74 وصححه السيوطي في الجامع الصغير، والمعجم الصغير ج2 ص117..

(3) مصادر ذلك لا تكاد تحصر، فراجع على سبيل المثال: مسند أحمد ج1 ص95 و92 و88 و113 و108 و121 و140 و141 و147 و151 و155 و160 وج3 ص33 و56 و65 والمصنف للصنعاني ج10 ص147 و148 و149 و151 والخصائص للنسائي ص 138 و139 و141 و142 و143 و144 و145 و146 والسنن الكبرى ج6 ص170 والجوهرة في نسب علي (عليه السلام) وآله ص109 و110 وكشف الأستار عن مسند البزار ج2 ص361 و362 وكنز العمال ج11 ص130 و178 و272 و277 و280 و281 و282 و285 و286 و278 و289 و296 و298 و301 و302 و307 و308 و310 و311 عن مصادر كثيرة جداً. ومجمع الزوائد ج6 ص227 و234 و235 و238 و239 والمحاسن والمساوئ ج2 ص98 ومنتخب كنز العمال بهامش مسند أحمد ج5 ص434 والكامل في التاريخ ج3 ص347 و348 ومناقب علي بن أبي طالب لابن المغازلي ص414 و416 والفتوح لابن أعثم ج4 ص130 ومستدرك الحاكم ج2 ص153 و154 وتلخيص الذهبي بهامشه وكفاية الطالب ص179 و177 وفرائد السمطين ج1 ص276 و277 ومروج الذهب ج2 ص406 ونظم درر السمطين ص116 وتاريخ بغداد ج12 ص480 وج1 ص160 و206 و199 و174 وج13 ص158 و222 وج11 ص118 وج11 ص305 وج14 ص365 وج7 ص237 وصحيح مسلم ج3 ص115 طبعة دار الفكر ـ بيروت ـ لبنان والعقود الفضية ص66 و67 والمعجم الصغير ج2 ص85 وراجع ص75 وعن المناقب لابن شهر آشوب ج3 ص191 والثقات ج2 ص296 وشرح النهج للمعتزلي ج6

=>


الصفحة 13
قال أبو سعيد الخدري: فحدثني عشرون، أو بضع وعشرون من أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله): أن علياً (رض) ولي قتلهم(1).

وأضاف أبو سعيد الخدري قوله: أشهد أني سمعت هذا من رسول الله (صلى الله عليه وآله). وأشهد أن علياً (عليه السلام) حين قتلهم ـ وأنا معه ـ جيء بالرجل على النعت الذي نعت رسول الله (صلى الله عليه وآله)(2).

وقد ذكرت بعض المصادر أن قتل ذي الثدية كان على يد أمير المؤمنين (عليه السلام) نفسه، حيث ضربه على بيضته، فهتكها، وحمل به فرسه، وهو لما به من أثر الضربة، حتى رمى به في آخر المعركة، على شط النهروان، في جوف دالية خربة(3).

____________

<=

ص130 وج13 ص183 وج2 ص266 و268 و275 و276 وخصائص أمير المؤمنين للرضي ص30 وذخائر العقبى ص110 ونزل الأبرار ص57 و61 والرياض النضرة ج3 ص224 و225 والبداية والنهاية ج7 من ص280 حتى ص307 بطرق كثيرة جداً وتذكرة الخواص ص104 والمغازي للواقدي ج3 ص948 و949 والمناقب للخوارزمي ص182 و183 و185.

(1) راجع: مسند أحمد ج3 ص33 وكنز العمال ج11 ص302 عن ابن جرير والبداية والنهاية ج7 ص299.

(2) المصنف للصنعاني ج10 ص147 و149 والجوهرة في نسب علي بن أبي طالب وآله ص110 وكنز العمال ج11 ص296 و297 عن عبد الرزاق وابن أبي شيبة. والخصائص للنسائي ص138 و139 في هامشه عن المصادر التالية: أسد الغابة ج2 ص140 والبداية والنهاية ج7 ص301 وميزان الاعتدال ج2 ص263 ومسند أحمد ج3 ص56 وج1 ص91 والعقود الفضية ص67 والمناقب للخوارزمي ص183 ونزل الأبرار ص58 وفي هامشه عن بعض من تقدم وعن حلية الأولياء ج4 ص186 وعن مجمع الزوائد ج6 ص239 وعن سنن البيهقي ج8 ص170 وعن صحيح مسلم ج2 ص748 وعن المناقب لابن شهر آشوب ج3 ص91 وعن تاريخ بغداد ج13 ص186 وعن مستدرك الحاكم ج2 ص145 وعن سنن أبي داود ج2 ص282.

(3) الفتوح لابن أعثم ج4 ص130.


الصفحة 14

التشكيك اللئيم:

ولكن بعض من لا يؤمن بالإسلام ولا بالوحي على رسول الله (صلى الله عليه وآله)، بل هو يعمل على الكيد له، وتزوير حقائقه ـ إن أمكنه ذلك: يعتبر حديث التميمي الذي اعترض على رسول الله (صلى الله عليه وآله) أسطورة ـ كما ذكره فلهوزن في كتابه(1) ونحن لا نتعجب كثيراً من مثل هذه الأقاويل، فإنما هي شنشنة أعرفها من أخزم؛ وليست هذه هي أولى طعنات هؤلاء المستشرقين في هذا الدين الحنيف، ولا نعتقد أنها ستكون الأخيرة منهم.

ولكن أن نقرأ لبعض من ينسب إلى هذا الدين: أن حديث ذي الثدية منتحل وهو أسطورة لا حقيقة لها رغم اعترافه بتواتره(2).

فذلك ما يثير عجبنا حقاً من إنسان يدعي أنه باحث موضوعي لا يميل به الهوى، ولا يصده التعصب عن قول الحق!!

فإنه إذا لم يصح الحديث المتواتر، فأي حديث بعده يمكن أن يصح. لاسيما مع ملاحظة عناية سائر الفرق الإسلامية، وعلمائها بنقل هذا الحديث. ومع كثرة طرقه!!.

صفات «الخوارج» في الروايات:

ومن العلامات التي ذكرتها الروايات للخوارج: أنهم أحداث الأسنان، سفهاء الأحلام(3). وهذا هو نفس ما وصفهم

____________

(1) الخوارج والشيعة ص45.

(2) قضايا في التاريخ الإسلامي للدكتور محمود إسماعيل هامش ص67 و68.

(3) راجع من المصادر المتقدمة: مسند أحمد، والمعجم الصغير ج2 ص100 وكشف

=>


الصفحة 15
به علي(عليه السلام)، كما سيأتي حيث قال عنهم (عليه السلام): أخفاء الهام سفهاء الأحلام(1).

وحسب نص آخر: أحداث، أحدّاء، أشداء، ذليقة ألسنتهم بالقرآن، يقرؤونه لا يجاوز تراقيهم(2).

وذكرت النصوص أيضاً: أن سيماهم التحليق والتسبيت [وهو استئصال الشعر القصير].

وذكرت النصوص المتقدمة: أنهم «يقرؤون القرآن، يحسبون أنه لهم، وهو عليهم»(3).

وأنهم: «قوم يحسنون القيل، ويسيئون الفعل.. إلى أن قال: يدعون إلى كتاب الله وليسوا منه في شيء، من قاتلهم كان أولى بالله منهم.

____________

<=

الأستار ج2 364 وكنز العمال ج11 ص128 و129 و179 و181 و299 و204 و206 ورمز له بما يلي: (ق.خ.د.ن.ج.ت.ه.ط.م. أبو عوانة. حب.ع. الخطيب. ابن عساكر. الحكيم. ابن جرير، والتنبيه والرد ص182.

وراجع: وأحكام القرآن للجصاص ج3 ص455 والسنن الكبرى ج8 ص170 وصحيح مسلم كتاب الزكاة باب 48 والخصائص للنسائي ص140 ومناقب علي بن أبي طالب لابن المغازلي ص57 والبداية والنهاية ج7 ص291 و296 وتيسير الوصول ج4 ص32 عن الخمسة ما عدا الترمذي.

(1) الموفقيات ص327.

(2) راجع مسند أحمد ج5 ص44 و36 والمعيار والموازنة ص170 وكنز العمال ج11 ص180 و294 ورمز له بـ [حم.ق.ط.وابن جرير] ومجمع الزوائد ج6 ص230 عن أحمد والطبراني، والبزار وتاريخ بغداد ج1 ص160 وج3 ص305 وفرائد السمطين ج1 ص277 والبداية والنهاية ج7 ـ ص291 والخصائص للنسائي ص139 ونظم درر السمطين ص116.

(3) مسند أحمد ج1 ص92 والغدير ج10 ص54 وفي هامشه عن صحيح الترمذي ج9 ص37 وسنن البيهقي ج8 ص170 وأخرجه مسلم وأبو داود كما في تيسير الوصول ج4 ص31 ونزل الأبرار ص60 وفي هامشه عن مسلم ج2 ص748.


الصفحة 16
قالوا: يا رسول الله، ما سيماهم؟!

قال: التحليق»(1).

وفي نص آخر: «يتلون كتاب الله وهم أعداؤه، يقرؤون كتاب الله محلقة رؤوسهم الخ»(2).

التزوير المفضوح:

وإن من يراجع كتب التاريخ يعرف كثرة «الخوارج» من بني تميم، وكما قد قرأنا آنفا: وصف أمير المؤمنين (عليه السلام) للخوارج بأنهم معاشر أخفَّاء الهام سفهاء الأحلام. أن ما يقرب من هذه العبارات مروي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أيضاً.

غير أن ثمة نصاً آخراً قد جاء بعكس هذا المعنى، فقد روى أبو هريرة: أنه سمع رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول عن بني تميم: «ضخم الهام، رجح الأحلام، وأشد الناس على الرجال في آخر الزمان»(3).

ومن الواضح: أن أبا هريرة كان عدواً لأمير المؤمنيين (عليه السلام)، وقد اعتبره أنه قد أحدث في المدينة، وأمره في ذلك أشهر من أن يذكر. ولا نريد أن نقول أكثر من ذلك.. وأن مقام أمير المؤمنين (عليه السلام) أعظم وأجل من أن ينال من هذا المظهر للنصب والعداء له صلوات الله وسلامه عليه..

____________

(1) سنن أبي داود ج2 ص284 ومستدرك الحاكم ج2 ص147 و148 وسنن البيهقي ج8 ص171.

(2) مستدرك الحاكم ج2 ص145.

(3) البرصان والعرجان ص309 وفي هامشه عن صحيح مسلم 1957.


الصفحة 17

سيماهم.. شعارهم:

وبعد..

فقد قال المعتزلي: «كان شعارهم أنهم يحلقون وسط رؤوسهم، ويبقى الشعر مستديراً حوله كالإكليل»(1).

وفي نص آخر: عن أبي سعيد: «التسبيد فيهم فاشٍ، قلت: وما التسبيد؟ قال: لا أعلمه إلا نحواً في رأسك فوق الجلد ودون الوفرة»(2).

ولكن رواية عن عبد الرزاق قالت: سيماهم الحلق والسمت.

قال: يعني: يحلقون رؤوسهم، والسمت يعني لهم سمت وخشوع(3) وأنهم من جهة العراق. وأنهم يقتلون أهل الإسلام، ويدعون أهل الأوثان(4).

كما أن من صفاتهم: أنهم يتكلمون بكلمة الحق، لا يجاوز حلوقهم، يحسنون القيل، ويسيئون الفعل، يدعون إلى كتاب الله، وليسوا منه في شيء. يتلون كتاب الله وهم أعداؤه(5).

____________

(1) شرح النهج للمعتزلي ج8 ص123.

(2) التنبيه والرد ص182.

(3) المصنف للصنعاني ج10 ص154.

(4) راجع الهوامش السابقة. مثل: مجمع الزوائد ج6 ص230 و238 وكشف الأستار ج2 ص364 و363 وكنز العمال ج11 ص126 و127 و288 و298 ورمز للمصادر التالية [خ.ق.د.ن. وابن أبي عاصم. وابن جرير.عب] والسيرة الحلبية ج2 ص140 ط سنة 1220 بمصر. صحيح مسلم، كتاب الزكاة باب47 والبداية والنهاية ج7 ص300.

(5) راجع: بحار الأنوار ج22 ص329 والبداية والنهاية ج7 ص328 وسنن أبي داود ج2 ص284 ومستدرك الحاكم ج2 ص147 و148 والسنن الكبرى للبيهقي ج8 ص171.


الصفحة 18

الخوف من إظهار الحق:

قال المعتزلي: «قال إبراهيم بن ديزيل: حدثنا سعيد بن كثير، عن عفير قال: حدثنا ابن لهيعه.. عن ابن هبيرة:

عن حنش الصنعاني قال: جئت إلى أبي سعيد الخدري ـ وقد عمي ـ فقلت: أخبرني عن هذه «الخوارج».

فقال: تأتوننا فنخبركم، ثم ترفعون ذلك إلى معاوية، فيبعث إلينا بالكلام الشديد.

قال: قلت: أنا حنش.

فقال: مرحباً بك يا حنش المصري، سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: يخرج ناس يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، ينظر أحدكم في نصله لا يرى شيئاً، فينظر في قذذه فلا يرى شيئاً. سبق الفرث والدم. يصلى بقتالهم أولى الطائفتين بالله.

فقال حنش: فإن علياً صَلِيَ بقتالهم؟

فقال أبو سعيد: وما يمنع علياً أن يكون أولى الطائفتين بالله؟!»(1).

ونلاحظ هنا:

1 ـ خوف أبي سعيد:

إننا نجد أبا سعيد يخاف من إظهار حديث رسول الله (صلى الله عليه وآله) لأن

____________

(1) شرح نهج البلاغة للمعتزلي ج2 ص261.


الصفحة 19
ذلك يعرضه للكلام الشديد، فإذا كان هذا الحديث له مساس بأمير المؤمنين (عليه السلام) فإن أمره يصبح أشد وتبعاته تصير أعظم، حتى ولو كان هذا الحديث يشير إلى «الخوارج» أعداء معاوية والحكم الأموي.

وهذا يعطينا فكرة عن المعاناة التي يواجهها الحديث عن فضائله (عليه السلام) وكراماته، وما يبين موبقات ومخازي أعدائه ومناوئيه، فالذي وصل إلينا من ذلك لابد أن يعد من كراماته (عليه السلام) ومن موارد لطف الله وعنايته البالغة.

2 ـ حنش.. وعلي أيضاً:

وحتى حنش المصري، فإنه لا يكاد يرضى بأن يكون علي (عليه السلام) هو الذي صلي بقتالهم حذراً من أن يكون (عليه السلام) أولى الطائفتين بالله الأمر الذي أثار أبا سعيد وجعله يعبر عن استغرابه بقوله: وما يمنع علياً أن يكون أولى الطائفتين بالله.

3 ـ معاوية يلاحق من يحدِّث:

وثمة دلالة أخرى نستفيدها هنا، وهي أن معاوية كان يبث جواسيسه لمعرفة الأحاديث التي يبثها الصحابة في الناس، ثم هو يواجه من تصدر عنهم تلك الأحاديث بالشدة والتخويف. وإن الجواسيس كانوا لا يكتفون بما يسمعونه، بل هم كانوا يسألون عن تلك الأحاديث ويطلبون سماعها..

وبعد ما تقدم نقول:

كان ما تقدم هو ما أحببنا أن نقدم الحديث عنه هنا، وقد أصبح من الطبيعي أن نبدأ في عرض أقسام الكتاب وفصوله الرئيسية، بادئين حديثنا

الصفحة 20
بعرض موجز للمناخات والأجواء التي كانت تفرض نفسها على العراق في فترة ظهور «الخوارج»..

فإلى ما يلي من أقسام وفصول.


الصفحة 21


الباب الأول
الأجواء والمناخات





الصفحة 22

الصفحة 23


الفصل الأول:
العرب والعراقيون
في كلمات أمير المؤمنين (عليه السلام)





الصفحة 24

الصفحة 25

بداية:

إنه إذا كان لابد لنا من إلقاء نظرة فاحصة على حقيقة الظروف التي كان يعاني منها أمير المؤمنين (عليه السلام) في العراق، والتي أفرزت الكثير من المفارقات، وخلقت أو ساعدت على خلق وحدوث الكثير من المشاكل والعوائق أمام مسيرة الحق والعدل، التي بدأها (عليه السلام) في هذا المجتمع الجديد، وعلى نطاق الدولة الإسلامية أجمع، وحتى بالنسبة للمجتمع البشري ككل.. فإننا نجد أنفسنا مضطرين إلى الإشارة إلى واقع المجتمع العراقي، الذي كان (عليه السلام) يتعامل معه، وكان قد فرض عليه صلوات الله وسلامه عليه أن يتخذه قاعدة لانطلاقه، ومحوراً لتحركاته.. لنتعرف بالتالي على المناخ الذي جعل من ظهور فرقة «الخوارج» التي نحن بصدد الحديث عنها، أمراً ممكناً، له أسبابه الموضوعية على صعيد الواقع الخارجي، الذي كان (عليه السلام) يتعامل معه، ويسجل موقفاً تجاهه..

ولكننا قبل بدء الحديث حول هذا الموضوع نرى أن من المناسب أن نلم بإضمامة من أقواله (عليه الصلاة والسلام) عن معاصريه من العراقيين ولهم، لتكون خير شاهدٍ، وأفضل بيان يوضح لنا ما كان يعاني منه ذلك

الصفحة 26
الرجل المظلوم، الذي كان قد بلغ به الأمر حداً جعله يقول لأهل العراق:

«لقد ملأتم قلبي قيحاً، وشحنتم صدري غيظاً، وجرعتموني نغب التهمام أنفاساً».

فنقول:

العراقيون.. في كلام علي (عليه السلام):

ونقتطف من كلامه (عليه السلام)، الذي ورد في نهج البلاغة، وفي مصادر كثيرة ما يلي:

قال (عليه السلام) في نهج البلاغة الخطبة رقم [25] بترقيم المعجم المفهرس للدشتي: «.. إني والله، لأظن: أن هؤلاء القوم سيدالون منكم، باجتماعهم على باطلهم، وتفرقكم عن حقكم، وبمعصيتكم إمامكم في الحق، وطاعتهم إمامهم في الباطل، وبأدائهم الأمانة إلى صاحبهم، وخيانتكم، وبصلاحهم في بلادهم وفسادكم؛ فلو ائتمنت أحدكم على قعب لخشيت أن يذهب بعلاقته.

اللهم إني قد مللتهم وملوني؛ وسئمتهم وسئموني، فأبدلني بهم خيراً منهم، وأبدلهم بي شراً مني»(1).

وقال (عليه السلام) في الخطبة رقم [27] بترقيم المعجم:

«عجباً والله يميت القلب ويجلب الهم، من اجتماع هؤلاء القوم على

____________

(1) وراجع: شرح النهج للمعتزلي ج1 ص332 والثقات ج2 ص351 وفيه زيادات واختلاف.