ومن ذلك كله.. تعرف السر في عدم تمامية امرهم.. بالإضافة إلى أسباب أخرى، ستأتي الإشارة إليها في ضمن الفصول الآتية، إن شاء الله تعالى.
كما أن مما ذكرناه ونذكره، يتضح عدم صحة ما قاله ابن خلدون، من أنه «لم يتم امرهم، لمزاحمتهم العصبية القومية»(1).
بل الحقيقة هي ان طريقة بني امية، تستهوي النفوس البشرية الضعيفة أكثر من طريقة «الخوارج»، لأنهم يدعون إلى الدنيا، وإلى زبارجها، وبهارجها، التي ينساق إليها الناس بغرائزهم، وتنسجم مع هوى نفوسهم.
ج: محدودية مطامع «الخوارج»:
إن «الخوارج»، وإن كانوا على ضلال، إلا أنهم كانوا ـ دون شك أقل سوءاً من الأمويين. لأنهم يقاتلون من أجل هدف يرونه ديناً مقدساً، فهم وان أخطأوا الطريق من حيث إنهم لم يقاتلوا بني أمية مع امام حق. بل لقد حاربوا الإمام المنصوب من قبل الله تعالى، ورفضوا الانقياد له، لكنهم محقون في سعيهم لإزالة حكم الجبارين، فهم قد طلبوا حقاً فوقعوا في الباطل، وأرادوا صواباً فتاهوا في الضلال والفساد، من حيث معاداتهم الإمام المنصوب، وعدم انقيادهم له أو انضوائهم تحت لوائه.
أما بنو أمية فانهم قد طلبوا الخلافة فأدركوها وهم ليسوا من أهلها بل هم يعلمون أنهم يطلبون ما ليس لهم بحق، مع خبث نفوسهم، وشدة ظلمهم وفجورهم..
____________
(1) مقدمة ابن خلدون ص 69 وقضايا في التاريخ الاسلامي ص 38.
ولم يكن هذا الأمر هدفاً صريحاً مباشراً للخوارج، وإن كانت مواقفهم وممارساتهم وأقاويلهم وأباطيلهم الناشئة عن الجهل والهوى، تؤدي إلى ذلك، وتنتهي إليه، وسيأتي توضيح ذلك تحت عنوان: مقارنة بين بني أمية و«الخوارج»..
وعلى كل حال، فانهم وإن كانوا يسعون للحصول على شيء من حطام الدنيا، فإن ما يطلبونه في الغالب كان من الأمور الحقيرة والصغيرة، ولم تكن ثمة طموحات كبيرة الا لدى الرؤساء، الذين كانوا يسعون إلى السلطة، كما تدل عليه بعض النصوص التي سجلها التاريخ عن بعض اولئك الزعماء، وفي حربهم لعلي أمير المؤمنين (عليه السلام)، قد زين لهم الشيطان: انهم ظاهرون..
د: تصلب «الخوارج» ضد علي (عليه السلام):
إن ما كان يبدو عليهم من تصلب في المواقف ضد أمير المؤمنيين (عليه السلام)، فإنما كان بسبب ما كانوا يجدونه في أنفسهم من حنق وحقد، كما عن الإمام الصادق (عليه السلام)، ولعل ذلك يرجع إلى أنهم لم يجدوا معه (عليه السلام) مجالاً لتحقيق كثير من المآرب التي كانوا يطمحون إلى تحقيقها، حتى انهم في حرب الجمل لم يتمكنوا من الحصول على السبايا بسببه (عليه السلام)، فأعلنوا عن سخطهم، وعدم رضاهم، كما ذكرناه في موضع آخر من هذا الكتاب.
هـ: ما يؤثر في اتخاذ مواقفهم:
إن مفاهيمهم الجاهلية، وعصبياتهم القبلية، ومصالحهم الشخصية وان لم تكن بعيدة عن التاثير في اتخاذهم لمواقفهم، الا انها كانت ملبسة بلباس الدين، ومبررة به، فقد كانوا مصداقاً بارزاً لقوله تعالى: «قل هل أنبئكم بالأخسرين أعمالاً الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا، وهم يحسبون انهم يحسنون صنعاً»(1). كما نصّ عليه سيد الوصيين علي أمير المؤمنين (عليه الصلاة والسلام).
ونسب ابن كثير إلى بعض السلف تطبيق هذه الآية على «الخوارج»، واستحسن ذلك(2).
فـ«الخوارج» إذن يرتكبون أبشع الجرائم باسم الدين، وتحت شعار الطاعة لله، والانقياد له تعالى..
فلم يكن ثمة اعلان منهم بالجرأة على مقام العزة الالهية، وهتك لحرمة مقام الربوبية.. كما هو حال بني أمية، الذين كانوا يرتكبون أعظم من ذلك، ثم يزيدون في الطنبور نغمة حين يجهرون بالاستهتار، ويعلنون بالجرأة على الله سبحانه، وتحدي مقام عزته وجبروته..
فنهج بني امية اذن اعظم شراً، وأشد خطراً، لأنه يجعل الكفر والجريمة نهجاً للأمة، وسبيلاً ترتضيه، دون ان تشعر بالهيبة الالهية، وان
____________
(1) كشف الغمة ج1 ص 266 والمناقب لابن شهر آشوب ج3 ص 187 ومناقب الامام علي لابن المغازلي ص 58 و59 وفي هامشه عن شرح نهج البلاغة للمعتزلي ج1 ص 206 وج2 ص 278 وعن الكامل في الادب وعن الدر المنثور ج3 ص253 عن الفريابي، وعبد الرزاق، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه. وراجع: نظم درر السمطين ص 127 والثقات ج2 ص 296 والفتوح لابن اعثم ج4 ص 127.
(2) البداية والنهاية ج7 ص 286.
أما «الخوارج».. فانهم رغم كل موبقاتهم لا يزالون يعلنون أنهم يلتزمون بالدين، ويقبلون بأحكامه.. فيمكن للناس اذن ان يحتجوا عليهم بالدين، وان يأخذوهم بالوقوف عنده، والانتهاء إليه..
فهم لم يوصدوا الباب بصورة نهائية. بل لا يزال هناك منفذ يمكن الاستفادة منه لتعريف الناس على الحق، وهدايتهم إليه، وحملهم على الالتزام به.
و: المغرورون بشعارات «الخوارج»:
كما أنه قد كان من الطبيعي ان يوجد العديد من الناس الذين يغترون بشعارات «الخوارج» البراقة، فيخلصون في مواقفهم، ويستميتون من أجلها، وإن لم يكن لهؤلاء مواقع قيادية بارزة، أو تأثير ظاهر في القرارات، التي كانت تتخذ بصورة عامة..
ز: مقارنة بين بني أمية و«الخوارج»:
إن بني أمية كانوا يعرفون الحق، ويحاربونه استكباراً، وظلماً وعلوا، وعن سابق تصميم وتخطيط.. وقد طلبوا الباطل المتمثل بالملك والسلطة والدين، من دون كلل اوملل، فادركوا ما طلبوا، وأرادوا الدنيا، ونيل شهواتها، والفساد والافساد فيها، فحصلوا على ما ارادوا. مع ما هم عليه من خبث نفوس، ومن ظلم لا يضاهى، وفجور لا يجارى، وبذل جهد في طمس الحق.
و«الخوارج» قد تمردوا على امام الحق، وحاربوه وقاتلوه. فهم قد أصابوا في التصدي لحكم الجبارين، ولكنهم أخطأوا في حربهم لإمامهم، وفي التصدي لذلك بدون أمره وقيادته..
ومن الواضح: أن من يريد الصلاح، يكون افضل من الذي لا يريده. بل يريد الفساد، ومن يطلب الحق فيخطئه ويقع في الباطل، والشك، فانه افضل من ذلك الذي لا يطلب الا الباطل عن سابق علم وتخطيط واصرار، ثم هو يحاول اطفاء نور الله، وتكريس باطله بكل ما اوتى من قوة وحول.
وليس أدل على ذلك من أن حكم الأمويين الذي كرسه لهم معاوية قد بدأ باكذوبة فاضحة هي أنه اعتل اولاً بالطلب بدم عثمان، مع أن
أضف إلى ذلك: أنه لا يحق لهم الطلب بدمه بطريقة نصب الحرب لولي الامر، ثم ارتكاب المجازر الهائلة التي حصدت عشرات الألوف من المسلمين، ثم استمر حكم الجبارين الذين يريدون جعل مال الله دولاً، واتخاذ عباده خولا.
وعلى كل حال فان أمير المؤمنين (عليه السلام) قد أشار إلى ذلك حينما قال حسبما تقدم: «لاتقتلوا الخوارج بعدي، فليس من طلب الحق فأخطأه، كمن طلب الباطل فأدركه» كما أن الإمام الحسن (عليه الصلاة والسلام) قد واجه معاوية بنفس هذا الكلام، حينما طلب منه معاوية ان يتولى حرب «الخوارج»، فأسكته(1).
وقال لهم عمر بن عبد العزيز: «إني قد علمت أنكم لن تتركوا الأهل والعشائر، وتعرضتم للقتل والقتال إلا وأنتم ترون أنكم مصيبون، ولكنكم اخطأتم وضللتم، وتركتم الحق»(2).
والنص الآخر المروي عن عمر بن عبد العزيز، أنه قال لبعض «الخوارج»: «اني قد علمت: انكم لم تخرجوا مخرجكم هذا لطلب دنيا أو متاع، ولكنكم اردتم الآخرة، فأخطأتم سبيلها»(3).
____________
(1) علل الشرايع ص 218.
(2) جامع بيان العلم ج2 ص 129.
(3) العيون والحدائق ص 44، وتاريخ ابن خلدون ج3 ص162 وفجر الاسلام ص263. ومروج الذهب ج3 ص 191 والعقد الفريد ج2 ص 401.
وأصرح من ذلك: ما جاء من أنه (عليه السلام) «بلغه: أن الناس يرون تقديم الخوارج [اي في القتال] فقال لهم: ان قتال أهل الشام أهم علينا، لأنهم يقاتلوكم ليكونوا ملوكا جبارين، ويتخذون عبادا لله خولا..»(1).
وعلى حد تعبير ابن قتيبة: «إلا أن غير هذه الخارجة اهم على أمير المؤمنين، سيروا إلى قوم يقاتلونكم كيما يكونوا في الأرض جبارين ملوكاً، ويتخذهم المؤمنون أرباباً، ويتخذون عباد الله خولا الخ..»(2).
وقد كان أنصارهم أهل الشام، الذين وصفهم أمير المؤمنين عليه لسلام بقوله: «اعراب، واحزاب، وأهل طمع، جفاة طغام، تجمعوا من كل أوب، ممن ينبغي أن يؤدب ويولى عليه، ويؤخذ على يديه، ليسوا من المهاجرين والأنصار، ولا من التابعين بإحسان»(3).
ح: عدل «الخوارج» وتحرّيهم للحق:
قد تقدم: أن «الخوارج» كانوا ـ في الظاهر ـ من العباد والزهاد، والمتصلبين في الحق، حتى أصبحوا لدى الناس، الذين لا يفقهون من الأمور إلا ظواهرها،مضرب المثل في العدل، وتحري الحق.. حتى
____________
(1) تاريخ ابن خلدون ج2 قسم2 ص 180 وتاريخ الطبري ج4 ص59 والكامل لابن الاثير ج3 ص 341..
(2) الامامة والسياسة ج1 ص 145 وقريب منه في مروج الذهب ج2 ص 404 والنصائح الكافية ص 26 والفصول المهمة لابن الصباغ ص 91..
(3) الامامة والسياسة ج1 ص 156..
إذن.. فلم يكن ليجترئ على حربهم غير أمير المؤمنين (عليه السلام).. وكل من يتصدى لحربهم سواه لربما لا يستطيع ان يدافع عن نفسه كثيراً، ولاسيما إذا كان الإعلام الموجه من قبل اجهزة الحكم سيكون ضده، وسيسعى لضربه وإسقاطه عن هذا الطريق.
أما إذا كان من يتصدى لحربهم هم أهل البيت وشيعتهم، فان الاعلام الاموي الخبيث والزبيري الحاقد المسموم سوف لا يدخر وسعاً، ولا يألوا جهداً في سبيل توجيه الضربات الماحقة لهم، ولكل ما يتصل بهم من قريب أو من بعيد..
كما ان العراق الميال لعلي (عليه السلام)، واهل بيته صلوات الله وسلامه عليهم سينشغل بقضية لن تكون نتائجها الا تمزق اوصاله، واهتزاز وزعزعة ثباته، الامر الذي يقلل من فرص اجتياح المد الشيعي على شكل تعاطف ومحبة وولاء لأهل البيت (عليهم السلام) لمناطق اخرى تقع في نطاق اهتمامات الحكم الاموي البغيض..
أضف إلى ذلك: أن تولي هؤلاء لحرب «الخوارج» معناه: ان يتحملوا هم آثار الحرب ويعانون من ويلاتها، ويبتلون بمخلفاتها غير المرغوب فيها، ولا سيما على الصعيد المعيشي والاجتماعي، وعلى صعيد العلاقات، والابتلاء بالأحقاد التي تنشأ عن سفك الدماء عادة..
____________
(1) جمهرة انساب العرب ص 204..
ط: حرب الشيعة للخوارج قضاء على الشيعة:
لقد كان الشيعة قلة ومضطهدين من قبل الحكم الاموي، ولم يكن لهم حكومة مركزية تحميهم وتدفع عنهم، فتكليفهم بقتال «الخوارج» معناه المزيد من اضعافهم هم و«الخوارج» على حد سواء، مع ما سينشأ من ترات وتمزقات ثم من عقد اجتماعية ومشكلات انسانية تشغل كل فريق بنفسه، أما الحكم الأموي فتبقى أموره متسعة، مع احتفاظه بكامل قواه، في مقابل خصمين انهكت قواهما حروبهما مع بعضهما البعض، من دون ان يكلفه ذلك شيئاً. حتى إذا وجد الحكم الأموي فرصة فإنه سيسهل عليه القضاء على كل منهما وعلى كليهما بيسر وسهولة، وشراسة وقسوة.
وبديهي: أن الحفاظ على الشيعة اهم وافضل بكثير من القضاء عليهم وعلى «الخوارج»، مع بقاء الحكم الاموي محتفظاً بكل قواه، يتحكم بمقدرات الأمة، ويسومها الخسف والذل والهوان.
ي: الشيعة حاربوا «الخوارج» بعد علي (عليه السلام):
ومع ذلك.. فلربما يستظهر من كلام المهلب المتقدم: «فقاتلوهم على ما قاتلهم عليه علي بن أبي طالب صلوات الله عليه» هو ان أقواماً من الشيعة كانوا ربما شاركوا في قتال «الخوارج» أيضاً بل كانوا يشكلون العمود الفقري لجيش المهلب. وذلك بعد أن كان الأمويون يسعون لدفع الشيعة العراقيين، بل وإرغامهم على حربهم، فان معاوية قد اخبر
وحين جهز المغيرة بن شعبة ثلاثة آلاف مقاتل، جعل معظمهم من شيعة علي (عليه الصلاة والسلام)، بل كانوا نقاوة الشيعة. وكانوا بقيادة معقل بن قيس أحد القواد الذين كانوا في جيش علي (عليه السلام)، ومن المعروفين فيهم وفرسانهم ـ على حد تعبير الطبري، وغيره ـ.
كما ان ابن عامر قد جهز من البصرة ثلاثة آلاف من الشيعة أيضاً، وكان أكثرهم من ربيعة، الذين كان رأيهم في الشيعة(2).
والحجاج أيضاً قد نكل بأهل العراق، وقتل منهم من قتل، وفعل الافاعيل، بهدف ارغامهم على حرب «الخوارج»(3) وقد كان من نتيجة فعل الحجاج هذا: ان خرج الناس إلى السواد هرباً، وطلبوا من اهاليهم تزويدهم وهم في مكانهم، فازدحم الرجال على المهلب(4).
وفي بعض حروب الجيش الذي جهزه الامويون لمواجهة «الخوارج»، قتل مع عبد الرحمن بن مخنف سبعون رجلاً من القراء، فيهم نفر من أصحاب علي بن أبي طالب، ونفر من أصحاب ابن مسعود(5).
____________
(1) راجع: الكامل في الادب ج3 ص 240 والعقد الفريد ج1 ص 216 وشرح النهج للمعتزلي ج5 ص 98 وج16 ص 14 والكامل في التاريخ ج3 ص 409 وتاريخ الامم والملوك ج4 ص 148 و147.
(2) العبر وديوان المبتدأ والخبر ج3 ص 143 وتاريخ الامامية ص51 وتاريخ الامم والملوك ج4 ص 144 و148 والكامل في التاريخ ج3 ص430 و431..
(3) راجع على سبيل المثال: الكامل في الادب ج3 ص 366 ـ 307 ومروج الذهب ج3 ص127ـ129..
(4) مروج الذهب ج3 ص 127 ـ 129..
(5) شرح نهج البلاغة للمعتزلي ج4 ص 188 والكامل في الادب ج3 ص372.
من أسباب زج الشيعة في حروب «الخوارج»:
وقد كان من اسباب اهتمامهم بارسال الشيعة لقتال «الخوارج»، بالإضافة إلى ما تقدم، ما ذكره المغيرة بن شعبة، حينما قال لصاحب شرطته: «الصق بمعقل شيعة علي، فانه كان من روؤساء اصحابه، فاذا اجتمعوا استأنس بعضهم ببعض، وهم اشد استحلالاً لدماء هذه المارقة، وأجرأ عليهم من غيرهم، فقد قاتلوهم قبل هذه المرة»(1).
ومهما يكن من امر، فقد استمر الائمة (عليهم السلام) في العمل على تجنيب شيعتهم الصدام مع «الخوارج»، فقد قال الشيخ المفيد: «.. وحريز بن عبد الله انتقل إلى سجستان، وقتل بها، وكان سبب قتله: انه كان له اصحاب يقولون بمقالته. وكان الغالب على سجستان الشراة. وكان أصحاب حريز يسمعون منهم ثلب أمير المؤمنين (عليه السلام) وسبه، فيخبرون حريزاً ويستأمرونه في قتل من يسمعون منه ذلك، فأذن لهم، فلا يزال الشراة يجدون منهم القتيل بعد القتيل، فلا يتوهمون على الشيعة لقلة عددهم، ويطالبون المرجئة، ويقاتلونهم.
فلا يزال الأمر هكذا، حتى وقفوا عليه فطلبوهم، فاجتمع أصحاب حريز إلى حريز في المسجد، فعرقبوا عليهم المسجد، وقلبوا أرضه، رحمهم الله..»(2).
والظاهر: ان حريزا لم يمت في هذه الحادثة. ويدل على نجاته منها قول النجاشي عن حريز هذا: «.. وكان ممن شهر السيف في قتال
____________
(1) راجع: تاريخ الامم والملوك ج4 ص 144 والكامل في التاريخ ج3 ص 429.
(2) الاختصاص للشيخ المفيد ص 207 والبحار ج7 ص 294، وقاموس الرجال ج3 ص109.
ويكون جفاؤه (عليه السلام) له من شأنه ان يفهم الناس ان ما كان انما هو مبادرة شخصية من حريز، ولا تمثل رأي القيادة، والخط العام للائمة واتباعهم. وانه لا داعي لفتح معركة معهم، مع وجود العدو الأخطر والأشر وهو العدو الاموي الظالم.
آثار حروب «الخوارج» على الحكم الاموي:
نعم.. ولقد كانت النتيجة: أن هدت حروب «الخوارج» الحكم الأموي، وأنهكت قواه، ومهدت السبيل لاسقاطه، اذ بسبب انشغال مروان الحمار بحروب «الخوارج»، لم يستطع أن يمد يد العون لعامله على خراسان، نصر بن سيار، الذي كان يواجه ابا مسلم الخراساني، الذي تابع حركته وانتصاراته، حتى قضى على الحكم الاموي قضاء مبرما ونهائياً(2).
معاوية يحاول الزج بالشيعة:
وقد تقدم: ان معاوية قد حاول ان يزج بالإمام الحسن (عليه السلام) في حرب «الخوارج»، ولكنه (عليه السلام) قد امتنع من ذلك، وقال له نفس الكلمة التي قالها ابوه (عليه السلام) من قبل:
«انه ليس من طلب الحق، فأخطأه كمن طلب الباطل فأصابه».
____________
(1) رجال النجاشي ص 111 ورجال المامقاني ج1 ص 262 وراجع ص 259 وقاموس الرجال ج3 ص 108 وراجع: اختيار معرفة الرجال ص 336 و384..
(2) مروج الذهب ج3 ص 240 وتاريخ ابن خلدون ج3 ص 119 و120..
وأيضاً.. فانه بعد الهدنة بين الإمام الحسن (عليه الصلاة والسلام)، ومعاوية بن أبي سفيان، وحين تحرك «الخوارج» في الكوفة ضد معاوية، وقالوا: «قد جاء الآن ما لا شك فيه»(2).
نجد معاوية يرسل إلى الإمام الحسن (عليه السلام) ـ وهو في طريقه إلى المدينة ـ بكتاب يدعوه فيه إلى قتال «الخوارج»، فلحقه رسوله بالقادسية، أو قريباً منها..
لكن الإمام (عليه السلام) لم يرجع، وكتب إلى معاوية: «لو آثرت ان اقاتل احداً من أهل القبلة، لبدأت بقتالك» أو ما بمعناه، أو قال له: «سبحان الله، تركت قتالك وهو لي حلال، لصلاح الأمة والفتهم، أفتراني أقاتل معك؟»(3).
وهذا.. إن دل على شيء، فإنما يدل على أن الأمويين، وعلى رأسهم معاوية، قد حاولوا، وكرروا المحاولة.. أن يزجوا بخصومهم، أعني أهل
____________
(1) علل الشرايع ص 218 والبحار ج4 ص 13 وسفينة البحار ج1 ص384..
(2) تاريخ الطبري ج4 ص 126 والبداية والنهاية ج8 ص 22 والكامل لابن الأثير ج3 ص 409 وكتاب امير المؤمنين للشري والغدير ج10 ص 173..
(3) راجع الكامل لابن الاثير ج3 ص 409 والكامل للمبرد ج3 ص 240 والعقد الفريد ج1 ص 216 وشرح النهج للمعتزلي ج5 ص 98 وراجع ج16 ص 14 والنصائح الكافية ص 26 عن نيل الأوطار، وأنساب الأشراف [بتحقيق المحمودي] ج3 ص 64، وتقوية الايمان ص 73 والبحار ج44 ص 106 وكشف الغمة ج2 ص 199، والغدير ج10 ص 160 و173 عن المعتزلي وقد نقلوا ذلك أيضاً عن رغبة الآمل ج7 ص 178 وراجع نزهة الناظر وتنبيه الخاطر للحلواني ص 34..
وقد أشرنا إلى بعض ما يفيد في فهم بعض هذه الأمور؛ فلا نعيد..
تعليل المعتزلي لا يصح:
وبعد.. فإن المعتزلي الحنفي يفسر نهي أمير المؤمنين (عليه السلام) عن قتال «الخوارج» بعده، بنحو آخر، فهو يقول: «لا ريب أن «الخوارج» إنما برىء أهل الدين والحق منهم، لانهم فارقوا علياً، وبرئوا منه، وما عدا ذلك من عقائدهم، نحو القول بتخليد الفاسق في النار، والقول بالخروج على أمراء الجور، وغير ذلك من اقاويلهم، فان اصحابنا يقولون بها، ويذهبون إليها، فلم يبق ما يقتضي البراءة منهم الا براءتهم من علي.
وقد كان معاوية يلعنه على رؤوس الأشهاد، وعلى المنابر في الجمع والاعياد، في المدينة، ومكة، وفي سائر مدن الإسلام، فقد شارك «الخوارج» في الأمر المكروه منهم، وامتازوا عليه باظهار الدين، والالتزام بقوانين الشريعة، والاجتهاد في العبادة، وانكار المنكرات، وكانوا أحق بأن ينصروا عليه، من أن ينصر عليهم، فوضح بذلك قول أمير المؤمنين: «لا تقتلوا الخوارج بعدي» يعني في ملك معاوية..»(1).
ولكننا نلاحظ على كلام المعتزلي: أموراً كثيرة وهي:
____________
(1) شرح النهج للمعتزلي ج5 ص131.
2 ـ إنه قد اعتبرهم أهل دين وعبادة، والتزام بقوانين الشريعة، ولم يكن الحال كذلك في واقع الامر، فقد أخبر الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) عنهم بأنهم يمرقون من الدين مروق السهم من الرمية، وبانهم يقرؤون القرآن، ولا يجاوز تراقيهم. وقد أشرنا إلى شيء من هذه النصوص ومصادرها في ما سبق.
كما أننا قد ذكرنا في محله من هذا الكتاب: انهم أهل دنيا وطمع فيها..
هذا بالإضافة إلى أن مخالفاتهم الفاضحة للشريعة هي التي دعت علياً أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى حربهم، كما عرفنا..
3 ـ وملاحظة ثالثة لنا عليه، وهي رضاه عن قولهم بتخليد الفاسق في النار، فإن ذلك من مقالات المعتزلة، وليس مما يذهب إليه سائر المسلمين. وقد فند الشيعة هذا القول بما لا مزيد عليه.. وكونه (صلى الله عليه وآله) قد ادخر الشفاعة لأهل الكبائر من امته يبطل هذا القول.
4 ـ وأخيراً.. فانه قد اعتبر أقاويلهم موافقة لما يقوله غيرهم من المسلمين، وتقدم وسيأتي شطر من أقاويلهم الفاضحة تلك التي لا يقرها عقل ولا يرضى بها وجدان، ولم يوافقهم عليها غيرهم.
وموافقة شاذ في واحد من الموارد لا يعني موافقة الآخرين، ولا هو على حد القول بكل تلك الأقاويل الشنيعة مجتمعة، وذلك ظاهر لا يحتاج إلى بيان.