الصفحة 210
قوتها بعد ذلك بعدة سنوات، وهددت ـ بزعامة أبي يزيد الملقب بصاحب الحمار ـ المهدية نفسها، وهي عاصمة المهدي الشيعي، في محاولة أخيرة، قام بها البربر في سبيل استقلالهم سنة 945م»(1).

قال عبد الرحمن بدوي: [عن مخلد بن كيداد اليغرني]، «نشأ في مدينة توزون من بلاد الجريد، وادّعى أنه ابن المهدي..» إلى أن قال: «وكان نكارياً، يكِّفر أهل السنة، ويستحل أموالهم ونساءهم، وثار على محمد عبيد الله المهدي في جهات طرابلس سنة 333هـ. وحاصر طرابلس، ودخل القيروان»(2) إلا أن يقال: إن ادعاءه البنوّة للمهدي إنما كان قبل أن يصير من «الخوارج».

ولكنه احتمال بعيد: والظاهر أنه قد نشأ خارجياً منذ البداية، فليتأمل في ذلك وليراجع.

إمامة المرأة:

وينسب لبعض فرق «الخوارج» وهم الشبيبية تجويز إمامة المرأة. واستدل على ذلك بأن غزالة [أم شبيب الخارجي] تولت إمامة «الخوارج» بعد ابنها شبيب(3).

بل إن ابنها شبيباً هو الذي استخلفها، «فدخلت الكوفة، وقامت خطيبة، وصلت الصبح بالمسجد الجامع، فقرأت في الركعة الأولى

____________

(1)............................

(2).............................

(3) الإباضية ص135 عن الفرق بين الفرق ص113 وراجع: شذرات الذهب ج1 ص83.


الصفحة 211
البقرة، وفي الثانية آل عمران»(1).

أئمة الجور:

ومع أن من مذهب «الخوارج» وجوب محاربة حكام الجور بلا هوادة.. إلا أن بوادر التساهل في هذا الأمر، قد ظهرت في وقت مبكر، حيث صار عدد من زعماء «الخوارج» يتعاملون مع حكام الجور، بل ونجد بعضهم يقدم لهم النصيحة، ومنهم من عمل لهم كما تظهره فصول هذا الكتاب.. فلا حاجة إلى الإعادة هنا.

إذا كفر الإمام كفرت الرعية:

ومن الغريب هنا ما ذكروه عن العوفية، وهم فرقة من البهيسية، من أنهم قالوا: «إذا كفر الإمام، فقد كفرت الرعية، الغائب منهم والشاهد»(2).

مع أن الله سبحانه يقول: (ولا تزر وازرة وزر أخرى)(3)، ويقول سبحانه: (لا يضركم من ضل إذا اهتديتم)(4).

الموقف من الصهرين ومن الصحابة:

وقد رأينا بعض علماء الإباضية يقول: «يجب احترام الصحابة، وقول الحق فيهم»(5).

____________

(1) الخوارج عقيدة وفكراً وفلسفة ص99 عن الخطط للمقريزي ج4 ص180.

(2) الخوارج عقدية وفكراً وفلسفة ص98.

(3) سورة فاطر/18 وسورة الزمر/17 وسورة الأنعام/164 وراجع: سورة النجم/38 وسورة الإسراء/15.

(4) سورة المائدة/105.

(5) العقود الفضية ص63

الصفحة 212
وهذا يخالف قولهم في العديد منهم كطلحة، والزبير، وعائشة، وغيرهم. لكنهم لم يلتزموا بما قاله الأزارقة حيث كفروا علياً، وصوبوا قتل ابن ملجم له، وكفروا عثمان، وطلحة، والزبير، وعبد الله بن عباس(1). فخالفوهم في ذلك. وخففوا من لهجتهم حتى ليقول صابر طعيمة عنهم: «الذي نعتقده أن جمهور الإباضية من خلال ما كتب علماؤهم ومؤرخوهم لا يرون في الخليفة عثمان (رض) وبقية أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله) غير ما يرى جمهور المسلمين، بل إن أئمتهم يعنون عناية طيبة بالصحابيين علي وعثمان (رضي الله عنه)ما، تستحق التقدير. وإسحاق بن أطيفش الإباضي في رسالته النقد الجليل في الرد الجميل يسجل ثناءً ودعاءً للخليفة عثمان بن عفان (رض)»(2).

ونقول:

لعل هذا هو أحد موارد عملهم بالتقية.. وإلا، فإن الإباضية يصرون على تضليل عثمان، وعلي (عليه السلام) بعد التحكيم، وعلى تصويب أهل النهروان في حربهم علياً(3).

وقد قال ابن بطوطة: «[إنه رآهم في عمان]: إذا أرادوا ذكر علي كنوا عنه بالرجل، ويرضون عن الشقي اللعين ابن ملجم، ويقولون فيه: العبد الصالح، قامع الفتنة»(4).

واللافت هنا هو: موقفهم العجيب من الحسنين (عليهما السلام)، حيث يعتبرون

____________

(1) الملل والنحل ج1 ص121 والخوارج في العصر الأموي ص225 عنه.

(2) الإباضية عقيدة ومذهباً ص8 و87.

(3) راجع: الاستقامة لمحمد بن سعيد الكندي ج1 ص118و119و120و55و66.

(4) رحلة ابن بطوطة ج1 ص172 والنص والاجتهاد ص99 عنه.


الصفحة 213
قتل الإمام الحسين (عليه السلام)، وسم الإمام الحسن (عليه السلام)، من الأمور العظيمة(1).

عذاب القبر:

وقد حكى الأشعري عن «الخوارج»: أنهم كانوا ينكرون عذاب القبر(2) وقد يكون سبب إنكارهم هذا هو أن هذه القضية إنما تستفاد من النصوص الواردة عن رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ولم يكن للخوارج معرفة بالرواية كما سيأتي.

سورة يوسف ليست من القرآن:

وقالت الميمونية: ليست سورة يوسف من القرآن(3) ونسب هذا القول إلى العجاردة أيضاً(4).

«الخوارج» ضد تأويل القرآن:

وكان أكثر «الخوارج» ـ كما يقول القلقشندي ـ ضد تأويل القرآن(5).

____________

(1) العقود الفضية ص213.

(2) مقالات الإسلاميين ج1 ص206 والإباضية عقيدة ومذهباً ص125.

(3) البدء والتاريخ ج5 ص138 وراجع: مقالات الإسلاميين ج1 ص166 عن الكرابيسي والخوارج عقيدة وفكراً وفلسفة ص62و134، والعتب الجميل ص53 عن نقد عين الميزان لمحمد بهجت البيطار ودائرة المعارف الإسلامية ج8 ص475 والأنوار النعمانية ج2 ص248 وراجع: الإباضية ص36 عن الملل والنحل ج1 ص129 وراجع: الإسلام لهنري ماسيه ص187 ـ 189.

(4) اعتقادات فرق المسلمين والمشركين ص56. والإباضية عقيدة ومذهباً ص36 عن الملل والنحل ج1 ص128.

(5) صبح الأعشى ج3 ص222 والخوارج في العصر الأموي ص204 عنه.


الصفحة 214
وهذا الاتجاه هو الذي فرض نفسه على الوهابيين وعلى سلفهم من اهل الحديث.. حتى إن بعضهم منع من المجاز، وعبر عنه بالطاغوت(1).

سهولة التكفير عند «الخوارج»:

وإننا في حين نجد المرجئة يقولون: لا يضر مع الإيمان ذنب، كما لا ينفع مع الكفر طاعة(2) لكن الأزارقة قد «أخرجوا مرتكب الكبيرة عن دائرة الإسلام»(3) بل يرمونه بالشرك أيضاً(4).

لكن فرقة أخرى من «الخوارج» لا تكفر مرتكب الكبيرة في ديار هجرتهم إلا إذا كان قاتلاً لأحدهم(5).

أما النجدات، فيقولون: «من نظر نظرة صغيرة أو كذب كذبة صغيرة، ثم أصر عليها فهو مشرك. وأن من زنى، وسرق، وشرب الخمر غير مصر عليه فهو مسلم، إذا كان من موافقيهم»(6).

وقد رأى الأزارقة أن سائر المسلمين مخلدون في النار(7).

وسيأتي المزيد من النصوص الدالة على تكفيرهم المسلمين، واستحلالهم قتلهم.

____________

(1) راجع: بحوث مع أهل السنة والسلفية.

(2) الإبانة للأشعري ص2.

(3) الملل والنحل ج1 ص121و122 والخوارج في العصر الأموي ص225 وراجع: الأنوار النعمانية ج1 ص247.

(4) الفرق بين الفرق ص73 وراجع: الأنوار النعمانية ج2 ص247 عن اليزيدية.

(5) الكامل في الأدب ج3 ص153 والخوارج في العصر الأموي ص225 عنه وعن المصنف المجهول ص94.

(6) الخوارج عقيدة وفكراً وفلسفة ص76 و77.

(7) الملل والنحل ج1 ص121و122 والخوارج في العصر الأموي ص225 عنه.


الصفحة 215

بين القدرية و«الخوارج»:

وقبل أن نستعرض بعض التفاصيل في عقائد «الخوارج» نشير إلى ما روي..

عن رجل عن أبي عبد الله(عليه السلام) قال: لعن الله القدرية، لعن الله «الخوارج»، لعن الله المرجئة، لعن الله المرجئة.

قال: قلت: لعنت هؤلاء مرة مرة، ولعنت هؤلاء مرتين؟

قال: إن هؤلاء يقولون: إن قتلتنا مؤمنون، فدماؤنا متلطخة بثيابهم إلى يوم القيامة. إن الله حكى عن قوم في كتابه: لن نؤمن لرسول حتى يأتينا بقربان تأكله النار، قل: قد جاءكم رسل من قبلي بالبينات، وبالذي قلتم، فلم قتلتموهم إن كنتم صادقين؟

قال: كان بين القاتلين والقائلين خمس ماءة عام، فألزمهم الله القتل برضاهم ما فعلوا(1).

وذلك يدل على أن اعتقاد «الخوارج» في مخالفيهم الذين يكفرونهم يهون عليهم ارتكاب جريمة القتل في حقهم، حتى قتل أهل البيت (عليهم السلام).

وأما من يعتقد بأن مخالفيه من المسلمين، فإن إقدامه على قتل من يراه مسلماً يصبح أكثر قبحاً ويحتاج إلى المزيد من الجرأة على الله سبحانه، وعلى أحكام دينه، ولا يقدم على ذلك إلا بعد أن يبلغ الغاية في القسوة والجحود والطغيان والبغي.

المرجئة و«الخوارج»:

لقد ادرك الناس خطر «الخوارج» بصورة عميقة، وقد أصبحوا

____________

(1) الكافي ج2 ص300/301.


الصفحة 216
يجعلونهم مقياساً لدرجة الخطورة في الدعوات المنحرفة، وقد كان إبراهيم النخعي يقول: لأنا على هذه الأمة من المرجئة أخوف عليهم من عدتهم من الأزارقة(1).

قسوة التعاليم:

ولعل من أهم الآثار التي نشأت عن تسرعهم في التكفير، ثم المبادرة لاتخاذهم الموقف القاسي والشرس ضد من يكفرونه، أن هذه العقيدة قد استطاعت أن تفصلهم تماماً عن كل الآخرين.. وتجعلهم أكثر تصلباً في مواقفهم، بعد أن لم يعد هناك أية فرصة للنقاش في أية مفردة من المفردات التي كانت تحكم تفكيرهم، وتهيمن على مواقفهم، وتدفعهم لممارسة أشد أنواع العنف في حق خصومهم.

حتى اصبح الشباب الذين ينساقون وراء شعاراتهم أسرى تلك الشعارات والأفكار، فهم يعيشونها بانفعال وتشنج يمنعهم من ممارسة أي نوع من أنواع التفكير الهادئ، والموضوعي والرصين. وتمنعهم من سماع وجهات نظر الآخرين، الذين يرون أنهم كفرة، لابد من استئصال شأفتهم، فهم ليسوا معنيين باي شيء يفكرون فيه، ولا مهتمين بالتفكير بأي مبرر يمكن أن يرضوه لأنفسهم مهما كان نوعه.

رغم القسوة:

ورغم قسوة تعاليمهم، وشراستهم في التعاطي مع خصومهم، فإنهم هم أنفسهم قد تخلوا عن كثير من تعاليمهم ـ كما سنرى ـ كما أنهم في

____________

(1) سير أعلام النبلاء ج4 ص523 وفي هامشه عن ابن سعد ج6 ص274.


الصفحة 217
المجال العملي لم يصبروا على المكاره، بل التجأوا إلى أسلوب التقية، فمارسوه بصورة تصل أحياناً إلى حد الإسفاف، والاستهتار، الذي يرفضه الضمير، ويأباه الوجدان، كما سيتضح في الفقرة التالية..

جنون التقية:

إنه رغم أن «الخوارج» الأولين كانوا يحرمون التقية، ولا يجيزونها في قول أو عمل(1).

فإن أتباع زياد بن الاصفر قد جوزوها في القول دون العمل(2).

وقال النجدات بجوازها(3).

وقد أمر أبو بلال امرأة من بني يربوع بالتقية، وقال لها: «إن التقية لا بأس بها، فتغيبي، فإن هذا الجبار قد ذكرك»(4).

وأجاز بعض زعماء الصفرية تزويج المسلمات من كفار قومهم في دار التقية، دون العلانية(5).

وكذلك فإن الضحاكية ـ وهم فرقة من الإباضية ـ قد اجازوا ذلك الزواج، وأضافوا إلى ذلك قولهم: كما يسع الرجل منهم أن يتزوج المرأة الكافرة من قومه في دار التقية(6).

____________

(1) الإباضية عقيدة ومذهباً ص35.

(2) اعتقادات فرق المسلمين والمشركين ص65 وعنه في الخوارج عقيدة وفكراً وفلسفة ص79.

(3) الخوارج عقيدة وفكراً وفلسفة ص76.

(4) العقود الفضية ص110و112.

(5) اعتقادات فرق المسلمين والمشركين ص122 والملل والنحل للشهرستاني ج1 ص143 والخوارج عقيدة وفكراً وفلسفة ص79.

(6) مقلات الإسلاميين ج1 ص175/176 والخوارج عقيدة وفكراً وفلسفة ص96 عنه.


الصفحة 218
وفرقة الحسينية ـ من الإباضية ـ أباحوا الزنى، وأخذ الأموال لمن أكره على ذلك، يتقي به، ويغرم بعد ذلك(1).

وقال النكارية ـ وهم من الإباضية ـ «يجوز شرب الخمر على التقية»(2).

وستأتي قضية ابن إباض والسيد الحميري حين بلغه أن عبد الله بن إباض راس الإباضية، يعيب على علي (عليه السلام)، ويتهدد السيد بأن يذكره عند المنصور بما يوجب القتل، وكان ابن إباض يظهر التسنن، ويكتم مذهب الإباضية.

فكتب إليه السيد قصيدة طويلة يذكر فيها فضائل علي (عليه السلام)، فامتعض ابن إباض منها جداً، وأجلب في أصحابه، وسعى بها إلى الفقهاء والقراء، فاجتمعوا وساروا إلى المنصور.

ثم تذكر القصة: «ما اتهموه به، ودفاع السيد عن نفسه، وإحراج ابن إباض أمام المنصور حيث أمر بحبسه، فمات في الحبس، ثم أمر بمن كان معه فضربوا بالمقارع، وأمر للسيد بخمسة آلاف درهم»(3).

ومما ذكرناه يتضح: أن قول البعض: «وجدنا «الخوارج» في أواخر العصر الأموي يأخذون بمبدأ التقية، ويعمدون إلى الدعوة السرية كأسلوب يناوؤن به الحكومة الأموية»(4).

غير دقيق.. فإن التقية قد بدأت منهم منذ بدايات ظهورهم..

____________

(1) الإباضية عقيدة ومذهباً ص54 عن الإباضية بين الفرق الإسلامية ص363 (2) الإباضية ص62.

(3) أخبار السيد الحميري للمرزباني ص53/54.

(4) قضايا في التاريخ الإسلامي ص90.


الصفحة 219

تأثيرات الإباضية بالمعتزلة في عقائدهم:

هذا.. وربما يتصور أحياناً تاثر الإباضية في بعض أصولهم العقائدية بالمعتزلة(1) وذلك بملاحظة مخالفتهم لأهل السنة في أصول عقائدية هامة، مثل مسائل التشبيه، والتجسيم. وعدم رؤية الله تعالى في الآخرة الذي هو رأي جمهور «الخوارج» أيضاً والجبر والقدر(2). ومسألة خلق القرآن(3) حتى لقد قال نلينو: «إن الجزء الأكبر من مذهب الإباضية في شمال إفريقية إذن معتزلي»(4).

هذا.. ولكن الذي يبدو لنا: أن الأمر ليس كذلك، إذ أن «الخوارج» وميهم الإباضية لم يتح لهم الاختلاط بالمعتزلة، ولا عايشوا التيارات

____________

(1) راجع: ضحى الإسلام ج3 ص337 وليراجع ص334 والإباضية عقيدة ومذهباً ص72 و61 و73 و80 و95 و101 و147 والعقود الفضية حول نفي التشبيه ص287 وحول كون صفات الله عين ذاته ص285 وحول رؤية الله وحول عدم رؤيته في الآخرة ص287 وحول نفي الجبر ص144 وحول تولية المفضول ص155.

(2) إلا أن «من مذهب شيبان أنه قال بالجبر إلخ» الملل والنحل ج1 ص133.

(3) فإن جميع الخوارج يقولون بخلق القرآن راجع: المقالات للأشعري ج1 ص203 والخوارج في العصر الأموي ص203 عنه والإباضية عقيدة ومذهباً ص100و103و104 وراجع: مقدمة الأستاذ محمد عمارة لكتاب: رسائل العدل والتوحيد ج1 ص53، حيث ذكر عن المستشرق نلينو بعض أوجه الشبه بين فكر المعتزلة وعقيدة الإباضية استناداً الى كتاب: العقيدة الإباضية لعمرو بن جميع الإباضي، الذي عاش في القرن التاسع الهجري، وراجع أيضاً دائرة المعارف الإسلامية ج8 ص476 وضحى الإسلام ج3 ص334 والإباضية عقيدة ومذهباً والخوارج عقيدة وفكراً وفلسفة ص92.

(4) مقدمة محمد عمارة لكتاب رسائل العدل والتوحيد ج1 ص53 وفي الهامش عن: بحوث في المعتزلة ص204 و205 و206 و208 وراجع دائرة المعارف الإسلامية ج8 ص476.


الصفحة 220
الفكرية بصورة فعالة.. كما أن تفرقهم في البلاد، وبعدهم عن العواصم الإسلامية قد جعلهم أقل تعرضاً لذلك المد العارم للأحاديث الإسرائيليات، المنسوبة للنبي (صلى الله عليه وآله) ولبعض صحابته، وبقوا في تعاملهم مع النصوص القرآنية على طبعهم العربي الساذج.

ولأجل ذلك نقول: إن الظاهر هو أن الخوارج قد توصلوا إلى آرائهم العقائدية تلك بانفسهم، ومن دون اعتماد على الغير، أو تاثر بأحد.

بل نجد البعض: قد تنبه إلى هذا الأمر لذلك فهو يعكس القضية، ويقول: «لاحظ الدارسون حديثاً... العلاقة الوثيقة بين عقائد الإباضية والمعتزلة..

ويمكن أن نقول أيضاً: إن المعتزلة استوحوا الخوارج في بعض المسائل..»(1).

مع العلم: «أننا لا نعرف فقه «الخوارج» وعقائدهم في مجموعها إلا عند الإباضية»(2) لأنهم هم الذين استمرت نحلتهم، ودونت عقائدهم وفقههم.

ونجد هذا التضارب في الآراء في هذا التأثر والتأثير قد سرى إلى زعيم الإباضية نفسه.

ففي حين نجد من يقول: إن عبد الله بن إباض قد رجع إلى الاعتزال. حتى قال أبو القاسم البلخي: والذي يدل على ذلك: أن أصحابه لا يعظمون أمره(3).

نجد بعضهم الآخر يقول: إنه رجع إلى قول الثعالبة من فرق

____________

(1) دائرة المعارف الإسلامية ج8 ص476.

(2) دائرة المعارف الإسلامية ج8 ص475.

(3) الحور العين ص173.


الصفحة 221
«الخوارج» «فبرئ منه أصحابه، فهم لا يعرفونه اليوم. وقد سألنا من هو مقدمهم في علمهم ومذهبهم عنهم(1) فما عرفه منهم أحد»(2).

ثم أنكر ذلك المؤرخ الإباضي علي يحيى معمر حيث قال: «لم يزعم احد من الإباضية: أن عبد الله بن إباض رجع إلى قول الثعالبة، ولا يوجد أحد من الإباضية يبرأ منه، فهم مجمعون على ولايته، ويعتبرونه من أئمة المسلمين، ومن كبار التابعين»(3).

بل يدعي الإباضية: أن ابن إباض قد فارق جميع الفرق الضالة، وعد منهم الخوارج(4).

وهكذا يتضح: أن دعوى تأثر الإباضية بالمعتزلة تقابلها دعوى تأثر المعتزلة بالإباضية. وإن كان ظاهر الحال يقتضي صحة الدعوى الأولى.

وذلك بملاحظة الخلاف حول تقلبات ابن إباض نفسه، في الناحية العقائدية حسبما أشرنا إليه آنفاً.

فرقة الإباضية و«الخوارج»:

قد عرفنا فيما سبق: أن إحدى فرق «الخوارج»، وهي فرقة الإباضية تمتاز عن سائر فرق «الخوارج» بفقهها وعقائدها، وتختلف عنهم ومعهم، وقد ظهرت ملامح هذا الاختلاف في كثير من الموارد التي سجلناها فيما سبق، حتى قال البعض في ما يرتبط بموقع الإباضية من سائر فرق «الخوارج»:

____________

(1) لعل الصحيح: عنه. أي عن ابن إباض.

(2) الفصل في الملل والأهواء والنحل ج4 ص191.

(3) الإباضية ص46 عن الإباضية بين الفرق الإسلامية ص354.

(4) العقود الفضية ص121.


الصفحة 222
«.. والخلاف الذي بين فرق الخوارج من جانب، وفرقة الإباضية وحدها من جانب آخر، هو أعلى خلاف فيما بين الخوارج. وهذا الخلاف قد جعل بعض المؤرخين الإباضيين المحدثين لا يعد فرقة الإباضية بما انتهى إليه فقهها، وجملة معتقدها من الخوارج»(1).

بل لقد قيل: «إن معظم الكتاب والمؤرخين الإباضيين، فضلاً عن الأئمة منهم ينكرون علاقة المذهب تاريخياً بـ«الخوارج»»(2).

ويدعي الإباضية: أن إمامهم عبد الله بن إباض قد فارق جميع الفرق الضالة، وعدّ منهم «الخوارج» (3).

تنكر الإباضية حتى للاسم:

وقال عامر النجار: «.. الإباضية غاضبون ممن يعتبروهم فرقة من «الخوارج»، ويقولون: إنما هي دعاية استغلتها الدولة الأموية لتنفير الناس من الذين ينادون بعدم شرعية الحكم الأموي.

كما أن للإباضية العديد من المواقف ضد «الخوارج»(4).

وأصبح لفظ «الخوارج» مستقبحاً عندهم إلى درجة كبيرة ثم زاد استقباحه حين استبد به الأزارقة والصفرية»(5).

____________

(1) الإباضية ص35.

(2) المصدر السابق ص145.

(3) العقود الفضية ص121.

(4) الخوارج عقيدة وفكراً وفلسفة ص81.

(5) العقود الفضية ص70 وراجع ص167.


الصفحة 223


الفصل الرابع
الفقه.. وأصوله





الصفحة 224

الصفحة 225

للتوضيح فقط:

إن ظهور «الخوارج» وإن كان قد يبرر على أنه بسبب شبهة أو خطأ في فهم أمر ديني.. ولكن صبغتهم في بادىء الأمر كانت سياسية محضة، ثم إنهم في عهد عبد الملك بن مروان مزجوا تعاليمهم السياسية بأبحاث لاهوتية، كما يقوله البعض(1).

ثم جاء الإباضية بعد ذلك؛ فسنحت لهم الفرصة لتنظيم عقائدهم، وفقههم أكثر من غيرهم من فرق «الخوارج».

وتوضيحاً لذلك نقول: إن من يلاحظ الأحداث التاريخية، والاحتجاجات المتبادلة في الصدر الأول، يجد:

أمر «الخوارج» قد بدأ من خلال فهمهم الخاطىء ـ لو أحسنا الظن بهم ـ لمسألة بعينها، هي قضية التحكيم، وكان المفروض أن يقتصر خلافهم واختلافهم على هذه القضية بالذات. ولكن رأينا أنهم فيما بعد ازدادوا بعداً عن المسار العام، وصارت تظهر لهم أقاويل في العديد من المسائل.

والدارس لحال هذه الفئة يلاحظ أنهم كانوا يعتمدون على فهمهم

____________

(1) فجر الإسلام ص259.


الصفحة 226
الخاص للآيات القرآنية، وعلى استنباطاتهم العقلية المحدودة، في مجال التحديدات العملية للتصرفات والمواقف التي كانت تفرض نفسها ـ آنياً ـ عليهم، حيث كانوا يواجهونها باستفادات مرتجلة وسريعة، وما أكثر ما تكون سطحية، تزجيها الميول، والعواطف، والأحاسيس الشخصية، ثم لا تلبث أن تتحول إلى مبدأ، وعقيدة، تخاض من أجلها اللجج، وتبذل في سبيلها المهج، وتزهق النفوس والأرواح.

ثم تصير سبباً في حدوث انشقاقات جديدة في صفوفهم، وتنشأ ـ من ثم ـ فرقة، أو فرق على الساحة، يبرأ بعضها من بعض. ويستحلّ هؤلاء دماء أولئك، وبالعكس. حتى لنجد زيد بن جندب يهنِّئ أعداء الشراة من المحلين، بعد أن تفرق الأزارقة، وأصابهم التجابن، وتلهّوا باللعب دون الجد؛ فيقول:


قل للمحلّين قد قرت عيونكمبفرقة القوم والبغضاء والهرب
كنا أناساً على دين، ففرّقناقرع الكلام، وخلط الجدّ باللعب
ما كان أغنى رجالاً ضل سعيهمعن الجدال، وأغناهم عن الخطب
إني لأهونكم في الأرض مضطرباًما لي سوى فرسي والرمح من نشب(1).


ثم إن تحريمهم العمل بالتقية الذي كان كثيراً ما يسقط تحت تأثير واقع الحروب القاسية التي كانوا يخوضونها، كان هو الآخر من أسباب إحداث تمزقات فكرية وعقيدية تنتهي بتكفير بعضهم بعضاً، ثم مواجهات حامية لبعضهم البعض..

أضف إلى ذلك: أن إيجابهم الخروج ضد الحكام وضد الكافرين إذا انضم إلى حكمهم بتحريم العمل بالتقية، فإنه كثيراً ما ينتج ثورات

____________

(1) الخوارج في العصر الأموي ص280.


الصفحة 227
ارتجالية لم تبلغ درجة النضج، ولا حظيت بالإعداد والاستعداد الكافي.

«الخوارج».. والعلم:

إن من يراجع قائمة مؤلفات علماء الإسلام في العالم الإسلامي، يجدها لا تقع تحت عد، ولا يحيط بها حصر.. وقد شاركت مختلف الفرق الإسلامية وغيرها في التأليف والتصنيف بالمستوى المقبول والمعقول..

غير أن «الخوارج» لم يكن لهم حظ يذكر في هذا الاتجاه، فلم يكن ليخطر لهم على بال أن يشاركوا في النشاط الفكري والثقافي.. وكأن بينهم وبين هذا الأمر حالة من المنافرة السافرة.

وقد حاول البعض: تفسير ذلك فجاء بما لا ينفع ولا يجدي، ولا يصح، فقال: «.. وفيما نعتقد: أن السرّ وراء ندرة كتب الخوارج بينما توفر بين صفوفهم الشعراء والخطباء، هو أنه بجانب عدم استواء المذهب في هذا الموضوع يوجد عامل التكتم الشديد، والحذر من الناس، خشية أن يقع في أيديهم شيء يجمع قواهم ضد الخوارج، أو ينفر الناس منهم إلخ..»(1).

وهذا الكلام: مرفوض جملة وتفصيلاً لأنهم كانوا يجاهرون بعقائدهم تلك، فيقتلون الناس عليها.

ولأن من مذهبهم تحريم التقية. ورفض العمل بها، بل السر هو أعرابيتهم، وجهلهم، والإنسان عدو ما يجهل كما هو معلوم.

وليس ثمة أعظم محنة من شيعة أهل البيت (عليهم السلام) على مر التاريخ، وهذه هي مؤلفاتهم تملأ الخافقين..

____________

(1) الخوارج عقيدة وفكراً وفلسفة، ص133.


الصفحة 228

مؤلفو «الخوارج» في الفقه:

واللافت هنا: أن ابن النديم قد عقد فصلاً مستقلاً لفقهاء الشراة وذكر لهم مؤلفين وكتباً. وذكر مثل ذلك في دائرة المعارف الإسلامية مادة: أعز ابن.

ولكن ذلك لا يعني: أن ذلك يستحق التنويه به، والاهتمام بشأنه، لا من حيث الكيف، ولا من حيث الكم.. غير أن أصحاب الفهرستات يحبون أن لا تخلو كتبهم من ذكر شيء من ذلك، ليتمكن من يحتاج إلى الوقوف على مقالات هذه الطائفة أو تلك أن يرجع إلى كتبها، ليحصل على بغيته، ويبلغ مراده.

أسباب التخفيف من حدة التعاليم:

ويلاحظ: وجود بعض التخفيف من حدة التعاليم لدى فرقة الإباضية من «الخوارج»، ولعل ذلك من أجل أنهم شعروا أن ذلك هو ما يمكنهم من الاستمرار والبقاء، ومما سهل لهم وعليهم ذلك انحسارهم عن مواقع الاحتكاك والهيجان والتحدي، إلى مناطق نائية، تذوقوا طعم الاستقرار، وأنسوا تدريجياً بالحياة الرافهة، وبتعبير أدق بحياة الراحة، فأتاح لهم ذلك الفرصة للتأليف في العقائد وفي الفقه، وتلطيف آرائهم، وإخضاعها للتبويب والتنظيم، وإن كانت قد بقيت مجرد تجارب بدائية، وغير ناضجة، ولا غزيرة.

وعلى كل حال: فقد قال بعض المستشرقين هنا، بعد أن ذكر أن جذوة «الخوارج» قد انطفأت منتصف القرن الثامن [أي الميلادي] أي في القرن الثاني الهجري ـ قال: «وبعد ذلك انحرفت فعالية «الخوارج» شيئاً

الصفحة 229
فشيئاً نحو التجارة، وتأليف الكتب الدينية الفقهية، والتاريخية»(1).

كما أن أبا زهرة يعتقد: أن الإباضية: «لهم فقه جيد، وفيهم علماء ممتازون»(2).

ولكننا بملاحظة ما قدمناه لا نستطيع أن نوافق أبا زهرة في هذا المجال، إلا في حدود بعض الجزئيات على النحو الذي أشرنا إليه آنفاً، وما عداه يفتقر إلى الدليل البرهاني القوي.

ولعل أبا زهرة وغيره قد أخذوا ذلك من ابن خلدون، الذي يقول: «وتطير إلينا في هذا العهد من تلك البلاد [أي التي يتواجد فيها الخوارج] دواوين ومجلدات من كلامهم في فقه الدين، وتمهيد عقائده، وفروعه، مباينة لمناحي السنة وطرقها بالكلية، إلا أنها ضاربة بسهم في إجادة التأليف والترتيب، وبناء الفروع على أصولهم الفاسدة»(3).

وقد عرفنا من خلال الإطلالة على واقع تآليفهم: أن هذه أقوال مبالغ فيها،غير أن علينا أن لا ننسى أن جمودهم وسطحيتهم قد أديا في حالات كثيرة إلى ظهور كثير من السخافات المضحكة، بالإضافة إلى أنه قد جعل آرائهم تتسم بالسطحية والبساطة(4).

قال أحمد أمين: «.. من أجل هذا لم يرو لنا عن الخوارج مذهب مفلسف، ولا فقه واسع منظم، ولا نحو ذلك، إلا ما كان من الإباضية،

____________

(1) الإسلام ـ ص188/189.

(2) تاريخ المذاهب الإسلامية ص85.

(3) تاريخ ابن خلدون ج3 ص170.

(4) ضحى الإسلام ج3 ص334و335.


الصفحة 230
أتباع عبد الله بن إباض الخارجي، الذي مات في عهده عبد الملك بن مروان، فإن هذه الفرقة عاشت، وانتشرت في شمالي إفريقية، وفي عمان، وفي حضرموت، وزنجبار، واستمرت إلى يومنا هذا؛ فكان من الطبيعي أن يكون لهم أصول اعتقادية، وتعاليم فقهية. وكذلك كان.. فقد تعدّل مذهبهم مع الزمان إلخ..»(1).

وقال الغرابي: «ويلاحظ: أنه لما ضعفت قوتهم الحربية اتجهت نفوسهم نحو الإنتاج العلمي، حتى أصبحت لهم مؤلفات فقهية، وكلامية، ولغوية، وأدبية»(2).

و لسنا بحاجة إلى إعادة التذكير بأن ذلك لم يكن في المستوى اللائق، والمقبول، بل هو مجرد تجارب بدائية، فيها الكثير من السطحية، والضعف، ولا يمكن أن تقاس من حيث الدقة والاتقان بغيرها من مؤلفات سائر الفرق.

أضف إلى ذلك: أن عنفهم وحدّتهم في مواجهة المخالفات لتلك الآراء الفقهية والعقائدية كان من شأنه أن يضفي عليها لوناً غير مرغوب فيه، وينفر الناس حتى من ذلك الرأي الفقهي الذي ربما صادف وجاء صحيحاً في بعض الأحيان.

هل للإباضية فضل على العلوم الإسلامية:

وقد ادعى أحدهم أن: «.. الحق: أنه لا أحد يستطيع أن ينكر دور الإباضية في خدمة العلم

____________

(1) ضحى الإسلام ج3 ص336 و337.

(2) تاريخ الفرق الإسلامية ص284.


الصفحة 231
الإسلامي، فقد اشتغلوا بالتدوين، فكانوا من أوائل من دوّن الحديث.

فإمامهم جابر بن زيد، من أوائل من دوّن الحديث، وأقوال الصحابة في ديوانه الذي وصفوه بأنه وقر بعير، ثم تلاميذه من بعده. وهم حملة العلم»(1).

ونقول:

أولاً: إن اعتبار جابر بن زيد من الإباضية بصورة قاطعة.. غير دقيق، وقد سئل جابر بن زيد نفسه ـ كما يقولون ـ عن انتحال الإباضية، فقال: أبرأ إلى الله من ذلك(2).. وكيف يكون اباضياً خارجياً، وقد روى عن معاوية وابن الزبير.

ثانياً: إن مجرد أن يتصدى رجل أو بضع رجال لتدوين الحديث، فذلك لا يعني أن ينسب إلى طائفته التي ينتمي إليها: أنها قد أسهمت إسهاماً كبيراً في خدمة العلم الإسلامي. بل لابد أن ينظر إلى حقيقة دوره في ذلك، وتقاس إسهاماته في هذا المجال مع ما أسهم به الآخرون، فقد يكون إسهامه لا يكاد يذكر إلى جانب ما أسهم به الآخرون..

ثالثاً: إننا لا نجد أثراً ظاهراً ومحسوساً لما دونه جابر بن زيد في مجمل التراث الحديثي الإسلامي. وكذلك ما دونه تلامذته من بعده.

رابعاً: إن من عدوهم من تلامذة جابر بن زيد ليسوا في عداد الإباضية، ولا «الخوارج»، فلماذا تعطى الأوسمة لهذه الفرقة جزافاً، وبلا حساب.

____________

(1) الخوارج عقيدة وفكراً وفلسفة ص82.

(2) الجرح والتعديل لابن ابي حاتم ج1 ص494و495 وتهذيب التهذيب ج2 ص38.


الصفحة 232
خامساً: إنه قد ادعي: أن «الخوارج» هم حملة العلم.. وهي دعوى لم نعرف لها وجهاً معقولاً وليس لها شاهد أو دليل.. فإن حملة العلم هم علي والأئمة من ولده عليهم الصلاة والسلام، وأعني بهم الحسنان، والسجاد، والباقر، والصادق.. وتلامذتهم، ومن أخذ عنهم.

بالإضافة إلى آخرين حملوا شيئاً من ذلك، وهم ليسوا من «الخوارج» بالتأكيد.

تضييق «الخوارج» على أنفسهم:

ثم إن علينا: أن نضيف إلى ما تقدم أن جمودهم، وعدم مرونتهم في التعامل مع النصوص قد أوقعهم في ضيق فاحش، كما روي عن الإمام الصادق (عليه السلام): «الدين واسع، ولكن «الخوارج» ضيقوا على أنفسهم من جهلهم»(1).

ومن مظاهر جمودهم هذا، وتضييقهم على أنفسهم بجهلهم أن أكثرهم كان ضد تأويل القرآن كا قدمنا.

الفتيا والعلم عند «الخوارج»:

ولكن ضحالة علم «الخوارج»، وقلة بل ندرة تآليفهم، لا تعني أنهم استمروا على هذا الحال إلى ما لانهاية.

بل الأمر قد شهد شيئاً من التغيير وإن كان طفيفاً، بالمقايسة بما كان عند غيرهم من الفرق والمذاهب، إذ قد كان من الطبيعي أن يعلق في أذهانهم بعض من أحكام الدين وتعاليمه، خصوصاً وأنهم يشنعون

____________

(1) الكافي ج2 ص298 والوسائل ج3ص332 ح1 وج2 ص1072 ح3.


الصفحة 233
على بني أمية، ويرمونهم بالجهل وبالفجور، ومخالفة أحكام الله..

ثم إنهم يجتذبون بعض الشباب، والسذج والبسطاء بشعاراتهم الدينية، وبادعائهم أنهم حماة الشريعة، ودعاة الإيمان.. فكان لابد لهم من الإلمام بما يعرضهم جهلهم به إلى السخرية من الناس، وتهجين أمرهم.

ولعل هذا الذي ذكرناه يفسر لنا لجوء نجدة الحروري إلى ابن عباس لتعلم بعض ما أشكل عليه. واللافت: أن ما سأله عنه هو من أبسط مسائل الفقه وأوضحها..

ولا نبعد كثيراً إذا قلنا: إنه قد يكون لبعض ما عندهم من فتاوى ومعارف يسيرة نصيب من الصحة، لأنه في معظمه مأخوذ من السيرة العملية للناس، أو نابع من الطبيعة البدوية من حيث انسياقه مع الفهم الفطري والعفوي لبعض الآيات، أو لبعض الأحاديث النبوية.

وبذلك يكونون أفضل من العجلية ـ الذين هم فرقة من الزيدية ـ وأقرب منهم إلى فهم النصوص، حسبما روي عن الإمام الصادق (عليه السلام).

فعن حمدويه، عن أيوب بن نوح، عن صفوان، عن داود بن فرقد، عن أبي عبد الله (عليه السلام)؛ قال: «ما أجد أحداً أجهل منهم ـ يعني العجلية ـ إن في المرجئة فتيا وعلماً، وفي «الخوارج» فتيا وعلماً إلخ..»(1).

____________

(1) اختيار معرفة الرجال ص229 و346.