ثانيهما: تعميم النعمة على الآباء والذريات والاَخوان، مما يفهم منه القانون العام (وَمِنْ ءَابَآئِهِمْ وَذُرِّيَّـتِهِمْ وَإِخْوَنِهِمْ) .
وهكذا ما ورد في سورة مريم، عندما تحدث القرآن الكريم عن مجموعة من الاَنبياء: إبراهيم وبعض ذريته وإدريس قبل إبراهيم ثم يختم الحديث بالقانون العام (أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِم مِنَ النَّبِيِّينَ مِن ذُرِّيَّةِ ءَادَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِن ذُرِّيَّةِ إِبْرَهِيمَ وَإِسْرََئِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ ءَايَـتُ الرَّحْمنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيًّا)(1)
والشيء نفسه ـ أيضاً ـ يذكره القرآن الكريم في سورة الحديد، ولكن على نحو الاِشارة، وذلك عندما يتحدث عن نوح وإبراهيم عليهما السلام، حيث جعل في ذريتهما النبوة، قال تعالى: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَهِيمَ وَجَعَلْنَا فِى ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَـبَ فَمِنْهُم مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَـسِقُونَ)(2)
____________
(1) الآية:58.
(2) الآية:26.
إذاً فهذه من السنن التي كانت تحكم مسيرة الرسالات الاِلهية، فلا نرى غرابة في أن هذه السنّة تجري ـ أيضاً ـ في هذه الرسالة الخاتمة، بل هي امتداد لسنّة إلهية، شاء الله أن يجعلها حاكمة على مسيرة الاَنبياء والمرسلين منذ بداية الرسالات الاِلهية وإلى نهايتها.
وإذا أخذنا بنظر الاعتبار أن الاِمامة بدأت من نوح عليه السلام ـ كما يذهب إلى ذلك العلامة الطباطبائي قدس سره وشهيدنا الصدر قدس سره ـ فقد نرى أن التأكيد في القرآن الكريم على نوح وإبراهيم عليهما السلام، وجعل النبوة في ذريتهما، إنما هو إشارة إلى قضية الاِمامة واستمرارها في ذرية هذين النبيّين، ولا سيما أن النبي صلى الله عليه وآله هو ـ أيضاً ـ من ذرية إبراهيم عليه السلام، حيث أنه ينتمي إلى إسماعيل عليه السلام، وإسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام ونبينا هو دعوة إبراهيم عليه السلام، وبذلك تصبح القضية مرتبطة تماماً بهذه السلسلة المباركة للاَنبياء من ناحية، وهذه السنّة التي كتبها الله تعالى في الرسالات الاِلهية، وهي سنة التكريم والتشريف لهم، والنعمة الاِلهية عليهم.
النقطة الثالثة: التي يمكن أن يشار إليها بهذا الصدد وهي أن قضية التشخيص في أهل البيت عليهم السلام، ليست مجرد عملية تكريم
حكمة الاِمامة في الذرية
وتشريف وفضل ونعمة أنعم بها الله تعالى على أنبياءه، بل أن وراء ذلك أموراً أخرى، يمكن أن نلاحظها عندما نريد أن ندرس هذه الظاهرة؟ وهي أمور ذات أبعاد: غيبية، وتاريخية، ورسالية، وإنسانية.
وهذه الاَبعاد التي يمكن أن نلاحظها من خلال دراستنا للقرآن الكريم ومراجعتنا ومطالعتنا للرسالة الاِسلامية قد تفسر النقطتين السابقتين، ببيان الحكمة في هذا التكريم الاِلهي وهذا الاِتجاه الفطري في الاِنسان الذي تحول إلى سنة في مسيرة الاَنبياء، والله سبحانه وتعالى أعلم.
البعد الغيبي
____________
(1) السجدة:9.
فهناك الكثير من الاَسرار ذات العلاقة بالاِنسان، وحياة هذا الاِنسان لم تكشف لهذا الاِنسان، ولها تأثير في حياته في العالم الآخرة، بل ومن خلال حركة الاِنسان ـ أيضاً ـ في هذه الدنيا.
وهذا الاَمر لابد أن نؤكد عليه دائماً في تفسير الكثير من الظواهر الاِنسانية، فانه لا يمكن أن نفسر الظواهر الاِنسانية بالتفسيرات المادية
____________
(1) العنكبوت:64.
وهذا الاَمر ليس مجرد فرضية واحتمال عقلي، وإنما يمكن أن نجد له شواهد من القرآن الكريم ـ أيضاً ـ فقد أشار القران الكريم إلى هذا الجانب الغيبي في الاِنسان وحركته التكاملية ـ كما ذكرنا ـ ومن ثم فيمكن أن نفترض في أهل البيت عليهم السلام ـ كما ورد في النصوص والروايات عن النبي صلى الله عليه وآله وعن أهل البيت عليهم السلام ـ وجود أسرار غيبية ترتبط بجعل الاِمامة بأهل البيت عليهم السلام،لها تأثير في حركة الاِنسان وتكامل هذه الحركة.
أما الشواهد القرآنية التي تتحدث عن ارتباط الحركة التكاملية للاِنسان بالغيب، فهو ما نلاحظه في مجموعة من المؤشرات:
الاَول: ما ذكرناه من أن الله تعالى خصّ الاِنسان من دون جميع الكائنات بهذا الوصف الخاص وهو أنه نفخ فيه من روحه.
إذن، فهذا الاِنسان موجود ومخلوق يختلف عن بقية الكائنات التي لم توصف بمثل هذا الوصف، وترتبط بالله تعالى هذا الربط في جانب الخلقه.
الثاني: ما يشير إليه القرآن الكريم في مجال خلق الاِنسان من أن الله تعالى عندما خلق الاِنسان، أخذ عليه عهوداً ومواثيق في عالم
وهذه الشهادة، لا ندركها الآن كأفراد نعيش الحالة المادية، فلا ندرك ونتذكر هذا الجانب من الشهادة والعهد والميثاق الذي أخذه الله سبحانه وتعالى على بني آدم في ذرياتهم، وشهدوا واعترفوا بذلك، وأنه سوف يحاسبهم الله تعالى في يوم القيامة ـ أيضاً ـ على هذه الشهادة، لئلا يقول الاِنسان في يوم القيامة إني كنت غافلاً عن ذلك، فتكون الحجة لله.
نحن الآن لاندرك ذلك بصورة مشهودة، فهو أمر غيبي في خلق الاِنسان، نعم قد ندرك بفطرتنا وبوجداننا هذه الحقيقة المعبرة عن هذا الجانب الغيبي وهذا الاِعتراف بالحقيقة الاِلهية، عندما تكون
____________
(1) الاَعراف:172.
الثالث: والذي يمكن أن نستنبطه من القرآن الكريم ـ أيضا ـ هو حديث القرآن الكريم الواسع والكثير، الذي يمتد في عدد كبير من الآيات والمناسبات والآفاق حول (الاِصطفاء) و (الاِجتباء) في حركة التاريخ.
القرآن الكريم في آيات كثيرة ومنها قوله تعالى: (إِنَّ اللهَ اصْطَفَىَ ءَادَمَ وَنُوحاً وَءَالَ إِبْرَهِيمَ وَءَالَ عِمْرَنَ عَلَى الْعَـلَمِينَ*ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)(1) يتحدث عن ظاهرة الاِصطفاء كظاهرة غيبية، وقضية من القضايا الاِلهية الغيبية التي لا تخضع للتفسيرات المادية سارية ـ أيضاً ـ في
____________
(1) آل عمران:33 ـ 34، وهناك آيات عديدة، يمكن أن يجدها الباحث في مادة الاِصطفاء والاِجتباء وغيرها، في المعجم المفهرس.
إذن، فلماذا لا يمكن أن نفترض وجود هذه الحركة وهذا العامل الغيبي في إصطفاء الله تعالى لآل محمد صلى الله عليه وآله، وهو ـ أيضاً ـ ما يشير إليه القرآن الكريم في مثل قوله تعالى: (...إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً)(1) ويتم تأكيد ذلك ـ أيضاً ـ في آية المباهلة وغيرها.
إذن، فيمكن أن يكون هذا سرّاً من الاَسرار الاِلهية الغيبية التي لها دلالات معروفة ـ كما سوف نشير إلى بعضها ـ ولكن لها ـ أيضاً ـ دلالات وآثار في حركة التاريخ، وتكامل الاِنسان الدنيوي لا نعرفها في فهمناالمادي المحدود لحركة التاريخ، ويكون لها ـ أيضاً ـ أبعاد في
____________
(1) الاَحزاب:33.
البعد التاريخي
وهذه الظاهرة لم تتفق في أوصياء النبي محمد صلى الله عليه وآله فحسب، وإنما هي ظاهرة تاريخية اتفقت في أوصياء عدد كبير من الرسل ويشير الشهيد الصدر قدس سره كشاهد على هذه الحقيقة إلى الآيات القرآنية، كقوله تعالى:
____________
(1) الاِسلام يقود الحياة| خلافة الاِنسان وشهادة الاَنبياء:166، كما في لوط عليه السلام الذي كان يرتبط بإبراهيم، أو في يوشع الذي كان يرتبط بموسى، أو يرتبطون به وبذريته، كما هو الحال في إسحاق وإسماعيل ويعقوب وذرية يعقوب التي أشرنا إليها.
إذن، فهذه ظاهرة تاريخية، ومن ثم فقد طبقت ـ أيضاً ـ على رسالة النبي صلى الله عليه وآله، بأعتبار أن الرسالة الخاتمة وإن كانت هي رسالة كاملة وبكمالها تتميز على الرسالات السابقة، ولكن هذه الرسالة الخاتمة هي في الحقيقة إمتداد لتلك الرسالات الاِلهية، والنبي صلى الله عليه وآله جاء من أجل أن يصدِّق تلك الرسالات، ثم يهيمن عليها، وقد ورد في أحاديث رسول الله صلى الله عليه وآله ما يؤكد ذلك، وأن ما تشهده هذه الرسالة الخاتمة يتطابق تماماً مع ما شهدته الرسالات السابقة حتى جاء التعبير في مقام التطبيق الكامل قوله صلى الله عليه وآله: (لتركبن سنّة من كانت قبلكم حذو النعل بالنعل...)(2)
____________
(1) الحديد:26.
(2) البحار28:8، حديث11، عن تفسير القمي، وجاء هذا الحديث في كتب الفرقين إما بلفظه أو بمضمونه، مثل مجمع البيان5:49، وكمال الدين:576، طبعة مكتبة الصدوق، وصحيح البخاري:باب 50 من كتاب الاَنبياء، وصحيح مسلم الحديث 6 من كتاب العلم، سنن بن ماجه باب 17، من كتاب الفتن...الخ.
ولكن هذه الظاهرة التاريخية تحتاج إلى تفسير تاريخي، ولعل ذلك ـ والله العالم ـ لاَحد أمرين:
الجذر التاريخي ودوره
ويؤكد هذا التفسير عدة مؤشرات، يمكن أن نلاحظها في القرآن
الاَول: تأكيد القرآن الكريم على الجذر التاريخي للرسالة الاِسلامية، مع أن الرسالة الاِسلامية هي أفضل الرسالات الاِلهية، وهي الرسالة المهيمنة عليها ـ كما ذكرنا ـ وهي الرسالة الخاتمة، ورسولها أفضل الاَنبياء على الاِطلاق، ومع ذلك كله كان القرآن الكريم يؤكد على هذا الجذر التاريخي والاِنتماء للاَنبياء السابقين، ولاسيما إبراهيم عليه السلام الذي ينسب إليه القرآن الكريم الاِسلام في مواضع عديدة، منها قوله تعالى: (إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَـلَمِينَ*وَوَصَّى بِهَا إِبْرَهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَـبَنِيَّ إِنَّ اللهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاِّ وَأَنْتُم مُسْلِمُونَ*أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَآءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِى قَالُواْ نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ ءَابآئِكَ إِبْرَهِيمَ وَإِسْمَـعِيلَ وَإِسْحَـقَ إِلهاً وَحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ)(1)
بل أن إبراهيم عليه السلام هو الذي سمى الاَمة الخاتمة بهذا الاَسم منذ البداية، كما يشير إلى ذلك قوله تعالى: (وَجَـهِدُوا فِى اللهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَـكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِى الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ
____________
(1) البقرة: 131 ـ 133.
الثاني: ما أشار إليه القرآن الكريم في قوله تعالى: (رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ ءَايَـتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَـبَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)(2) فقد ذكرنا سابقاً أن وجود رسول الله كان بدعوة من إبراهيم عليه السلام، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله يفتخر بأنه كان دعوة أبيه إبراهيم عليه السلام.
الثالث: ذكْر القرآن الكريم لقصص الاَنبياء وتأكيده أن أحد الاَهداف لذلك هو تثبيت النبي، وطلب الصبر والثبات منه تأسياً بالاَنبياء السابقين (فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُواْ الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ...)(3)
____________
(1) الحج:78.
(2) البقرة:129.
(3) الاَحقاف:35.
وهذه السنة هي سنة قائمة في كثير من مظاهر الطبيعة مخلوقاته عزَّ وجلّ، فالشجرة الطيبة القوية المثمرة هي الشجرة ضاربة الجذور في الاَرض، بخلاف الشجرة الخبيثة.
وكذلك الكلمة الطيبة التي هي كالشجرة الطيبة التي ضربها الله مثلاً لها، فأنها هي التي تكون لها أصول وجذور.
قال تعالى: (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِى السَّمآءِ*تُؤْتِىَ أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللهُ الاََْمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) ، وهذا بخلاف الكلمة الخبيثة، فهي كالشجرة الخبيثة، قال تعالى: (وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الاََْرْضِ مَالَهَا مِن قَرَارٍ)(1)
____________
(1) إبراهيم: 24 ـ 26.
البعد الرسالي
البعد الثالث: البعد الرسالي، وما يترتب على ذلك من تحقيق مصالح الرسالة وإعداد الاَفراد لمهماتها ومسؤولياتها، وتحمل أعبائها الثقيلة.
فقد عرفنا في جواب السؤال الاَول أن عمر الرسول ـ عادة ـ يكون أقصر من عمر الرسالة وأعبائها ومهماتها، وهذا ما شاهدناه ـ أيضاً ـ في الرسالة الاِسلامية، فقد كان عمر رسول الله صلى الله عليه وآله محدوداً بالنسبة إلى أعبائها ومهماتها، حيث توفي رسول الله بعد مضي ثلاث وعشرين سنة من البعثة الشريفة، وبالرغم من الجهود المضنية التي بذلها، والاِنجازات العظيمة التي حققها في هذه المدة القصيرة، فقد بقيت أعباء الرسالة الاِسلامية العالمية قائمة وموجودة إلى حد كبير في مجال التفهيم والتوضيح وفي مجال التطبيق والتنفيذ، حيث لم تتجاوز المساحة التي انتشر فيها الاِسلام الجزيرة العربية، من حيث الحركة والقدرة والسيطرة، وأن كان قد خاطب رسول الله بها الاَقوام المجاورين للجزيرة، أو دخل في بعض المعارك العسكرية معهم.
بل كانت بعض الجيوب والمناطق في الجزيرة العربية نفسها لا
أو المؤلفة قلوبهم من ضعفاء الاِيمان والاِعتقاد من العرب الجاهليينالذين استسلموا للواقع السياسي والاجتماعي للهيمنة الاِسلامية والنصر الاِلهي، فأعلنوا دخولهم في الاِسلام، وإن لم يبلغ الاِيمان قلوبهم.
أو اؤلئك المنافقين الذين أظهروا الاِسلام، ولكن أضمروا الكفر والعصيان والتمرد، ويشير القرآن الكريم إلى هذه النماذج في كثير من الموارد، ومنها في سورة التوبة والحجرات والمنافقين.
وأفضل شاهد على هذه الحقيقة السياسية والاجتماعية هو ما شاهده المسلمون من حركة الاِرتداد بعد وفاة رسول الله مباشرة في بعض مناطق الجزيرة العربية، أو مواقف بعض الاَشخاص والجماعات السلبية من أهل بيته.
وإذا كان الوضع الثقافي والسياسي في الجزيرة العربية بهذه الصورة، فكيف الحال في خارجها، ومع هذا الوضع لا يمكن أن
نعم يمكن أن نقول بأن رسول الله صلى الله عليه وآله قد أنهى مهمة التبيين وإقامة الحجة ومهمة التأسيس وإقامة القواعد الاجتماعية ومهمة إيجاد الجماعة الاِنسانية التي يمكنها أن تتحمل هذه الاَعباء بصورة عامة.
وعندئذٍ، فلابد من وجود الاِمامة، لتحمل هذه الاَعباء الثقيلة الاَخرى بعده ـ كما ذكرنا سابقاً ـ ولكن تحمل هذه الاَعباء الثقيلة يحتاج إلى إعداد كامل يتناسب مع طبيعة وحجم هذه الاَعباء الضخمة التي سوف يتحملها هؤلاء (الاَئمة) بعد النبي صلى الله عليه وآله.
وهنا يمكن أن نقول بأن عملية الاِعداد هذه التي يراد إنجازها من أجل تحمل هذه الاَعباء، إنما يمكن أن تتم في داخل البيت الرسالي بصورة أفضل وأكمل من إنجازها في خارج البيت الرسالي.
وهذا ما أشار إليه الشهيد الصدر قدس سره في قوله: (فاختيار الوصي كان يتم عادة من بين الاَفراد الذين انحدروا من صاحب الرسالة ولم يروا النور إلا في كنفه وفي إطار تربيته، وليس هذا من أجل القرابة بوصفها علاقة مادية تشكل أساساً للتوارث، بل من أجل القرابة بوصفها تشكل عادة الاِطار السليم لتربية الوصي وإعداده للقيام بدوره
وأما إذا لم تحقق القرابة هذا الاِطار، فلا أثر لها في حساب السماء قال تعالى: (وَإِذِ ابْتَلَىَ إِبْرَهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَـتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّى جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَتِى قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِى الظَّـلِمِينَ)(1)
فالذرية عادة تكون قابلة ومهيئة للاِعداد الرسالي بصورة أفضل في حركة التاريخ الاِنساني(2)
____________
(1) البقرة:124، الاِسلام يقود الحياة| خلافة الاِنسان وشهادة الاَنبياء:167.
(2) صحيح أنه قد نشاهد ـ أحياناً ـ في داخل البيت الرسالي أشخاصاً يشذّون عن المسيرة وعن الاِرتباط بالرسالة، كما يذكر القرآن الكريم بعض النمادج.
ومن هذه النماذج ابن نوح عليه السلام، عندما يذكره القرآن الكريم كنموذج لخروج ولد لرسولٍ عن أهداف الرسالة ومسيرتها.
ونموذج آخر يذكره القرآن الكريم، له بعد آخر من الخروج وهو أب إبراهيم ـ كما يعبّر عنه القرآن الكريم ـ الذي قد يكون هدف القرآن الكريم من التأكيد عليه هو تفسير موقف (أبي لهب) من النبي صلى الله عليه وآله وسلم باعتباره قريباً لرسول الله وعمه، ومع ذلك خرج على هذه الرسالة، وهو الشخص الوحيد الذي ذكره القرآن الكريم بالاسم من المشركين، أو أراد به بعض أقرباء الرسول الذين كانوا بمستوى الاَعمام في الحالة النسبية والاِرتباط برسول الله صلى الله عليه وآله.
ونموذج ثالث يذكره القرآن الكريم هو زوج نوح ولوط، كمثل لما يمكن أن تقفه الزوجة من صاحب الرسالة، فانها وإن لم تكن من ذريته وبيته، ولكنها عادة ما تكون تحت تأثير عمله.
الاِعداد والواقع التاريخي
وهذه الفكرة إذا أردنا أن ننظر إليها من خلال الواقع التاريخي الذي عاشته الرسالة الاِسلامية، نراها ـ أيضاً ـ فكرة متطابقة تماماً مع هذا الواقع التاريخي، حيث نرى أن الوصي الذي كان هو الاِمام علي عليه السلام قد احتضنه رسول الله صلى الله عليه وآله وهو طفل صغير، حيث تذكر بعض النصوص أن رسول الله صلى الله عليه وآله كان قد تكفله بالتربية قبل البعثة، من خلال التخفيف من مسؤوليات الاِنفاق ـ أو المسؤوليات الاقتصادية إذا صح التعبير ـ عن أبي طالب.
وبدأ الرسول صلى الله عليه وآله في هذه المرحلة بتربية علي عليه السلام، وبذلك ـ أيضاً ـ يجمع المسلمون ـ تقريباً ـ أن علياً عليه السلام كان أول من أسلم، وأنه لم يعرف في حياته عبادة الاَصنام أو عبادة غير الله سبحانه وتعالى، وهذا أمر يجمع عليه المسلمون، ولذلك عندما يذكر اسمه جمهور المسلمين، يخصونه بدعاء (كرّم الله وجهه)، وهم بذلك يشيرون إلى هذه الخصوصية لعلي عليه السلام، وهذه الخصوصية إنما كانت ـ أيضاً ـ
طبعاً، العنصر الغيبي، في الاِصطفاء والاِعداد ـ كما ذكرنا ـ قائم في نفسه مع العناصر الاَخرى، ولكن من هذه الزاوية وهذا الجانب نرى ـ أيضاً ـ هذه الحقيقة قائمة.
مضافاً إلى ذلك، ما تشير إليه النصوص التاريخية وتؤكده روايات بعض الاَشخاص ـ حتى ممن لم يكن يميل إلى علي عليه السلام من الناحية الروحية والنفسية ـ من إعداد رسول الله صلى الله عليه وآله لعليّ عليه السلام علمياً ومعنوياً، فيما كان يسارّه في ليله ونهاره، لاَن عليّاً عليه السلام كان قريباً من رسول الله صلى الله عليه وآله، بحيث كان يأخذ منه العلم والاَخلاق في كل مناسبة، بل في كل وقت.
والكلمة معروفة عن النبي صلى الله عليه وآله، وعن عليّ عليه السلام بهذا الشأن، أما عن النبي، فهي عندما قال: (أنا مدينة العلم وعلي بابها)(1) وأما
____________
(1) البحار28:199، حديث 6،وجاء في مستدرك الصحيحين3:126، عن ابن عباس ما لفظه، قال: قال رسول الله(صلى الله عليه وآله): أنا مدينة العلم وعلي بابها فمن أراد المدينة فليأت الباب، قال الحاكم: هذا حديث صحيح الاِسناد، وكذلك جاء في كنز العمال11:600، حديث 32890، و614، حديث 32978، و32979، و13:147، حديث 36463.
هذه الحقيقة إذا أردنا أن ننظر إليها من الناحية التاريخية والمادية، نراها كانت قائمة من خلال هذا الاِقتراب في دائرة عليّ عليه السلام من النبي صلى الله عليه وآله، حيث تربى في حضن رسول الله صلى الله عليه وآله وهو ابن عمه، تزوج من ابنته، فكان رسول الله صلى الله عليه وآله يدخل إلى بيت عليّ كما يدخل إلى بيته، وعليّ يدخل على رسول الله كما يدخل إلى بيته.
هذه العلاقة كانت موجودة بدرجة عالية، الاَمر الذي أثار ـ أحياناً ـ غيرة بعض نساء النبي صلى الله عليه وآله أو حساسية، أو أي تعبير آخر يمكن أن نقوله أو نعبر عنه في هذا المقام بصورة مناسبة(2)
____________
(1) البحار26:29 ـ 30، حديث 36 و 37، و33 عن أبي عبدالله الصادق عليه السلام، في تفسير الفخر الرازي الكبير، في ذيل تفسير قوله تعالى: (ان الله اصطفى آدم ونوحاً...) ، (آل عمران:33)، قال: علي (عليه السلام): علمني رسول الله(صلى الله عليه وآله) ألف باب من العلم واستنبطت من كل باب ألف باب، قال: فاذا كان حال المولى هكذا فكيف حال النبي(صلى الله عليه وآله)، وكذلك جاء الحديث في كنز العمال13:114، حديث 36372.
(2) لهذه البيوت الطاهرة خصوصيات، قد يعجز الاِنسان عن اختيار الاَلفاظ المناسبة المؤدبة تجاهها، عندما يريد أن يتحدث عن بعض علاقاتها، ولكن على أي حال التاريخ يشهد في كثير من النصوص، بأن هذا الاِقتراب من عليّ عليه السلام، وعناية رسول الله صلى الله عليه وآله لعليّ عليه السلام في هذا الجانب ـ جانب الاِعداد والتعليم والتأهيل لتحمل هذه المسؤولية ـ كان يثير في كثير من الاَحيان الحسد أو الغيرة أو غير ذلك من الاِنفعالات حتى في دائرة الاَشخاص القريبة لرسول الله صلى الله عليه وآله.
الاِعداد والنظام العام
ومن الطبيعي ـ أيضاً ـ أن نفترض، كما نفترض في عقائدنا بأن هؤلاء الاَئمة يمكن أن تتحقق لهم الاِمامة دون هذا الاِعداد، لاِن الله تعالى قادر على كل شيء، ولا يمنعه شيء من إلهام الاَشخاص والاَفراد ـ لحكمة ـ بكل المعلومات دون ذلك الاِعداد السابق، هذا الشيء يمكن أن نفترضه، وفيه الكثير من الواقع والحقيقة بالنسبة إلى الكثير من الاَفراد الذين عرفهم التاريخ(1) ولكن في الوقت نفسه يمكن أن نفترض أن النظام العام في الحركة الاِجتماعية للاِنسان يراد لها أن تسير في الكثير من الموارد، حسب النظام العام، وليس من المفروض لها دائماً أن تكون خارجة عن النظام العام، إلا بقدر الحاجة إلى هذا الاِستثناء، كما هو الحال في موارد المعجزة مثلاً، وهذا يعني أنه مادام الاِعداد ممكناً حسب النظام العام، فسوف يتم كذلك ويكون الاِستثناء عند الحاجة والضرورة، فيتم الاِعداد من خلال نظام آخر وهو النظام الغيبي.
إذن، فالطريق الطبيعي للاِعداد الاَفضل والتأهيل الاَكمل إنما يكون في دائرة البيت القريب،
ويمكن أن نرى هذا الشيء في معالم أخرى من التاريخ، وفي مفردات وصور عديدة.
وهذه الظاهرة نراها قد تجسدت ـ أيضاً ـ في الاَسر العلمية الشريفة في تاريخ جماعة أهل البيت عليهم السلام، حيث قامت بأعمال شريفة في هذا التاريخ، وتحملت مسؤوليات كبيرة في مختلف أدوار التاريخ.
____________
(1) مثل يحيى وعيسى عليهما السلام وغيرهما من الاَنبياء، ومثل الاِمام الجواد والاِمام الهادي عليهم السلام وغيرهما.