المسألة الثالثة: في نوع تخوف النبي صلى الله عليه وآله وسلم:
ولا بد من القول بأن الخوف الذي كان عند النبي صلى الله عليه وآله كان خوفاً على الرسالة، وليس على شخصه من القتل أو الأذى، وذلك لعصمته وتقواه وشجاعته صلى الله عليه وآله.
فإن الله تعالى كان أخبر رسوله صلى الله عليه وآله من الأيام الأولى لبعثته، بثقل مسؤولية النبوة والرسالة، وجسامة تبعاتها.. وكان صلوات الله عليه وآله موطِّناً نفسه على كل ذلك، فلا معنى لأن يقال بأنه تلكأ بعد ذلك أو تباطأ أو امتنع في أول البعثة، أو في وسطها أو في آخرها، حتى جاءه التهديد والتطمين!!
وقد تبين مما تقدم أن الخوف على الرسالة الذي كان يعيشه النبي صلى الله عليه وآله عند نزول الآية، ليس إلا خوفه من ارتداد الأمة، وعدم قبولها إمامة عترته من بعده.
المسألة الرابعة: في معنى الناس في الآية:
ـ قال الفخر الرازي في تفسيره: 6 جزء 12|50:
واعلم أن المراد من (الناس) ها هنا الكفار بدليل قوله تعالى: إن الله لا يهدي القوم الكافرين... لا يمكنهم مما يريدون. انتهى.
ولا يمكن قبول ذلك، لأن نص الآية العصمة من (الناس) وهو لفظ أعم من المسلمين والكفار، فلا وجه لحصره بالكفار..
وقد تصور الرازي أن المعصوم منهم هم الذين لا يهديهم الله تعالى، وأن المعنى: إن الله سيعصمك من الكفار ولا يهديهم. ولكنه تصورٌ خاطىَ، لأن ربْط عدم هدايته تعالى للكفار بالآية يتحقق من وجوه عديدة.. فقد يكون المعنى: سيعصمك من كل الناس، ولا يهدي من يقصدك بأذى لأنه كافر. أو يكون المعنى: بلغ وسيعصمك الله
فإبقاء لفظة (الناس) على إطلاقها وشمولها للجميع، يتناسب مع مصدر الأذى والخطر على النبي صلى الله عليه وآله الذي هو غير محصور بالكفار، بل يشمل المنافقين من الأمة أيضاً. بل عرفت أن الخطر كاد يكون عند نزول الآية محصوراً فيهم.
ولكن الرازي يريد إبعاد الذم في الآية عن المنافقين، وإبعاد الأمر الإلَهي فيها عن تبليغ ولاية أمير المؤمنين علي عليه السلام !
المسألة الخامسة: في معنى العصمة من الناس:
وقد اتضح مما تقدم أن العصمة الإلَهية الموعودة في الآية، لابد أن تكون متناسبة مع الخوف منهم، ويكون معناها عصمته صلى الله عليه وآله من أن يطعنوا في نبوته ويتهموه بأنه حابى أسرته واستخلف عترته، وقد كان من مقولاتهم المعروفة أن محمداً صلى الله عليه وآله يريد أن يجمع النبوة والخلافة لبني هاشم، ويحرم قبائل قريش.. !!
وكأنه صلى الله عليه وآله هو الذي يملك النبوة والإمامة ويعطيهما من جيبه!!
فهذا هو المعنى المتناسب مع خوف الرسول صلى الله عليه وآله وأنه كان يفكر بينه وبين نفسه بما سيحدث من تبليغه ولاية علي عليه السلام.
فهي عصمةٌ في حفظ نبوته عند قريش، وليست عصمةً من القتل أو الجرح أو الأذى، كما ادعت الأقوال المخالفة. ولذلك لم تتغير حراسته صلى الله عليه وآله بعد نزول الآية عما قبلها، ولا تغيرت المخاطر والأذايا التي كان يواجهها، بل زادت.
والقدر المتيقن من هذه العصمة حفظ نبوة النبي صلى الله عليه وآله في الأمة وإن ثقلت عليهم أوامره، وقرروا مخالفته. والغرض منها بقاء النبوة، وتمام الحجة لله تعالى.
وهي غير العصمة الإلَهية الأصلية للرسول صلى الله عليه وآله في أفعاله وأقواله وكل تصرفاته!
ولكنهم عندما توفي فعلوا مايريدون، وأقصوا علياً والعترة عليهم السلام ! بل أحرقوا بيتهم وأجبروهم على بيعة صاحبهم!!
مسألتان تتعلقان بآية العصمة من الناس
يوجد مسألتان ترتبطان بالآية الشريفة، نتعرض لهما باختصار:
المسألة الأولى: محاربة علي عليه السلام بآية تبليغ ولايته:
لكنك تجد في مصادر السنيين تهمةً للشيعة بأنهم يقولون إن النبي صلى الله عليه وآله كتم أشياء ولم يبلغها الى الأمة، والعياذ بالله. ويستدلون لردهم بآية (بلغ ما أنزل اليك).
ـ قال القرطبي في تفسيره: 6|243
من قال إن محمداً صلى الله عليه وسلم كتم شيئاً من الوحي فقد كذب الله تعالى يقول: يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته، وقبح الله الروافض حيث قالوا: إنه صلى الله عليه وسلم كتم شيئاً مما أوحى إليه كان بالناس حاجة إليه. انتهى.
ـ وقال القسطلاني في إرشاد الساري: 7|106
وقال الراغب فيما حكاه الطيبي: فإن قيل: كيف قال: وإن لم تفعل فما بلغت رسالته، وذلك كقولك إن لم تبلغ فما بلغت!
قيل: معناه وإن لم تبلغ كل ما أنزل اليك، تكون في حكم من لم يبلغ شيئاً مما أنزل الله، بخلاف ما قالت الشيعة إنه قد كتم أشياء على سبيل التقية!. انتهى.
فقد كان علي عليه السلام يقول إنه وارث علم النبي صلى الله عليه وآله وإن عنده غير القرآن حديث النبي صلى الله عليه وآله ومواريثه.. فعنده جامعة فيها كل ما يحتاج اليه الناس حتى أرش الخدش.
وكان يقول إن النبي صلى الله عليه وآله قد أخبره بما سيحدث على عترته من بعده حتى هجومهم على بيته وإحراقه، وإجباره على بيعتهم، وأنه أمره في كل ذلك بأوامره..
ونحن الشيعة نعتقد بكل ذلك، وتروي مصادرنا، بل ومصادر السنيين عن مقام علي عليه السلام وقربه من النبي صلى الله عليه وآله ومكانته عنده، وشهاداته صلى الله عليه وآله في حقه ما يوجب اليقين بأن النبي صلى الله عليه وآله كان مأموراً من الله تعالى أن يعد علياً إعدادا خاصاً، ويورثه علمه.. مضافاً الى ما أعطى الله علياً عليه السلام من صفات ومؤهلات وإلهام..
ونعتقد بأن علياً عليه السلام طاهرٌ مطهر، صادقٌ مصدق، في كل ما يقوله ولو كان شهادةً لنفسه وعترته.
قال السيوطي في الدر المنثور: 6|260
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، والواحدي، وابن مردوية، وابن عساكر، وابن النجاري، عن بريدة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله لعلي: إن الله أمرني أن أدنيك، ولا أقصيك، وأن أعلمك، وأن تعي وحقٌّ لك أن تعي. فنزلت هذه الآية: وتعيها أذن واعية. انتهى.
ثم ذكر السيوطي رواية أبي نعيم في الحلية وفيها: فأنت أذُنٌ واعيةٌ لعلمي. انتهى.
وإذا كان حذيفة بن اليمان صاحب سر النبي صلى الله عليه وآله وهو من أتباع علي عليه السلام، فإن علياً هو صاحب أسرار النبي صلى الله عليه وآله وعلومه.
وقد روى الجميع أنه صلى الله عليه وآله عهد اليه أن يقاتل على تأويل القرآن من بعده، وأخبره أنه سيقاتل الناكثين والقاسطين والمارقين!
لقد كان علي عليه السلام معجزةً وأسطورةً في القوة والشجاعة، وفي الهيبة والرعب في قلوب الناس.. وأكثر الذين هاجموه في داره كانوا معروفين بالخوف والفرار في عدة حروب.. ولم يكن أحدٌ منهم ولا من غيرهم يجرأ أن يقف في وجه علي عليه السلام إذا جرد ذا الفقار!!
ولكنهم كانوا مطمئنين أن إطاعته للنبي صلى الله عليه وآله تغلب شجاعته وغيرته، وأنه سيعمل بالوصية، ولن يجرد ذا الفقار، حتى لو ضربت الزهراء عليها السلام وأسقط جنينها!!
والحاصل أن الخلافة القرشية قد ردت أقوال علي بأن عنده مواريث النبي صلى الله عليه وآله وعلمه، ونفت أن يكون النبي صلى الله عليه وآله ورث عترته شيئاً لا علماً ولا أوقافاً ولا مالاً! وبذلك صادر أبو بكر مزرعة فدك، التي كان النبي صلى الله عليه وآله أعطاها الى فاطمة عليها السلام عندما نزل قوله تعالى (وآت ذا القربى حقه) !
بل زادت السلطة على نفي كلام علي، وحاولت أن تستفيد من آية الأمر بالتبليغ التي هي موضوع بحثنا فقالت: من قال إن النبي صلى الله عليه وآله قد بلغه وحده أموراً وأحكاماً، ولم يبلغهاالى الأمة عامة، فقد اتهم النبي صلى الله عليه وآله بأنه قصر في تبليغ الأمة، وهو نوع من الكفر به صلى الله عليه وآله !! ومقولة عائشة المتقدمة هي مقولة السلطة في رد قول علي عليه السلام..
ـ قال البخاري في صحيحه: 5|188:
باب يا أيها الرسول بلغ ما أنزل اليك من ربك. عن عائشة رضي الله عنها قالت: من حدثك أن محمداً صلى الله عليه وآله كتم شيئاً مما أنزل عليه، فقد كذب، والله يقول يا أيها الرسول بلغ ما أنزل اليك من ربك. الآية. انتهى. ثم كرر البخاري ذلك في: 6|50 و8|210، ومسلم: 1|10، والترمذي: 4|328... وغيرهم.
كما تتضمن تحريفاً لمقولة علي عليه السلام وشيعته!
فليس كل شيء قاله الله تعالى لرسوله أوجب عليه أن يبلغه.. فإن علوم النبي صلى الله عليه وآله وما أوحى الله اليه، وما ألهمه إياه، وما شاهده في إسرائه ومعراجه.. أوسع مما بلغه لعامة الناس، بأضعافٍ مضاعفة، ولا يمكن أن يوجب الله تعالى عليه تبليغها، لأن الناس لا يطيقونها حتى لو كانوا مؤمنين!
ولا كل شيء أمره أن يبلغه، أمره أن الى كل الناس بدون استثناء.. فهناك أمورٌ عامةٌ لكل الناس، وقد بلغها لهم، وأمور خاصةٌ لأناسٍ خاصين مؤمنين أو كافرين، وقد بلغها لأصحابها، مثل قوله تعالى (قل لهم في أنفسهم قولاً بليغا).. الخ.
ولم يقل عليٌّ عليه السلام ولا أحدٌ من شيعته إن النبي صلى الله عليه وآله لم يبلغ، بل قالوا إنه كلم الناس على قدر عقولهم، وعلى قدر تحملهم وتقبلهم، وأنه لذلك بلغ علياً عليه السلام أكثر من غيره واستودعه علومه، كما أمره الله تعالى..
وليس في هذا تهمة بعدم التبليغ، كما زعم القرطبي والقسطلاني. بل هي قولٌ بتبليغ إضافي خاصٍ بعلي والزهراء والحسنين عليهم السلام !
بل إن علياً وشيعته قالوا إن النبي صلى الله عليه وآله قد بلغ الأمة أموراً كثيرة، تتعلق بعترته وغيرهم كما ترى في كتابنا هذا.. فتبليغه عندهم أوسع مما يقول به القرشيون.
ولكن القرشيين يظلمون علياً عليه السلام ويفترون عليه، ويتغاضون عن تصريح عمر بأن النبي صلى الله عليه وآله لم يبين عدة آيات مثل الكلالة والربا! كما تقدم في آية إكمال الدين!!
والنتيجة أن الأمر بالتبليغ وامتثاله، لا يتنافى مع تخصيص النبي صلى الله عليه وآله لعلي عليه السلام بعلومٍ عن غيره، لأن ذلك مما أمره بتبليغه له.
كما لا يتنافى مع التقية التي قد يستعملها النبي صلى الله عليه وآله مع قريش أو غيرها، لأنه مأمورٌ بالعمل بالحكمة لأهداف الإسلام، وبالتقية ومداراة الناس..
ـ وفي مجمع الزوائد 8|17
عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: رأس العقل بعد الإيمان بالله التودد الى الناس.
وعن بريدة قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأقبل رجل من قريش فأدناه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقربه، فلما قام قال: يا بريدة أتعرف هذا ؟
قلت: نعم، هذا أوسط قريش حسباً، وأكثرهم مالاً، ثلاثاً.
فقلت يا رسول الله قد أنبأتك بعلمي فيه، فأنت أعلم.
فقال: هذا ممن لا يقيم الله له يوم القيامة وزناً.
وقد عقد البخاري في صحيحه أكثر من باب لمدارة الناس، قال في: 7|102
باب المداراة مع الناس. ويذكر عن أبي الدرداء إنا لنكشر في وجوه أقوام، وإن قلوبنا لتلعنهم... عن عروة بن الزبير أن عائشة أخبرته أنه استأذن على النبي صلى الله عليه وسلم رجل فقال: إئذنوا له فبئس ابن العشيرة أو بئس أخو العشيرة، فلما دخل ألان له الكلام، فقلت يارسول الله: قلت ما قلت، ثم ألنت له في القول ؟! فقال: أي عائشة إن شر الناس منزلة عند الله من تركه أو ودعه الناس، اتقاء فحشه. انتهى.
ـ وفي وسيط النيسابوري 2|208
وقال الأنباري: كان النبي صلى الله عليه وآله يجاهر ببعض القرآن أيام كان بمكة، ويخفي بعضه اشفاقاً على نفسه من شر المشركين اليه، والى أصحابه... انتهى.
المسألة الثانية: الرد بالآية على من زعم أن النبي صلى الله عليه وآله قد سُحِر:
فقد روى البخاري هذه التهمة عن عائشة في خمس مواضع من صحيحه، ففي: 4|91:
عن عائشة قالت: سُحِرَ النبى صلى الله عليه وسلم، وقال الليث كتب الى هشام أنه سمعه ووعاه عن أبيه عن عائشة قالت سحر النبي صلى الله عليه وسلم حتى كان يخيل اليه أنه يفعل الشىَ وما يفعله، حتى كان ذات يوم دعا ودعا، ثم قال: أشعرت أن الله أفتاني فيما فيه شفائي ؟ أتاني رجلان فقعد أحدهما عند رأسي، والآخر عند رجلي، فقال أحدهما للآخر:
ما وجع الرجل ؟
قال: مطبوب!
قال: ومن طَبَّهُ ؟
قال: لبيد بن الأعصم ؟
قال: في ماذا ؟
قال: في مشط ومشاقة وجف طلعة ذكر!
قال: فأين هو ؟
قال: في بئر ذروان!
فخرج اليها النبي صلى الله عليه وسلم، ثم رجع فقال لعائشة حين رجع: نخلها كأنها روس الشياطين!
فقلت: استخرجته ؟
فقال: لا، أما أنا فقد شفاني الله، وخشيت أن يثير ذلك على الناس شراً، ثم
وقد رد هذه التهمة علماء الشيعة قاطبةً، وقد تجرأ قليل من العلماء السنيين على ردها! ومما استدلوا به آية (والله يعصمك من الناس).
ـ قال الطوسي في تفسير التبيان: 1|384
ماروي من أن النبي صلى الله عليه وآله سحر ـ وكان يرى أنه يفعل مالم يفعله ـ فأخبار آحادٍ لايلتفت اليها، وحاشا النبي صلى الله عليه وآله من كل صفة نقصٍ، إذ تنفر من قبول قوله، لأنه حجة الله على خلقه، وصفيه من عباده، واختاره الله على علمٍ منه، فكيف يجوز ذلك مع ما جنبه الله من الفظاظة والغلظة وغير ذلك من الأخلاق الدنيئة والخلق المشينة، ولا يجوِّز ذلك على الأنبياء إلا من لم يعرف مقدارهم، ولا يعرفهم حقيقة معرفتهم. وقد قال الله تعالى: والله يعصمك من الناس، وقد أكذب الله من قال: إن يتبعون إلا رجلاً مسحوراً فقال: وقال الظالمون إن يتبعون إلا رجلاً مسحورا. فنعوذ بالله من الخذلان.
ـ وقال ابن إدريس العجلي في السرائر: 3|534
والرسول عليه السلام ما سُحِر عندنا بلا خلاف، لقوله تعالى: والله يعصمك من الناس. وعند بعض المخالفين أنه سُحر، وذلك بخلاف التنزيل المجيد!
ـ وقال المجلسي في بحار الأنوار: 60|38
ومنها سورة الفلق، فقد اتفق جمهور المسلمين على أنها نزلت فيما كان من سحر لبيد بن أعصم اليهودي لرسول الله صلى الله عليه وآله حتى مرض ثلاث ليال.
ومنها ما روي أن جارية سحرت عايشة، وأنه سحر ابن عمر حتى تكوعت يده!
فإن قيل: لو صح السحر لأضرت السحرة بجميع الأنبياء والصالحين، ولحصلوا لأنفسهم (على) الملك العظيم، وكيف يصح أن يسحر النبي صلى الله عليه وآله وقد قال الله: والله يعصمك من الناس، ولا يفلح الساحر حيث أتى! وكانت الكفرة يعيبون النبي صلى الله عليه وآله بأنه مسحور، مع القطع بأنهم كاذبون. انتهى.
قلت: وأكتفي بهذا القدر من أحاديث سحر الرسول صلى الله عليه وآله... تنبيه: قال الشهاب بعد نقل في التأويلات: عن أبي بكر الأصم أنه قال: إن حديث سحره صلى الله عليه وسلم المروي هنا متروكٌ لما يلزمه من صدق قول الكفرة أنه مسحور، وهو مخالف لنص القرآن حيث أكذبهم الله فيه.
ونقل الرازي عن القاضي أنه قال: هذه الرواية باطلةٌ، وكيف يمكن القول بصحتها والله تعالى يقول: والله يعصمك من الناس، وقال: ولا يفلح الساحر حيث أتى، ولأن تجويزه يفضي الى القدح في النبوة، ولأنه لو صح ذلك لكان من الواجب أن يصلوا الى ضرر جميع الأنبياء والصالحين. انتهى.
ـ والرازي في تفسيره: 16 جزء 32|187 قال: قول جمهور المسلمين أن لبيد بن أعصم اليهودي سحر النبى صلى الله عليه وآله فى إحدى عشرة عقدة... فاعلم أن المعتزلة أنكروا ذلك بأسرهم. وكيف يمكن القول بصحتها والله تعالى يقول: والله يعصمك من الناس... قال الأصحاب: هذه القصة قد صحت عند جمهور أهل النقل... الخ. انتهى.
ولكن هؤلاء قلة من علماء السنة، فأكثرهم يقبلون أحاديث سحر نبيهم!!
وأصل المشكلة عندهم أنهم يقبلون كلام عائشة وكلام البخاري مهما كان، ولا يسمحون لأنفسهم ولا لأحدٍ أن يبحثه وينقده.. وقد أوقعهم هذا المنهج في مشكلات عقائدية عديدة، في التوحيد والنبوة والشفاعة.. ومنها أحاديث بدء الوحي وورقة بن نوفل، وحديث الغرانيق الذي أخذه المرتد سلمان رشدي وحرفه وسماه الآيات الشيطانية.. ومنها أحاديث أن اليهود سحروا النبي صلى الله عليه وآله التي رواها البخاري عن عائشة!
وقد تحيروا فيها كما رأيت، ولم يجرأ أحد منهم على القول إنها من المكذوبات على عائشة، أو من خيالات النساء..
أما ردها بآية العصمة فهو ضعيف، لأنه قد يجاب عنه بأن آية العصمة نزلت في آخر عمره صلى الله عليه وآله، وقصة السحر المزعومة كانت قبلها.
وأما على تفسيرنا للآية، فقد عرفت أن القدر المتيقن من العصمة فيها عصمته صلى الله عليه وآله من ارتداد قريش والمسلمين في حياته، بسبب تبليغه ولاية عترته من بعده.. فيقتصر فيها على هذا القدر المتيقن، ما لم يقم دليل على شمولها لغيره.
وقد أكثر المفسرون والشراح السنييون من الكلام في هذا الموضوع، وتجشموا احتمالات كثيرة.. كل ذلك بسبب تفسيرهم الخاطىَ للآية وتصورهم أنها تفيد عصمته صلى الله عليه وآله من القتل والسم والجرح والأذى.
ومن ذلك أنهم تصوروا أن الآية تعارض الرواية القائلة إن موته صلى الله عليه وآله استند الى اللقمة التي أكلها من الشاة المسمومة التي قدمتها اليه اليهودية، ثم أتاه جبريل عليه السلام فأخبره فامتنع عن الأكل، فانتقض عليه سم تلك اللقمة بعد سنة فتوفي بسببه..
ـ قال في هامش الشفا 1|317:
فإن قيل: ما الجمع بين قوله تعالى (والله يعصمك من الناس) وبين هذا الحديث المقتضي لعدم العصمة، لأن موته عليه السلام بالسم الصادر من اليهودية ؟
والجواب: أن الآية نزلت عام تبوك، والسم كان بخيبر قبل ذلك.
والذي يظهر في الجواب: أن تمنى الفضل والخير لا يستلزم الوقوع، فقد قال صلى الله عليه وسلم: وددت لو أن موسى صبر، كما سيأتي في مكانه، وسيأتي في كتاب التمني نظائر لذلك، وكأنه صلى الله عليه وسلم أراد المبالغة في بيان فضل الجهاد وتحريض المسلمين عليه، قال بن التين: وهذا أشبه.
وحكى شيخنا بن الملقن أن بعض الناس زعم أن قوله (ولوددت) مدرج من كلام أبي هريرة، قال: وهو بعيد. ونحوه في عمدة القاري: 7 جزء 14|95
. ونقول: لو ثبت ذلك عنه صلى الله عليه وآله لكان تمنياً حقيقياً، لأن الآية إنما تضمن عدم ردة الناس في حياته صلى الله عليه وآله، ولا ربط لها بضمان عدم القتل والجرح والأذى.
الفصـل الثالـث
رأيت في أحاديث حجة الوداع كيف ركز النبي صلى الله عليه وآله في خطبه وكلامه وتصرفاته على مقام أهل بيته عليهم السلام فبشر الأمة بالائمة الإثني عشر منهم.. وبلغها أن الله تعالى جعل وجوب طاعتهم الى جانب القرآن، فسماهم مع القرآن (الثقلين)، وأنه تعالى حرم عليهم الصدقات وجعل لهم مالية خاصة هي: الخمس.. الخ.
لقد كانت خطبه صلى الله عليه وآله في الحج، وما رافقها من أعماله وأقواله، في علي وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام، أقصى ما يمكن أن تتحمله قريش من ترسيخ قيادة بني هاشم، و (حرمان) بقية قبائل قريش من القيادة حسب زعمهم، بل تكريس قريش عبيداً طلقاء لبني هاشم!!
ولا تذكر المصادر السنية ردة الفعل الصريحة لزعماء قريش المعروفين على هذه الخطب والأعمال النبوية في حجة الوداع.
ومن الطبيعي أن لا تذكر ذلك.. فهل تريد من مصدر قرشي أن يعترف لك بأن
أما مصادرنا الشيعية فتذكر أنهم نشطوا ضد بني هاشم في حجة الوداع، وأن نشاطهم زاد في منى في أيام التشريق، وكانت نتيجة مشاوراتهم ومحادثاتهم أن كتبوا بينهم صحيفة تسميها مصادرنا (الصحيفة الملعونة) لأنهم تعاهدوا فيها أن لا يسمحوا لبني هاشم أن يجمعوا بين النبوة والخلافة!
وتذكر أن بضعة نفر من ممثليهم انسلوا خفيةً من منى الى مكة، ووقعوا الصحيفة في داخل الكعبة!
فكانت صحيفة قرشية جديدة ضد بني هاشم، ولكنها هذه المرة ليست لمحاصرتهم في الشعب باسم اللات والعزى.. بل لعزلهم سياسياً وحرمانهم من القيادة بعد النبي صلى الله عليه وآله، باسم الإسلام!!
وذكرت مصادرنا أن الله تعالى أطلع نبيه صلى الله عليه وآله على هذه الصحيفة، فأخبر أصحابها بفعلتهم، فارتعدت فرائصهم!
ولكنه صلى الله عليه وآله اكتفى بإتمام الحجة عليهم، وترك لهم حرية العمل وفق قانون تبليغ الأنبياء عليهم السلام وواجبهم في إقامة الحجة لله تعالى على عباده!
وإذا كان ما ذكرته الصحاح السنية من لغطٍ وكلامٍ وضجةٍ وصراخٍ في وسط خطبة النبي صلى الله عليه وآله في عرفات، عندما وصل الى نسب الأئمة الإثني عشر من بعده ـ إذا كان ذلك واحداً من فعاليات قريش المنظمة ضد بني هاشم ـ فلا بد أن يكون النبي صلى الله عليه وآله أنبهم عليه أيضاً، وعرفهم أنه مطلعٌ عليه جيداً!!
على أي حال، فقد اعتبر القرشيون أن حجة الوداع مرَّت بسلامٍ نسبياً، فقد تحدث النبي صلى الله عليه وآله كثيراً عن بني هاشم وعن عترته وعن ذريته من فاطمة، وعن اختيار الله تعالى لهم، وللأئمة منهم، وعن تحريم الصدقات عليهم، وفرض الخمس لهم.. ولكنه لم يتخذ إجراءً عملياً والحمد لله، ولم يطلب من قريش والمسلمين أن يبايعوا علياً كبير العترة، بصفته الإمام الأول من العترة!
أما النبي صلى الله عليه وآله فقد اعتبر أنه بلغ رسالة ربه في عترته بأقصى ما يمكنه، وأن قريشاً لا تتحمل أكثر من ذلك.. فقد وصل الأمر عندها الى آخر حدود الصبر، ولو طلب منها بيعة علي بخلافته، فإنها قد تطعن في نبوته وتتهمه بأن هدفه إقامة ملك لبني هاشم، شبيهاً بملك كسرى وقيصر!!
وبذلك تستطيع قريش أن تقود حركة ردة في العرب، وتخوفهم من القبول بملك بني هاشم بعد النبي صلى الله عليه وآله، ملك يبدأ بعلي ثم يكون للحسن ثم للحسين، ثم لا يخرج من أبناء فاطمة الى يوم القيامة!
وقد سجلت المصادر شبيه هذه العبارات، على ألسنة زعماء قريش! وكأن الملك ملك محمد صلى الله عليه وآله وكأنه هو الذي أعطاه أو يريد أن يعطيه لعترته عليهم السلام !!
الوحي يضغط على النبي صلى الله عليه وآله من السماء وقريش من الأرض
كان جبرئيل عليه السلام في حجة الوداع وظروفها المصيرية ينزل على النبي صلى الله عليه وآله بأوامر ربه، وقد يكون رافقه طوال موسم الحج، وأملى عليه عبارات خطبه...
وكان مما قال له في المدينة:
يا محمد إن الله عز وجل يقرؤك السلام ويقول لك إنه قد دنا أجلك، وإني مستقدمك عليَّ، ويأمرك أن تدل أمتك على حجهم، كما دللتهم على صلاتهم وزكاتهم وصيامهم.
وفي آخر أيام الحج نزل عليه جبرئيل عليه السلام أن الله تعالى يأمرك أن تدل أمتك على وليهم، فاعهد عهدك، واعمد الى ماعندك من العلم وميراث الأنبياء فورثه إياه، وأقمه للناس علماً، فإني لم أقبض نبياً من أنبيائي إلا بعد إكمال ديني، ولم أترك أرضي بغير حجة على خلقي...
فأخذ النبي صلى الله عليه وآله يفكر في طريقة الإعلان، نظراً الى وضع قريش المتشنج، وقال في نفسه: أمتي حديثو عهد بالجاهلية ومتى أخبرتهم بهذا في ابن عمي يقول قائل، ويقول قائل! لذلك قرر أن ينفذ هذا الأمر الإلَهي الجديد في عترته، بعد رجوعه الى المدينة، بالتمهيد المناسب، وبمعونة الأنصار..
ورحل النبي صلى الله عليه وآله من مكة وهو ناوٍ أن يكون أول عمل يقوم به في المدينة إعلان ولاية عترته، كما أمره ربه تعالى.
لكن في اليوم الثالث من مسيره، عندما وصل الى كراع الغميم، وهو كما في مراصد الإطلاع: موضع بين مكة والمدينة، أمام عسفان بثمانية أميال.. جاءه جبرئيل عليه السلام لخمس ساعات مضت من النهار، وقال له: يامحمد إن الله عز وجل يقرؤك السلام ويقول لك (ياأيها الرسول بلغ ما أنزل اليك من ربك، وإن لم تفعل فما بلغت رسالته، والله يعصمك من الناس، إن الله لايهدي القوم الكافرين).
فخاف النبي صلى الله عليه وآله وخشع لربه، وتَسَمَّرَ في مكانه، وأصدر أمره الى المسلمين بالتوقف، وكان أولهم قد وصل الى مشارف الجحفة، وكانت الجحفة بلدةً عامرةً على بعد ميلين أو أقل من كراع الغميم، ولكن النبي صلى الله عليه وآله أراد تنفيذ الأمر الإلَهي المشدد، فوراً في المكان الذي نزل فيه الوحي.. !
ونزل صلى الله عليه وآله عن ناقته، وكان جبرئيل الى جانبه، ينظر اليه نظرة الرضا، وهو يراه يرتجف من خشية ربه، وعيناه تدمعان خشوعاً وهو يقول: تهديدٌ.. ووعدٌ ووعيدٌ.. لأمضين في أمر الله، فإن يتهموني ويكذبوني فهو أهون علي من أن يعاقبنى العقوبة الموجعة في الدنيا والآخرة!
وقبل أن يفارقه جبرئيل أشار اليه فنظر النبي صلى الله عليه وآله فإذا على يمينه دوحة أشجار، فودع جبرئيل ومال اليها، وحطَّ رحال النبوة عند غدير خُمٍّ.
قال بعض المسلمين: فبينا نحن كذلك، إذ سمعنا رسول الله صلى الله عليه وآله وهو ينادي: أيها الناس أجيبوا داعي الله.. فأتيناه مسرعين في شدة الحر، فإذا هو واضعٌ بعض ثوبه على رأسه.
ونادى منادي النبي صلى الله عليه وآله في الناس بالصلاة جامعة، ووقت الصلاة لم يحن بعد ولكن حانت قبلها (صلاة) أخرى لا بد من أدائها قبل صلاة الظهر.
إنها فريضة ولاية عترته الطاهرة، ولا بد أن يبلغها عن ربه الى المسلمين مهما قال فيه قائلون، وقال فيهم قائلون.. فقد شدد عليه ربه في ذلك: وأفهمه أن مسألة عترته ليست مسألةً شخصيةً تخصه.. وأنك إن كنت تخشى الناس، فالله أحق أن تخشاه وسيعصمك منهم، فاصدع بما تؤمر!!
ونزل المسلمون حول نبيهم صلى الله عليه وآله، وكان ذلك اليوم قائظاً شديد الحر، فأمرهم أن يكسحوا تحت الأشجار لتكون مكاناً لخطبة الولاية، ثم للصلاة في ذلك الهجير، وأمرهم أن ينصبوا له أحجاراً كهيئة المنبر، ليشرف على الناس..
ورتب المسلمون المكان والمنبر، ووضعوا على أحجاره حدائج الإبل، فصار منصةً أكثر ارتفاعاً، وحسناً..
عرف الجميع أن أمراً قد حدث، وأن النبي صلى الله عليه وآله سيخطب.. فقد نزل عليه وحيٌ أو حدث أمرٌ مهمٌ أوجب أن يوقفهم في هذا الهجير، ولا يصبر عليهم حتى يصلوا الى مدينة الجحفة العامرة، التي تبعد عنهم ميلين فقط!
كان مجموع المشاركين في حجة الوداع من مئة ألف الى مئة وعشرين ألفاً كما ذكرت الروايات، ولكن هذا العدد كان في عرفات ومنى.. أما بعد تمام الحج فقد توزعوا، فمنهم من أهل مكة وقد رجعوا اليها، ومنهم بلادهم عن طريق الطائف فسلكوا طريقها، وآخرون بلادهم عن طريق جدة وما اليها..
والذين هم مع الرسول صلى الله عليه وآله عن طريق الجحفة والمدينة ألوفٌ كثيرةٌ أيضاً.. نحو عشرة آلاف.. فقد قال الإمام الصادق عليه السلام مؤرخاً تضييع قريش لحادثة الغدير:
العجب مما لقي علي بن أبي طالب! إنه كان له عشرةُ آلافِ شاهدٍ ولم يقدر على أخذ حقه، والرجل يأخذ حقه بشاهدين!! الوسائل: 18|174
.
ثم قدم لهم عذره، لأنه اضطر أن ينزلهم في مكان قليل الماء والشجر، وما أمهلهم حتى يصلوا الى بلدة الجحفة المناسبة لنزول مثل هذا القافلة الكبيرة، المتوفر فيها ما يحتاج اليه المسافر.. ولا انتظر بهم وقت الصلاة، بل ناداهم قبل وقتها، وكلفهم الإستماع اليه في حر الظهيرة..
وقد ضمن لي تبارك وتعالى العصمة من الناس، وهو الكافي الكريم، فأوحى إلي: يا أيها الرسول بلغ ما أنزل اليك من ربك، وإن لم تفعل فما بلغت رسالته، والله يعصمك من الناس، إن الله لايهدي القوم الكافرين.
ثم قال صلى الله عليه وآله: لا إلَه إلا هو، لا يؤمن مكره، ولا يخاف جوره، أقرُّ له على نفسي بالعبودية، وأشهد له بالربوبية، وأؤدي ما أوحى إلي، حذراً من أن لا أفعل فتحل بي منه قارعةٌ، لا يدفعها عني أحدٌ، وإن عظمت حيلته.
أيها الناس: إني أوشك أن أدعى فأجيب، فما أنتم قائلون ؟
فقالوا: نشهد أنك قد بلغت ونصحت.
فقال: أليس تشهدون أن لا إلَه إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وأن الجنة حقٌ وأن النار حقٌ وأن البعث حق ؟
قالوا: يا رسول الله بلى.
فأومأ رسول الله الى صدره وقال: وأنا معكم.
ثم قال رسول الله: أنا لكم فرط، وأنتم واردون عليَّ الحوض، وسعته مابين صنعاء الى بصرى، فيه عدد الكواكب قدحان، ماؤه أشد بياضاً من الفضة.. فانظروا كيف تخلفوني في الثقلين.
فقام رجل فقال: يارسول الله وما الثقلان ؟
قال: الأكبر: كتاب الله، طرفه بيد الله، وسبب طرفه بأيديكم فاستمسكوا به ولا تزلوا ولا تضلوا.
أيها الناس: ألستم تعلمون أن الله عز وجل مولاي، وأنا مولى المؤمنين، وأني أولى بكم من أنفسكم ؟
قالوا: بلى يا رسول الله.
قال: قم يا علي. فقام علي، وأقامه النبي صلى الله عليه وآله عن يمينه، وأخذ بيده ورفعها حتى بان بياض إبطيهما، وقال:
من كنت مولاه فعلي مولاه. اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه، وانصر من نصره واخذل من خذله، وأدر الحق معه حيث دار.
فاعلموا معاشر الناس أن الله قد نصبه لكم ولياً وإماماً مفترضاً طاعته على المهاجرين والأنصار، وعلى التابعين لهم بإحسان، وعلى البادي والحاضر، وعلى الأعجمي والعربي، والحر والمملوك، والصغير والكبير.
فقام أحدهم فسأله وقال: يارسول الله ولاؤه كماذا ؟
فقال صلى الله عليه وآله: ولاؤه كولائي، من كنت أولى به من نفسه فعليٌّ أولي به من نفسه!
وأفاض النبي صلى الله عليه وآله في بيان مكانة علي والعترة الطاهرة والأئمة الإثني عشر من بعده: علي والحسن والحسين، وتسعة من ذرية الحسين، واحدٌ بعد واحد، مع القرآن والقرآن معهم، لا يفارقونه ولا يفارقهم، حتى يردوا عليَّ حوضي
ثم أشهد المسلمين مراتٍ أنه قد بلغ عن ربه.. فشهدوا له..
وأمرهم أن يبلغ الشاهد الغائب.. فوعدوه وقالوا: نعم..
وقام اليه آخرون فسألوه... فأجابهم..
ونزل عن المنبر، وأمر أن تنصب لعلي خيمة، وأن يهنئه المسلمون بولايته عليهم.. حتى أنه أمر نساءه بتهنئته، فجئن الى باب خيمته وهنأنه!
وكان من أوائل المهنئين عمر بن الخطاب فقال له: بخٍ بخٍ لك يابن أبي طالب، أصبحت مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنة!
وجاء حسان بن ثابت، وقال: إئذن لي يارسول الله أن أقول في علي أبياتاً تسمعهن، فقال: قل على بركة الله، فأنشد حسان:
يـناديهمُ يوم الغـدير نبيُّهُمْ | بخمٍّ فأسمع بالرسول مناديءا |
بقول فمن مـولاكمُ ووليُّكُمْ | فقالوا ولم يبدوا هناك التعاميا |
إلَهـك مـولانا وأنت ولينا | ولم ترَ منا في الولاية عاصيا |
فقال لـه قم يا عليُّ فإنني | رضيتك من بعدي إماماً وهاديا |
فمن كنت مولاه فهذا وليه | فكونوا له أنصار صدق مواليا |
هناك دعا اللهم وال وليـه | وكن للذي عادى علياً معاديا |
وقد روت مصادر السنة حديث الغدير قريباً مما في مصادرنا، وتجد ذلك في كتاب الغدير للأميني.
ونكتفي هنا بنقل رواية مسلم في صحيحه: 7|122 قال:
عن يزيد ابن حيان قال: انطلقت أنا وحصين بن سبرة وعمر بن مسلم، الى زيد بن أرقم، فلما جلسنا اليه قال له حصين:
حدثنا يا زيد ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال: يا ابن أخي، والله لقد كبرت سني وقدم عهدي، ونسيت بعض الذي كنت أعي من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما حدثتكم فاقبلوا، وما لا، فلا تكلفونيه.
ثم قال: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً فينا خطيباً، بماء يدعى خمّاً بين مكة والمدينة، فحمد الله وأثنى عليه، ووعظ وذكر، ثم قال:
أما بعد، ألا أيها الناس، فإنما أنا بشرٌ يوشك أن يأتي رسول ربي فأجيب، وأنا تارك فيكم ثقلين:
أولهما كتاب الله، فيه الهدى والنور، فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به، فحث على كتاب الله ورغب فيه، ثم قال:
وأهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي.
فقال له حصين: ومن أهل بيته يا زيد ؟ أليس نساؤه من أهل بيته ؟
قال: نساؤه من أهل بيته، ولكن أهل بيته من حرم الصدقة بعده.
قال: ومن هم ؟
قال: هم آل علي، وآل عقيل، وآل جعفر، وآل عباس.
قال: كل هؤلاء حرم الصدقة
قال: نعم. انتهى. ورواه أحمد في مسنده: 2|366، وغيره.. وغيره.
ـ وقال الحاكم في المستدرك 3|148
عن زيد بن أرقم رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله: إني تارك فيكم الثقلين، كتاب الله وأهل بيتي، وإنهما لن يتفرقا حتى يردا عليَّ الحوض.
هذا حديث صحيح الإسناد على شرط الشيخين، ولم يخرجاه. انتهى.
ـ وانظر كيف صوَّر ابن كثير القضية في بدايته: 5|408، قال:
لما تفرغ النبي من بيان المناسك، ورجع الى المدينة خطب خطبة عظيمة الشأن في اليوم الثامن عشر من ذي الحجة بغدير خم، تحت شجرة هناك، فبين فيها أشياء، وذكر في فضل علي بن أبي طالب وأمانته وعدله وقربه إليه، وأزاح به ما كان في نفوس كثير من الناس منه، وقد اعتنى بأمر حديث غدير خم أبو جعفر الطبري، فجمع فيه مجلدين، وأورد فيها طرقه وألفاظه، وكذلك الحافظ الكبير أبو القاسم بن عساكر أورد أحاديث كثيرة في هذه الخطبة. انتهى.
فقد جعل القضية أن كثيراً من المسلمين كانوا غاضبين من علي بن أبي طالب، متحاملين عليه في أنفسهم، فأوقف النبي المسلمين صلى الله عليه وآله في غدير خم، لكي يثبت لهم براءة علي ويرضِّيهم عنه، فذكر فضله وقربه منه (وأزاح به ما كان في نفوس كثير من الناس منه) وبين في خطبته (أشياء) من هذا القبيل! وكان الله يحب المحسنين!
إن هذا الأسلوب إنما يكتب به مؤرخٌ من عشيرة بني عبد الدار، الذين قتل علي منهم بضعة عشر فارساً منهم حملوا لواء قريش في وجه رسول الله صلى الله عليه وآله، ولكن المؤرخ المسلم لا يستطيع أن يكتب به إلا.. إذا كان مبغضاً لعلي بن أبي طالب!
فهل عرفت لماذا يحب (السلفيون) ابن كثير ويهتمون بنشر كتبه ؟!
لماذا الجحفة وغدير خم
والسؤال هنا: لماذا الوحي في طريق المدينة.. والصحراء والظهيرة ؟
والجواب: أن الله تعالى قال بذلك لرسوله: المدينة أيها الرسول مثل مكة، فإن بلغت ولاية عترتك فيها، فقد تعلن قريش معارضتها ثم ردتها! فموقفها من عترتك جازم، ومستميت.. وبما أن واجبك التبليغ مجرد التبليغ، وإنما بعثت للتبليغ، فهو ممكنٌ هنا.. والزمان والمكان هنا مناسبان من جهات شتى، فبلغ ولا تؤخر.
والسؤال هنا: كيف تمت عصمة الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وآله من قريش، فلم يحدث تشويش، ولم يقم معترض.. ! صحيح أن ثقل زعماء قريش كانوا في مكة، لكن بعضهم كان في قافلة الرسول صلى الله عليه وآله، وكان فيها قرشيون مهاجرون مؤيدون لهم !فكيف سكتت قريش وضبطت أعصابها، وهي تسمع تبليغ الرسول في علي والعترة ؟! ثم أشهدها النبي صلى الله عليه وآله على تبليغ ذلك.. فشهدت.
ثم طلب منها أن تبلغ الغائبين.. فوعدت.
ثم جاءت الى خيمة علي وهنأته بالولاية، وإمرة المؤمنين!!
الجواب: أنه تعالى أراد للرسالة أن تصل، وللحجة أن تقام، وأن يبقى رسوله صلى الله عليه وآله محفوظ الشخصية سالم النبوة.. فأسكت قريشاً بقدرته المطلقة، وكمَّمَ أفواهها في غدير خم.
والظاهر أن قريشاً أخذت تقنع نفسها بأن المسألة في غدير خم، ليست أكثر من إعلانٍ وإعلامٍ يضاف الى إعلانات حجة الوداع.. وأن النبي صلى الله عليه وآله مازال حياً.. فإن مات، فلكل حادثٍ حديث..
وعندما أرادت قريش أن تخرج عن سكوتها، وتخطو خطوةً نحو الردة.. أنزل الله على ناطقها الرسمي النضر بن الحارث حجراً من سجيل فأهلكه، وأرسل على آخر ناراً فأحرقته!! فزاد ذلك من قناعة قريش بالسكوت فعلاً عن ولاية العترة!
أما النبي صلى الله عليه وآله فكان تفكيره رسولياً، وليس قرشياً..
واغرورقت عيناه بدموع الفرح والخشوع، لأن الله رضي عنه بإعلان ولاية علي، وأنزل عليه آية إكمال الدين وإتمام النعمة، فأخبره بأن مهمته وصلت الى ختامها..
كان النبي صلى الله عليه وآله في عيدٍ، لأنه أدى رسالة من أصعب رسالات ربه، فرضي عنه، وقد تكون أصعب رسالةٍ عليه في عمره النبوي على الإطلاق.. وتمت المسألة بسلامٍ ولم تقم قائمة قريش، ولم يصب جابر بن سمرة وغيره بالصمم من لغط الناس عند سماع كلمة عترتي، أو كلمة علي، أو بني هاشم.
ولم تحدث حركة عصيان منظمة، كما حدثت في المدينة عندما طلب النبي صلى الله عليه وآله قبل وفاته بأربعة أيام، أن يأتوه بدواة وقرطاسٍ ليكتب لهم كتاباً لن يضلوا بعده أبداً.. ولم تحدث حركة ردة نهائياً، والحمد لله!
ارتاح ضمير النبي صلى الله عليه وآله بأنه بلغ رسالة ربه كما أمره.. وهذه هي الرسالة التي روى الحسن البصري أن الله أمر رسوله بها فضاق بها صدره، فتوعده ربه بالعذاب إن لم يبلغها، فخاف ربه وصدع بها.. ولكن الحسن البصري كما قال الراوي راوغ فيها وراغ عنها، ولم يخبرهم ما هي! وكل غلمان قريش إخوان الحسن البصري، من الفرس وغيرهم، يراوغون فيها وفي أمثالها، ويخفون ما أنزل الله تعالى في عترة نبيه صلى الله عليه وآله !
كان النبي صلى الله عليه وآله يفكر ربانياً بأعلى مستوى من البيعة.. يفكر على مستوى الأمر الإلَهي والإختيار الإلَهي، الذي لا خيرة فيه لأحد، ولا محل فيه للبيعة، إلا إذا طلبها من الناس النبي أو الوصي، فتجب.
فهذا هو منطق التبليغ، وحسب!
ولذلك لم يشاورهم النبي صلى الله عليه وآله في بيعة علي، لأن اختيار الله تعالى لا يحتاج الى مشورتهم، ولا بيعتهم، ولا رضاهم..
لقد أمر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وآله أن يشاورهم ليتألفهم، ويسيروا معه في الطريق الصحيح.. أما إذا عزمت فتوكل، ولا تسمع لكلام مخلوق لأنك تسير بهدى الخالق!
لقد طلب منهم الرسول صلى الله عليه وآله تهنئة علي عليه السلام إقراراً بالإختيار الإلَهي، وهي تهنئةٌ أقوى من البيعة، وألزم منها للأعناق.. ثم ليفعلوا بعدها ما يحلو لهم.. فإنما على النبي صلى الله عليه وآله أن يبلغهم، وحسابهم على من يملك كل الأوراق، ويملك الدنيا والآخرة، ويفعل ما يريد.. سبحانه وتعالى!
وتدل رواياتنا على أنه صلى الله عليه وآله طلب منهم مع التهنئة البيعة، فيكون معناها أنه طلب منهم أيضاً إعلان التزامهم بإطاعة علي عليه السلام.. فأعلنوا!
ولكن الأمر من ناحية شرعية وحقوقية، لا يختلف، سواء أمرهم النبي صلى الله عليه وآله ببيعة علي عليه السلام أم أمرهم بتهنئته فقط.. فإن تبليغ الولاية أقوى من التهنئة، والتهنئة أقوى من البيعة.. فالتبليغ اصطفاء، والتهنئة خضوع، والبيعة وعدٌ بالإلتزام.
لقد سكتت قريش آنياً بسبب أنها لم تكن حاضرةً كلها في الجحفة.. وبسبب عنصر المفاجأة، وظرف المكان والزمان.
ولعلها كانت تقنع نفسها بأن منطق التفكير النبوي يبقي لها مساحة للعمل..
ذلك أن التبليغ وإتمام الحجة كلامٌ تركيٌّ عند قريش الناطقة بالضاد!
وحتى البيعة المأمور بها من النبي صلى الله عليه وآله يمكن لقريش أن تجعلها مثل المراسم الدينية الأخرى، وتجردها من معنى إمامة علي وقيادة عترة النبي صلى الله عليه وآله من بعده!
فالباب في تصور قريش مازال مفتوحاً أمامها للتصرف!!
المنطق النبوي حقق أهدافه وفضح قريشاً
نقلت المصادر السنية ندم الخليفة القرشي أبي بكر على إصداره أمراً بمهاجمة بيت علي وفاطمة عليهما السلام في اليوم الثاني أو الثالث لوفاة النبي صلى الله عليه وآله.