عن عبدالرحمن بن عوف قال: دخلت على أبي بكر أعوده في مرضه الذي توفي فيه، فسلمت عليه وسألته: كيف أصبحت؟
فاستوى جالساً فقال: أصبحت بحمد الله بارئاً، فقال: أما إني على ما ترى وجع وجعلتم لي شغلاً مع وجعي!
جعلت لكم عهداً من بعدي، واخترت لكم خيركم في نفسي، فكلكم ورم لذلك أنفه، رجاء أن يكون الأمر له!
ورأيت الدنيا أقبلت، ولما تقبل، وهي خائنة، وستنجدون بيوتكم بستور الحرير ونضائد الديباج، وتألمون النوم على الصوف الأذربي، كأن أحدكم على حسك السعدان (يقصد أنكم من ترفكم سترون السجاد الأذربيجاني خشناً لمنامكم مثل الشوك).
والله لأن يقدم أحدكم فيضرب عنقه في غير حد، خير له من أن يسبح في غمرة الدنيا.
ثم قال: أما إني لا آسى على شيء إلا على ثلاث فعلتهن وددت أني لم أفعلهن، وثلاث لم أفعلهن وددت أني فعلتهن، وثلاث وددت أني سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهن.
فأما الثلاث التي وددت أني لم أفعلهن: فوددت أني لم أكن كشفت بيت فاطمة وتركته، وإن أغلق على الحرب.
ووددت أني يوم سقيفة بني ساعدة، قذفت الأمر في عنق أحد الرجلين، أبي عبيدة أو عمر، وكان أمير المؤمنين وكنت وزيراً.
ووددت أني حين وجهت خالد بن الوليد الى أهل الردة، أقمت بذي القصة، فإن ظفر المسلمون ظفروا، وإلا كنت ردءاً ومدداً.
وأما الثلاث اللاتي وددت أني فعلتها: فوددت أني يوم أتيت بالأشعث أسيراً ضربت عنقه، فإنه يخيل إلي أنه لا يكون شرٌّ إلا طار إليه.
ووددت أني حين وجهت خالد بن الوليد الى الشام، وجهت عمر الى العراق فأكون قد بسطت يميني وشمالي في سبيل الله عز وجل.
وأما الثلاث اللاتي وددت أني سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهن:
فوددت أني سألته فيمن هذا الأمر فلا ينازع أهله.
ووددت أني كنت سألته هل للأنصار في هذا الأمر سبب؟
ووددت أني سألته عن العمة وبنت الأخ، فإن في نفسي منهما حاجة. انتهى.
وغرضنا من النص بيان حالة الخليفة وأنه يقصد بقوله (وددت أني لم أكن كشفت بيت فاطمة وتركته وإن أغلق على الحرب) أنه نادمٌ على مهاجمة البيت، حتى لو كان أهله يعدون العدة لحربه!
وخلاصة القصة: أن أبا بكر أرسل الى علي عليه السلام يطلب منه أن يبايعه، فامتنع علي عن بيعته، وأجابهم جواباً شديداً، اتهمهم فيه.
وبلغ أبا بكر أن عدداً من الأنصار والمهاجرين اجتمعوا في بيت علي الذي كان يعرف ببيت فاطمة عليهما السلام، فأشار عليه عمر بأن يهاجموا البيت ويهددوهم بإحراقه عليهم، إن لم يخرجوا ويبايعوا!
وبالفعل هاجمت مجموعة بقيادة عمر بن الخطاب بيت الزهراء عليها السلام وحاصروه وجمَّعوا الحطب على باب داره، وهددوا علياً وفاطمة عليهما السلام والذين كانوا في البيت ـ ومنهم مؤيدون لموقف علي، ومنهم جاؤوا معزين بوفاة النبي صلى الله عليه وآله ـ هددوهم بأنهم إما أن يخرجوا ويبايعوا أبا بكر، أو يحرقوا عليهم الدار بمن فيه!
وبالفعل أشعلوا الحطب في باب الدار الخارجي !!
ولم يشأ علي عليه السلام أن يخرج اليهم بذي الفقار عملاً بوصية النبي صلى الله عليه وآله، حيث كان أخبره بكل ما سيحدث، وأمره فيه بأوامره.. فخرجت اليهم فاطمة الزهراء عليها السلام
في ذلك الظرف، قرر علي وفاطمة عليهما السلام أن يستنهضا الأنصار ويطالباهم بالوفاء ببيعة العقبة، التي شرط عليهم النبي صلى الله عليه وآله فيها أن يحموه وأهل بيته وذريته، مما يحمون منه أنفسهم وذراريهم، فبايعوه على ذلك!
وكانت فاطمة عليها السلام مريضة مما حدث لها في الهجوم على بيتها، فأركبها علي عليه السلام على دابة، وأخذا معهما أولادهما الحسن والحسين وزينب وأم كلثوم، وجالوا على بيوت رؤساء الأنصار في تلك الليلة والتي بعدها، وكلمتهم فاطمة عليها السلام فكان قول أكثرهم: يا بنت رسول الله، لو سمعنا هذا الكلام منك قبل بيعتنا لأبي بكر، ما عدلنا بعلي أحداً! فقالت الزهراء عليها السلام:
وهل ترك أبي يوم غدير خمٍّ لأحدٍ عذراً !! (الخصال|173)
إن منطق الزهراء عليها السلام هو منطق أبيها رسول الله صلى الله عليه وآله تماماً.. فهي بضعةٌ منه، وهي مطهرةٌ من منطق المثَّاقلين الى الأرض وتفكيرهم.. وكل تكوينها وتفكيرها ومشاعرها وتصرفاتها ربانية، ولذلك قال عنها أبوها (إن الله يرضى لرضا فاطمة، ويغضب لغضبها!) ذلك أنها ليس لها شخصيتان: واحدةٌ رسالية والأخرى شخصية، فتغلبُ هذه مرةً وهذه مرة، بل وجودها موحدٌ منسجمٌ دائماً.. فهي أَمَةُ هذا الرب العظيم لا غير، وتابعةُ هذا الرسول والأب الحبيب لا غير.. صلى الله عليه وآله.
وفاطمة الزهراء تعرف أنه سبحانه يتعامل مع الناس بإقامة الحجة عليهم في أصول الإسلام وتفاصيله، في أسس العقيدة وجزئيات الشريعة، وفيما يجب على الأمة في حياة نبيها، وبعد وفاته..
وقد أقام أبوها الحجة لربه كاملةً غير منقوصة، في جميع الأمور، ومن أعظمها حق زوجها علي، وولديها الحسن والحسين عليهم السلام الذين أعطاهم الله حق الولاية على الأمة بعد أبيها!
فالحجة عليكم تامةٌ من أبي، والآن مني، ونعم الموعدُ القيامة، والزعيمُ محمد صلى الله عليه وآله وعند الساعة يخسر المبطلون!
الفصـل الرابـع
آيـة إكمـال الديـن
ليس من المبالغة القول: إن البحث الجاد في أسباب نزول آيات القرآن وسوره، من شأنه أن يحدث تحولاً علمياً، لأنه سيكشف العديد من الحقائق، ويبطل بعض المسلمات التي تصور الناس لقرون طويلة أنها حقائق ثابتة!
ذلك أن الجانب الرياضي في أسباب النزول أقوى منه في موضوعات التفسير الأخرى..
فعندما تجد خمس روايات في سبب نزول آية، وكل واحدة منها تذكر سبباً وتاريخاً لنزولها، وهي متناقضة في المكان أو الزمان أو الحادثة.. فلا يمكنك أن تقول كلها مقبولة وكل رواتها صحابة، وكلهم نجوم بأيهم اقتدينا اهتدينا..
بل لابد أن يكون السبب وأحداً من هذه الأسباب، أو من غيرها، والباقي غير صحيح!
ولهذه الطبيعة المحددة في سبب النزول، كانت مادة أسباب النزول مادة حاسمةً في تفسير القرآن.. وإن كانت صعوبة البحث فيها تعادل غناها، بل قد تزيد عليه أحياناً، لكثرة التشويش والتناقض والوضع في رواياتها!
وأكتفي من هذا الموضوع بهذه الإشارة لنستفيد في موضوعنا من أسباب النزول.
ليس من العجيب أن يختلف المسلمون في أول آيات نزلت على النبي صلى الله عليه وآله، لأنهم لم يكونوا مسلمين آنذاك.. ثم إنهم باستثناء القلة، لم يكتبوا ما سمعوه من نبيهم في حياته، فاختلفوا بعده في أحاديثه وسيرته.
ولهذا لا نعجب إذا وجدنا أربعة أقوال في تعيين أول ما أنزله الله تعالى من كتابه: أنه سورة إقرأ. وأنه سورة المدثر. وأنه سورة الفاتحة. وأنه البسملة.. كما في الإتقان للسيوطي: 1|91
ولكن العجيب اختلافهم في آخر ما نزل من القرآن، وقد كانوا دولةً وأمةً ملتفَّةً حول نبيها، وقد أعلن لهم نبيهم صلى الله عليه وآله أنه راحلٌ عنهم عن قريب، وحج معهم حجة الوداع، ومرض قبل وفاته مدةً، وودعوه وودعهم !!
فلماذا اختلفوا في آخر آيةٍ أو سورةٍ نزلت عليه صلى الله عليه وآله ؟ !!
الجواب: أن الأغراض الشخصية والسياسية لم تدخل في مسألة أول مانزل من القرآن كما دخلت في مسألة آخر ما نزل منه.. كما سترى !!
سورة المائدة آخر ما نزل من القرآن
يصل الباحث في مصادر الحديث والفقه والتفسير الى أن سورة المائدة آخر سورة نزلت من القرآن.. وأن آية (اليوم أكملت لكم دينكم) نزلت بعد إكمال نزول جميع الفرائض.. وأن بعض الصحابة حاولوا أن يجعلوا بدل المائدة سوراً أخرى، وبدل آية إكمال الدين، آيات أخرى!
ـ قال العياشي في تفسيره: 1|288
عن عيسى بن عبد الله، عن أبيه، عن جده، عن علي عليه السلام قال: كان القرآن ينسخ بعضه بعضاً، وإنما كان يؤخذ من أمر رسول الله صلى الله عليه وآله بآخره، فكان من آخر ما نزل عليه سورة المائدة، فنسخت ما قبلها ولم ينسخها شيء. لقد نزلت عليه وهو على بغلته الشهباء، وثقل عليه الوحي، حتى وقفت وتدلى بطنها، حتى رأيت سرتها تكاد تمس الأرض، وأغمي على رسول الله صلى الله عليه وآله حتى وضع يده على ذؤابة شيبة بن وهب الجمحي، ثم رفع ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وآله، فقرأ علينا سورة المائدة، فعمل رسول الله صلى الله عليه وآله وعملنا. انتهى.
ويقصد علي عليه السلام بذلك: أن المسح على القدمين في الوضوء هو الواجب، وليس غسلهما، لأن المسح نزل في سورة المائدة، وعمل به النبي صلى الله عليه وآله والمسلمون ولم ينسخ. ورواه في تفسير نور الثقلين: 1|582 و: 5|447
ـ وفي الكافي: 1|289
علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن عمر بن أذينة، عن زرارة والفضيل بن يسار وبكير بن أعين ومحمد بن مسلم وبريد بن معاوية وأبي الجارود، جميعاً عن أبي جعفر عليه السلام قال: أمر الله عز وجل رسوله بولاية علي وأنزل عليه: إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة، وفرض ولاية أولي الأمر، فلم يدروا ما هي؟ فأمر الله محمداً صلى الله عليه وآله أن يفسر لهم الولاية، كما فسر لهم الصلاة والزكاة والصوم والحج، فلما أتاه ذلك من الله ضاق بذلك صدر رسول الله صلى الله عليه وآله وتخوف أن يرتدوا عن دينهم، وأن يكذبوه، فضاق صدره وراجع ربه عز وجل فأوحى الله عز وجل إليه: يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته، والله يعصمك من الناس، فصدع بأمر الله تعالى ذكره، فقام بولاية علي عليه السلام يوم غدير خم، فنادى الصلاة جامعة، وأمر الناس أن يبلغ الشاهد الغائب ـ
ـ وفي تاريخ اليعقوبي: 2|43
وقد قيل إن آخر ما نزل عليه: اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا، وهي الرواية الصحيحة، الثابتة الصريحة.
مصادر السنيين الموافقة لرأي أهل البيت عليهم السلام
ـ الدر المنثور: 2|252
وأخرج سعيد بن منصور، وابن المنذر، عن أبي ميسرة قال: آخر سورة أنزلت سورة المائدة، وإن فيها لسبع عشرة فريضة.
ـ المحلى: 9|407
روينا من طريق عائشة أم المؤمنين رضي الله عنهما أن سورة المائدة آخر سورة نزلت، فما وجدتم فيها حلالاً فحللوه، وما وجدتم فيها حراماً فحرموه. وهذه الآية في المائدة فبطل أنها منسوخة، وصح أنها محكمة.
ـ المحلى: 7|389
فإن هذا قد عارضه ما رويناه عنها من طريق ابن وهب، عن معاوية بن صالح، عن جري بن كليب، عن جبير بن نفير قال: قالت لي عائشة أم المؤمنين: هل تقرأ سورة المائدة؟ قلت: نعم؟ قالت: أما إنها آخر سورة نزلت، فما وجدتم فيها حراماً فحرموه. انتهى. ورواه أحمد في مسنده: 6|188، ورواه البيهقي في سننه: 7|172 عن ابن نفير، ونحوه عن عبد الله بن عمرو. ورواه في طبقات الحنابلة: 1|427، ورواه الحاكم: 2| 311 وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه.
ـ وفي مجمع الزوائد: 1|256
وعن ابن عباس أنه قال: ذكر المسح على الخفين، وعند عمر سعدٌ وعبد الله بن عمر، فقال عمر: سعد أفقه منك، فقال عبد الله بن عباس: ياسعد إنا لا ننكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مسح، ولكن هل مسح منذ نزلت المائدة، فإنها أحكمت كل شيء، وكانت آخر سورة نزلت من القرآن، ألا تراه قال...
فلم يتكلم أحد.
رواه الطبراني في الأوسط، وروى ابن ماجة طرفاً منه، وفيه عبيد بن عبيدة التمار وقد ذكره ابن حبان في الثقات، وقال: يُغرب. انتهى.
يقصد الهيثمي أن الرواية ضعيفةٌ بهذا الراوي، الذي هو ثقة عند ابن حبان، ولكنه يروي روايات غريبة، أي مخالفة لمقررات المذهب الرسمي الذي يقول إن الواجب هو غسل الرجلين في الوضوء، ويقول إن المائدة ليست آخر سورة نزلت!
ـ وفي الدر المنثور: 2|252
وأخرج أبو عبيد عن ضمرة بن حبيب وعطية بن قيس قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: المائدة (من) آخر القرآن تنزيلاً، فأحلوا حلالها وحرموا حرامها. انتهى.
ويشك الإنسان في كلمة (من) التي تفردت بها هذه الرواية، وكأن راويها أضافها للمصالحة بين الواقع وبين ما تبنته السلطة، وجعلته مشهوراً.
ـ وفي تفسير التبيان: 3|413
وقال عبد الله بن عمر: آخر سورة نزلت المائدة.
ونقل ابن كثير من طريق أحمد والحاكم والنسائي عن عايشة: أن المائدة آخر سورة نزلت. انتهى.
ويتضح من مجموع ذلك أن المتسالم عليه عند عند أهل البيت عليهم السلام أن آخر ما نزل من القرآن سورة المائدة.. وأنه مؤيدٌ برواياتٍ صحيحة وكثيرة، في مصادر إخواننا.. بل يمكن القول بأن آية (اليوم أكملت لكم دينكم) وحدها تكفي دليلاً على أنها آخر نزلت في آخر ما نزل من كتاب الله تعالى، لأنها تنص على أن نزول الفرائض قد تمت بها، فلا يصح القول بأنه نزل بعدها فريضة، على أنه وردت نصوصٌ بذلك كما تقدم عن الإمام الباقر عليه السلام، وكما سيأتي من رواية الطبري والبيهقي وقول السدي. وعليه، فكل ما نزل بعدها من القرآن، لا بد أن يكون خالياً من الفرائض والأحكام، لأن التشريع قد تم بنزولها، فلا حكم بعدها!
ولكن هذا الأمر المحدد الواضح، صار غير واضحٍ ولا محددٍ عندهم !! وكثرت فيه الروايات وتناقضت! وزاد في الطين بلةً أن المتناقض منها صحيحٌ بمقاييسهم! وأنها آراء صحابةٍ كبارٍ لايجرؤون على ردهم!
ولعل السيوطي استحى من كثرة الأقوال في آخر ما نزل من القرآن، فأجملها إجمالاً، ولم يعددها أولاً وثانياً كما عدد الأقوال الأربعة في أول مانزل !!
ونحن نعدها باختصار، لنرى أسباب نشأتها!
1 ـ أن آخر آية هي آية الربا، وهي الآية 278 من سورة البقرة.
2 ـ أن آخر آية هي آية الكلالة، أي الورثة من الأقرباء غير المباشرين، وهي الآية 176 من سورة النساء.
3 ـ أن آخر آية هي آية (واتقوا يوماً ترجعون فيه الى الله..) البقرة ـ 281.
5 ـ أن آخر آية هي آية (وما أرسلنا من قبلك من رسول...) الأنبياء ـ 25.
6 ـ أن آخر آية هي آية (فمن كان يرجو لقاء ربه...) الكهف ـ 110.
7 ـ أن آخر آية هي آية (ومن يقتل مؤمنا متعمداً...) النساء ـ 93.
8 ـ أن آخر سورة نزلت هي سورة التوبة.
9 ـ أن آخر سورة نزلت هي سورة النصر.
هذا ما جاء فقط في إتقان السيوطي 1|101، وقد تبلغ أقوالهم ورواياتهم ضعف هذا العدد، لمن يتتبع المصادر !!
كيف نشأت هذه الآراء المتناقضة
القصة التالية:
تعطينا ضوءً على نشأة هذا الإضطراب والضياع:
سئل الخليفة عمر ذات يوم عن تفسير آية الربا وأحكام الربا، فلم يعرفها فقال: أنا متأسف، لأن هذه الآية آخر آية نزلت، وقد توفي النبي ولم يفسرها لي!
ومن يومها دخلت آيات الربا على الخط، وشوشت على سورة المائدة، وصار ختام ما نزل من القرآن مردداً بين المائدة، وبين آيات الربا!
ولكن الربا ذكر في أربع سور من القرآن: في الآيتين 275 ـ 276 من سورة البقرة والآية 161 من سورة النساء، والآية 39 من الروم، والآية 130 من آل عمران... وبعض هذه السور مكي وبعضها مدني! فأي آيةٍ منها قصد الخليفة ؟!
وتبرع المبررون للخليفة وقالوا إن مقصوده الآية 278 من سورة البقرة! فصار مذهبهم أن آخر آية نزلت من القرآن وضعت في سورة البقرة، التي نزلت في أول الهجرة! وصار مذهبهم أن تحريم الربا تشريعٌ إضافي، لأنه نزل بعد آية إكمال الدين! ولعلهم يتصورون أنه لا بأس بهذه المفارقة في نزول القرآن والوحي، مادام هدفهم هدفا شرعياً صحيحاً هو الدفاع عن خليفة رسول الله صلى الله عليه وآله !
عن سعيد بن المسيب قال: قال عمر رضي الله عنه: إن آخر ما نزل من القرآن آية الربا، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قبض ولم يفسرها، فدعوا الربا والريبة !! ورواه في كنز العمال: 4|186 عن (ش وابن راهويه حم هـ وابن الضريس وابن جرير وابن المنذر وابن مردوية ق في الدلائل).
ـ وقال السرخسي في المبسوط: 2|51 و 12|114:
فقد قال عمر رضي الله عنه: إن آية الربا آخر ما نزل، وقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يبين لنا شأنها!
ـ وقال السيوطي في الإتقان: 1|101
وأخرج البخاري عن ابن عباس قال: آخر آية نزلت آية الربا. وروى البيهقي عن عمر مثله... وعند أحمد وابن ماجه عن عمر: من آخر مانزل آية الربا. انتهى.
ولكن إضافة (من) في هذه الرواية لا تحل المشكلة، كما لم تحلها في سورة المائدة، لأن الروايات الأخرى ليس فيها (من) وهي نص على أن آية الربا آخر مانزل!
قصة ثانية!
وذات يومٍ بل ذات أيام.. لم يعرف الخليفة عمر معنى الكلالة، وتحير فيها، واستعصى عليه فهمها، الى آخر عمره! فقال وقالوا عنه: إنها آخر آية نزلت، وتوفي النبي قبل أن يبينها له، أو بينها له بياناً ناقصاً!
ـ ففي البخارى: 5|115
عن البراء رضي الله عنه قال: آخر سورة نزلت كاملة براءة، وآخر آية نزلت خاتمة سورة النساء: يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة... ونحوه في: 5|185
ـ وقال السيوطي في الإتقان: 1|101
فروى الشيخان عن البراء بن عازب قال آخر آية نزلت: يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة، وآخر سورة نزلت براءة.
عن البراء قال: آخر سورة نزلت على النبى صلى الله عليه وسلم كاملة براءة، وآخر آية نزلت خاتمة سورة النساء: يستفتونك... الى آخر السورة.... الى آخره!
ومن يومها دخلت آية الكلالة على الخط، وشاركت في التشويش على سورة المائدة! وصار ختام ما نزل من القرآن مردداً بين آيات الربا والكلالة، وبقية المائدة بما فيها آيتا العصمة من الناس، وإكمال الدين!
وقد راجعت ما تيسر لي من مصادر إخواننا في مسألة الربا والكلالة، فهالتني مشكلة الخليفة معهما، خاصةً مسألة الكلالة، حتى أنه جعلها من القضايا الهامة على مستوى قضايا الأمة الإسلامية الكبرى، وكان يطرحها من على منبر النبي صلى الله عليه وآله واستمر يطرحها كمشكلة كبرى، حتى ساعات حياته الأخيرة، وأوصى المسلمين بحلها! الأمر الذي يدل على شعوره العميق بالحرج أمام المسلمين، لعدم تمكنه من استيعابها !! ففي صحيح البخاري: 6|242
عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: خطب عمر على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إنه قد نزل تحريم الخمر، وهي من خمسة أشياء: العنب والتمر والحنطة والشعير والعسل. والخمر ما خامر العقل. وثلاث وددت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يفارقنا حتى يعهد إلينا عهداً: الجد، والكلالة، وأبواب من أبواب الربا. انتهى. ورواه مسلم في: 2|81، بتفصيل أكثر، وروى نحوه في: 5|61 و8| 245، ورواه ابن ماجة في: 2|910، وقال عنه السيوطي في الدر المنثور: 2|249: وأخرج عبد الرزاق والبخاري ومسلم وابن جرير وابن المنذر عن عمر...
ويدل هذا الصحيح المؤكد، على أن عمر لم يسأل النبي صلى الله عليه وآله عن الكلالة.
وقد صرح بذلك صحيح الحاكم الذي رواه في المستدرك: 2|303، فقال:
محمد بن طلحة بن يزيد بن ركانة يحدث عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: أكون سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ثلاثٍ أحب إلي من حمر النعم: عن
ولكن في صحيح مسلم أن عمر سأل النبي صلى الله عليه وآله عنها مرراً !!
ـ قال مسلم في: 5|61: عن معدان بن أبي طلحة أن عمر بن الخطاب خطب يوم جمعة فذكر نبي الله صلى الله عليه وسلم، وذكر أبا بكر ثم قال: إني لا أدع بعدي شيئاً أهم عندي من الكلالة! ما راجعت رسول الله صلى الله عليه وسلم في شيء ما راجعته في الكلالة! وما أغلظ لي في شيء ما أغلظ لي فيه، حتى طعن بإصبعه في صدري وقال: يا عمر ألا تكفيك آية الصيف التي في آخر سورة النساء ؟! وإني إن أعش أقض فيها بقضية يقضي بها من يقرأ القرآن ومن لا يقرأ القرآن. انتهى.
يعني أنه سأل النبي صلى الله عليه وآله عنها مراراً فوضحها له مراراً، ولكنه كرر سؤاله حتى غضب عليه النبي صلى الله عليه وآله لعدم فهمه لشرحه إياها!
بل يدل الصحيحان التاليان على أن النبي صلى الله عليه وآله أخبر عمر أنه سوف لن يفهم الكلالة طول عمره، أو دعا عليه بذلك!
ـ ففي الدر المنثور: 2|250
وأخرج العدني والبزار في مسنديهما، وأبو الشيخ في الفرائض، بسند صحيح عن حذيفة قال: نزلت آية الكلالة على النبي صلى الله عليه وسلم في مسيرٍ له، فوقف النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا هو بحذيفة فلقاها إياه، فنظر حذيفة فإذا عمر فلقاها إياه. فلما كان في خلافة عمر، نظر عمر في الكلالة فدعا حذيفة فسأله عنها، فقال حذيفة: لقد لقانيها رسول الله صلى الله عليه وسلم فلقيتك كما لقاني، والله لا أزيدك على ذلك شيئاً أبداً. انتهى.
ـ وفي كنز العمال: 11|80 حديث 30688 عن سعيد بن المسيب أن عمر سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: كيف يورث الكلالة؟ قال: أو ليس قد بين الله ذلك، ثم قرأ: وإن كان رجل يورث كلالة أو امرأة...الى آخر الآية، فكأن عمر لم يفهم!
فكان يقول: ما أراني أعلمها أبداً وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال !! وذكر في مصدره أن ابن راهويه أو ابن مردوية صححه.
ـ بل روى السيوطي في الدر المنثور: 2|249 أن النبي صلى الله عليه وآله قد كتبها لعمر في كتف! قال: وأخرج عبد الرزاق وسعيد بن منصور وابن مردوية عن طاوس، أن عمر أمر حفصة أن تسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الكلالة، فسألته فأملاها عليها في كتف، وقال: من أمرك بهذا أعمر؟ ما أراه يقيمها، أو ما تكفيه آية الصيف؟ !!
قال سفيان: وآية الصيف التي في النساء: وإن كان رجلٌ يورث كلالةً أو امرأةٌ... فلما سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، نزلت الآية التي في خاتمة النساء. انتهى.
فانظر الى هذه التناقضات في أحاديث عمر والكلالة، وكلها صحيحة!
ولاحظ أن الكلالة هي إحدى المسائل الثلاث التي قال البخاري إن النبي صلى الله عليه وآله لم يبينها للأمة، ولا سأل عمر النبي عنها.. مع أن روايتهم الصحيحة تقول إن النبي صلى الله عليه وآله قد كتب الكلالة لعمر في كتف!
وأما المسألة الثانية التي هي الخلافة، فقد روى البخاري نفسه أيضاً أن النبي صلى الله عليه وآله دعا بدواة وكتف ليكتب للأمة الإسلامية كتاباً لا تضل بعده أبداً، ولكن عمر أبى ذلك..
وأما المسألة الثالثة، وهي أبواب الربا، فيستحيل أن لا يكون النبي صلى الله عليه وآله قد بينها وشرحها للمسلمين أيضاً، وقد يكون كتبها لعمر أو غيره في كتف أيضاً !!
دلالة هاتين القصتين
تدل هاتان القصتان على أن صحاح إخواننا فيها متناقضاتٌ لا يمكن لباحثٍ أن يقبلها جميعاً، بل لا بد له أن يرجح بعضها ويرد بعضها.
وكيف يقبل أن الكلالة آخر آية، وآيات الربا آخر آيات.. الى آخر التناقضات التي ذكرناها، وأكثر منها فيما لم نذكره!
وتدل القصتان على أن سلطة الخليفة عمر على السنيين بلغت حداً تستطيع معه أن تجعل ادعاءه غير المعقول معقولاً! وأن المهم عندهم تكييف تفسير القرآن، وأحداث نزول آياته، وأسبابها، وفق ما قاله الخليفة، حتى لو تناقضت أقواله، وحتى لو لزم من ذلك إثارة شبهة التناقض في دين الله تعالى، وفي أفعاله تعالى!
وإذا اعترض أحدٌ على ذلك فهو رافضي، عدوٌّ للإسلام ورسوله وصحابته!.
وتدل القصتان في موضوعنا على أن آيات الربا وإرث الكلالة، وربما غيرهما، حسب رأي الخليفة قد نزلت بعد آية إكمال الدين، ومعنى ذلك أن الله تعالى قال للمسلمين: اليوم أكملت لكم دينكم، ولكنه لم يكن أكمل أحكام الإرث والربا وأحكام القتل !!
إن من يحترم نفسه لا يمكنه أن يقبل منطقاً يجادل عن إنسان غير معصوم ليبرئه من التناقض، حتى لو استلزم ذلك نسبة التناقض الى الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وآله!
بقية الأقوال:
لا نطيل في ذكر بقية الأقوال، وأحاديثها الصحيحة عندهم، بل نجملها إجمالاً:
ـ ففي صحيح البخارى: 5|182
قال سمعت سعيد بن جبير قال: آية اختلف فيها أهل الكوفة، فرحلت فيها الى ابن عباس فسألته عنها فقال: نزلت هذه الآية: ومن يقتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنم (النساء ـ 93) هي آخر ما نزل، وما نسخها شيء.
عن سعيد بن جبير قال: اختلف أهل الكوفة في قتل المؤمن، فرحلت فيه الى ابن عباس فقال: نزلت في آخر ما نزل، ولم ينخسها شيء.
ـ وفي الدر المنثور: 2|196
وأخرج عبد بن حميد والبخاري ومسلم وأبو داود والنسائي وابن جرير والطبراني من طريق سعيد بن جبير قال: اختلف أهل الكوفة في قتل المؤمن، فرحلت فيها.... هي آخر ما نزل وما نسخها شيء.
وأخرج أحمد، وسعيد بن منصور، والنسائي، وابن ماجة، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والنحاس في ناسخه، والطبراني من طريق سالم بن أبى الجعد، عن ابن عباس... قال: لقد نزلت في آخر ما نزل ما نسخها شيء حتى قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما نزل وحي بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال: أرأيت إن تاب وآمن وعمل صالحاً ثم اهتدى؟
قال: وأنى له بالتوبة ؟!.
ـ وفي مجموع النووي: 18|345
قوله تعالى: ومن يقتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جنهم خالداً فيها.. الآية.
في صحيح البخارى... هي آخر ما نزل وما نسخها شيء. وكذا رواه مسلم والنسائي من طرق عن شعبة به. ورواه أبو داود عن أحمد بن حنبل بسنده عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس في الآية فقال: ما نسخها شيء. انتهى.
فهل يمكن لمسلم أن يقبل هذه الروايات (الصحيحة) من البخاري أو غيره، ومن ابن عباس أو غيره، ويلتزم بأن تحريم قتل المؤمن تشريع إضافي في الإِسلام، نزل بعد آية إكمال الدين!
عن يوسف بن مهران، عن ابن عباس رضي الله عنهما عن أبي بن كعب رضي الله عنه قال: آخر ما نزل من القرآن: لقد جاءكم رسول من أنفسكم، عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤف رحيم. حديث شعبة عن يونس بن عبيد صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. انتهى. وهذه الرواية (الصحيحة) على شرط الشيخين تقصد الآيتين 128 ـ 129، من سورة التوبة.
ـ وفي الدر المنثور: 3|295
وأخرج ابن أبي شيبة، واسحق بن راهويه، وابن منيع في مسنده، وابن جرير، وابن المنذر، وأبو الشيخ، وابن مردوية، والبيهقي في الدلائل، من طريق يوسف بن مهران، عن ابن عباس، عن أبي بن كعب قال: آخر آية أنزلت على النبي صلى الله عليه وسلم ـ وفي لفظ أن آخر ما نزل من القرآن ـ لقد جاءكم رسول من أنفسكم الى آخر.. الآية.
* وأخرج ابن الضريس في فضائل القرآن، وابن الأنباري في المصاحف، وابن مروديه، عن الحسن أن أبي بن كعب كان يقول: إن أحدث القرآن عهداً بالله ـ وفي لفظ بالسماء ـ هاتان الآيتان: لقد جاءكم رسول من أنفسكم.. الى آخر السورة.
ـ الدر المنثور: 3|295
واخرج عبد الله بن أحمد بن حنبل في زوائد المسند، وابن الضريس في فضائله، وابن أبي دؤاد في المصاحف: وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، وابن مردوية، والبيهقي في الدلائل، والخطيب في تلخيص المتشابه، والضياء في المختارة، من طريق أبي العالية، عن أبي بن كعب، أنهم جمعوا القرآن في مصحف في خلافة أبي بكر، فكان رجال يكتبون ويمل عليهم أبي بن كعب، حتى انتهوا الى هذه الآية من سورة براءة: ثم انصرفوا صرف الله قلوبهم...قوم لا يفقهون، فظنوا أن هذا آخر ما نزل من القرآن، فقال أبي بن كعب: إن النبى صلى الله عليه وسلم قد أقرأني بعد هذا آيتين: لقد
وأخرج ابن أبي دؤاد في المصاحف عن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب قال: أراد عمر بن الخطاب أن يجمع القرآن فقام في الناس فقال: من كان تلقى من رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً من القرآن فليأتنا به، وكانوا كتبوا ذلك في الصحف والألواح والعسب، وكان لا يقبل من أحد شيئاً حتى يشهد شهيدان، فقتل وهو يجمع ذلك اليه.
فقام عثمان بن عفان فقال: من كان عنده شيء من كتاب الله فليأتنا به، وكان لا يقبل من أحد شيئاً حتى يشهد به شاهدان، فجاء خزيمة بن ثابت فقال: إني رأيتكم تركتم آيتين لم تكتبوهما!
فقالوا: ما هما؟
قال: تلقيت من رسول الله صلى الله عليه وسلم: ولقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم.. الى آخر السورة.
فقال عثمان: وأنا أشهد أنهما من عند الله، فأين ترى أن نجعلهما؟
قال: إختم بهما آخر ما نزل من القرآن، فختمت بهما براءة. انتهى.
وشبيه به في سنن أبي داود: 1|182، وقد بحثنا هذه الروايات في كتاب تدوين القرآن.
عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة قال: قال لي ابن عباس: تعلم ـ وقال هارون تدري ـ آخر سورة نزلت من القرآن نزلت جميعاً؟
وفي رواية ابن أبي شيبة: تعلم أي سورة، ولم يقل آخر.
ـ وفي سنن الترمذي: 4|326
وقد روي عن ابن عباس أنه قال: آخر سورة أنزلت: إذ جاء نصر الله والفتح.
ـ وفي الغدير: 1|228: وروى ابن كثير في تفسيره: 2|2
عن عبد الله بن عمر أن آخر سورة أنزلت سورة المائدة والفتح (يعني النصر).
ـ وفي الدر المنثور: 6|407
وأخرج ابن مردوية والخطيب وابن عساكر عن أبي هريرة في قوله: إذا جاء نصر الله والفتح، قال: علمٌ وحدٌّ حده الله لنبيه صلى الله عليه وسلم، ونعى اليه نفسه، إنك لا تبقى بعد فتح مكة إلا قليلا.
وأخرج ابن أبي شيبة وابن مردوية عن ابن عباس قال: آخر سورة نزلت من القرآن جميعاً: إذا جاء نصر الله والفتح.
عن ابن عباس قال: آخر آية أنزلت: واتقوا يوماً ترجعون فيه الى الله. انتهى. وهي الآية 281 من سورة البقرة!
عمرو بن قيس أنه سمع معاوية بن أبي سفيان على المنبر نزع بهذه الآية: اليوم
وقد التفت السيوطي الى أن كيل التناقض قد طفح لإبعاد آية إكمال الدين عن ختم القرآن، وحجة الوداع، وغدير خم.. فاستشكل في قبول قول معاوية وعمر! ولكنه مرَّ بذلك مروراً سريعاً، على عادتهم في التغطية والتستر والروغان!
قال في الإتقان: 1|102
من المشكل على ما تقدم قوله تعالى: اليوم أكملت لكم دينكم، فإنها نزلت بعرفة في حجة الوداع وظاهرها إكمال جميع الفرائض والأحكام قبلها. وقد صرح بذلك جماعة منهم السدي، فقال: لم ينزل بعدها حلالٌ ولا حرامٌ، مع أنه ورد في آية الربا والدين والكلالة أنها نزلت بعدها!
وقد استشكل ذلك ابن جرير وقال: الأولى أن يتأول على أنه أكمل لهم الدين بإفرادهم بالبلد الحرام، وإجلاء المشركين عنه حتى حجه المسلمون، لا يخالطهم المشركون! انتهى.
ومعنى كلام ابن جرير الطبري الذي ارتضاه السيوطي: أن حل التناقض في كلام الصحابة بأن نقبله ونبعد إكمال الدين وإتمام النعمة عن التشريع وتنزيل الأحكام والفرائض، ونحصره بتحرير مكة فقط، حتى تسلم لنا أحاديث عمر عن الكلالة والربا وحديث معاوية في آخر آية في (تأديب النبي) !!
إنها فتوى تتكرر أمامك من العلماء السنيين بوجوب قبول كلام الصحابة ـ ماعدا أهل بيت النبي صلى الله عليه وآله ـ حتى لو استلزم ذلك تفريغ آيات الله تعالى وأحاديث رسوله من معانيها! فهم عملياً يعطون الصحابة درجة العصمة، بل يعطونهم حق النقض على كلام الله تعالى وكلام رسوله صلى الله عليه وآله، لأنهم يجعلون كلامهم حاكماً عليه!
ثم يفرضون عليك أن تقبل ذلك وتغمض عينيك، وتصمَّ سمعك عن صراخ ضحاياهم من الآيات الظاهرة والأحاديث الصحيحة !!
وأن معنى (اليوم) في الآية ليس يوم نزول الآية، بل قبل سنتين من حجة الوداع!
وسوف تعرف أن الخليفة عمر أقر في جواب اليهودي بأن معنى اليوم في الآية: يوم نزولها، وليس يوم فتح مكة! بل قال القرطبي إن اليوم هنا بمعنى الساعة التي نزلت فيها الآية، كما سيأتي.
نص الآية الكريمة
يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله ولا الشهر الحرام ولا الهدي ولا القلائد ولا آمين البيت الحرام يبتغون فضلاً من ربهم ورضواناً، وإذا حللتم فاصطادوا، ولا يجرمنكم شنآن قوم أن صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا، وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان، واتقوا الله إن الله شديد العقاب.
حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع إلا ما ذكيتم، وما ذبح على النصب وأن تستقسموا بالأزلام، ذلكم فسق، اليوم يئس الذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم واخشون ـ اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا ـ فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن الله غفور رحيم. المائدة 2 ـ 3
آية إكمال الدين واللحوم المحرمة
أول ما يواجه الباحث في آية إكمال الدين غرابة مكانها في القرآن، فظاهر ما رواه المحدثون والمفسرون عنها، أنها نزلت في حجة الوداع آية مستقلة لا جزء آية.. ثم يجدها في القرآن جزءً من آية اللحوم المحرمة، وكأنها حشرت حشراً في وسطها، بحيث لو رفعنا آية إكمال الدين منها لما نقص من معناها شيء، بل لاتصل السياق !!
نحن لا نقبل القول بوقوع تحريف في كتاب الله تعالى، معاذ الله، لكن نتساءل عسى أن يعرف أحد الجواب: ما هو ربط آية إكمال الدين باللحوم المحرمة؟
ألا يحتمل أن تكون بالأساس في خاتمة سورة المائدة مثلاً، ولم يلتفت الى ذلك الذين جمعوا القرآن، فوضعوها هنا.
ثم.. قد يقبل الإنسان أن تكون الآية نزلت بعد آيات بيان أحكام اللحوم، ولكن كيف يمكن أن ينزلها الله تعالى في وسط أحكام اللحوم! فإذا قال الله تعالى: أكملت لكم دينكم، فقد تمت الأحكام، فكيف يقول بعدها مباشرة: فمن اضطر في مخمصةٍ غير متجانفٍ لإثمٍ فإن الله غفور رحيم ؟! ثم يقول بعدها مباشرة: يسألونك ماذا أحل لهم، قل أحل لكم الطيبات وما علمتم... الى آخر أحكام الدين الذي قال عنه أحكم الحكماء سبحانه قبل لحظات: إنه قد أكمله وأتمه؟ !!
ـ قال في الدر المنثور: 2|259:
وأخرج ابن جرير عن السدي في قوله: اليوم أكملت لكم دينكم قال: هذا نزل يوم عرفة، فلم ينزل بعدها حرامٌ ولا حلالٌ. انتهى.
ـ وقال في: 2|257
وأخرج البيهقي في شعب الإيمان عن ابن عباس.... فلما كان واقفاً بعرفات نزل عليه جبريل وهو رافع يده والمسلمون يدعون الله: اليوم أكملت لكم دينكم، يقول حلالكم وحرامكم، فلم ينزل بعد هذا حلالٌ ولا حرامٌ. انتهى.
والأحاديث والأقوال في عدم نزول أحكام بعد الآية كثيرة، وقد مر بعضها، ولا تحتاج الى استقصائها بعد أن كان ذلك يفهم من الآية نفسها.. ويؤيده ماذكره اللغويون في معنى الكمال والتمام
(الكمال: التمام) وهما مترادفان كما وقع في الصحاح وغيره، وقد فرق بينهما بعض أرباب المعاني، وأوضحوا الكلام في قوله تعالى اليوم: أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي، وبسطه في العناية، وأوسع الكلام فيه البهاء السبكي في عروس الأفراح. وقيل: التمام الذي تجزأ منه أجزاؤه كما سيأتي، وفيه ثلاث لغات (كمل كنصر وكرم وعلم) قال الجوهري والكسر أردؤها، وزاد ابن عباد: كمل يكمل مثل ضرب يضرب، نقله الصاغاني (كمالاً وكمولاً فهو كامل وكميل) جاؤوا به على كمل.
وقال في ص 212: (وتمام الشىَ وتمامته وتتمته ما يتم به) وقال الفارسي: تمام الشىَ ماتم به بالفتح لا غير يحكيه عن أبي زيد. وتتمة كل شيء ما يكون تمام غايته، كقولك هذه الدراهم تمام هذه المائة، وتتمة هذه المائة.
قال شيخنا: وقد سبق في كمل أن التمام والكمال مترادفان عند المصنف وغيره، وأن جماعة يفرقون بينهما بما أشرنا اليه. وزعم العيني أن بينهما فرقا ظاهراً ولم يفصح عنه.
وقال جماعة: التمام الإتيان بما نقص من الناقص، والكمال الزيادة على التمام، فلا يفهم السامع عربياً أو غيره من رجل تام الخلق إلا أنه لا نقص في أعضائه، ويفهم من كامل، وخصه بمعنى زائد على التمام كالحسن والفضل الذاتي أو العرضي. فالكمال تمامٌ وزيادة، فهو أخص.
وقد يطلق كل على الآخر تجوزاً، وعليه قوله تعالى: اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي. كذا في كتاب التوكيد لابن أبي الإصبع.
وقيل التمام يستدعي سبق نقص، بخلاف الكمال. وقيل غير ذلك، مما حرره البهاء السبكي في عروس الأفراح، وابن الزملكاني في شرح التبيان، وغير واحد.
وبعد السؤال عن مكان الآية يواجهنا السؤال عن معناها، وسبب نزولها.. وفي ذلك ثلاثة أقوال:
قول أهل البيت عليهم السلام أنها نزلت يوم الخميس الثامن عشر من ذي الحجة في الجحفة، في رجوع النبي صلى الله عليه وآله من حجة الوداع، عندما أمره الله تعالى أن يوقف المسلمين في غدير خم، قبل أن تتشعب بهم الطرق، ويبلغهم ولاية علي عليه السلام من بعده، فأوقفهم وخطب فيهم وبلغهم ما أمره به ربه. وهذه نماذج من أحاديثهم:
فقد تقدم ما رواه الكليني في الكافي: 1|289
عن الإمام محمد الباقر عليه السلام وفيه (وقال أبو جعفر عليه السلام: وكانت الفريضة تنزل بعد الفريضة الأخرى، وكانت الولاية آخر الفرائض، فأنزل الله عز وجل: اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي، قال أبو جعفر عليه السلام: يقول الله عز وجل: لا أنزل عليكم بعد هذه فريضة، قد أكملت لكم الفرائض.
ـ وعن علي بن إبراهيم، عن صالح بن السندي، عن جعفر بن بشير، عن هارون بن خارجة، عن أبي بصير، عن أبي جعفر عليه السلام قال: كنت عنده جالساً فقال له رجل: حدثني عن ولاية علي، أمن الله أو من رسوله؟
فغضب ثم قال: ويحك كان رسول الله صلى الله عليه وآله أخوف (لله) من أن يقول ما لم يأمره به الله !! بل افترضه الله، كما افترض الصلاة والزكاة والصوم والحج. انتهى.
ـ وفي الكافي: 1|198
أبو محمد القاسم بن العلاء رحمه الله رفعه عن عبد العزيز بن مسلم قال: كنا مع الرضا عليه السلام بمرو، فاجتمعنا في الجامع يوم الجمعة في بدء مقدمنا، فأداروا أمر
يا عبد العزيز جهل القوم وخدعوا عن آرائهم، إن الله عز وجل لم يقبض نبيه صلى الله عليه وآله حتى أكمل له الدين، وأنزل عليه القرآن فيه تبيان كل شيء، بين فيه الحلال والحرام والحدود والأحكام، وجميع ما يحتاج إليه الناس كملاً، فقال عز وجل: ما فرطنا في الكتاب من شيء، وأنزل في حجة الوداع وهي آخر عمره صلى الله عليه وآله: اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا.
وأمر الامامة من تمام الدين، ولم يمض صلى الله عليه وآله حتى بين لأمته معالم دينهم، وأوضح لهم سبيلهم، وتركهم على قصد سبيل الحق، وأقام لهم علياً عليه السلام علماً وإماماً، وما ترك شيئاً تحتاج إليه الأمة إلا بينه، فمن زعم أن الله عز وجل لم يكمل دينه فقد رد كتاب الله، ومن رد كتاب الله فهو كافر به.
هل يعرفون قدر الإمامة ومحلها من الأمة، فيجوز فيها اختيارهم ؟!
إن الامامة أجل قدراً، وأعظم شأناً، وأعلى مكاناً، وأمنع جانباً، وأبعد غوراً، من أن يبلغها الناس بعقولهم، أو ينالوها بآرائهم، أويقيموا إماماً باختيارهم.
إن الإمامة خص الله عز وجل بها إبراهيم الخليل عليه السلام بعد النبوة والخلة، مرتبةً ثالثة، وفضيلة شرفه بها، وأشاد بها ذكره فقال: إني جاعلك للناس إماماً، فقال الخليل عليه السلام سروراً بها: ومن ذريتي؟ قال الله تبارك وتعالى: لا ينال عهدي الظالمين. فأبطلت هذه الآية إمامة كل ظالم الى يوم القيامة، وصارت في الصفوة.
ثم أكرمه الله تعالى بأن جعلها في ذريته أهل الصفوة والطهارة، فقال: ووهبنا له إسحاق ويعقوب نافلة وكلاًّ جعلنا صالحين. وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا وأوحينا إليهم فعل الخيرات وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وكانوا لنا عابدين.
فلم تزل في ذريته، يرثها بعض عن بعض، قرناً فقرناً، حتى ورثها الله تعالى
النبي صلى الله عليه وآله فقال جل وتعالى: إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين