فمن أين يختار هؤلاء الجهال!. انتهى.
قول المفسرين السنيين الموافق لقول أهل البيت عليهم السلام:
وأحاديثهم في بيعة الغدير تبلغ المئات، وفيها صحاح من الدرجة الاَولى عندهم وقد جمعها عددٌ من علمائهم القدماء منهم الطبري المؤرخ في كتابه (الولاية) فبلغت طرقها ونصوصها عنده مجلدين، وتنص رواياتها على أن النبي صلى الله عليه وآله أصعد علياً معه على المنبر، ورفع يده حتى بان بياض إبطيهما، وبلغ الاَمة ما أمره الله فيه... الخ. وقد انتقد الطبري بعض المتعصبين السنيين لتأليفه هذه الكتاب في أحاديث الغدير، التي يحتج بها الشيعة عليهم، ويجادلوهم بها عند ربهم!
وتنص بعض روايات الغدير عندهم على أن آية إكمال الدين نزلت في الجحفة يوم الغدير بعد إبلاغ النبي صلى الله عليه وآله ولاية علي عليه السلام.
لكن ينبغي الاِلتفات الى أن أكثر السنيين الذين صحت عندهم روايات الغدير، لم يقبلوا الاَحاديث القائلة بأن آية إكمال الدين نزلت يوم الغدير، بل أخذوا بقول الخليفة عمر ومعاوية، أنها نزلت يوم عرفة، كما سيأتي.
وقد جمع أحاديث بيعة الغدير عدد من علماء الشيعة القدماء والمتأخرين، ومن أشهر المتأخرين النقوي الهندي في كتاب عبقات الاَنوار، والشيخ الاَميني في كتاب الغدير، والسيد المرعشي في كتاب شرح إحقاق الحق، والسيد الميلاني في كتاب نفحات الاَزهار.
ـ وهذه خلاصة ما ذكره في الغدير: 1|230:
ومن الآيات النازلة يوم الغدير في أميرالمؤمنين عليه السلام قوله تعالى: اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الاِسلام دينا.... ثم ذكر الاَميني رحمه الله عدداً من المصادر التي روتها، نذكر منها:
1 ـ الحافظ أبو جعفر محمد بن جرير الطبري المتوفى 310 روى في كتاب الولاية بإسناده عن زيد بن أرقم نزول الآية الكريمة يوم غدير خم في أمير المؤمنين عليه السلام...
2 ـ الحافظ ابن مردوية الاَصفهاني المتوفى 410، روى من طريق أبي هارون العبدي، عن أبي سعيد الخدري... ثم رواه عن أبي هريرة...
3 ـ الحافظ أبو نعيم الاِصبهاني المتوفى 430، روى في كتابه (ما نزل من القرآن في علي)... عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا الناس الى علي في غدير خم، أمر بما تحت الشجرة من الشوك فقمَّ، وذلك يوم الخميس فدعا علياً فأخذ بضبعيه فرفعهما، حتى نظر الناس الى بياض إبطي رسول الله، ثم لم يتفرقوا حتى نزلت هذه الآية: اليوم أكملت لكم دينكم.. الآية.. الخ.
4 ـ الحافظ أبو بكر الخطيب البغدادي المتوفى 463، روى في تاريخه 8|290... عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم... قال: من كنت مولاه فعلي مولاه، فقال عمر بن الخطاب: بخٍ بخٍ يا بن أبي طالب أصبحت مولاي ومولى كل مسلم، فأنزل الله: اليوم أكملت لكم دينكم.. الآية.
5 ـ الحافظ أبو سعيد السجستاني المتوفى 477، في كتاب الولاية بإسناده عن يحيى بن عبد الحميد الحماني الكوفي، عن قيس بن الربيع، عن أبي هارون، عن أبي سعيد الخدري...
6 ـ أبو الحسن ابن المغازلي الشافعي المتوفى 483، روى في مناقبه عن أبي بكر
7 ـ الحافظ أبو القاسم الحاكم الحسكاني.... عن أبي سعيد الخدري: إن رسول الله صلى الله عليه وآله لما نزلت هذه الآية: اليوم أكملت لكم دينكم، قال: الله أكبر على إكمال الدين وإتمام النعمة، ورضى الرب برسالتي، وولاية علي بن أبي طالب من بعدي.
8 ـ الحافظ أبو القاسم بن عساكر الشافعي الدمشقي المتوفى 571، روى الحديث المذكور بطريق ابن مردوية، عن أبي سعيد وأبي هريرة، كما في الدر المنثور 2| 259.
9 ـ أخطب الخطباء الخوارزمي المتوفى 568، قال في المناقب|80.... عن أبي سعيد الخدري إنه قال: إن النبي صلى الله عليه وآله يوم دعا الناس إلي غدير خم أمر بما كان تحت الشجرة من الشوك فقمَّ، وذلك يوم الخميس ثم دعا الناس الى علي، فأخذ بضبعه فرفعها حتى نظر الناس الى إبطيه، حتى نزلت هذه الآية: اليوم أكملت لكم دينكم.. الآية...
وروى في المناقب|94.... عن ضمرة، عن ابن شوذب، عن مطر الوارق. الى آخر ما مر عن الخطيب البغدادي سندآ ومتناً.
10 ـ أبو الفتح النطنزي روى في كتابه الخصايص العلوية، عن أبي سعيد الخدري بلفظ مر|43، وعن الخدري وجابر الاَنصاري...
11 ـ أبو حامد سعد الدين الصالحاني، قال شهاب الدين أحمد في توضيح الدلايل على ترجيح الفضايل: وبالاِسناد المذكور عن مجاهد رضي الله عنه قال: نزلت هذه الآية: اليوم أكملت لكم، بغدير خم، فقال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وبارك وسلم: الله أكبر على إكمال الدين وإتمام النعمة، ورضى الرب برسالتي، والولاية لعلي. رواه الصالحاني.
قول الخليفة عمر بأنها نزلت في حجة الوداع يوم عرفة يوم جمعة، وهذا هو القول المشهور عند السنيين فقد رواه البخارى في صحيحه: 1|16
عن طارق بن شهاب، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن رجلاً من اليهود قال له: يا أمير المؤمنين آية في كتابكم تقرؤونها، لو علينا معشر اليهود نزلت لاتخذنا ذلك اليوم عيدا !! قال أي آية؟ قال: اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الاِسلام دينا. قال عمر: قد عرفنا ذلك اليوم والمكان الذى نزلت فيه على النبي صلى الله عليه وسلم، وهو قائمٌ بعرفة، يوم جمعة.
ـ وفي البخاري 5|127
عن طارق بن شهاب إن أناساً من اليهود قالوا: لو نزلت هذه الآية فينا لاتخذنا ذلك اليوم عيداً، فقال عمر: أية آيةٍ؟
فقالوا: اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الاِسلام دينا.
فقال عمر: إني لا علم أي مكان أنزلت، أنزلت ورسول الله صلى الله عليه وسلم واقف بعرفة...
عن طارق بن شهاب: قالت اليهود لعمر: إنكم تقرؤون آية، لو نزلت فينا لاتخذناها عيداً!
فقال عمر: إني لاَعلم حيث أنزلت وأين أنزلت، وأين رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أنزلت. يوم عرفة وأنا والله بعرفة ـ قال سفيان: وأشك كان يوم الجمعة، أم لا ـ اليوم أكملت لكم دينكم.
عن طارق بن شهاب قال: قال رجل من اليهود لعمر: يا أمير المؤمنين لو أن علينا نزلت هذه الآية: اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الاِسلام دينا.. لاتخذنا ذلك اليوم عيداً!
فقال عمر: إني لاعلم أي يوم نزلت هذه الآية، نزلت يوم عرفة في يوم جمعة. سمع سفيان من مسعر، ومسعر قيساً، وقيس طارقاً. انتهى.
وقد روت عامة مصادر السنيين رواية البخاري هذه ونحوها بطرقٍ متعددة، وأخذ بها أكثر علمائهم، ولم يديروا بالاً لتشكيك بعضهم في أن يكون يوم عرفة في حجة الوداع يوم جمعة، مثل سفيان الثوري والنسائي! ولا لرواياتهم المؤيدة لرأي أهل البيت عليهم السلام، التي تقدمت.. وذلك بسبب أن الخليفة عمر قال إنها لم تنزل يوم الغدير بل نزلت في عرفات قبل الغدير بتسعة أيام، وقوله مقدم عندهم على كل اعتبار.
ـ قال السيوطي في الاِتقان 1|75 عن الآيات التي نزلت في السفر:
منها: اليوم أكملت لكم دينكم. في الصحيح عن عمر أنها نزلت عشية عرفة يوم الجمعة عام حجة الوداع، وله طرقٌ كثيرة.
لكن أخرج ابن مردوية عن أبي سعيد الخدري: أنها نزلت يوم غدير خم.
وأخرج مثله من حديث أبي هريرة وفيه: أنه اليوم الثامن عشر من ذي الحجة مرجعه من حجة الوداع. وكلاهما لا يصح. انتهى.
وقال في الدر المنثور: 2|259
أخرج ابن مردوية، وابن عساكر بسند ضعيف، عن أبي سعيد الخدري قال: لما نصب رسول الله صلى الله عليه وسلم علياً يوم غدير خم، فنادى له بالولاية هبط جبرئيل عليه بهذه الآية: اليوم أكملت لكم دينكم.
وأخرج ابن مردوية، والخطيب، وابن عساكر بسند ضعيف عن أبي هريرة قال: لما كان غدير خم وهو اليوم الثامن عشر من ذي الحجة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: من كنت مولاه فعلي مولاه، فأنزل الله: اليوم أكملت لكم دينكم. انتهى.
ومن المتعصبين لرأي عمر المذكور: ابن كثير، وهذه خلاصة من تفسيره: 2|14:
قال أسباط عن السدي: نزلت هذه الآية يوم عرفة، ولم ينزل بعدها حلالٌ ولا حرامٌ. وقال ابن جرير وغير واحد: مات رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد يوم عرفة بأحد وثمانين يوماً، رواهما ابن جرير.
ثم ذكر ابن كثير رواية مسلم وأحمد والنسائي والترمذي المتقدمة وقال:
قال سفيان: وأشك كان يوم الجمعة أم لا: اليوم أكملت لكم دينكم الآية.
وشك سفيان رحمه الله إن كان في الرواية فهو تورُّعٌ، حيث شك هل أخبره شيخه بذلك أم لا، وإن كان شكاً في كون الوقوف في حجة الوداع كان يوم جمعة فهذا ما إخاله يصدر عن الثوري رحمه الله فإن هذا أمر معلومٌ مقطوعٌ به، لم يختلف فيه أحدٌ من أصحاب المغازي والسير ولا من الفقهاء، وقد وردت في ذلك أحاديث متواترة، لا يشك في صحتها، والله أعلم. وقد روى هذا الحديث من غير وجه عن عمر.
وقال ابن جرير... عن قبيصة يعني ابن أبي ذئب قال: قال كعب لو أن غير هذه الاَمة نزلت عليهم هذه الآية لنظروا اليوم الذي أنزلت فيه عليهم فاتخذوه عيداً يجتمعون فيه !!
فقال عمر: أي آيةٍ يا كعب؟
فقال: اليوم أكملت لكم دينكم.
فقال عمر: قد علمت اليوم الذي أنزلت والمكان الذي أنزلت فيه، نزلت في يوم الجمعة ويوم عرفة، وكلاهما بحمد الله لنا عيدٌ....(ورواه في مختصر تاريخ دمشق 2 جزء 4|309)
وقال ابن جرير: وقد قيل ليس ذلك بيومٍ معلومٍ عند الناس !!
ثم روى من طريق العوفي عن ابن عباس في قوله: اليوم أكملت لكم دينكم يقول ليس بيومٍ معلومٍ عند الناس. قال: وقد قيل إنها نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسيره (الى) حجة الوداع.
ثم قال ابن كثير:
قلت: وقد روى ابن مردوية من طريق أبي هارون العبدي، عن أبي سعيد الخدري أنها نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم غدير خم، حين قال لعلي: من كنت مولاه فعلي مولاه. ثم رواه عن أبي هريرة، وفيه أنه اليوم الثامن عشر من ذي الحجة، يعني مرجعه عليه السلام من حجة الوداع.
ولا يصح لا هذا ولا هذا، بل الصواب الذي لا شك فيه ولا مرية، أنها أنزلت يوم عرفة وكان يوم جمعة، كما روى ذلك أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، وأول ملوك الاِسلام معاوية بن أبي سفيان، وترجمان القرآن عبد الله بن عباس، وسمرة بن جندب رضي الله عنه، وأرسله الشعبي، وقتادة بن دعامة، وشهر بن حوشب، وغير واحد من الاَئمة والعلماء، واختاره ابن جرير الطبري رحمه الله. انتهى.
وتلاحظ أن ابن كثير لا يريد الاِعتراف بوجود تشكيكٍ في أن يوم عرفة كان يوم جمعة، لاَن ذلك يخالف قول عمر، وقد صعب عليه تشكيك سفيان الثوري الصريح فالتفَّ عليه ليخربه !!
ومما يدل على أن الرواة كانوا في شكٍّ من أن يوم عرفات كن يوم جمعة ما رواه الطبري في تفسيره: 4|111 مما لم يذكره ابن كثير قال:
فقال عامر: أو ما حفظته؟
قلت له: فأي يوم؟
قال: يوم عرفة أنزل الله في يوم عرفة !!
وقال آخرون: بل نزلت هذه الآية، أعني قوله: اليوم أكملت لكم دينكم يوم الاِثنين، وقالوا: أنزلت سورة المائدة بالمدينة.
ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى قال: ثنا إسحاق قال: أخبرنا محمد بن حرب قال: ثنا ابن لهيعة، عن خالد بن أبي عمران، عن حنش عن ابن عباس: ولد نبيكم صلى الله عليه وآله يوم الاِثنين، وخرج من مكة يوم الاِثنين، ودخل المدينة يوم الاِثنين، وأنزلت سورة المائدة يوم الاِثنين: اليوم أكملت لكم دينكم، ورفع الذكر يوم الاِثنين.
ثم قال الطبري: وأولى الاَقوال في وقت نزول الآية القول الذي روي عن عمر بن الخطاب أنها نزلت يوم عرفة يوم جمعة، لصحة سنده وهي أسانيد غيره. انتهى.
الموقف العلمي في سبب نزول الآية
بإمكان الباحث أن يفتش عن الحقيقة في سبب نزول الآية في أحاديث حجة الوداع، لاَن هذا الوداع الرسولي المهيب قد تم بإعلانٍ ربانيٍّ مسبق، وإعدادٍ نبوي واسع.. وقد حضره مابين سبعين ألفاً الى مئة وعشرين ألفاً من المسلمين، ونقلوا العديد من من أحداث حجة الوداع، وأقوال النبي صلى الله عليه وآله وأفعاله فيها، بشىٍَ من التفصيل، ورووا أنه خطب في أثنائها خمس خطب أو أكثر.. وسجلوا يوم حركته من المدينة، والاَماكن التي مر عليها أو توقف فيها، ومتى دخل مكة، ومتى وكيف أدى المناسك.. ثم رووا حركة رجوعه وما صادفه فيها.. الى أن دخل الى المدينة المنورة وعاش فيها نحو شهرين بقية عمره الشريف صلى الله عليه وآله.
وعنصر التوقيت هنا يرجح قول أهل البيت عليهم السلام والروايات السنية الموافقة لهم، مضافاً الى المرجحات الاَخرى المنطقية، التي تنضم اليه كما يلي:
أولاً:
أن التعارض هنا ليس بين حديثين أحدهما أصح سنداً وأكثر طرقاً كما توهموا.. بل هو تعارض بين حديث عن النبي صلى الله عليه وآله وبين قولٍ للخليفة عمر.
فإن الاَحاديث التي ضعفوها هي أحاديث نبوية مسندة، بينما أحاديث البخاري وغيره هي قول لعمر، لم يسنده الى النبي صلى الله عليه وآله!
فالباحث السني لا يكفيه أن يستدل بقول عمر في سبب نزول القرآن، ويردَّ به الحديث النبوي المتضمن سبب النزول، بل لا بد له أن يبحث في سند الحديث ونصه، فإن صح عنده فعليه أن يأخذ به ويترك قول عمر.. وإن لم يصح رجع الى أقوال الصحابة المتعارضة، وجمع بين الموثوق منها أِن أمكن الجمع، وإلا رجح بعضها وأخذ به، وترك الباقي.. ولكنهم لم يفعلوا ذلك مع الاَسف!
ثانياً:
لو تنزلنا وقلنا إن أحاديث أهل البيت عليهم السلام في سبب نزول الآية والاَحاديث السنية المؤيدة لها ليست أكثر من رأي لاَهل البيت ومن أيدهم في ذلك، وأن التعارض يصير بين قولين لصحابيين في سبب النزول، أو بين قول صحابي وقول بعض أئمة أهل البيت عليهم السلام.
فنقول: إن النبي صلى الله عليه وآله أوصى أمته بأخذ الدين من أهل بيته عليهم السلام ولم يوصها بأخذه من أصحابه.. وذلك في حديث الثقلين الصحيح المتواتر عند الجميع، وهو كما في مسند أحمد: 3|14: عن أبي سعيد قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني تاركٌ فيكم الثقلين، أحدهما أكبر من الآخر: كتاب الله حبلٌ ممدود من السماء الى الاَرض، وعترتي أهل بيتي، وإنهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض. انتهى.
وهذا الحديث الصحيح بدرجة عالية يدل على حصر مصدر الدين بعد النبي صلى الله عليه وآله بأهل بيته صلى الله عليه وعليهم، أو يدل على الاَقل على ترجيح قولهم عند تعارضه مع قول غيرهم!
ثالثاً:
أن الرواية عن الخليفة عمر نفسه متعارضة، وتعارضها يوجب التوقف في الاَخذ بها، فقد رووا عنه أن يوم عرفة في حجة الوداع كان يوم خميس، وليس يوم جمعة. قال النسائي في سننه: 5|251:
أخبرنا إسحق بن إبراهيم قال: أنبأنا عبدالله بن إدريس، عن أبيه، عن قيس بن مسلم، عن طارق بن شهاب قال: قال يهودي لعمر: لو علينا نزلت هذه الآية لاتخذناه عيداً: اليوم أكملت لكم دينكم.
قال عمر: قد علمت اليوم الذي أنزلت فيه والليلة التي أنزلت، ليلة الجمعة ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعرفات!
والطريف أن النسائي روى عن عمر في: 8|114، أنها نزلت في عرفات في يوم جمعة!
رابعاً:
تقدم قول البخاري في روايته أن سفيان الثوري وهو من أئمة الحديث والعقيدة عندهم، لم يوافق على أن يوم عرفة كان يوم جمعة (قال سفيان وأشك كان يوم الجمعة أم لا..) وهناك عددٌ من الروايات تؤيد شك سفيان، بل يظهر أن سفياناً كان قاطعاً بأن يوم عرفة في حجة الوداع لم يكن يوم جمعة، وإنما قال (أشك) مداراةً لجماعة عمر، الذين رتبوا كل الروايات لاَحداث حجة الوداع، بل وأحداث التاريخ الاِسلامي كلها.. على أساس أن يوم عرفات كان يوم جمعة، كما ستعرف.
خامساً:
أن عيد المسلمين هو يوم الاَضحى، وليس يوم عرفة، ولم أجد روايةً
أما إذا أخذنا برواية النسائي القائلة إن عرفة كان يوم خميس، وأن الآية نزلت ليلة عرفة.. فلا يبقى عيدٌ حتى يصطدم به العيد النازل من السماء، ولا يحتاج الاَمر الى قانون إدغام الاَعياد الاِلَهية المتصادمة، كما ادعى الخليفة!.
فيكون معنى جواب الخليفة على هذه الرواية أن يوم نزول آية إكمال الدين يستحق أن يكون عيداً، ولكن آيته نزلت قبل العيد بيومين، فلم نتخذ يومها عيداً!
وهذا كلام متهافت!
سادساً:
أن قول عمر يناقض ما رووه عن عمر نفسه بسندٍ صحيحٍ أيضاً.. فقد فهم هذا اليهودي من الآية أن الله تعالى قد أكمل تنزيل الاِسلام وختمه في يوم نزول الآية، وقبل عمر منه هذا التفسير.. فلا بد أن يكون نزولها بعد نزول جميع الفرائض، فيصح على رأيه ما قاله أهل البيت عليهم السلام وما قاله السدي وابن عباس وغيرهما من أنه لم تنزل بعدها فريضةٌ ولا حكم.
مع أن الخليفة عمر قال إن آية إكمال الدين نزلت قبل آيات الكلالة، وأحكام الاِرث، وغيرها، كما تقدم.. فوجب على مذهبه أن يقول لليهودي: ليس معنى الآية كما ظننت، بل كان بقي من الدين عدة أحكامٍ وشرائع نزلت بعدها، وذلك اليوم هو الجدير بأن يكون عيداً!
وعندما تتعارض الروايات عن شخصٍ واحد وتتناقض، فلا بد من التوقف فيها جميعاً، وتجميد كل روايات عمر في آخر ما نزل من القرآن، وفي وقت نزول آية إكمال الدين!
ومن جهة أخرى، فقد أقر الخليفة أن (اليوم) في الآية هو اليوم المعين الذي نزلت فيه، وليس وقتاً مجملاً ولا يوماً مضى قبل سنة كفتح مكة، أو يأتي بعد شهور
قال القرطبي في تفسيره: 1|143
وقد يطلق اليوم على الساعة منه قال الله تعالى: اليوم أكملت لكم دينكم وجمع يوم أيام وأصله أيوام فأدغم.
وقال في: 2|61
واليوم قد يعبر بجزء منه عن جميعه، وكذلك عن الشهر ببعضه تقول: فعلنا في شهر كذا كذا وفي سنة كذا كذا، ومعلوم أنك لم تستوعب الشهر ولا السنة، وذلك مستعملٌ في لسان العرب والعجم.
سابعاً:
أن جواب الخليفة لليهودي غير مقنعٍ لا لليهودي ولا للمسلم!
فإن كان يقصد الاِعتذار بأن نزولها صادف يوم عيد، ولذلك لم نتخذ يومها عيداً!
فيمكن لليهودي أن يجيبه: لماذا خرَّب عليكم ربكم هذا العيد وأنزله في ذلك اليوم ؟!
وإن كان يقصد إدغام عيد إكمال الدين بعيد عرفة، حتى صار جزءً منه!
فمن حق سائلٍ أن يسأل: هذا يعني أنكم جعلتم يوم نزولها نصف عيد، مشتركاً مع عرفة.. فأين هذا العيد الذي لا يوجد له أثر عندكم، إلا عند الشيعة ؟!
وإن كان يقصد أن هذا اليوم الشريف والعيد العظيم، قد صادف يوم جمعة ويوم عرفة، فأدغم فيهما وذاب، أو أكلاه وانتهى الاَمر!
فكيف أنزل الله تعالى هذا العيد على عيدين، وهو يعلم أنهما سيأكلانه!
فهل تعمد الله تعالى تذويب هذا العيد، أم أنه نسي والعياذ بالله فأنزل عيداً في يوم عيد، فتدارك المسلمون الاَمر بقرار الدمج والاِدغام، أو التنصيف !!
ثم من الذي اتخذ قرار الاِدغام؟ ومن الذي يحق له أن يدغم عيداً إلهياً في عيد آخر، أو يطعم عيداً ربانياً لعيد آخر!
وهل هذه الاَحكام للاَعياد أحكامٌ إسلامية ربانية، أم استحسانية شبيهاً بقانون تصادم السيارات، أو قانون تصادم الاَعياد الوطنية والدينية ؟! !
إن المشكلة التي طرحها اليهودي، ما زالت قائمة عند الخليفة وأتباعه، لاَن الخليفة لم يقدم لها حلاً.. وكل الذي قدمه أنه اعترف بها وأقرها، ثم رتب عليها أحكاماً لا يمكن قبولها، ولم يقل إنه سمعها من النبي! صلى الله عليه وآله
. فقد اعترف خليفة المسلمين بأن يوم نزول الآية يوم عظيمٌ ومهمٌ بالنسبة الى المسلمين، لاَنه يوم مصيري وتاريخي أكمل الله فيه تنزيل الاِسلام، وأتمَّ فيه النعمة على أمته، ورضيه لهم ديناً يدينونه به، ويسيرون عليه، ويدعون الاَمم اليه.
وأن هذا اليوم العظيم يستحق أن يكون عيداً شرعياً للاَمة الاِسلامية تحتفل فيه وتجتمع فيه، في صف أعيادها الشرعية الثلاث: الفطر والاَضحى والجمعة، وأنه لو كان عند أمة أخرى يوم مثله، لاَعلنته عيداً ربانياً، وكان من حقها ذلك شرعاً..
لقد وافق الخليفة محاوره اليهودي على كل هذا، وبذلك يكون عيد إكمال الدين في فقه إخواننا عيداً شرعياً سنوياً، يضاف الى عيدي الفطر والاَضحى السنويين وعيد الجمعة الاَسبوعي.
إن الناظر في المسألة يلمس أن الخليفة عمر وقع في ورطة (آية علي بن أبي طالب) من ناحيتين: فهو من ناحية ناقض نفسه في آخر مانزل من القرآن.. ومن ناحية فتح على نفسه المطالبة بعيد الآية الى يوم القيامة !! وصار من حق المسلم أن يسأل أتباع عمر من الفقهاء عن هذا العيد الذي لا يرى له عيناً ولا أثراً ولا اسماً في تاريخ المسلمين، ولا في حياتهم، ولا في مصادرهم.. إلا.. عند الشيعة!
فماهي حجة الخليفة في تأييد كلام اليهودي، وموافقته له بأن ذلك اليوم يستحق أن يكون عيداً شرعياً للأمة الاِسلامية! ثم أخذ يعتذر له بأن مصادفة نزولها في عيدين أوجبت عدم إفراد المسلمين ليومها بعيد.. الخ.
فإن كان الخليفة حكم من عند نفسه بأن يوم الآية يستحق أن يكون عيداً، فهو تشريع وبدعة، وإن كان سمعه من النبي صلى الله عليه وآله، فلماذا لم يذكره، ولم يرو أحدٌ من المسلمين شيئاً عن عيد الآية، إلا ما رواه الشيعة ؟!
ثامناً:
لو كان يوم عرفة يوم جمعة كما قال عمر في بعض أقواله، لصلى النبي صلى الله عليه وآله بالمسلمين صلاة الجمعة، مع أن أحداً لم يرو أنه صلى الجمعة في عرفات، بل روى النسائي وغيره أنه قد صلى الظهر والعصر!
والظاهر أن النسائي يوافق سفيان الثوري ولا يوافق عمر، فقد جعل في سننه: 1| 290 عنواناً باسم (الجمع بين الظهر والعصر بعرفة).
وروى فيه عن جابر بن عبد الله قال: سار رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتى عرفة، فوجد القبة قد ضربت له بنمرة فنزل بها، حتى إذا زاغت الشمس، أمر بالقصواء فرحلت له، حتى إذا انتهى الى بطن الوادي خطب الناس، ثم أذن بلال ثم أقام فصلى الظهر ثم أقام فصلى العصر ولم يصل بينهما شيئاً !! انتهى.
ـ وكذلك روى أبو داود في سننه: 1|429
عن ابن عمر قال: غدا رسول الله صلى الله عليه وسلم من منى حين صلى الصبح صبيحة يوم عرفة، حتى أتى عرفة فنزل بنمرة، وهي منزل الاِمام الذي ينزل بعرفة،
وأما الجواب بأن الجمعة تسقط في السفر، فهو أمر مختلفٌ عندهم فيه، ولو صح أن يوم عرفة كان يوم جمعة ولم يصل النبي صلى الله عليه وآله صلاة الجمعة، لذكر ذلك مئات المسلمين الذين كانوا في حجة الوداع!
وقد تمحل ابن حزم في الجواب عن ذلك فقال في المحلى: 7|272:
مسألة: وإن وافق الاِمام يوم عرفة يوم جمعةٍ جهرِ وهي صلاة جمعة! ويصلي الجمعة أيضاً بمنى وبمكة، لاَن النص لم يأت بالنهي عن ذلك، وقال تعالى: إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا الى ذكر الله وذروا البيع، فلم يخص الله تعالى بذلك غير يوم عرفة ومنى.
وروينا... عن عطاء بن أبي رباح قال: إذا وافق يوم جمعة يوم عرفة، جهر الاِمام بالقراءة... فإن ذكروا خبراً رويناه... عن الحسن بن مسلم قال: وافق يوم التروية يوم الجمعة وحجة النبي عليه السلام فقال: من استطاع منكم أن يصلي الظهر بمنى فليفعل، فصلى الظهر بمنى ولم يخطب... فهذا خبرٌ موضوعٌ فيه كل بلية: ابراهيم بن أبي يحيى مذكور بالكذب متروك من الكل، ثم هو مرسل، وفيه عن ابن الزبير، مع ابن أبي يحيى الحجاج بن أرطاة، وهو ساقط، ثم الكذب فيه ظاهر، لاَن يوم التروية في حجة النبي عليه السلام إنما كان يوم الخميس، وكان يوم عرفة يوم الجمعة، روينا ذلك من طريق البخارى...
فإن قيل: إن الآثار كلها إنما فيها جمع رسول الله عليه السلام بعرفة بين الظهر والعصر؟
قلنا: نعم وصلاة الجمعة هي صلاة الظهر نفسها! وليس في شيَ من الآثار أنه عليه السلام لم يجهر فيها، والجهر أيضاً ليس فرضاً، وإنما يفترق الحكم في أن ظهر يوم الجمعة في الحضر والسفر للجماعة ركعتان. انتهى.
فلماذا لم يرد قول عمر بقوله الثاني بأن عرفة كانت يوم خميس، وروايته صحيحة؟
أو بقول النسائي والثوري، والاَقوال العديدة التي ذكرها الطبري وغيره؟
ولو صح ماقاله من أن النبي صلى الله عليه وآله اعتبر ركعتي الظهر في عرفة صلاة جمعة لاَنه جهر فيهما، لاشتهر بين المسلمين أن النبي صلى الله عليه وآله جهر في صلاة الظهر التي لا يجهر بها لتصبح (أتوماتيكياً) صلاة جمعة!
بل إن الرواية التي كذبها وهاجمها بسبب مخالفتها لرواية عمر تنص على أنه صلى الله عليه وآله صلى الجمعة في منى، وهي أقرب الى حساب سفره صلى الله عليه وآله من المدينة الذي كان يوم الخميس لاَربع بقين من ذي القعدة، ووصوله الى مكة يوم الخميس لاَربع مضين من ذي الحجة، وأن أول ذي الحجة كان يوم الاِثنين، فيوم عرفة يوم الثلاثاء، وعيد الاَضحى الاَربعاء، ويوم الجمعة كان ثاني عشر ذي الحجة كما سيأتي.. فيكون قول الراوي إن الجمعة كانت في منى قولاً صحيحاً، ولكنه اشتبه وحسبها قبل موقف عرفات، مع أنها كانت بعده!
تاسعاً:
إن القول بأن يوم عرفة في تلك السنة كان يوم جمعة، تعارضه رواياتهم التي تقول إنه صلى الله عليه وآله عاش بعد نزول الآية إحدى وثمانين ليلةً أو ثمانين!
فقد ثبت عندهم أن وفاة النبي صلى الله عليه وآله في اليوم الثاني عشر من ربيع الاَول ومن 9 ذي الحجة الى 12 ربيع الاَول أكثر من تسعين يوماً.. فلا بد لهم إما أن يأخذوا برواية وفاته قبل ذلك فيوافقونا على أنها في 28 من صفر، أو يوافقونا على نزول الآية في يوم الغدير 18 ذي الحجة.
ـ قال السيوطي في الدر المنثور: 2|59
وأخرج ابن جرير، عن ابن جريج قال: مكث النبي صلى الله عليه وسلم بعد ما نزلت هذه الآية إحدى وثمانين ليلة، قوله: اليوم أكملت لكم دينكم. انتهى.
ـ وذكر نحوه في: 2|257 عن البيهقي في شعب الاِيمان.
وروى أبو عبيد، عن حجاج، عن ابن جريح أنه صلى الله عليه وسلم لم يبق بعد نزول قوله تعالى: اليوم أكملت لكم دينكم إلا إحدى وثمانين ليلة. ورواه الطبراني في المعجم الكبير برقم 12984، ورواه الطبري في تفسيره: 4|106 عن ابن جريح قال: حدثنا القاسم قال: ثنا الحسين قال: ثني حجاج عن ابن جريج قال: مكث النبي صلى الله عليه وآله بعد ما نزلت هذه الآية إحدى وثمانين ليلة، قوله: اليوم أكملت لكم دينكم.
ـ وقال القرطبي في تفسيره: 20|223:
وقال ابن عمر: نزلت هذه السورة بمنى في حجة الوداع ثم نزلت: اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي. فعاش بعدهما النبي صلى الله عليه وسلم ثمانين يوماً. ثم نزلت آية الكلالة فعاش بعدها خمسين يوماً، ثم نزل لقد جاءكم رسول من أنفسكم. فعاش بعدها خمسه وثلاثين يوماً. ثم نزل واتقوا يوماً ترجعون فيه الى الله فعاش بعدها أحداً وعشرين يوماً. وقال مقاتل سبعة أيام. وقيل غير هذا. انتهى.
ورواية ابن عمر تؤيد قول أبيه بنزول آية الكلالة بعد آية إكمال الدين، ولكنه نسي آية الربا التي قال أبوه أيضاً إنها آخر آية، ومن ناحية أخرى خالف أباه في أن آية إكمال الدين نزلت في عرفة، وقال إنها نزلت بعد سورة النصر بمنى، يعني بعد انتهاء حجة الوداع وسفر النبي صلى الله عليه وآله، واقترب من القول بنزولها في الغدير !!
ـ وقال الاَميني في الغدير: 1|230
وهو الذي يساعده الاِعتبار ويؤكده النقل الثابت في تفسير الرازي: 3|529 عن أصحاب الآثار: إنه لما نزلت هذه الآية على النبي صلى الله عليه وسلم لم يعمر بعد نزولها إلا أحداً وثمانين يوماً، أو اثنين وثمانين، وعينه أبو السعود في تفسيره بهامش تفسير الرازي: 3|523، وذكر المؤرخون منهم أن وفاته صلى الله عليه وآله في الثاني عشر من ربيع الاَول، وكأن فيه تسامحاً بزيادة يوم واحد على الاِثنين وثمانين يوماً، بعد إخراج يومي الغدير والوفاة..
كما تعارض قول عمر بأن يوم عرفات كان يوم جمعة، رواياتهم التي تنص على أن الآية نزلت يوم الاِثنين.. ففي دلائل البيهقي: 7|233: عن ابن عباس قال: ولد نبيكم صلى الله عليه وآله يوم الاِثنين، ونبىَ يوم الاِثنين، وخرج من مكة يوم الاِثنين، وفتح مكة يوم الاِثنين، ونزلت سورة المائدة يوم الاِثنين: اليوم أكملت لكم دينكم وتوفي يوم الاِثنين.
ـ وقال الهيثمي في مجمع الزوائد 1|196
رواه أحمد والطبراني في الكبير وزاد فيه: وفتح بدراً يوم الاِثنين، ونزلت سورة المائدة يوم الاِثنين: اليوم أكملت لكم دينكم، وفيه ابن لهيعة وهو ضعيف، وبقية رجاله ثقات من أهل الصحيح. انتهى.
وللحديث طرقٌ ليس فيها ابن لهيعة.. ولكن علته الحقيقية عندهم مخالفته لما قاله الخليفة عمر، كما صرح به السيوطي وابن كثير! فقد قال ابن كثير في سيرته: 1| 198: تفرد به أحمد، ورواه عمرو بن بكير عن ابن لهيعة، وزاد: نزلت سورة المائدة يوم الاِثنين: اليوم أكملت لكم دينكم، وهكذا رواه بعضهم عن موسى بن داود به، وزاد أيضاً: وكانت وقعة بدر يوم الاِثنين. وممن قال هذا يزيد بن حبيب. وهذا منكرٌ جداً!! قال ابن عساكر: والمحفوظ أن بدراً ونزول: اليوم أكملت لكم دينكم يوم الجمعة وصدق ابن عساكر. انتهى.
وقد تقدم أن علة نكارته عند ابن كثير أنه مخالف لقول عمر، وقول معاوية! وقد كان ابن عساكر أكثر اتزاناً منه حيث لم يصف الخبر بالضعف أو النكارة، بل قال إنه مخالفٌ للمحفوظ، أي المشهور عندهم، وهو قول عمر.
وينبغي الاِلفات الى أن الاِشكال عليهم بأحاديث نزول الآية في يوم الاِثنين إنما هو إلزامٌ لهم بما التزموا به، وإلا فنحن لا نقبل أنه صلى الله عليه وآله لم يبق بعد الآية إلا ثمانين يوماً
وقد ثبت عندنا أن الآية نزلت يوم الخميس، وفي رواية يوم الجمعة، كما ثبت عندنا أن بعثة النبي صلى الله عليه وآله كانت يوم الاِثنين، وأن علياً عليه السلام صلى معه يوم الثلاثاء، وأن وفاته صلى الله عليه وآله كانت في يوم الاِثنين أيضاً، وقد تكون سورة المائدة نزلت يوم الاِثنين أي أكثرها، ثم نزلت بقيتها بعد ذلك، ومنها آية التبليغ، وآية إكمال الدين.
عاشراً:
إن القول بأن يوم عرفة في تلك السنة كان يوم جمعة، تعارضه الروايات التي سجلت يوم حركة النبي صلى الله عليه وآله من المدينة، وأنه كان يوم الخميس لاَربعٍ بقين من ذي القعدة. وهو الرواية المشهورة عن أهل البيت عليهم السلام، وهي منسجمةٌ مع تاريخ نزول الآية في يوم الغدير الثامن عشر من ذي الحجة.
وذلك، لاَن سفر النبي صلى الله عليه وآله كان في يوم الخميس، أي في اليوم السابع والعشرين من ذي القعدة، لاَربع بقين من ذي القعدة هي: الخميس والجمعة والسبت والاَحد.. ويكون أول ذي الحجة يوم الاِثنين، ووصول النبي صلى الله عليه وآله الى مكة عصر الخميس الرابع من ذي الحجة في سلخ الرابع، كما في رواية الكافي: 4|245، ويكون يوم عرفة يوم الثلاثاء، ويوم الغدير يوم الخميس الثامن عشر من ذي الحجة. وهذه نماذج من روايات أهل البيت عليهم السلام في ذلك:
ـ ففي وسائل الشيعة: 9|318
محمد بن إدريس في (آخر السرائر) نقلاً من كتاب المشيخة للحسن بن محبوب قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وآله لاَربعٍ بقين من ذي القعدة، ودخل مكة لاَربعٍ مضيْن من ذي الحجة، دخل من أعلى مكة من عقبة المدنيين، وخرج من أسفلها.
ـ وفي الكافي: 4|245
عن أبي عبد الله عليه السلام قال: حج رسول الله صلى الله عليه وآله عشرين حجة... إن رسول الله صلى الله عليه وآله أقام بالمدينة عشر سنين لم يحج، ثم أنزل الله عز وجل عليه: وأذن في الناس بالحج
ـ وفي المسترشد|119:
العبدي عن أبي سعيد أن رسول الله صلى الله عليه وآله دعا الناس الى علي عليه السلام بغدير خم، وأمر بما كان تحت الشجرة من الشوك فقمَّ، وذلك يوم الخميس، ثم دعا الناس، وأخذ بضبعيه ورفعه حتى نظر الناس الى بياض إبطيه، ثم لم يتفرقوا حتى نزلت هذه الآية: اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الاِسلام ديناً، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: الله أكبر على إكمال الدين وإتمام النعمة، ورضى الرب برسالتي وبالولاية لعلي من بعدي. انتهى.
ويؤيد قول أهل البيت عليهم السلام أيضاً ما رووه عن جابر بأن حركته صلى الله عليه وآله كانت لاَربعٍ بقين من ذي القعدة، كما يأتي من سيرة ابن كثير.
بل يؤيده أيضاً، أن البخاري وأكثر الصحاح رووا أن سفره صلى الله عليه وآله كان كان لخمسٍ بقين من ذي القعدة، بدون تحديد يوم راجع البخاري: 2|146 و 184 و 187 و: 4|7 وفيه (وقدم مكة لاَربع ليالٍ خلون من ذي الحجة)، والنسائي: 1|154 و 208 و: 5|121، ومسلم: 4|32، وابن ماجه: 2|993، والبيهقي: 5|33، وغيرها.
ويؤيده أيضاً أن مدة سيره صلى الله عليه وآله من المدينة الى مكة لا تزيد على ثمانية أيامٍ، وذلك بملاحظة الطريق الذي سلكه، والذي هو في حدود 400 كيلو متراً، وملاحظة سرعة السير، حتى أن بعض الناس شكوا له تعب أرجلهم فعلمهم شدها.
وملاحظة أن أحداً لم يرو توقفه في طريق مكة أبداً.
وملاحظة روايات رجوعه ووصوله الى المدينة أيضاً، مع أنه توقف طويلاً نسبياً في الغدير.. الخ.
ثم بملاحظة الروايات التي تتفق على وصوله الى مكة في الرابع من ذي الحجة. كما رأيت في روايات أهل البيت عليهم السلام ورواية البخاري الآنفة.
وبذلك تسقط رواية خروجه من المدينة لستٍ بقين من ذي الحجة، كما في عمدة القاري، وإرشاد الساري، وابن حزم، وهامش السيرة الحلبية: 3|257، لاَنها تستلزم أن تكون مدة السير الى مكة عشرة أيام!
وممن قال برواية السبت ابن سعد في الطبقات: 2|124، والواقدي في المغازي: 2| 1089 وكذا في هامش السيرة الحلبية: 3|3، والطبري: 3|148، وتاريخ الذهبي: 2|701، وغيرهم.
وعلى هذه الرواية يكون الباقي من شهر ذي القعدة خمسة أيام هي: السبت والاَحد والاِثنين والثلاثاء والاَربعاء، ويكون أول ذي الحجة الخميس، ويكون يوم عرفة يوم الجمعة، وتكون مدة السير الى مكة تسعة أيام، إلا أن يكون الراوي تصور أن ذي القعدة كان تاماً، فظهر ناقصاً.
وقد حاول ابن كثير الدفاع عن هذا القول، فقال في سيرته: 4|217:
وقال أحمد... عن أنس بن مالك الاَنصاري قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر في مسجده بالمدينة أربع ركعات، ثم صلى بنا العصر بذي الحليفة ركعتين آمناً لا يخاف، في حجة الوداع. تفرد به أحمد من هذين الوجهين، وهما على شرط الصحيح. وهذا ينفي كون خروجه عليه السلام يوم الجمعة قطعاً.
ولا يجوز على هذا أن يكون خروجه يوم الخميس كما قال ابن حزم، لاَنه كان يوم الرابع والعشرين من ذي القعدة، لاَنه لا خلاف أن أول ذي الحجة كان يوم الخميس لما ثبت (بالتواتر والاِجماع) من أنه عليه السلام وقف بعرفة يوم الجمعة، وهو تاسع ذي الحجة بلا نزاع.
فلو كان خروجه يوم الخميس الرابع والعشرين من ذي القعدة، لبقي في الشهر ست ليال قطعاً: ليلة الجمعة والسبت والاَحد والاِثنين والثلاثاء والاِربعاء. فهذه ست ليال. وقد قال ابن عباس وعائشة وجابر إنه خرج لخمس بقين من ذي القعدة وتعذر
وهذا التقريب على هذا التقدير لا محيد عنه ولا بد منه. والله أعلم. انتهى.
ويظهر من كلام ابن كثير عدم اطمئنانه بهذه التقديرات، لاَنه رأى تشكيك الخليفة عمر نفسه، وتشكيك سفيان الثوري الذي رواه البخاري، وتشكيك النسائي. وجزم ابن حزم بأن سفره صلى الله عليه وآله كان يوم الخميس.
ونلاحظ أن ابن كثير استدل على أن خروج النبي صلى الله عليه وآله يوم الخميس بالمصادرة على المطلوب فقال (لما ثبت بالتواتر والاِجماع من أنه عليه السلام وقف بعرفة يوم الجمعة) فأي تواترٍ وإجماعٍ يقصد، وما زال في أول البحث ؟!
كما أنه استدل على أن سفر النبي صلى الله عليه وآله لم يبدأ من المدينة يوم الجمعة برواية أنس أن النبي صلى الظهر والعصر ولم يصل الجمعة، وهو استدلالٌ يرد نفسه ويؤيد قول أهل البيت عليهم السلام بأن بدء سفره كان الخميس لاَربعٍ بقين من ذي القعدة!
وتقدمت الرواية عندنا أنه صلى الله عليه وآله صلى الظهر والعصر في ذي الحليفة.
ولو صحت رواية أنس بأنه صلى الظهر في مسجده في المدينة، ثم صلى العصر في ذي الحليفة، فلا ينافي ذلك أن يكون سفره الخميس، بل يكون معناه أنه أحرم بعد العصر من ذي الحليفة، وواصل سفره صلى الله عليه وآله
وفي الختام:
فإن المجمع عليه عند جميع المسلمين أن يوم نزول الآية عيدٌ إلَهيٌّ عظيمٌ (عيد إكمال الدين وإتمام النعمة) بل ورد عن أهل البيت عليهم السلام أنه أعظم الاَعياد الاِسلامية على الاطلاق، ودليله المنطقي واضحٌ، حيث ارتبط العيد الاَسبوعي للمسلمين بصلاة الجمعة، وارتبط عيد الفطر بعبادة الصوم، وارتبط عيد الاَضحى بعبادة الحج.. أما هذا العيد، فهو مرتبطٌ بإتمام الله تعالى نعمة الاِسلام كله على الاَمة، وقد تحقق في رأي إخواننا السنة بتنزيل أحكام الدين وإكماله من دون تعيين آليةٍ لقيادة مسيرته..
وتحقق في رأينا بإكمال تنزيل الاَحكام، ونعمة الحل الاِلَهي لمشكلة القيادة وإرساء نظام الاِمامة الى يوم القيامة، في عترة خاتم النبيين صلى الله عليه وآله.
ومادام جميع المسلمين متفقون على أنه عيدٌ شرعي، فلماذا يقبل علماء المسلمين ومفكروهم ورؤساؤهم أن تخسر الاَمة أعظم أعيادها، ولا يكون له ذكرٌ في مناسبته، ولا مراسمُ تناسب شرعيته وقداسته ؟!
فهل يستجيب علماء إخواننا السنة الى دعوتنا بالبحث في فقه هذا العيد المظلوم المغيب.. وإعادته الى حياة كل المسلمين، بالشكل الذي ينسجم مع عقائدهم وفقه مذاهبهم!