الفصـل الخامـس
آية: سأل سائـل بعذاب واقـع

قال الله تعالى في مطلع سورة المعارج:

سأل سائل بعذاب واقع، للكافرين ليس له دافع، من الله ذي المعارج... الى آخر السورة الكريمة التي تبلغ 44 آية.

أحداث كانت وراءها قريش

نمهد لتفسير الآية بذكر فهرس عددٍ من الأحداث الخطيرة في أواخر حياة النبي صلى الله عليه وآله.. ثبت أن قريشاً كانت وراء بعضها، وتوجد مؤشرات توجب الظن بأنها كانت وراء الباقي.

الأولى:

محاولة اغتيال النبي صلى الله عليه وآله في حنين.. وقد تقدم في البحث الخامس اعتراف بعض زعماء قريش بها!

الثانية:

محاولة اغتيال النبي صلى الله عليه وآله في العقبة في طريق رجوعه من تبوك، وقد كانت محاولة متقنةً، نفذتها مجموعةٌ منافقة بلغت نحو عشرين شخصاً، وقد عرفوا أن النبي صلى الله عليه وآله سيمر ليلاً من طريق الجبل بينما يمر الجيش من طريقٍ حول الجبل، وكانت خطتهم أن يكمنوا فوق الطريق الذي سيمر فيه الرسول صلى الله عليه وآله، حتى إذا وصل

الصفحة 286
الى المضيق ألقوا عليه ما استطاعوا من صخورٍ لتنحدر بقوةٍ وتقتله، ثم يفرون ويضيعون أنفسهم في جيش المسلمين، ويبكون على الرسول، ويأخذون خلافته!

وقد تركهم الله تعالى ينفذون خطتهم، حتى إذا بدؤوا بدحرجة الصخور، جاء جبرئيل وأضاء الجبل عليهم، فرآهم الرسول صلى الله عليه وآله وناداهم بأسمائهم، وأراهم لمرافقيْه المؤمنيْن: حذيفة بن اليمان وعمار بن ياسر، وأشهدهما عليهم، فسارع المنافقون ونزلوا من الجهة الثانية من الجبل، وضيعوا أنفسهم في المسلمين! !

أما لماذا لم يعلن الرسول أسماءهم؟!

فلا جواب إلا أنهم من قريش، ومن المعروفين فيها.. وإعلان أسمائهم يعني معاقبتهم، ومعاقبتهم تعني خطر ارتداد قريش عن الإسلام، وإمكان إقناعها بعض قبائل العرب بالإرتداد، بحجة أن محمداً أعطى كل شيء من بعده لبني هاشم، ولم يعط لقريشٍ والعرب شيئاً!

وهذا يعني السمعة السيئة للإسلام، وأن نبيه صلى الله عليه وآله بعد أن آمن به أصحابه اختلف معهم، وقاتلهم وقاتلوه!

ويعني الحاجة من جديد الى بدرٍ وأحدٍ والخندق وفتح مكة!

ولن تكون نتائج هذه الدورة للإسلام أفضل من الدورة الأولى!

فالحل الإلَهي هو: السكوت عنهم ما داموا يعلنون قبول الإسلام، ونبوة الرسول صلى الله عليه وآله، وينكرون فعلتهم.

ومن الملاحظ أن روايات مؤامرة العقبة ذكرت أسماء قرشية معروفة، وقد ضعَّفها رواة قريش طبعاً، لكن أكثرهم وثقوا ابن جميْع وغيره من الرواة الذين نقلوا عن حذيفة بن اليمان أسماء هؤلاء الزعماء المشاركين فيها!

كما أنهم رووا عن حذيفة وعمار رواياتٍ فاضحةٍ لبعض الصحابة الذين كانوا يسألونهما عن أنفسهم: هل رأياهم في الجبل ليلة العقبة؟! ويحاولون أن يأخذوا منهما براءةً من النفاق والمشاركة في المؤامرة!


الصفحة 287
ورووا أنهم كانوا يعرفون الشخص أنه من المنافقين أم لا، عندما يموت.. فإن صلى حذيفة على جنازته فهو مؤمن، وإن لم يصل على جنازته فهو منافق.

ورووا أن حذيفة لم يصل على جنازة أي زعيمٍ من قريشٍ مات في حياته! !

الثالثة:

قصة سورة التحريم، التي تنص على أن النبي صلى الله عليه وآله أسرَّ بحديثٍ خطيرٍ الى بعض أزواجه، وأكد عليها أن لا تقوله لأحد، ولا بد أن الله تعالى أمره بذلك لحِكَمٍ ومصالح يعلمها سبحانه.. فخالفت (أم المؤمنين) حكم الله تعالى، وأفشت سر زوجها رسول الله صلى الله عليه وآله، وعملت مع صاحبتها لمصلحة (قريش) ضد مصلحة زوجها الرسول.. فأطْلع الله تعالى نبيه على مؤامرتهما، فأخبرهما بما فعلتا، ونزل القرآن بكشف سرهما وسر من ورائهما، وهددهما وضرب لهما مثلاً بامرأتي نوح ولوط، اللتين خانتاهما، فدخلتا النار! !

أما رواة الخلافة القرشية فيقولون إن المسألة كانت عائلية، تتعلق بغيرة النساء من بعضهن، وببعض الأخطاء الفنية الخفيفة لهن مع النبي صلى الله عليه وآله !

إنهم يريدونك أن تغمض عينيك عن آيات الله تعالى في سورة التحريم، التي تتحدث عن خطرٍ عظيمٍ على الرسول صلى الله عليه وآله والرسالة، وتحشد أعظم جيشٍ جرارٍ لمواجهة الموقف فتقول (إن تتوبا الى الله فقد صغت قلوبكما، وإن تظاهرا عليه، فإن الله هو مولاه، وجبريل، وصالح المؤمنين، والملائكة بعد ذلك ظهير)

فلمن صغت قلوبهما، ولمصلحة من تعاونتا على الرسول صلى الله عليه وآله ؟!

وما هي القضية الشخصية التي تحتاج معالجتها الى هذا الجيش الإلَهي الجرار، الذي لا يستنفره الله تعالى إلا لحالات الطوارىَ القصوى؟!

أما ابن عباس الذي يصفونه بحبر الأمة، فكان يقرأ الآية (زاغت قلوبكما) وبذلك تكون اثنتان من أمهات المؤمنين احتاجتا الى تجديد إسلامهما!

الرابعة:

حادثة هجر النبي صلى الله عليه وآله لنسائه شهراً، وشيوع خبر طلاقه لهن.. وذهابه بعيداً عنهن وعن المسجد، الى بيت مارية القبطية الذي كان في طرف المدينة أو خارجها..


الصفحة 288
فقد صورت الروايات القرشية هذه الحادثة على أنها حادثةٌ شخصية.. شخصيةٌ بزعمهم وشغلت النبي صلى الله عليه وآله والوحي والمسلمين!

وادعوا أن سببها كثرة طلبات نسائه المعيشية منه صلى الله عليه وآله، وأكدوا أنه لا ربط للحادثة بقضايا الإسلام المالئة للساحة السياسية آنذاك، والشاغلة لزعماء قريش خاصة..

الخامسة:

تصعيد عمل قريشٍ ضد علي بن أبي طالب عليه السلام لإسقاط شخصيته، وغضب النبي صلى الله عليه وآله وشدته عليهم في دفاعه عن علي، وتركيزه لشخصيته.. ولهذا الموضوع مفرداتٌ عديدة في حروب النبي وسلمه وسفره وحضره صلى الله عليه وآله، ونلاحظ أنها كثرت في السنة الأخيرة من حياته صلى الله عليه وآله، وغضب بسببها مراراً، وخطب أكثر من مرة، مبيناً فضل علي عليه السلام وفسق أو كفر من يؤذيه!

ولو لم يكن من ذلك إلا قصة بريدة الأسلمي الكاسحة، التي روتها مصادر السنيين بطرقٍ عديدة، وأسانيد صحيحة عالية، وكشفت عن وجود شبكة عملٍ منظم ترسل الرسائل وتضع الخطط ضد علي عليه السلام، وسجلت إدانة النبي صلى الله عليه وآله الغاضبة لهم، وتصريحه بأن علياً وليكم من بعدي، وحُكمه بالنفاق على كل من ينتقد علياًوكل من لا يحب علياً، ولا يطيعه.. !

وهي حادثةٌ تكفي دليلاً على ظلم زعماء قريش وحسدهم لعلي عليه السلام... الخ. !

السادسة:

منع تدوين سنة النبي صلى الله عليه وآله في حياته.. أما القرآن فقد كان عامة الناس يكتبونه من حين نزوله، وكان النبي صلى الله عليه وآله يأمر بوضع ما ينزل منه جديداً بين منبره والحائط، وكان يوجد هناك ورقٌ ودواةٌ، لمن يريد أن يكتبه.

وكان علي عليه السلام يكتب القرآن، وحديث النبي صلى الله عليه وآله الذي يأمره بكتابته.

وكان آخرون يكتبون حديث النبي صلى الله عليه وآله، ومنهم شبانٌ قرشيون يعرفون الكتابة مثل عبد الله بن عمرو بن العاص..

وقد أحست قريش بأن ذلك يعني تدوين مقولات النبي صلى الله عليه وآله العظيمة في حق عترته وبني هاشم، ومقولاته في ذم عددٍ كبيرٍ من فراعنة قريش وشخصياتها..

الصفحة 289
فعملت على منع كتابة سنة النبي صلى الله عليه وآله في حياته، في حين أن بعض زعمائها كان يكتب أحاديث اليهود، ويحضر درسهم في كل سبت! ! وقد وثقنا ذلك في كتاب تدوين القرآن.

وقد روت مصادر السنيين أن عبد الله بن عمرو شكى الى النبي صلى الله عليه وآله أن (قريشاً) نهته عن كتابة حديثه، لأن أحاديثه التي فيها غضبٌ عليها ليست حجة شرعا!

قال أبو داود في سننه: 2|176:

عن عبد الله بن عمرو قال: كنت أكتب كل شيءٍ أسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، أريد حفظه، فنهتني قريش (؟) وقالوا: أتكتب كل شيء تسمعه؟! ورسول الله صلى الله عليه وسلم بشرٌ يتكلم في الغضب والرضا؟! فأمسكت عن الكتاب، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فأومأ بإصبعه الى فيه فقال: أكتب، فوالذي نفسي بيده ما يخرج منه إلا حق!. انتهى. ورواه أحمد في مسنده: 2| 192، و215، والحاكم في المستدرك: 1|105 و: 3|528، وصححه.

السابعة:

محاولة اغتيال النبي صلى الله عليه وآله في طريق عودته من حجة الوداع عند عقبة هرشى، وقد كشف الوحي المؤامرة، وكانت شبيهةً الى حد كبيرٍ بمؤامرة اغتياله صلى الله عليه وآله في العقبة، في طريق رجوعه من مؤتة!

الثامنة:

تصعيد قريش انتقادها لأعمال النبي صلى الله عليه وآله لتركيز مكانة عترته عليهم السلام وأسرته بني هاشم في الأمة، واعتراض عددٍ منهم عليه بصراحةٍ ووقاحةٍ، ومطالبتهم بأن يجعل الخلافة لقريش تدور في قبائلها، أو يشرك مع علي غيره من قبائل قريش، وقد رفض النبي صلى الله عليه وآله كل مطالبهم، لأنه لا يملك شيئاً مع الله تعالى، ولم يعط شيئاً من عنده حتى يمنعه، وإنما هو عبدٌ ورسولٌ مبلغ! ! صلى الله عليه وآله.

وقد تقدم نص تنزيه الأنبياء للشريف المرتضى|167، وفيه (جاءه قوم من قريش فقالوا له: يا رسول الله صلى الله عليه وآله إن الناس قريبو عهد بالإسلام، لا يرضون أن تكون النبوة فيك والإمامة في ابن عمك علي بن أبي طالب. فلو عدلت به الى غيره لكان أولى.


الصفحة 290
فقال لهم النبي صلى الله عليه وآله: ما فعلت ذلك برأيي فأتخير فيه، لكن الله تعالى أمرني به وفرضه علي.

فقالوا له: فإذا لم تفعل ذلك مخافة الخلاف على ربك، فأشرك معه في الخلافة رجلاً من قريش تركن الناس اليه، ليتم لك أمرك، ولا يخالف الناس عليك.

التاسعة:

أن النبي صلى الله عليه وآله عندما كان مريضاً شكل جيشاً بقيادة أسامة بن زيد، وجعل تحت إمرته كل زعماء قريش غير بني هاشم، وعقد اللواء لأسامة بن زيد، وأمره أن يسير الى مؤتة في الأردن لمحاربة الروم.. أراد بذلك أن يرسخ قدرة الدولة الإسلامية ويأخذ بثار شهداء مؤتة، وأراد أن يفرغ المدينة من المعارضين لعلي عليه السلام قبيل وفاته صلى الله عليه وآله !

فخرج أسامة بمن معه وعسكر خارج المدينة، ولكن زعماء قريش أحبطوا خطة النبي صلى الله عليه وآله بتتثاقلهم عن الإنضمام الى جيش أسامة، وتأخيرهم من استطاعوا عنه، ثم طعنوا في تأمير النبي صلى الله عليه وآله لأسامة الأفريقي الشاب، بحجة صغر سنه، وواصلوا تسويفهم الوقت، والذهاب الى معسكر أسامة ثم الرجوع الى المدينة.. حتى صعد النبي صلى الله عليه وآله المنبر وشدد على إنفاذ جيش أسامة، وأبلغ المسلمين صدور اللعنة من ربه عز وجل ومنه صلى الله عليه وآله على كل من تخلف عن جيش أسامة! !

العاشرة:

تصعيد قريش فعاليتها في مواجهة النبي صلى الله عليه وآله، وقرارها الخطير بمواجهته صلى الله عليه وآله مباشرةً إذا أراد أن يستخلف علياً وأهل بيته من بعده رسمياً!

وبالفعل فقد قام بمهمة المواجهة زعيم قريش الجديد عمر بن الخطاب، وذلك عندما جمع النبي صلى الله عليه وآله زعماء قريش والأنصار في مرض وفاته، وأخبرهم أنه قرر أن يكتب لأمته كتاباً لن تضل بعده أبداً، فعرفوا أنه يريد أن يثبت ولاية علي وأهل بيته عليهم السلام على الأمة بصورة مكتوبة، فواجهه عمر بصراحة: لا نريد كتابك وأمانك من الضلال، ولا سنتك ولا عترتك، وحسبنا كتاب الله! وحتى تفسيره من حقنا نحن لا من حقك، وحق عترتك! !


الصفحة 291
وأيده القرشيون الحاضرون ومن أثَّروا عليه من الأنصار، وصاحوا في محضر نبيهم صلى الله عليه وآله: القول ما قاله عمر! !

وانقسم المودعون لنبيهم في آخر أيامه، وتشادوا بالكلام فوق رأسه صلى الله عليه وآله! ! منهم من يقول قربوا له قلماً وقرطاساً يكتب لكم أماناً من الضلال. وأكثرهم يصيح: القول ما قاله عمر، لا تقربوا له شيئاً، ولا تدَعُوهُ يكتب! !

ولعل جبرئيل حينذاك كان عند النبي صلى الله عليه وآله فقد كثر نزوله عليه في الأيام الأخيرة، فتشاور معه وأخبره أن الحجة قد تمت، والإصرار على الكتاب يعني دفع قريش نحو الردة، والحل هو الإعراض عنهم، وإكمال تبليغهم بطردهم! !

فطردهم النبي صلى الله عليه وآله وقال لهم: قوموا فما ينبغي عند نبي تنازع! قوموا، فما أنا فيه خير مما تدعوني اليه.. ! !

وحديث إيتوني بدواةٍ وقرطاسٍ حديث معروفٌ، وقد سمى ابن عباس تلك الحادثة (رزية يوم الخميس)، وقد رواها البخاري في ست مواضع من صحيحه!

الحادية عشرة:

كان النبي صلى الله عليه وآله مصاباً بحمى شديدة في مرضه، وكان يغشى عليه لدقائق من شدة الحمى ويفيق.. فأحس بأن بعض من حوله أرادوا أن يسقوه دواء عندما أغمي عليه، فأفاق ونهاهم، وشدد عليهم النهي بأن لا يسقوه أي دواء إذا أغمي عليه.. ولكنهم اغتنموا فرصة الإغماء عليه بعد ذلك، وصبوا في فمه دواء فرفضه، ولكنهم سقوه إياه بالقوة! !

فأفاق النبي صلى الله عليه وآله، ووبخهم على عملهم! وأمر كل من كان حاضراً أن يشرب من ذلك الدواء، ماعدا بني هاشم! !

ورووا أن الجميع شربوا من (ذلك) الدواء! !

هذه الحادثة المعروفة في السيرة بحادثة (لَدّ النبي) صلى الله عليه وآله ينبغي أن تعطى حقها من البحث والتحقيق، فربما كانت محاولةً لقتل النبي صلى الله عليه وآله بالسم! !


الصفحة 292
إن وكل واحدة من هذه الحوادث تصلح أن تكون موضوعاً لرسالة دكتوراه.. ولكنا أردنا منها التمهيد لتفسير آية (سأل سائل) في مطلع سورة المعارج.

وإذا أردت أن تعرف الأبطال الحقيقيين لهذه الحوادث، والأدمغة المخططة لها.. فابحث عن قريش! !

وإذا أردت أن تفهم أكثر وتتعمق أكثر، فابحث.. عن علاقة قريش باليهود! ! فاعجب من ذلك، وافهم كيف عصم الله تعالى رسوله صلى الله عليه وآله من أن ترتد قريش في حياته، وتعلن كفرها بنبوته!

ولكنه لم يعصمه من أذاها ومؤامراتها.. فذلك هو طريق الأنبياء عليهم السلام وتكاليفه.. لا تغيير فيها!

استنفار قريش بعد الغدير

تحركت قافلة النبوة والإمامة من غدير خمٍ نحو المدينة.. وسكن قلب النبي صلى الله عليه وآله واطمأن.. ولكن قريشاً لم تسكن، بل صارت في حالة غليانٍ من الغيظ!

هكذا تقول الأحاديث، ومنطق الأحداث.. فقريش لا تسكت حتى ترى العذاب الأليم! وقد قال لهم الصادق الأمين الذي لا ينطق إلا وحياً صلى الله عليه وآله: لا أراكم منتهين يا معشر قريش! !

إن آية العصمة من الناس كما قدمنا، لا تعني أن الله تعالى جعل الطريق أمام رسوله صلى الله عليه وآله ناعماً كالحرير، ولا أنه جعل له قريشاً فرساً ريِّضاً طائعاً..

إن قدرته تعالى لا يمتنع منها شيء.. ولكنه أراد للأمور أن تجري بأسبابها، وللأمة أن تجري عليها سنن الأمم الماضية، فتمتحن بإطاعة نبيها من بعده، أو معصيته..

وهذا يستوجب أن تبقى لها القدرة على معصيته.. أما على الردة في حياته وفي وجهه.. فلا.

إن قدرتها تصل الى حد قولها لنبيها صلى الله عليه وآله: لا نريد وصيتك ولا سنتك ولا عترتك، حسبنا كتاب الله! !


الصفحة 293
لكن ما بعدها ذلك خطٌّ أحمر.. هكذا أراد الله تعالى! !

لقد تحققت عصمة النبي صلى الله عليه وآله من قريش في منعطفات كثيرة في حجة الوداع.. في مكة، وعرفات، وفي ثلاث خطبٍ في منى، خاصةً خطبة مسجد الخيف..

وما تنفست قريش الصعداء إلا برحيله صلى الله عليه وآله دون أن يطالبها بالبيعة لعلي!

ولكن الله تعالى لم يكتف بذلك، حتى أمر نبيه صلى الله عليه وآله أن يوقف المسلمين في طريق عودتهم في حر الظهيرة، في صحراء ليس فيها كلأ لخيولهم وجمالهم، ولا سوق ليشتروا منه علوفة وطعاماً، إلا دوحةٌ من بضع أشجار على قليل من ماء.. وذلك بعد مسير ثلاثة أيام، ولم يصبر عليهم حتى يصلوا الى مدينة الجحفة التي لم يبق عنها إلا ميلان أو أقل، بل كان أول القافلة وصل الى مشارفها، فبعث اليهم وأرجعهم الى صحراء الغدير!

كل ذلك لكي يصعد الرسول صلى الله عليه وآله المنبر في غير وقت صلاة، ليرفع بيد ابن عمه وصهره علي عليه السلام ويقول لهم: هذا وليكم من بعدي، ثم من بعده ولداه الحسن والحسين، ثم تسعة من ذرية الحسين! عليهم السلام

هنا تجلت آية العصمة من الناس مجسمةً للعيان.. فقد كمَّمَ الله تعالى أفواه قريش عن المعارضة، وفتح أفواههم للموافقة، فقالوا جميعاً: نشهد أنك بلغت عن ربك.. وأنك نعم الرسول.. سمعنا وأطعنا.. وتهافتوا مع المهنئين الى خيمة علي.. وكبروا مع المكبرين عندما نزلت آية (اليوم أكملت لكم دينكم) !

ثم أصغوا جميعاً الى قصيدة حسان بن ثابت في وصف نداء النبي صلى الله عليه وآله، وإبلاغه عن ربه ولاية علي عليه السلام من بعده.

واستمرت التهنئة من بعد صلاة العصر الى ماشاء الله.. ومن بعد صلاة المغرب والعشاء تتابع عدد من المهنئين في العتمة، حتى طلع قمر ليلة التاسع عشر من ذي الحجة.. فقد بات النبي صلى الله عليه وآله في غدير الإمامة، وتحرك الى المدينة بعد صلاة فجره.. وقيل بقي فيه يومان!


الصفحة 294
أما كيف سلب الله تعالى قريشاً القدرة على تخريب مراسم الغدير.. وكيف كف ألسنتها.. وهي السليطةُ بالإعتراض.. الجريئةُ على الأنبياء؟!

وكيف جعلها تفكر بأن تمرر هذا اليوم لمحمد صلى الله عليه وآله يفعل لبني هاشم وعليٍّ ما يشاء؟! فذلك من عمله عز وجل، وقدرته المطلقة.. المطلقة!

هذا هو الأسلوب الأول الذي عصم الله به رسوله من ارتداد قريش، ولا بد أن ما خفي عنا من ألطافه تعالى أعظم.

أما الأسلوب الثاني فكان لغة العذاب السماوي، التي تفهمها قريش جيداً، كما كان يفهمها اليهود في زمان أنبيائهم! !

أحجار من السماء للناطقين باسم قريش

ورد في أحاديث السنة والشيعة أسماءٌ عديدةٌ لأشخاصٍ اعترضوا على إعلان النبي صلى الله عليه وآله ولاية علي عليه السلام في غدير خم.

ويفهم منها أن عدداً منها تصحيفات لاسم شخص واحد، ولكن عدداً آخر لايمكن أن يكون تصحيفاً، بل يدل على تعدد الحادثة، خاصة أن العقاب السماوي في بعضها مختلف عن الآخر.. وهم:

جابر بن النضر بن الحارث بن كلدة العبدري..

والحارث بن النعمان الفهري..

والحرث بن النعمان الفهري

وعمرو بن عتبة المخزومي..

والنضر بن الحارث الفهري..

والحارث بن عمرو الفهري

والنعمان بن الحارث اليهودي

والنعمان بن المنذر الفهري


الصفحة 295
وعمرو بن الحارث الفهري

ورجل من بني تيم

ورجل أعرابي...

ورجل أعرابي من أهل نجد من ولد جعفر بن كلاب بن ربيعة.

وكل هؤلاء قرشيون إلا الربيعي واليهودي إذا صحت روايتهما! وليس فيهم أنصاري واحد، إذ لم يعهد من الأنصار اعتراضٌ على الإمتيازات التي أعطاها الله تعالى لعترة رسوله صلى الله عليه وآله ! وإن عهد منهم عدم الوفاء لهم بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وآله

وخلاصة الحادثة: أن أحد هؤلاء الأشخاص ـ أو أكثر من واحد ـ اعترض على النبي صلى الله عليه وآله واتهمه بأن إعلانه علياً عليه السلام ولياً على الأمة، كان عملاً من عنده وليس بأمر الله تعالى! ولم يقتنع بتأكيد النبي صلى الله عليه وآله له، بأنه ما فعل ذلك إلا بأمر ربه!

وذهب المعترض من عند النبي صلى الله عليه وآله مغاضباً وهو يدعو الله تعالى أن يمطر الله عليه حجارة من السماء إن كان هذا الأمر من عنده.. فرماه الله بحجرٍ من سجيلٍ فأهلكه! أو أنزل عليه ناراً من السماء فأحرقته!

وهذه الحادثة تعني أن الله تعالى استعمل التخويف مع قريش أيضاً، ليعصم رسوله صلى الله عليه وآله من تكاليف حركة الردة التي قد تُقْدِم عليها.. وبذلك تعزز عند زعماء قريش الإتجاه القائل بفشل المواجهة العسكرية مع النبي صلى الله عليه وآله، وضرورة الصبر حتى يتوفاه الله تعالى!

***
وفي هذا الحديث النبوي، والحادثة الربانية، مسائل وبحوث عديدةٌ أهمها:

المسألة الأولى: في أن مصادر السنيين روت هذا الحديث

لم تختص بروايته مصادرنا الشيعية بل روته مصادر السنيين أيضاً، وأقدم من رواه من أئمتهم: أبو عبيد الهروي في كتابه: غريب القرآن.


الصفحة 296
ـ قال في مناقب آل أبي طالب 2|240:

أبو عبيد، والثعلبي، والنقاش، وسفيان بن عينيه، والرازي، والقزويني، والنيسابوري، والطبرسي، والطوسي في تفاسيرهم، أنه لما بلَّغَ رسول صلى الله عليه وآله بغدير خم ما بلَّغ، وشاع ذلك في البلاد، أتى الحارث بن النعمان الفهري وفي رواية أبي عبيد: جابر بن النضر بن الحارث بن كلدة العبدري فقال:

يا محمد! أمرتنا عن الله بشهادة أن لا إلَه إلا الله وأن محمداً رسول الله، وبالصلاة، والصوم، والحج، والزكاة، فقبلنا منك، ثم لم ترض بذلك حتى رفعت بضبع ابن عمك ففضلته علينا وقلت: من كنت مولاه فعلي مولاه! فهذا شيء منك أم من الله؟! فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: والذي لا إلَه إلا هو إن هذا من الله.

فولى جابر يريد راحلته وهو يقول: اللهم إن كان ما يقول محمد حقاً فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم. فما وصل اليها حتى رماه الله بحجر، فسقط على هامته وخرج من دبره وقتله، وأنزل الله تعالى: سأل سائل بعذاب واقع.. الآية. انتهى.

وقد أحصى علماؤنا كصاحب العبقات، وصاحب الغدير، وصاحب إحقاق الحق، وصاحب نفحات الأزهار، وغيرهم.. عدداً من أئمة السنيين وعلمائهم الذين أوردوا هذا الحديث في مصنفاتهم، فزادت على الثلاثين.. نذكر منهم اثني عشر:

1 ـ الحافظ أبو عبيد الهروي المتوفى بمكة 223، في تفسيره (غريب القرآن)

2 ـ أبو بكر النقاش الموصلي البغدادي المتوفى 351، في تفسيره.

3 ـ أبو إسحاق الثعلبي النيسابوري المتوفى 427، في تفسيره (الكشف والبيان)

4 ـ الحاكم أبو القاسم الحسكاني في كتاب (أداء حق الموالاة)

5 ـ أبو بكر يحيى القرطبي المتوفى 567، في تفسيره

6 ـ شمس الدين أبو المظفر سبط ابن الجوزي الحنفي المتوفى 654 في تذكرته

7 ـ شيخ الإسلام الحمويني المتوفى 722، روى في فرائد السمطين في الباب

الصفحة 297
الثالث عشر قال: أخبرني الشيخ عماد الدين الحافظ بن بدران بمدينة نابلس، فيما أجاز لي أن أرويه عنه إجازة، عن القاضي جمال الدين عبد القاسم بن عبد الصمد الأنصاري إجازة، عن عبد الجبار بن محمد الحواري البيهقي إجازة، عن الإمام ابي الحسن علي بن أحمد الواحدي قال: قرأت على شيخنا الأستاذ أبي إسحاق الثعلبي في تفسيره: أن سفيان بن عيينة سئل عن قوله عز وجل: سأل سائل بعذاب واقع فيمن نزلت فقال....

8 ـ أبو السعود العمادي المتوفى 982، قال في تفسيره 8|292: قيل هو الحرث بن النعمان الفهري، وذلك أنه لما بلغه قول رسول الله عليه السلام في علي رضي الله عنه: من كنت مولاه فعلي مولاه، قال....

9 ـ شمس الدين الشربيني القاهري الشافعي المتوفى 977، قال: في تفسيره السراج المنير: 4|364: اختلف في هذا الداعي فقال ابن عباس: هو النضر بن الحرث، وقيل: هو الحرث بن النعمان....

10 ـ الشيخ برهان الدين علي الحلبي الشافعي المتوفى 1044، روى في السيرة الحلبية: 3|302 وقال: لما شاع قوله صلى الله عليه وسلم: من كنت مولاه فعلي مولاه في ساير الأمصار وطار في جميع الأقطار، بلغ الحرث بن النعمان الفهري.... الى آخر لفظ سبط ابن الجوزي.

11 ـ شمس الدين الحفني الشافعي المتوفى 1181، قال في شرح الجامع الصغير للسيوطي: 2|387 في شرح قوله صلى الله عليه وآله: من كنت مولاه فعلي مولاه.

12 ـ أبوعبد الله الزرقاني المالكي المتوفى 1122، في شرح المواهب اللدنية، | 13. انتهى. وسيأتي ذكر بقية مصادر الحديث في بحث أسانيده.

المسألة الثانية: هل أن سورة المعارج مكية أو مدنية

يلاحظ القارىَ أن الجو العام للسورة الشريفة الى آية 36، أقرب الى جو السور

الصفحة 298
المدنية وتشريعات سورة النور والمؤمنين، وأن جو الآيات 36 الى آخر السورة أقرب الى جو السور المكية، التي تؤكد على مسائل العقيدة والآخرة.

ولذلك لا يمكن معرفة مكان نزول السورة من آياتها، حسب ما ذكروه من خصائص للسور المكية والمدنية، وضوابط للتمييز بينها.. على أن هذه الخصائص والضوابط غير دقيقة ولا علمية!

وإذا صح لنا أن نكتفي بها، فلا بد أن نقول إن القسم الأخير من السورة من قوله تعالى (فما للذين كفروا قبلك مهطعين) الى آخرها، نزلت أولاً في مكة، ثم نزل القسم الأول منها في المدينة، ووضع في أولها! !

ولكن ذلك ليس أكثر من ظن! والطريق الصحيح لتعيين مكيتها أو مدنيتها هو النص، والنص هنا متعارضٌ سواءً في مصادرنا أو مصادر السنيين، ولكن المفسرين السنيين رجحوا مكيتها وعدوها في المكي.

ولا يبعد أن ذلك هو المرحج حسب نصوص مصادرنا أيضاً.

ـ فقد روى القاضي النعمان في شرح الأخبار 1|241

عن الإمام الصادق عليه السلام أنه قال: نزلت والله بمكة للكافرين بولاية علي عليه السلام. انتهى.

والظاهر أن مقصوده عليه السلام: أنها نزلت في مكة وكان مقدراً أن يأتي تأويلها في المدينة عند اعتراضهم على إعلان النبي صلى الله عليه وآله ولاية علي عليه السلام.

ـ وقال الكليني في الكافي 5|450:

قال: سأل أبو حنيفة أبا جعفر محمد بن النعمان صاحب الطاق، فقال له: يا أبا جعفر ما تقول في المتعة، أتزعم أنها حلال؟

قال: نعم.

قال: فما يمنعك أن تأمر نساءك أن يستمتعن ويكتسبن عليك؟

فقال له أبو جعفر: ليس كل الصناعات يرغب فيها، وإن كانت حلالاً، وللناس أقدار ومراتب يرفعون أقدارهم. ولكن ما تقول يا أبا حنيفة في النبيذ، أتزعم أنه حلال؟


الصفحة 299
فقال: نعم.

قال: فما يمنعك أن تقعد نساءك في الحوانيت نباذات فيكتسبن عليك؟

فقال أبو حنيفة: واحدةٌ بواحدة، وسهمك أنفذ.

ثم قال له: يا أبا جعفر إن الآية التي في سأل سائل، تنطق بتحريم المتعة والرواية عن النبي صلى الله عليه وآله قد جاءت بنسخها؟

فقال له أبو جعفر: يا أبا حنيفة إن سورة سأل سائل مكية، وآية المتعة مدنية، وروايتك شاذة ردية.

فقال له أبوحنيفة: وآية الميراث أيضاً تنطق بنسخ المتعة؟

فقال أبو جعفر: قد ثبت النكاح بغير ميراث.

قال أبو حنيفة: من أين قلت ذاك؟

فقال أبو جعفر: لو أن رجلاً من المسلمين تزوج امرأة من أهل الكتاب، ثم توفي عنها ما تقول فيها؟

قال: لا ترث منه.

قال: فقد ثبت النكاح بغير ميراث. ثم افترقا. انتهى.

وقول أبي حنيفة إن سورة سأل سائل تنطق بتحريم المتعة، يقصد به قوله تعالى في السورة (والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم).

فأجابه مؤمن الطاق بأن السورة مكية وآية (فما استمعتم به منهن فآتوهن أجورهن) مدنية، فكيف ينسخ المتقدم المتأخر؟

ولكن الجواب الأصح: أن المتمتع بها زوجةٌ شرعية، فهي مشمولةٌ لقوله تعالى (إلا على أزواجهم) وقد أفتى عدد من علماء السنيين بأنه يجوز للرجل أن يتزوج امرأة حتى لو كان ناوياً أن يطلقها غداً، وهو نفس المتعة التي يشنعون بها علينا.

بل أفتى أبو حنيفة نفسه بأن الرجل لو استأجر امرأة لخدمته وكنْس منزله وغسل ثيابه، فقد جاز له مقاربتها بدون عقد زواج، لا دائمٍ ولا منقطع! ! بحجة أن عقد

الصفحة 300
الإجارة يشمل ذلك! وهذا أوسع من المتعة التي يقول بها الفقه الشيعي، لأن عقد الزواج شرطٌ فيها، وإلا كانت زنا.

والنتيجة أن المرجح أن تكون سورة المعارج مكية، ولكن ذلك لا يؤثر على صحة الحديث القائل بأن العذاب الواقع هو العذاب النازل على المعترض على النبي صلى الله عليه وآله عندما أعلن ولاية علي عليه السلام، لأن ذلك يكون تأويلاً لها، وإخباراً من جبرئيل عليه السلام بأن هذه الحادثة هي من العذاب الواقع الموعود.

فقد تقدمت رواية شرح الأخبار في ذلك، وستأتي منه رواية فيها (فأصابته الصاعقة فأحرقته النار، فهبط جبرئيل وهو يقول: إقرأ يا محمد: سأل سائلٌ بعذاب واقع للكافرين ليس له دافع). وهي كالنص في أن جبرئيل عليه السلام نزل على النبي صلى الله عليه وآله بتطبيق الآية أو تأويلها.

بل يظهر من أحاديثنا أن ما حل بالعبدري والفهري ما هو جزءٌ صغيرٌ من (العذاب الواقع) الموعود، وأن أكثره سينزل تمهيداً لظهور الإمام المهدي عليه السلام أو نصرةً له..

ـ وقد أوردنا في معجم أحاديث الإمام المهدي عليه السلام: 5|458 عدة أحاديث عن الإمام الباقر والإمام الصادق عليهما السلام في تفسير العذاب الواقع بأحداثٍ تكون عند ظهور الإمام المهدي عليه السلام.

ـ منها ما رواه علي بن ابراهيم القمي في تفسيره: 2|385 قال:

سأل سائلٌ بعذاب واقع، قال: سئل أبو جعفر عليه السلام عن معنى هذا، فقال: نارٌ تخرج من المغرب، وملكٌ يسوقها من خلفها حتى تأتي دار بني سعد بن همام عند مسجدهم، فلا تدع داراً لبني أمية إلا أحرقتها وأهلها، ولا تدع داراً فيها وترٌ لآل محمدٍ إلا أحرقتها، وذلك المهدي عليه السلام.

ـ ومنها مارواه النعماني في كتاب الغيبة|272 قال:

حدثنا محمد بن همام قال: حدثنا جعفر بن محمد بن مالك قال: حدثنا محمد بن الحسين بن أبي الخطاب، عن الحسن بن علي، عن صالح بن سهل، عن أبي عبد

الصفحة 301
الله جعفر بن محمد عليهما السلام في قوله تعالى: سأل سائل بعذاب واقع، قال: تأويلها فيما يأتي عذابٌ يقع في الثوية يعني ناراً حتى تنتهي الى الكناسة كناسة بني أسد، حتى تمر بثقيف لا تدع وتراً لآل محمد إلا أحرقته، وذلك قبل خروج القائم عليه السلام. انتهى.

والأمكنة التي ذكرتها الروايتان، من أمكنة الكوفة التي ثبت أن الإمام المهدي عليه السلام سيتخذها عاصمةً له.

وقول الإمام الصادق عليه السلام (تأويلها فيما يأتي) يدل على أن مذهب أهل البيت عليهم السلام أن العذاب الواقع في الآية وعيدٌ مفتوحٌ منه ما وقع فيما مضى على المشركين والمنافقين، ومنه ما يقع فيما يأتي على بقيتهم.. وهو المناسب مع إطلاق التهديد في الآية، ومع سنة الله تعالى وانتصاره لدينه وأوليائه.

المسألة الثالثة: هل العذاب في سورة المعارج دنيوي أم أخروي

المتأمل في السورة نفسها بقطع النظر عن الأحاديث والتفاسير.. يلاحظ أن موضوعها ومحور كل آياتها هو العذاب الأخروي وليس الدنيوي.

كما أن آياتها لا تنص على ذم السائل عن ذلك العذاب، فقد يكون مجرد مستفهمٍ لا ذنب له، وقد يكون السائل بالعذاب هنا بمعنى الداعي به، وقد رأيت أن القرطبي ذكر قولاً بأن السائل بالعذاب نبي الله نوح عليه السلام، وقولاً آخر بأنه نبينا صلى الله عليه وآله !

ولذلك يرد في الذهن سؤال: من أين أطبق المفسرون الشيعة والسنة على أنها تشمل العذاب الدنيوي، وأن ذلك السائل بالعذاب سأل متحدياً ومكذباً؟!

والجواب: أن سر ذلك يكمن في (باء) العذاب، وأن (سأل به) تعني التساؤل عن الشيىء المدعى وطلبه، استنكاراً وتحدياً!

فكلمة: سأل به، تدل على أن السائل سمع بهذا العذاب، لأن النبي صلى الله عليه وآله كان ينذرهم بالعذاب الدنيوي والأخروي معاً.. فتساءل عنه، وأنكره، وتحدى أن يقع!

وقد أجابه الله تعالى بالسورة، ولم ينف سبحانه العذاب الدنيوي لأعدائه، وإن كان ركز على العذاب الأخروي وأوصافه، لأنه الأساس والأكثر أهميةً واستمراراً،

الصفحة 302
ولأن صفته الجزائية أكثر وضوحاً.

فكأن السورة تقول: أيها المستهزؤون بالعذاب الذي ينذركم به رسولنا.. إن كل ما أنذركم به من عذاب دنيوي أو أخروي سوف يقع، ولا دافع له عن الكفار.. فآمنوا بالله ليدفعه عنكم، بحسب قوانينه تعالى في دفع عذابه عن المؤمنين.

فقوله تعالى (للكافرين ليس له دافع) ينفي إمكان دفعه عن الكافرين، فهو ثابت لمن يستحقه منهم، وهو أيضاً ثابتٌ لمن يستحقه من الذين قالوا آمنا، لكن دافعٌ هو التوبة والإستغفار مثلاً.

كما أن (الكافرين) في الآية لا يبعد أن تكون بالمعنى اللغوي، فتشمل الكافرين ببعض آيات الله تعالى، أو بنعمه، ولو كانوا مسلمين.

وعندما نشك في أن كلمة استعملت بمعناها اللغوي أو الإصطلاحي، فلا بد أن نرجح المعنى اللغوي، لأنه الأصل، والإصطلاحي يحتاج الى قرينة.

وقد وقع المفسرون السنيون في تهافتٍ في تفسير السورة، لأنهم جعلوا (العذاب الواقع) عذاباً أخروياً أو لغير المسلمين، وفي نفس الوقت فسروه بعذاب النضر بن الحارث العبدري بقتله يوم بدر، فصار بذلك شاملاً للعذاب الدنيوي!

ويلاحظ الباحث في التفاسير السنية أنه يوجد منهجٌ فيها، يحاول أصحابه دائماً أن يفسروا آيات العذاب الواردة في القرآن الكريم ـ خاصة التي نزلت في قريش ـ بالعذاب الأخروي، أو يرموها على أهل الكتاب، ويبعدوها عن المسلمين، حتى المنافقين منهم! وقد أوجب عليهم هذا المنهج في تبرئة قريش، أن يتهموا النبي صلى الله عليه وآله بأنه دعا ربه بالعذاب على قومه، فلم يستجب له! بل وبخه الله تعالى بقوله: ليس لك من الأمر شيء.. الخ..

وهكذا ركزت الدولة القرشية مقولة اختيار الله لقريش، وعدم سماحه بعذابها، وجعلتها أحاديث نبوية، ولو كان فيها تحطئةٌ وإهانةٌ للنبي صلى الله عليه وآله، وأدخلتها في مصادر التفسير والحديث.


الصفحة 303
أما عندما يضطرون الى الإعتراف بوقوع العذاب الدنيوي لأحد فراعنة قريش، فيقولون إنه خاصٌ بحالة معينة، مثل حالة النضر بن الحارث، وقد وقعت في بدر وانتهى الأمر!

ـ فقد اختار الفخر الرازي في تفسيره: 30|122

أن العذاب المذكور في مطلع السورة هو العذاب الأخروي، وأن الدنيوي مخصوص بالنضر بن الحارث، قال: (لأن العذاب نازل للكافرين في الآخرة لا يدفعه عنهم أحد، وقد وقع بالنضر لأنه قتل يوم بدر) ثم وصف هذا الرأي بأنه سديد.. وهو بذلك يتبع جمهور المفسرين السنيين، مع أن السورة لا تشير الى انتهاء أي نوع من العذاب الموعود! !

على أن منهج المفسرين في إبعاد العذاب عن قريش، أقل تشدداً من منهج المحدثين الرسميين، فهولاء لايقبلون (العذاب الواقع) لأحدٍ من قريش، حتى للنضر بن الحارث، وحتى لأبي جهل! بل هم الذين فتحوا باب تهمة النبي صلى الله عليه وآله بأنه دعا على قومه، فخطَّأَهُ الله تعالى ووبخه! !

ـ فقد روى البخاري في صحيحه: 5|199

عن أنس بن مالك قال: قال أبو جهل: اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم، فنزلت: وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون. ورواه البخاري في عدة أماكن أخرى، ورواه مسلم في: 8|129..

وإذا أردت أن تقرأ ما لا تكاد تصدقه عيناك، فاقرأ ما رووه في تفسير قوله تعالى (ليس لك من الأمر شيء) فهي آيةٌ تنفي عن النبي صلى الله عليه وآله كل أنواع الألوهية والشراكة لله تعالى، ولكنها في نفس الوقت لا تسلب عنه شيئاً من مقامه النبوي وخلقه العظيم وحكمته، وحرصه على هداية قومه.. ولكن انظر كيف صور المحدثون النبي صلى الله عليه وآله في تفسيرها بأنه ضيق الصدر، مبغضٌ لقريش، يريد الإعتداء عليها وظلمها.. !!


الصفحة 304
فنزل الوحي مدافعاً عن هذه القبائل المقدسة، ورد عدوانية نبيها! !

ولا يتسع المجال للإفاضة في هذا الموضوع، ولكن القارىَ السني يجد نفسه متحيراً بين ولاء المفسرين لقريش كمجاهد الذي يسمح بكون قتل بعض فراعنتها كالنضر عذاباً لها، وبين ولاء المحدثين لقريش كالبخاري الذي يقول إن قتل النضر وأبي جهل ليس هو العذاب الإلَهي، فهؤلاء قومٌ برزوا الى مضاجعهم، فقد رفع الله عذابه عن قريش، ووبخ رسوله، لأنه دعا عليها! !

***
وأخيراً يمكن للباحث أن يستدل لنصرة رأي المفسرين القائل بأن العذاب السورة يشمل العذاب الدنيوي، بما رواه ابن سعد في الطبقات، من قصة اختلاف طلحة والزبير وابنيهما على إمامة الصلاة في معسكر عائشة في حرب الجمل، قال:

ولما قدموا البصرة أخذوا بيت المال، وختماه جميعاً طلحة والزبير، وحضرت الصلاة فتدافع طلحة والزبير حتى كادت الصلاة تفوت، ثم اصطلحا على أن يصلي عبد الله بن الزبير صلاةً ومحمد بن طلحة صلاةً، فذهب ابن الزبير يتقدم فأخره محمد بن طلحة، وذهب محمد بن طلحة يتقدم فأخره عبد الله بن الزبير عن أول صلاة! ! فاقترعا فقرعه محمد بن طلحة، فتقدم فقرأ: سأل سائل بعذاب واقع! ! انتهى. فقد فهم محمد بن طلحة القرشي التيمي من السورة أنها تهديدٌ بعذاب دنيوي ولذلك هدد بها ابن الزبير. وهو دليلٌ على أن الإرتكاز الذهني عند الصحابة المعاصرين للنزول، أن العذاب في السورة يشمل العذاب الدنيوي أيضاً.

المسألة الرابعة: موقف السنيين من الحديث

ولكن الذين ذكروا الحديث من السنيين ليس موقفهم منه واحداً، فمنهم من قبله ورجحه على غيره كأبي عبيد والثعلبي والحمويني، ومنهم من نقله بصيغة: روي أو قيل. ومنهم من رجح غيره عليه، ولكن أحداً منهم لم يطعن فيه.. وأقل موقفهم منه أنه حديثٌ موجودٌ، قد يكون سنده صحيحاً، ولكن غيره أرجح منه، كما سترى.


الصفحة 305
إن العالم السني يرى نفسه ملزماً باحترام هذا الحديث، بل يرى أنه بإمكانه أن يطمئن اليه ويأخذ به، لأن الذين قبلوه من أئمة العلم والدين قد يكتفي العلماء بمجرد نقل أحدهم للحديث وقبوله له، كأبي عبيد وسفيان بن عيينة..

وقد رأينا المحدث الألباني الذي يعتبره الكثيرون المجتهد الأول في التصحيح والتضعيف في عصرنا، ربما يكتفي في سلسلته أحاديثه الصحيحة للحكم بصحة الحديث بتصحيح عالمين أو ثلاثة من قبيل: ابن تيمية والذهبي وابن قيم.

مضافاً الى أن المحدثين السنة ذكروا له طرقاً أخرى، عن حذيفة، وعن أبي هريرة وغيرهما.

وتجد ترجمات هؤلاء الأئمة مفصلةً في مصادر الجرح والتعديل السنية، وفي عبقات الأنوار، والغدير، ونفحات الأزهار، من مصادرنا.

نماذج من تفسيرات السنيين لآية: سأل سائل

ـ قال الشوكاني في فتح القدير: 5|352:

وهذا السائل هو النضر بن الحارث حين قال: اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجار من السماء أو ائتنا بعذاب أليم. وهو ممن قتل يوم بدر صبراً.

وقيل: هو أبو جهل. وقيل: هو الحارث بن النعمان الفهري. والأول أولى لما سيأتي. انتهى.

وقصده بما يأتي ما ذكره في ص 356، من رواياتهم التي تثبت أن السورة مكية وأن صاحب العذاب الواقع هو النضر، وليس ابنه جابراً، ولا الحارث الفهري قال: وقد أخرج الفريابي وعبد بن حميد والنسائي وابن أبي حاتم والحاكم وصححه وابن مردوية عن ابن عباس في قوله: سأل سائل، قال: هو النضر بن الحارث قال: اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجار من السماء. انتهى.

ولم يذكر الشوكاني الحديث المروي في جابر والحارث، ومن رووه، ولماذا رجح عليه حديث النضر؟ هل بسبب السند أو الدلالة... الخ.


الصفحة 306
ولو أنه اقتصر على ذكر ما اختاره في سبب نزولها لكان له وجهٌ، ولكنه ذكر القولين، وذكر رواية أحدهما دون الآخر، وبذلك ابتعد عن إنصاف العالم الباحث.

لكن شمس الدين الشربيني القاهري الشافعي المتوفى سنة 977، صاحب التفسير المعروف، كان أكثر إنصافاً من الشوكاني، فقد ذكر السببين معاً، فقال كما نقل عنه صاحب عبقات الأنوار: 7|398:

سأل سائل بعذاب واقع: اختلف في هذا الداعي، فقال ابن عباس: هو النضر بن الحارث. وقيل: هو الحارث بن النعمان، وذلك أنه لما بلغه قول النبي صلى الله عليه وآله من كنت مولاه فعلي مولاه، ركب ناقته فجاء حتى أناخ راحلته في الأبطح ثم قال: يا محمد أمرتنا عن الله أن نشهد أن لا إلَه إلا الله وأنك رسول الله فقبلناه منك...الخ.. انتهى.

أما أبو عبيد المتوفى سنة 223، فقد جعل الحديث سبباً لنزول الآية على نحو الجزم، لأنه ثبت عنده، ولعله لم يثبت عنده غيره حتى يذكره، فقال كما في نفحات الأزهار: 7|291

لما بلَّغَ رسول الله صلى الله عليه وسلم غدير خم ما بلَّغَ، وشاع ذلك في البلاد، أتى جابر بن النضر بن الحارث بن كلدة العبدري فقال:

يا محمد! أمرتنا من الله أن نشهد أن لا إلَه إلاالله وأنك رسول الله، وبالصلاة، والصوم والحج، والزكاة، فقبلنا منك.. ثم لم ترض بذلك حتى رفعت بضبع ابن عمك ففضلته علينا وقلت: من كنت مولاه فعلي مولاه! فهذا شيء منك أم من الله؟!

فقال رسول الله: والله الذي لا إلَه إلا هو إنَّ هذا من الله.

فولى جابر يريد راحلته وهو يقول: اللهم إن كان ما يقول محمد حقاً فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم، فما وصل إليها حتى رماه الله بحجر فسقط على هامته وخرج من دبره وقتله، وأنزل الله تعالى: سأل سائل بعذاب واقع.. الآية. انتهى.

ـ وقال القرطبي في تفسيره: 18|278

أي سأل سائل عذاباً واقعاً. للكافرين: أي على الكافرين. وهو النضر بن الحارث

الصفحة 307
حيث قال: اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم، فنزل سؤاله. وقتل يوم بدر صبراً هو وعقبة بن أبي معيط، لم يقتل صبراً غيرهما، قاله ابن عباس ومجاهد.

وقيل: إن السائل هنا هو الحارث بن النعمان الفهري، وذلك أنه لما بلغه قول النبي صلى الله عليه وسلم في علي رضي الله عنه (من كنت مولاه فعلي مولاه) ركب ناقته فجاء حتى أناخ راحلته بالأبطح.. الى آخره، بنحو رواية أبي عبيد. ثم قال:

وقيل: إن السائل هنا أبو جهل، وهو القائل لذلك، قاله الربيع.

وقيل: إنه قول جماعةٍ من كفار قريش.

وقيل: هو نوح عليه السلام سأل العذاب على الكافرين.

وقيل: هو رسول الله صلي الله عليه وسلم أي دعا عليه السلام بالعقاب، وطلب أن يوقعه الله بالكفار، وهو واقع بهم لا محالة، وامتد الكلام الى قوله تعالى: فاصبر صبراً جميلاً أي: لا تستعجل فإنه قريب. انتهى.

وبذلك نلاحظ أن المفسرين السنيين وإن كانوا يرجحون تفسير الآية بالنضر بن الحارث العبدري، ويرحجون أن العذاب الموعود فيها هو قتله في بدر.. ولكنهم في نفس الوقت يذكرون تفسيرها بوقوع العذاب على من اعترض على النبي صلى الله عليه وآله لإعلانه ولاية علي عليه السلام من بعده في غدير خم.

ومجرد ورود هذا التفسير في مصادرهم بصفته قولاً محترماً في تفسير الآية، ولو رجحوا عليه غيره، يدل على وجود إعلان نبوي رسمي بحق علي، ووجود اعتراضٍ عليه! فالمسلم لا يحتاج الى أكثر من اعتراف المفسرين بذلك، سواءً وقعت الصاعقة على المعترض أم لم تقع، وسواء نزلت سورة المعارج عند هذه الحادثة أو لم تنزل! ! فلا بد للشيعي من توجيه الشكر لهم، وإن ناقشهم في الوجه الآخر الذي رجحوه. وأهم االإشكالات التي ترد عليه: أن روايته ليست مرفوعة الى النبي صلى الله عليه وآله، بينما تفسير الشيعة مرفوع.


الصفحة 308
ورواية تفسيرهم عن ابن عباس ومجاهد لا تحل المشكلة، خاصةً إذا كانت من راويه عكرمة المجروح عندنا وعندهم.

ويرد على تفسيرهم أيضاً: أن من المتفق عليه عندهم تقريباً أن السؤال في الآية حقيقي وليس مجازياً، فقد حدث أن سأل النضر بن الحارث بالعذاب، وطلب نزوله فقال: اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم. فعذبه الله في بدرٍ بالقتل.

مع أن آية مطر الحجارة من سورة الأنفال التي نزلت مع أحكام الأنفال، بعد بدر وبعد قتل النضر.. ومن البعيد أن يكون جواب قول النضر نزل في سورة مكية قبل الهجرة، ونفس قوله نزل في سورة مدنية، بعد هلاكه.

ويرد عليه أيضاً: أن قولهم (اللهم إن كان هذا هوالحق من عندك فأنزل علينا حجارة من السماء) أكثر تناسباً وانطباقاً على تفسيرنا، وأصعب انطباقاً على تفسيرهم.. لأن معناه على تفسيرهم: اللهم إن كان هذا الدين منزلاً من عندك فأمطر علينا حجارة. ومعناه على تفسيرنا: اللهم إن الحكم لآل محمد صلى الله عليه وآله من بعده منزلاً من عندك، فأمطر علينا حجارة.. وهذا أكثر تناسباً، لأن الدعاء بحجارة من السماء لا يقوله قائله إلا في حالة اليأس من التعايش مع وضع سياسي جديد، يتحدى وضعه القبلي المتجذر في صميمه! !

ويرد عليه أيضاً: أنه لو صح، فهو لا يمنع من تفسيرنا، فلا وجه لافتراضهم التعارض بينهما.. فأي تعارض بين أن يكون العذاب الواقع هوالعذاب الذي وقع على النضر بن الحارث في بدر، ثم وقع على ولده جابر بن النضر، كما في رواية أبي عبيد، ثم وقع ويقع لى آخرين من مستحقيه!

وينبغي أن نشير هنا الى قاعدة مهمة في تفسير القرآن والنصوص عامة، وهي: ضرورة المحافظة على إطلاقات النص ما أمكن وعدم تضييقها وتقييدها.. فالآية الكريمة تقول إن أحدهم تحدى وتساءل عن العذاب الموعود، الذي أنذر به

الصفحة 309
النبي صلى الله عليه وآله، فأجابه الله تعالى إنه واقعٌ بالكفار لا محالة كما أنذركم به رسولنا صلى الله عليه وآله حرفياً، في الدنيا والآخرة، وأنه جارٍ في الكفار وفي من آمن، حسب القوانين الخاصة التي وضعها له الله تعالى.

وعليه فيكون عذاب الله تعالى لقريش في بدر والخندق من ذلك العذاب الواقع الموعود، وعذابهم بالجوع والقحط منه أيضاً، وعذابهم بفتح مكة وتسليمهم وخلعهم سلاحهم منه أيضاً.. ويكون عذاب المعترضين على النبي صلى الله عليه وآله لإعلانه ولاية عترته من بعده منه أيضاً!

فلا موجب لحصر الآية بالنضر وحده، ولا لتضييق العذاب المنذر به بقتل شخص، ولو كان من الفراعنة، ولا حصره في عصر دون العصور الآتية، الى أن يرث الله الأرض ومن عليها..

وكم تجد عند المفسرين السنيين من هذه التضييقات في آيات العذاب والرحمة حيث يحصرون أنفسهم فيها بلا موجب، ويحصرون فيها كلام الله المطلق، بلا دليل!

المسألة الخامسة: موقف النواصب من حديث حجر السجيل

أما النواصب المبعضون لأهل بيت النبي صلى الله عليه وآله فلم نعثر على أحدٍ منهم رد هذا الحديث وكذبه قبل ابن تيمية، فقد هاجمه بعنف وتخبط في رده! وتبعه على ذلك من المتأخرين الشيخ محمد رشيد رضا في كتابه تفسير المنار.. ومن الملاحظ أن هذا الشخص متأثرٌ بابن تيمية وتلميذه ابن قيم المدرسة الجوزية، بل مقلدٌ لهما في كثير من أفكارهما، وقد أدخلها في تفسيره، واستفاد لذلك من اسم أستاذه الشيخ محمد عبده رحمه الله وادعى أنه ميز بين أفكاره وأفكار أستاذه!

ومن يقرأ تفسير المنار يلمس الفرق بين الجزءين الأولين اللذين كتبهما في حياة الشيخ محمد عبده، واستفاد مما سجله من دروسه، وفيهما من عقلانيته رحمه الله واعتقاده بولاية أهل البيت عليهم السلام.. وبين الأجزاء التي أخرجها الشيخ رشيد رضا بعد

الصفحة 310
وفاة الشيخ محمد عبده، أو أعاد طباعتها، وفيها الكثير من الأفكار الجامدة والناصبة لأهل البيت عليهم السلام.

وقد نقل صاحب تفسير المنار في 6 |464 وما بعدها عن تفسير الثعلبي:

أن هذا القول من النبي صلى الله عليه وآله في موالاة علي شاع وطار فى البلاد، فبلغ الحارث بن النعمان الفهري فأتى النبي صلى الله عليه وآله على ناقة وكان بالابطح فنزل وعقل ناقته وقال للنبي صلى الله عليه وآله وهو في ملأ من أصحابه: يا محمد أمرتنا من الله أن نشهد أن لا إلَه إلا الله وأنك رسول الله فقبلنا منك... ثم ذكر سائر أركان الإسلام... ثم لم ترض بهذا حتى مددت بضبعي ابن عمك وفضلته علينا وقلت: من كنت مولاه فعلي مولاه! فهذا منك أم من الله! فقال صلى الله عليه وآله: والله الذي لا إلَه إلا هو هو أمر الله.

فولى الحارث يريد راحلته وهو يقول: اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجاره من السماء أو ائتنا بعذاب اليم! فما وصل الى راحلته حتى رماه الله بحجر فسقط على هامته وخرج من دبره وأنزل الله تعالى: سأل سائل بعذاب واقع للكافرين ليس له دافع الحديث...

وهذه الرواية موضوعةٌ، وسورة المعارج هذه مكية، وما حكاه الله من قول بعض كفار قريش: اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك كان تذكيراً بقول قالوه قبل الهجره وهذا التذكير في سورة الأنفال، وقد نزلت بعد غزوة بدر قبل نزول المائدة ببضع سنين، وظاهر الرواية أن الحارث بن النعمان هذا كان مسلماً فارتد، ولم يعرف في الصحابة، والأبطح بمكة والنبي صلى الله عليه وآله لم يرجع من غدير خم الى مكة، بل نزل فيه منصرفه من حجة الوداع الى المدينة. انتهى.

وكأن رشيد رضا اغتاظ من هذا الحديث، وحاول تكذيبه من ناحية سنده فلم يجد ما يشفي غليله، ولما وجد تكذيب ابن تيمية له بنقد متنه فرح به وتبناه، ولكنه لم ينسبه اليه!

وعمدة ما قاله ابن تيمية وصاحب المنار: أن مكان الرواية الأبطح، وهو مكان في