فقال: أليس بذي الحجة؟
قلنا: بلى.
قال: فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم بينكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا. ليبلغ الشاهد الغائب، فإن الشاهد عسى أن يبلغ من هو أوعى له منه.
ـ وفي صحيح مسلم: 4|41
فأجاز رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتى عرفة فوجد القبة قد ضربت له بنمرة، فنزل بها حتى إذا زاغت الشمس، أمر بالقصواء فرحلت له، فأتى بطن الوادي فخطب الناس، وقال:
إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا. ألا كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع، ودماء الجاهلية موضوعة وإن أول دم أضع من دمائنا دم ابن ربيعة بن الحارث، كان مسترضعاً في بني سعد فقتلته هذيل. وربا الجاهلية موضوع، وأول رباً أضع ربانا ربا عباس بن عبد المطلب، فإنه موضوع كله.
فاتقوا الله في النساء، فإنكم أخذتموهن بأمان الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله، ولكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحداً تكرهونه، فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضرباً غير مبرح، ولهن عليكم رزقهن كسوتهن بالمعروف.
وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به: كتاب الله.
وأنتم تسألون عني فما أنتم قائلون؟
قالوا: نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت.
فقال بإصبعه السبابة يرفعها الى السماء وينكتها الى الناس: اللهم اشهد، اللهم اشهد، ثلاث مرات.
ثم أذن بلال، ثم أقام فصلى الظهر، ثم أقام فصلى العصر، ولم يصل بينهما شيئاً.
ثم ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتى الموقف..
ـ وفي مستدرك الحاكم: 1|77
وخطب رسول الله صلى الله عليه وآله فقال:
يا أيها الناس إني فرط لكم على الحوض، وإن سعته مابين الكوفة الى الحجر الأسود، وآنيته كعدد النجوم، وإني رأيت أناساً من أمتي لما دنوا مني، خرج عليهم رجلٌ فمال بهم عني، ثم أقبلت زمرةٌ أخرى ففعل بهم كذلك، فلم يفلت إلا كمثل النعم!!
فقال أبو بكر: لعلي منهم يا نبي الله؟!
قال لا، ولكنهم قوم يخرجون بعدكم ويمشون القهقرى!. هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، وقد حدث به الحجاج بن محمد أيضاً عن الليث ولم يخرجاه.
ـ وفي سنن ابن ماجة: 2|1016
حدثنا إسماعيل بن توبة، ثنا زافر بن سليمان، عن أبي سنان، عن عمرو بن مرة، عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على ناقته المخضرمة بعرفات، فقال:
أتدرون أي يوم هذا وأي شهر هذا وأي بلد هذا؟
قالوا: هذا بلدٌ حرام وشهر حرم ويوم حرام.
قال: ألا وإن أموالكم ودماءكم عليكم حرام كحرمة شهركم هذا في بلدكم هذا في يومكم هذا.
ألا وإني فرطكم على الحوض، وأكاثر بكم الأمم، فلا تسودوا وجهي.
ألا وإني مستنقذٌ أناساً، ومستنقذ مني أناس، فأقول: يا رب أصحابي؟ فيقول: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك! في الزوائد: إسناده صحيح.
باب لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض:
عن جرير بن عبد الله، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: في حجة الوداع استنصت الناس، فقال: لا ترجعوا بعدى كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض.
عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
ويحكم أو ويلكم، لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض.
عن الصنابح الأحمسي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا إني فرطكم على الحوض وإني مكاثرٌ بكم الأمم، فلا تقتتلن بعدي.
في الزوائد: إسناده صحيح، ورجاله ثقات.
ـ وفي سنن الترمذي: 2|61
سليم بن عامر قال: سمعت أبا أمامة يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم: يخطب في حجة الوداع فقال: إتقوا الله ربكم، وصلوا خمسكم، وصوموا شهركم، وأدوا زكاة أموالكم، وأطيعوا ذا أمركم، تدخلوا جنة ربكم.
قال: قلت لأبي أمامة: منذ كم سمعت هذا الحديث؟
قال: سمعت وأنا ابن ثلاثين سنة. قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح.
ـ وفي مسند أحمد: 5|412
عن مرة قال حدثني رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم على ناقة حمراء مخضرمة، فقال:
أتدرون أي يومكم هذا؟
قال قلنا يوم النحر.
قال: صدقتم يوم الحج الأكبر. أتدرون أي شهركم هذا؟
قلنا ذو الحجة.
قال: صدقتم شهر الله الأصم. أتدرون أي بلد بلدكم هذا؟
فقال: صدقتم، قال فإن دماءكم وأموالكم عليكم حرامٌ كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا، أو قال كحرمة يومكم هذا وشهركم هذا وبلدكم هذا، ألا وإني فرطكم على الحوض أنظركم وإني مكاثرٌ بكم الأمم، فلا تسودوا وجهي! ألا وقد رأيتموني وسمعتم مني وستسألون عني، فمن كذب علي فليتبوأ مقعده من النار ألا وإني مستنقذٌ رجالاً أو أناساً، ومستنقذٌ مني آخرون، فأقول: يا رب أصحابي! فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك!!
ـ وفي مجمع الزوائد: 3|265
(باب الخطب في الحج) عن أبي حرة الرقاشي عن عمه قال: كنت آخذاً بزمام ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم في وسط أيام التشريق أذود عنه الناس، فقال: يا أيها الناس هل تدرون في أي شهر أنتم، وفي أي يوم أنتم، وفي أي بلد أنتم؟
قالوا: في يوم حرام وبلد حرام وشهر حرام.
قال: فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا، الى يوم تلقونه.
ثم قال: إسمعوا مني تعيشوا، ألا لا تظلموا، ألا لا تظلموا، ألا لا تظلموا، إنه لا يحل مال امرىَ مسلم إلا بطيب نفس منه.
ألا وإن كل دم وماء ومال كانت في الجاهلية تحت قدمي هذه الى يوم القيامة، وإن أول دم يوضع دم ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب، كان مسترضعاً في بني ليث فقتلته هذيل.
ألا وإن كل رباً في الجاهلية موضوعٌ، وإن الله عز وجل قضى أن أول ربا يوضع ربا العباس بن عبد المطلب. لكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون.
ألا وإن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق السموات والأرض، ثم قرأ: إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً في كتاب الله يوم خلق السموات والأرض، منها أربعة
ألا لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض.
ألا إن الشيطان قد أيس أن يعبده المصلون، ولكنه في التحريش بينكم.
واتقوا الله في النساء فإنهن عندكم عوانٌ لا يملكن لأنفسهن شيئاً، وإن لهن عليكم حقاً، ولكم عليهن حقاً أن لايوطئن فرشكم أحداً غيركم، ولا يأذنن في بيوتكم لأحد تكرهونه، فإن خفتم نشوزهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن ضرباً غير مبرح ـ قال حميد قلت للحسن ما المبرح؟ قال: المؤثر ـ ولهن رزقهن وكسوتهن بالمعروف، وإنما أخذتموهن بأمانة بالله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله عز وجل.
ألا ومن كانت عنده أمانة فليؤدها الى من ائتمنه عليها.
وبسط يده وقال ألا هل بلغت، ألا هل بلغت؟
ثم قال ليبلغ الشاهد الغائب، فإنه رب مبلغ أسعد من سامع.
قال حميد قال الحسن حين بلغ هذه الكلمة: قد والله بلغوا أقواما كانوا أسعد به.
قلت: روى أبو داود منه ضرب النساء فقط رواه أحمد وأبو حرة الرقاشي وثقة أبو داود وضعفه ابن معين. وفيه علي بن زيد وفيه كلام.
وعن أبي نضرة قال حدثني من سمع خطبة النبى صلى الله عليه وسلم في وسط أيامالتشريق فقال:
يا أيها الناس إن ربكم واحد وأباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على عجمي ولا لعجمي على عربى، ولا أسود على أحمر ولا أحمر على أسود، إلا بالتقوى.
أبلغت؟
قالوا: بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثم قال: أي يوم هذا؟
قالوا: يوم حرام.
قالوا: بلد حرام.
قال فإن الله عز وجل قد حرم بينكم دماءكم وأموالكم ـ قال ولا أدري قال وأعراضكم أم لا ـ كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا.
أبلغت؟
قالوا: بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال: ليبلغ الشاهد الغائب. رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح (أحمد: 5|72)
وعن ابن عمر قال نزلت هذه السورة على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بمنى في أوسط أيام التشريق فعرف أنه الموت، فأمر براحلته القصواء فرحلت له فركب فوقف للناس بالعقبة، واجتمع له ما شاء الله من المسلمين فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ثم قال:
أما بعد أيها الناس، فإن كل دمٍ كان في الجاهلية فهو هدر، وإن أول دمائكم أهدر دم ربيعة بن الحارث، كان مسترضعاً في بني ليث فقتلته هذيل. وكل رباً كان في الجاهلية فهو موضوع، وإن أول رباكم أضع ربا العباس بن عبد المطلب.
أيها الناس إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض، وإن عدة الشهور اثنا عشر شهراً، منها أربعة حرم، رجب مضر الذى بين جمادى وشعبان وذو القعدة وذو الحجة والمحرم، ذلك الدين القيم فلا تظلموا فيهن أنفسكم، إنما النسىَ زيادة في الكفر يضل به الذين كفروا يحلونه عاماً ويحرمونه عاماً، ليواطئوا عدة ماحرم الله. كانوا يحلون صفر عاماً ويحرمون المحرم عاماً فذلك النسىَ.
يا أيها الناس: من كانت عنده وديعةٌ فليؤدها الى من ائتمنه عليها.
أيها الناس: إن الشيطان أيس أن يعبد ببلادكم آخر الزمان، وقد رضي منكم بمحقرات الأعمال، فاحذروا على دينكم محقرات الأعمال.
أيها الناس: إن النساء عندكم عوان، أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن
لايحل لامرىَ من مال أخيه إلا ما طابت به نفسه.
أيها الناس: إني تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا: كتاب الله فاعملوا به.
أيها الناس: أي يوم هذا؟
قالوا: يوم حرام.
قال: فأي بلد هذا؟
قالوا: بلد حرام.
قال: فأي شهر هذا؟
قالوا: شهر حرام.
قال: فإن الله تبارك وتعالى حرم دماءكم وأموالكم وأعراضكم كحرمة هذااليوم وهذا الشهر وهذا البلد. ألا ليبلغ شاهدكم غائبكم، لا نبي بعدي ولا أمة بعدكم. ثم رفع يديه فقال: اللهم اشهد. قلت في الصحيح وغيره طرف منه ـ رواه البزار وفيه موسى بن عبيدة وهو ضعيف.
ـ وفي مجمع الزوائد: 3|272
وعن فهد بن البحيرى بن شعيب بن عمرو بن الأزرق قال: خرجت الى مكة فلما صرت بالصحرية، قال لي بعض إخواني: هل لك في رجلٍ له صحبة من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قلت: نعم، قال صاحب القبة المضروبة في موضع كذا وكذا، فقلت لأصحابى: قوموا بنا إليه، فقمنا فانتهينا الى صاحب القبة، فسلمنا فرد السلام فقال: مَنِ القوم؟
قلنا: قومٌ من أهل البصرة بلغنا أن لك صحبة من رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: نعم، صحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم وقعدت تحت منبره يوم حجة
يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم، فليس لعربي على عجمي فضل، ولا لعجمي على عربي فضل، ولا لأسود على أحمر فضل، ولا لأحمر على أسود فضل، إلا بالتقوى.
يامعشر قريش لا تجيئوا بالدنيا تحملونها على رقابكم وتجىَ الناس بالآخرة، فإني لا أغني عنكم من الله شيئاً.
قلنا: ما اسمك؟ قال: أنا العداء بن خالد بن عمرو بن عامر، فارس الضحياء في الجاهلية. رواه الطبراني في الكبير بأسانيد هذا ضعيف. وتقدم له إسناد صحيح في الخطبة يوم عرفة.
وعن أبي قبيلة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام في الناس في حجة الوداع فقال: لا نبي بعدي، ولا أمة بعدكم، فاعبدوا ربكم، وأقيموا خمسكم، وصوموا شهركم، وأطيعوا ولاة أمركم، ثم ادخلوا جنة ربكم. رواه الطبراني في الكبير، وفيه بقية وهو ثقة ولكنه مدلس، وبقية رجاله ثقات.
ـ وفي سنن الدارمي: 2|47
فلما كان يوم التروية وجه الى منى فأهللنا بالحج، وركب رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى بمنى الظهر والعصر والمغرب والعشاء والصبح، ثم مكث قليلاً حتى إذا طلعت الشمس، أمر بقبة من الشعر تضرب له بنمرة، ثم ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم فسار، لا تشك قريش إلا أنه واقف عند المشعر الحرام كما كانت قريش تصنع في الجاهلية في المزدلفة، فسار رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتى عرفة، فوجد القبة قد ضربت بنمرة فنزلها، حتى إذا زاغت يعني الشمس أمر بالقصواء فرحلت له، فأتى بطن الوادي فخطب الناس، وقال:
إن دماء كم وأموالكم حرامٌ كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا، ألا إن كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع، ودماء الجاهلية موضوعة، وأول
قالوا نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت.
فقال بإصبعه السبابة فرفعها الى السماء وينكتها الى الناس: اللهم اشهد، اللهم اشهد، اللهم اشهد.
ثم أذن بلال بنداء واحد وإقامة فصلى الظهر، ثم أقام فصلى العصر، لم يصل بينهما شيئاً، ثم ركب حتى وقف، فجعل بطن ناقته القصواء الى الصخيرات...
ـ وفي سنن الدارمي: 2|67
عن عبد الرحمن بن أبي بكرة عن أبيه قال: لما كان ذلك اليوم قعد النبي صلى الله عليه وسلم على بعير، لا أدري جمل أو ناقة، وأخذ إنسان بخطامه، أو قال بزمامه
فقال: أي يوم هذا؟
قال فسكتنا حتى ظننا أنه سيسميه سوى اسمه.
فقال: أليس يوم النحر؟
قلنا: بلى.
قال فأي شهر هذا....الخ.
الأساس الأول: المساواة الإنسانية
لا نطيل في هذا الأساس لوضوحه، وقد تقدمت عدة فقرات تتعلق به في نماذج النصوص من خطبه صلى الله عليه وآله.
الأساس الثاني: وحدة الأمة الإسلامية
وقد روى المسلمون فقرات الخطب التي تتعلق بالمبادىَ الخمس الأولى من هذا الأساس بكثرةٍ وحفظوها وكرروها، حتى ليتصور الإنسان لأول وهلة أنها الموضوع الوحيد في خطب حجة الوداع!
والسبب في ذلك: أن المجتمع العالمي كان في عصره صلى الله عليه وآله مجتمع تمييز حاد على أساس قومي وقبلي وطبقي.. كما أنه كان مجتمع (قانون الغلبة والقوة) فالغالب على حق دائماً، سواء كان حاكماً، أو قبيلة، أو فارساً، أو صعلوكاً.. لأنه استطاع أن يقهر الآخرين، أو يغزوهم ويقتلهم ويسرق أموالهم، أو يغصبها منهم عنوةً، أو يحتال عليهم بحيلة!
فجاءت تشريعات الإسلام لتلغي ذلك كله، وتعلن تساوي الناس أمام الشرع، وتحرم كل أنواع الإعتداء على الحقوق الشخصية، وتركز احترام الإنسان وملكيته وكرامته.
فالأمر الذي جعلهم يحفظونها أكثر من غيرها من كلمات النبي صلى الله عليه وآله، هو إعجاب المسلمين المؤمنين بها، وكونها تمثل الحل لمشكلة الغزو والقتل التي كانوا يعانون منها في الجاهلية القريبة.
وقد كان لهذه التوجيهات بصيغها الإلَهية والنبوية البليغة، تأثيرٌ كبيرٌ على مجرى احترام الإنسان وماله وعرضه ورأيه بعد وفاة النبي صلى الله عليه وآله، إذ لولاها لساء وضع مجتمع المسلمين أضعافاً مضاعفة عما وصل اليه من سوء، ولعادت النظرة الى الإنسان والتصرف معه الى الحالة الجاهلية مئة بالمئة!!
والملاحظ بعد النبي صلى الله عليه وآله أن أكثر الناس احتراماً للإنسان وحرياته المشروعة، هم عترته وأهل بيته الطاهرون، فعلي عليه السلام هو الحاكم الوحيد بعد النبي صلى الله عليه وآله الذي لم يستعمل قانون الطوارىَ أو الأحكام العرفية، ولا أي قانون استثنائي، حتى مع
بينما استعمل أبو بكر وعمر منطق القوة والقهر في السقيفة ضد الأنصار، وهموا بقتل سعد بن عبادة، ثم هاجموا الممتنعين عن بيعتهم وهم مجتمعون في بيت علي وفاطمة عليهما السلام، وكانوا في تعزية بوفاة النبي صلى الله عليه وآله! بل روي أن جنازته كانت مسجاةً لم تدفن بعد! وهددوهم بإحراق البيت عليهم إن لم يخرجوا ويبايعوا! ولما تأخروا عن الخروج أشعلوا النار في الحطب وأحرقوا الباب.. الخ. !!
الأول:
أن من أعلن الشهادتين من أي دين أو قبيلة كان فهو مسلم، يحرم ماله ودمه وعرضه، إلا إذا انطبقت عليه مواد الفئة الباغية، أو المفسد في الأرض، أو قتل أحداً عمداً، أو ارتد عن الإسلام، أو زنى وهو محصن...
الثاني:
أن أهل الكتاب مستثنوْن من هذه القاعدة، والموقف منهم في الحرب والسلم حسب أحكام التعايش الإسلامية الخاصة بهم.
الثالث:
أن النبي صلى الله عليه وآله أشهد أمته أنه تقيد في الجهاد بأمر ربه عز وجل، ولم يتعداه .. فمهمته في الجهاد إنما كانت على تنزيل القرآن، وتحقيق إعلان الشهادتين فقط، أي لتكوين الشكل الكلي للأمة، ولم يؤمر بقتال المنحرفين، أو الذين يريدون أن ينحرفوا من المسلمين، لأن ذلك قتالٌ على التأويل، يكون من بعده، لا في عهده.
وهو مبدأ هيمنة شريعته صلى الله عليه وآله على شرائع الأنبياء السابقين عليهم السلام.. وردُّ مدعي النبوة الكذابين، الذين ظهر بعضهم في زمنه صلى الله عليه وآله، وظهر عددٌ منهم بعده.
كما أنه يعطي الأمة الإسلامية شرف ختام أمم الأنبياء عليهم السلام، ويلقي عليها مسؤولية هذه الخاتمية في هداية الأمم الأخرى.
وقد حدد النبي صلى الله عليه وآله لهم الخطوط العامة بعبادة الله تعالى والصلاة والصوم وإطاعة ولي الأمر.. ولكن لا يبعد أن الراوي نقل ماحفظه من كلامه صلى الله عليه وآله ونسي بعضه كالزكاة والحج.
ومن الملاحظ في هذه المبدأ وجود فريضة إطاعة ولي الأمر على لسان النبي صلى الله عليه وآله وإذا أوجب الله تعالى إطاعة أحدٍ بدون شروط، فمعناه أنه معصومٌ لا يظلم ولا يأمر ولا ينهى إلا بالحق.. وبما أن النص النبوي لم يذكر شروطاً لإطاعة أولي الأمر، فيكون مقصوده الإثني عشر إماماً المعينين من الله تعالى، الذين بشر الأمة بهم.
فهذا التوجيه منه صلى الله عليه وآله كمثل أبٍ يقول لأولاده: إعملوا بوصيتي، فإني مسافرٌ عنكم، وسوف أرجع اليكم وآتي بأموالٍ كثيرة، وتكونون في حالة فقرٍ شديدة، وسأعرف من يعمل بوصيتي منكم، ومن يخالفني!
وهو أمرٌ مشاهد سواءً في حالات الهلاك الفردي أو الإجتماعي..
فقد يتسامح المسلم في النظر الى امرأة أجنبية تعجبه، ويتسامح في الحديث معها، ثم في التصرف.. حتى ينجر أمره الى الفاحشة!
وقد يتسامح في اتخاذ صديق سوء، ولا ينصت الى صوت ضميره الديني، ونصح ناصحيه.. حتى يغرق معه في بحر ظلمه للناس، أو بحر انحرافه ورذيلته!
وقد تتسامح الأمة في اعتداء الأجانب عليها، أو في نفوذهم السياسي، أو الإقتصادي أو الثقافي في بلادها.. فينجر الأمر الى تسلطهم على مقدراتها، وسيطرتهم عليها!
أو يتسامح المجتمع في مظهر من مظاهر الفساد والمنكر أول ما يحدث في محلة أو منطقة منه، أو في فئة من فئاته..
أو يتسامح المجتمع في شروط حاكمه، ووزرائه وقضاته، أو في ظلمهم وسوء سيرتهم.. فينجر ذلك الى شمول الفساد في المجتمع، وتسارع هلاكه!
فالمحقرات من الذنوب هي المواقف أو التصرفات الصغيرة، التي تكون في منطق الأحداث والتاريخ بذوراً غير منظورة، لشجرة شرٍّ كبيرة، على المستوى الفردي أو الإجتماعي!!
وبهذا ورد تفسيرها عن النبي صلى الله عليه وآله في مصادر الطرفين..
ـ ففي الكافي 2|288، عن الإمام الصادق عليه السلام قال: إن رسول الله صلى الله عليه وآله نزل بأرض قرعاء، فقال لأصحابه: إئتوا بحطبٍ، فقالوا: يارسول الله نحن بأرضٍ قرعاء ما بها من حطب! قال: فليأت كل إنسانٍ بما قدر عليه، فجاؤوا به حتى رموا بين يديه، بعضه على بعض، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: هكذا تجتمع الذنوب، ثم قال: إياكم والمحقرات
ـ وفي سنن البيهقي: 10|188
عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إياكم ومحقرات الأعمال، إنهن ليجمعن على الرجل حتى يهلكنه، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم ضرب لهن مثلاً، كمثل قوم نزلوا بأرض فلاة فحضر صنيع القوم، فجعل الرجل يجىَ بالعويد، والرجل يجىَ بالعويد، حتى جمعوا من ذلك سواداً، ثم أججوا ناراً، فأنضجت ما قذف فيها. انتهى.
وهذان الحديثان الشريفان ناظران الى التراكم الكمي للذنوب والأخطاء المحقرة، وكيف تتحول الى خطر نوعي في حياة الفرد والمجتمع.
وقد يكون الحديثان التاليان ناظرين الى التراكم الكيفي في نفس الإنسان والمجتمع، وشخصيتهما..
ـ ففي الكافي: 2|287
عن الإمام الصادق عليه السلام قال: اتقوا المحقرات من الذنوب، فإنها لا تغفر! قلت: وما المحقرات؟ قال: الرجل يذنب الذنب فيقول: طوبى لي لو لم يكن لي غير ذلك!
ـ وفي سنن ابن ماجة: 2|1417
عن عائشة قالت: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا عائشة إياك ومحقرات الأعمال، فإن لها من الله طالباً. في الزوائد: إسناده صحيح، رجاله ثقات. انتهى. ورواه الدارمي: 2|303، وأحمد: 6|70 و 151
ومن القواعد الهامة التي نفهمها من هذا التوجيه النبوي: أن الشيطان عندما ييأس من السيطرة على أمة في قضاياها الكبيرة، يتجه الى التخريب والإضلال عن طريق المحقرات! (ألا إن الشيطان قد أيس أن يعبد في بلدكم هذا أبداً، ولكن سيكون له طاعةٌ في بعض ما تحتقرون من أعمالكم، فيرضى بها (سنن ابن ماجة: 2|1015)
ومن الأمور الملفتة التي وردت في التوجيه النبوي في رواية علي بن ابراهيم أن إطاعة الشيطان في محقرات الذنوب عبادةٌ له، فالذين يبدؤون بالإنحراف في مجتمع، إنما يعبدون الشيطان ولا يعبدون الله تعالى، وهم بدعوتهم الى انحرافهم يدعون الأمة العابدة لله تعالى الى عبادة الشيطان.. (ولكنه راض بما تحتقرون من أعمالكم، ألا وإنه إذا أطيع فقد عبد!).
كما أن شهادة النبي صلى الله عليه وآله بأن الشيطان راض بما تحتقرون من أعمالكم، شهادةٌ خطيرة يخبر بها عن ارتياح الشيطان من نجاحه في مشروعه في إضلال الأمة، وهدم صرحها عن طريق المحقرات.. وهو ينفع في تفسير قوله تعالى: ولقد صدق عليهم ابليس ظنه فاتبعوه إلا فريقاً من المؤمنين. سبأ ـ 20
أما أهل البيت عليهم السلام فقد اعتبروا أن طمع الأمة بالسلطة بعد النبي صلى الله عليه وآله وصراعها عليها، كان أعظم المحقرات التي ارتكبتها بعد نبيها.. ففي بحار الأنوار: 28|217 عن الإمام الباقر عليه السلام قال في تفسير قوله تعالى: ظهر الفساد في البر و البحر بما كسبت أيدي الناس قال: ذلك والله يوم قالت الأنصار: منا أميرٌ ومنكم أمير! انتهى.
فهل يكفي في معالجة المشكلة تحذير الكذابين، وتحذير الأمة منهم؟!
من الواضح أن ذلك العلاج لا يؤثر إلا تقليل حجم المشكلة الكمي، ولذا فإن تصريح النبي صلى الله عليه وآله بوجودها، وإخباره باستمرارها وتفاقمها بعده، دليلٌ على أنه وضع لها بأمر ربه الحكيم، علاجاً كافياً..
وقد كان العلاج وجوب عرض أحاديثه التي تروى عنه على الثقلين اللذين تركهما في الأمة وأوصاها بهما.. فكل حديث خالف كتاب الله تعالى فهو زخرفٌ باطل، يستحيل أن يكون صادراً من النبي صلى الله عليه وآله، لأنه لا يقول مايخالف القرآن.. وكل حديث يخالف ماثبت عن عترته الذين هم مع القرآن، فهو باطلٌ أيضاً لأنهم مع القرآن دائماً، ولأنهم ورثة النبي صلى الله عليه وآله والمبينون علومه للأمة من بعده.
الأساس الثالث: وحدة شريعة المسلمين وثقافتهم
وقد وردت مبادىَ هذا الأساس في فقرات متعددة من خطب حجة الوداع، ذكرنا منها أداء الأمانة وتشريعات الإرث والديات والحج.. ويوجد في الخطب الشريفة تشريعاتٌ أخرى أيضاً.
ومن الواضح أن العامل الأساسي في وحدة ثقافة الأمة الإسلامية على اختلاف بلادها وقومياتها، هو وحدة عقيدتها وشريعتها.. وأن كل الدول والحضارات لم تستطع أن تحقق بين الشعوب التي شملتها ماحققه الإسلام من وحدة في التصور والسلوك، مازالت قائمة الى اليوم بين شعوبه، رغم كل العوامل المضادة!
الأساس الرابع: مبادىَ مسيرة الدولة والحكم بعد النبي صلى الله عليه وآله
ـ مبدأ البشارة بالأئمة الإثني عشر من عترته.
ـ مبدأ التأكيد على الثقلين: القرآن والعترة.
ـ مبدأ إعلان علي ولياً للأمة من بعده، والإمام الأول من الإثني عشر.
ـ مبدأ أداء الفرائض، وإطاعة ولاة الأمر.
ـ مبدأ تخليد تعاهد قريش على حصار بني هاصم.
ـ مبدأ تحذير قريش أن تطغى من بعده صلى الله عليه وآله.
ـ مبدأ تحذيره الصحابة من الإرتداد والصراع على السلطة.
وقد تقدم البحث في حديث الأئمة الإثني عشر، الذي شهدت رواياته بأنه صدر في خطب حجة الوداع.
والعاقل لا يمكنه أن يقبل أن النبي صلى الله عليه وآله قد أخفى هوية هؤلاء الأئمة الإثني عشر المعينين من الله تعالى.. أو أنه طرح موضوعهم وهو يودع الأمة لمجرد إخبارها بوجودهم، كما تدعي قريش ورواتها!
وأما المبدأ الثاني من هذا الأساس (التأكيد على الثقلين: القرآن والعترة) فقد روتها مصادرنا في خطبة الغدير، وفي خطبة مسجد الخيف أيضاً، وربما في غيرها من خطب حجة الوداع، كما تقدم في رواية تفسير علي بن ابراهيم.
أما مصادر السنيين فقد روت بشكل واسع تأكيد النبي صلى الله عليه وآله على الثقلين القرآن والعترة في خطبة غدير خم فقط، وصححوا روايتها، وقد تقدم أن الطبري المعروف قد ألف كتاباً من مجلدين جمع فيه أحاديث الغدير وطرقها وأسانيدها.
أما في بقية خطب حجة الوداع، فقد رواها من صحاحهم المعروفة الترمذي في سننه: 5 | 328 عن جابر بن عبد الله قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجته يوم عرفة وهو على ناقته القصواء يخطب فسمعته يقول:
يا أيها الناس، إني تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلوا: كتاب الله وعترتي أهل
ومن الملاحظ أن عدداً من المصادر السنية روت وصية النبي صلى الله عليه وآله في حجة الوداع بالكتاب وحده، بدون العترة!
ففي صحيح مسلم: 4|41 (وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به: كتاب الله) ومثله في أبي داود: 1|427، وسنن البيهقي: 5|8، ونحوه في ابن ماجة: 2|1025، وفي مجمع الزوائد: 3|265: بصيغة (أيها الناس إني تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا: كتاب الله فاعملوا به).
والمتتبع لأحاديث الباب يطمئن بأن الذي حصل هو إسقاط العترة من الرواية التي رواها هؤلاء، إما لنسيان الراوي، أو بسبب رقابة قريش على خطب نبيها صلى الله عليه وآله!
والدليل على ذلك: أن نفس المصادر التي روت هذا الحديث ناقصاً في حجة الوداع، روته تاماً في غيرها، فيحمل الناقص على التام!
فقد روى مسلم والبيهقي وابن ماجة والهيثمي بروايات متعددة، وصية النبي صلى الله عليه وآله بالقرآن والعترة معاً، وتأكيداته المتكررة على ذلك..
ـ ففي صحيح مسلم: 7|122:
عن زيد بن أرقم (قام رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً فينا خطيباً بماء يدعى خماً، بين مكة والمدينة، فحمد الله وأثنى عليه، ووعظ وذكر، ثم قال:
أما بعد، ألا أيها الناس فإنما أنا بشر يوشك أن يأتي رسول ربي فأجيب، وأنا تارك فيكم ثقلين: أولهما كتاب الله فيه الهدى والنور، فخذوا بكتاب الله، واستمسكوا به فحث على كتاب الله ورغب فيه، ثم قال:
وأهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي.
قال: نساؤه من أهل بيته، ولكن أهل بيته من حرم الصدقة بعده.
قال: ومن هم؟
قال: هم آل علي، وآل عقيل، وآل جعفر، وآل عباس.
قال: كل هؤلاء حرم الصدقة؟
قال: نعم. انتهى.
ورواه البيهقي في سننه 7|30 و 10|114.
وفي مجمع الزوائد: 1|170: عن زيد بن ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إني تركت فيكم خليفتين: كتاب الله، وأهل بيتي، وإنهما لن يتفرقا حتى يردا علي الحوض. رواه الطبراني في الكبير ورجاله ثقات). ورواه بنحوه: 9|162 وقال: رواه أحمد وإسناده جيد.
وأما أبو داود فلم يرو حديثاً صريحاً في الثقلين، ولكنه عقد في سننه: 2|309 كتاباً باسم (كتاب المهدي) وروى فيه حديث الأئمة الإثني عشر وبشارة النبي صلى الله عليه وآله بالإمام المهدي وأنه من ذرية علي وفاطمة عليهما السلام، وروى عن النبي صلى الله عليه وآله قوله (لو لم يبق من الدهر إلا يوم لبعث الله رجلاً من أهل بيتي يملأها عدلاً كما ملئت جوراً). انتهى.
والذي يؤكد ما ذكرناه من أن الوصية بالعترة حذفت من خطب حجة الوداع: أن الكلام النبوي الذي هو جوامع الكلم، له خصائص عديدة يتفرد بها.. ومن خصائصه أنه يستعمل تراكيب معينة لمعان معينة، لا يستعملها لغيرها، فهو بذلك يشبه القرآن. وتركيب (ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي) خاصٌّ لوصيته للأمة بالقرآن والعترة، لم يستعمله صلى الله عليه وآله في غيرهما أبداً.. كما أن تعبير: إني تارك فيكم الثقلين لم يستعمله في غيرهما أبداً.
ولذلك عندما قال لهم في مرض وفاته: إيتوني بدواة وقرطاس أكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعده أبداً.. فهمت قريش أنه يريد أن يلزم المسلمين بإطاعة الأئمة من عترته
وغرضنا هنا أن نلفت الى أن ورود هذا التركيب في أكثر رواياتهم لخطب حجة الوداع للقرآن وحده دون العترة، يخالف الأسلوب النبوي، وتعبيره المبتكر في الوصية بهما معاً.. خاصةً وأن الترمذي رواهما معاً!
والنتيجة أن بشارة النبي صلى الله عليه وآله لأمته في حجة الوداع بالائمة الإثني عشر، ووصيته بالثقلين، وجعله عترته الطاهرين علياً وفاطمة والحسن والحسين عدلاً للقرآن في وجوب الإتباع، أمرٌ ثابتٌ في مصادر جميع المسلمين.. لا ينكره إلا من يريد أن يتعصب لقبيلة قريش، في مقابل الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وآله.
وأما المبدأ الثالث من هذا الأساس (إعلان علي ولياً للأمة من بعده) فهو صريح حديث الغدير، ولا يتسع موضوعنا لذكر أسانيده ونصوصه، ودلالتها على ذلك.. وقد تكفلت بذلك المصادر الحديثية والكلامية، ومن أقدمها كتاب (الولاية) للطبري السني، ومن أواخرها كتاب الغدير للعلامة الأميني.
وأما المبدأ الرابع من هذا الأساس (تأكيده صلى الله عليه وآله على أداء الفرائض وإطاعة ولاة الأمر) فقد تقدم ذكره في فقرات الأساس الثاني، وقد اعترف الفخر الرازي وغيره في تفسير قوله تعالى (أطيعوا وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم) بأن غير المعصوم لا يمكن أن يأمرنا الله تعالى بطاعته بدون شرط، لأنه يكون بذلك أمرَ بالمعصية! فلا بد أن يكون أولوا الأمر في الآية معصومين.. وكذلك الحديث النبوي الشريف في حجة الوداع، وغيرها.
وأما المبدأ الخامس من هذا الأساس (تخليده صلى الله عليه وآله مكان تعاهد قريش على حصار بني هاشم) فقد رواه البخاري في صحيحه: 5|92 قال:
ورواه في: 4|246 و: 8|194 ورواه في: 2|158، بنص أوضح، فقال:
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال النبي صلى الله عليه وسلم من الغد يوم النحر وهو بمنى: نحن نازلون غداً بخيف بني كنانة، حيث تقاسموا على الكفر. يعني بذلك المحصب، وذلك أن قريشاً وكنانة تحالفت على بني هاشم وبني عبد المطلب أو بني المطلب، أن لا يناكحوهم ولا يبايعوهم حتى يسلموا إليهم النبي صلى الله عليه وسلم!!. انتهى.
ورواه مسلم: 4|86، وأحمد: 2|322 و 237 و 263 و 353 و 540
ورواه البيهقي في سننه: 5|160، بتفاوت وقال (أخرجه البخاري ومسلم في الصحيح من حديث الأوزاعي) وقد رواه مسلم عن الأوزاعي، ولكن البخاري لم يروه عنه، بل عن أبي هريرة، ولم نجد في طريقه الأوزاعي، فهو اشتباهٌ من البيهقي، أو سقطٌ من نسخة البخاري التي بأيدينا.
وفي رواية البيهقي عن الأوزاعي زيادة (أن لا يناكحوهم، ولا يكون بينهم شيء حتى يسلموا اليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم).
كما أن في رواياتهم تفاوتاً في وقت إعلان النبي صلى الله عليه وآله للمسلمين عن مكان نزوله في منى، فرواية البخاري تذكر أنه أعلن ذلك في منى بعد عرفات، بينما تذكر رواية الطبراني أنه أعلن ذلك في مكة قبل توجهه الى الحج.. وهذا أقرب الى اهتمامه صلى الله عليه وآله بالموضوع، وحرصه على تركيزه في أذهان المسلمين، خاصةً أنه نزل في هذا المنزل، وبات فيه ليلة عرفات، وهو في طريقه اليها، وقد تقدم ذلك في رواية الدارمي، ثم نزل فيه طيلة أيام التشريق! قال في مجمع الزوائد: 3|250:
عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل يوم التروية بيوم: منزلنا غداً إن شاء الله بالخيف الأيمن، حيث استقسم المشركون. رواه الطبراني في الكبير والأوسط، ورجاله ثقات. انتهى.
وقد نفذوها لسنين طويلة وضيقوا عليهم اقتصادياً واجتماعياً تضييقاً تاماً، حتى يتراجع محمد عن نبوته، أو يسلمه بنو هاشم الى قريش ليقتلوه!!
وقد اعتبر الفراعنة يومذاك أنهم نجحوا نجاحاً كبيراً وحققوا إجماع قريش وكنانة على هذا الهدف الشيطاني، وكان مؤتمرهم لذلك في المحصب في خيف بني كنانة حيث تقاسموا باللات والعزى على هدفهم، وبدؤوا من اليوم الثاني بتنفيذه، واستمر حصارهم ومقاطتهم نحو أربع سنوات الى قبيل هجرته صلى الله عليه وآله من مكة!!
وقد تضامن بنو هاشم مع النبي صلى الله عليه وآله مسلمهم وكافرهم وتحملوا سنوات الحصار والفقر والأذى والإهانة، في شعب أبي طالب، ولم يشاركهم في ذلك أحد من المسلمين.. حتى فرج الله عنهم بمعجزة!
لقد أراد النبي صلى الله عليه وآله أن يوعي المسلمين الجدد على تاريخ الإسلام، وتكاليف الوحي، ليعرفوا قيمته.. ويوعيهم على معدن الإسلام ومعدن الكفر ليعرفوهما!
كما أراد أن يبعث بذلك رسالةً الى بقية الفراعنة، الذين مازالوا أحياء من زعماء قريش، بأنهم قد تحملوا وزر هذا الكفر والعار، ثم ارتكبوا بعده ما هو أعظم منه، ولم يتراجعوا إلا عندما جمعهم في فتح مكة تحت سيوف الأنصار وسيوف بني هاشم، فأعلنوا إسلامهم خوفاً من القتل.. وها هم اليوم يخططون لوراثة دولة الإسلام التي بناها الله تعالى ورسوله، وهم كارهون!!
لقد أهلك الله تعالى عدداً قليلاً من أبطال ذلك الحلف الشيطاني، من سادة