وكانت تصرفاتهم الظاهرة والخفية، ومنطق الأمور، وشهادة أهل البيت، ومجرى التاريخ.. تدل على فرحهم بأن النبي صلى الله عليه وآله يعلن قرب موته ورحيله عنهم، وأنهم يعدون العدة لما بعده لحصار بني هاشم الجديد!!
فأراد النبي صلى الله عليه وآله أن يذكرهم بخطتهم في حصارهم القديم، وكيف أحبطه الله تعالى! وأنه سيحبط حصارهم الجديد أيضاً!!
وأما المبدأ السابع من هذا الأساس (تحذيره قريشاً أن تطغى من بعده وتفسد) فقد ذكرته أحاديث مصادرنا، وذكرته رواية الهيثمي المتقدمة في مجمع الزوائد عن فهد بن البحيري، الذي استمع على مايبدو الى خطبة يوم عرفة ونقل عن النبي صلى الله عليه وآله قوله (يامعشر قريش لا تجيئوا بالدنيا تحملونها على رقابكم وتجئ الناس بالآخرة، فإني لا أغني عنكم من الله شيئاً) انتهى.
ونشكر الله تعالى أن فهدا البحيري هذا كان بدوياً، ولم يكن قرشياً ولا كنانياً، وإلا لوضع هذه الرواية في رقبة بني هاشم، وأبعدها عن قريش، كما فعل الرواة القرشيون! فجعلونا نقرأ في مصادر إخواننا السنيين عشرات الأحاديث (الصحيحة ) في تحذير النبي صلى الله عليه وآله لبني هاشم وبني عبد المطلب وذمهم!! وعشرات الأحاديث في مدح قريش ووجوب أن تكون القيادة فيهم!! ولا تجد فيها حديثاً في ذم قريش إلا وقد أحبطوا معناه بحديث آخر، أو حولوه الى مدحٍ لقريش!!
والنبي صلى الله عليه وآله إنما هو مبلغٌ عن ربه، ومقيمٌ لحجة ربه، وعليه أن يحذر وينذر، ليحيى من حيَّ عن بينة، ويهلك من هلك عن بينة.
وأما المبدأ الثامن من هذا الأساس (تحذيره الصحابة من الإرتداد والصراع على السلطة) فقد روته مصادر الجميع بصيغتين: مباشرة، وغير مباشرة..
أما غير المباشرة فهي قوله صلى الله عليه وآله (لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض) وقد تقدم في نصوص الخطب أن ابن ماجة عقد في سننه: 2|1300 باباً تحت هذا العنوان وقال فيه إن النبي صلى الله عليه وآله (استنصت الناس فقال... ويحكم أو ويلكم، لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض... فلا تقتتلن بعدي).
وهذا يعني أن ذلك سوف يقع منهم، وقد أخبرهم أنهم سيفعلون، ولكنه صلى الله عليه وآله استعمل كل بلاغته وكل عاطفته، وكل موجبات الخوف والحذر.. ليقيم الحجة عليهم لربه عز وجل، حتى إذا وافوه يوم القيامة لا يقولوا: لماذا لم تحذرنا!
والذين يحذرهم من الإقتتال ليسوا إلا الصحابة لا غير .. لا غير.. لا اليهود ولا القبائل العربية، ولا حتى زعماء قريش بدون شركائهم من الصحابة..
فالدولة الإسلامية كانت قائمة، وقد حققت مركزيتها على كل الجزيرة، والخوف من الإقتتال بعد النبي صلى الله عليه وآله ليس من القبائل التي خضعت للاسلام طوعاً أو كرهاً، مهما كانت كبيرةً وموحدةً مثل هوازن وعطفان.. فهي لا تستطيع أن تطمح الى قيادة هذه الدولة، وإن طمحت فلا حظَّ لها في النجاح، إلا بواسطة الصحابة..
وزعماء قريش، مع أنهم يملكون جمهور قبائل قريش، فهم لا يستطيعون أن يدعوا حقاً في قيادة الدولة بعد النبي صلى الله عليه وآله لأنهم كلهم طلقاؤه، يعني كان للنبي صلى الله عليه وآله الحق في أن يقتلهم ، أو يتخذهم عبيداً، فاتخذهم عبيداً وأطلقهم.. فلا طريق لهم للقيادة إلا بواسطة العدد الضئيل من الصحابة، من القرشيين المهاجرين..
وبذلك يتضح أن تحذيره صلى الله عليه وآله من الصراع بعده على السلطة، ينحصر بالصحابة المهاجرين، ثم بالأنصار فقط.. وفقط !!
وهنا يأتي دور التحذير المباشر، الذي لا ينقصه إلا الأسماء الصريحة.. وقد جاء هذا الإعلان النبوي على شكل لوحةٍ من الغيب، عن النتيجة والمصير الذي يمشي اليه هؤلاء الصحابة المنحرفون المحرِّفون!
لوحةٌ أخبره بها جبرئيل عليه السلام عن الله تعالى، يومَ يجعل الله محمداً صلى الله عليه وآله رئيس المحشر، ويعطيه جبرئيل لواء الحمد، فيدفعه النبي الى علي بن أبي طالب، فهو حامل لوائه في الدنيا والآخرة، ويكون جميع أهل المحشر تحت قيادة محمد صلى الله عليه وآله.. ويفتخر به آدم عليه السلام، حتى يدعى أبا محمد.. صلى الله عليه وآله.
ويعطي الله تعالى رسوله الشفاعة وحوض الكوثر، فيفد عليه الوافدون من الأمم فيشفع لهم ويعطيهم بطاقة للشرب من حوض الكوثر، ليتغير بذلك الكأس تركيبهم الفيزيائي، وتصلح أجسادهم لدخول الجنة، والخلود في نعيمها..
وعندما يفد عليه أصحابه تحدث المفاجأة:
يأتي النداء الإلهي بمنع النبي صلى الله عليه وآله من الشفاعة لهم، ومنعهم من ورود الحوض، ويؤمر ملائكة العذاب بأخذهم الى جهنم !!
هذا هو مستقبل هؤلاء الصحابة على لسان أصدق الخلق!!
إنها أعظم كارثةٍ على صحابةِ أعظم رسول صلى الله عليه وآله .. ولا بد أن سببها أنهم سوف يوقعون في أمته من بعده أعظم... كارثة!!
ولا ينجو من هؤلاء الصحابة إلا مثل (همل النعم) كما في روايات محبيهم الصحيحة بأشد شروط الصحة.. وهو تعبيرٌ نبويٌّ عجيب، لأن همل النعم هي الغنم أو الإبل الفالتة من القطيع، الخارجة على راعيه! وهو يدل على أن قطيع الصحابة في النار، وهملهم الذي يفلت منهم، يفلت من النار الى الجنة!!
بل ذكر النبي صلى الله عليه وآله أن الصحابة الجهنميين زمرتان، مما يدل على أنهم خطان من صحابته لاخطٌ واحد، وتقدم قول الحاكم عن حديثه: صحيحٌ على شرط الشيخين، وفيه (ثم أقبلت زمرةٌ أخرى ، ففعل بهم كذلك، فلم يفلت إلا كمثل النعم!!)
إنها مسألةٌ مذهلةٌ.. صعبةُ التصور والتصديق، خاصةً على المسلم الذي تربى على حب كل الصحابة، وخير القرون، والجيل الفريد، وحديث أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم.. وعلى الصور واللوحات الرائعة للصحابة، التي كبر معها وكبرت معه.. فإذا به يفاجأ بهذه الصورة الشيطانية المخيفة عنهم!!
لو كان المتكلم عن الصحابة غير الرسول صلى الله عليه وآله لقالوا عنه إنه عدوٌّ للإسلام ولرسوله يريد أن يكيد للإسلام عن طريق الطعن في صحابة الرسول.. صلى الله عليه وآله.
ولكن المتكلم هو.. الرسول صلى الله عليه وآله.. بعينه.. بنفسه.. وكلامه ليس اجتهاداً منه ولا رأياً رآه، حتى تقول قريش إنه يتكلم في الرضا والغضب، وكلامه في الغضب ليس حجة.. بل هو وحيٌ نزل عليه من رب العالمين!!
إنها حقيقةٌ مرةٌ.. ولكن هل يجب أن تكون الحقيقة دائماً حلوةً كما نشتهي.. وأن يكون الحق دائماً مفصلاً على مزاجنا، مطابقاً لموروثاتنا؟!
وماذا نصنع إذا كانت أحاديث الصحابة المطرودين، المرفوضين، الممنوعين من
ـ قال الجوهري في الصحاح: 5|1854
والهمل بالتحريك: الإبل التي ترعى بلا راع، مثل النفش ، إلا أن النفش لا يكون إلا ليلاً، والهمل يكون ليلاً ونهاراً. يقال: إبلٌ هملٌ وهاملة وهمال وهوامل.
وتركتها هملاً أي سدى، إذا أرسلتها ترعى ليلاً ونهاراً بلا راع.
وفي المثل: اختلط المرعي بالهمل. والمرعي الذي له راع. انتهى.
ولكن السؤال هو: لماذا طرح الرسول صلى الله عليه وآله موضوعهم في حجة الوداع؟!
الجواب: لأن الله تعالى أمره بذلك، فهو لا ينطق عن الهوى، ولا علم له من نفسه بما سيفعله أصحابه من بعده، ولا بما سيجري له معهم يوم القيامة!!
والسؤال الآخر: وماذا فعل الصحابة بعد الرسول؟ هل كفروا وارتدوا كما يقول الحديث؟ هل حرفوا الدين؟ هل اقتتلوا على السلطة والحكم؟!
والجواب: إقبل ما يقوله لك نبيك صلى الله عليه وآله، واسكت، ولا تصر رافضياً!
والسؤال الآخر: لماذا اختار الله تعالى هذا الأسلوب في التحذير، ولم يهلك هؤلاء الصحابة، الذين سينحرفون، أو يأمر رسوله بقتلهم، أو يكشفهم للمسلمين ليحذروهم!
والجواب: هذه سياسته سبحانه وتعالى في إقامة الحجة كاملة على العباد، وترك الحرية لهم.. ليحيى من حيَّ عن بينة، ويهلك من هلك عن بينة.. ولا يسأل عما يفعل، وهم يسألون.. فهو سبحانه مالكهم له حق سؤالهم، وهو لا يفعل الخطأ حتى يحاسب عليه.. وهو أعلم، وغير الأعلم لا يمكنه أن يحاسب الأعلم ويسأله!
والسؤال الآخر: ماذا كان وقع ذلك على الصحابة والمسلمين؟! ألم يهرعوا الى الرسول صلى الله عليه وآله ليحدد لهم الطريق أكثر، ويعين لهم من يتبعونه بعده، حتى لا يضلهم هؤلاء الصحابة الخطرون؟!
وقبل حجة الوداع وبعدها ، طالما حدد النبي صلى الله عليه وآله لهم عترته وأهل بيته بأسمائهم: علي وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام ، حتى أن الأحاديث الصحاح تقول إنه حددهم حسياً فأدار عليهم كساءً يمانياً، وقال للمسلمين: هؤلاء عترتي أهل بيتي!!
ولم يكتف بذلك حتى أوقف المسلمين في رمضاء الجحفة بغدير خم، وأخذ بيد علي عليه السلام وبلغ الأمة إمامته من بعده، ونصب له خيمةً، وأمر المسلمين أن يسلموا عليه بإمرة المؤمنين، ويباركوا له ولايته عليهم التي أمر بها الله تعالى.. فهنؤوه جميعاً وباركوا له، وأمر النبي صلى الله عليه وآله نساءه وكن معه في حجة الوداع، أن يهنئن علياً فجئن الى باب خيمته وهنأنه وباركن له.. معلناتٍ رضاهن بولايته على الأمة.
ثم أراد صلى الله عليه وآله في مرض وفاته أن يؤكد الحجة على الأمة بوثيقةٍ مكتوبة، فطلب منهم أن يأتوه بدواة وقرطاس ليكتب لهم كتاباً لن يضلوا بعده أبداً.. ولكنهم رفضوا ذلك بشدة! وقالوا له: شكراً أيها الرسول، لقد قررنا أن نضل، عالمين عامدين مختارين!! لأنا لانريد أن تكتب لنا أطيعوا بعدي عترتي علياً، ثم حسناً، ثم حسيناً، ثم تسعة من ذرية الحسين!
فهل تريد من نبيك صلى الله عليه وآله أن يقيم الحجة أكثر من هذا؟!
الأساس الخامس: عقوبة
المخالفين للوصية النبوية بأهل بيته
عليهم السلام
وهي عقوبةٌ أخروية، تتناسب مع مسؤولية النبي صلى الله عليه وآله في التبليغ، والشهادة على الأمة.. وقد جاءت شديدةً قاطعة، بصيغة قرارٍ من الله تعالى بلعن المخالفين لرسوله صلى الله عليه وآله في أهل بيته، وطردهم من الرحمة الإلهية، وحكماً بعدم قبول توبتهم نهائياً واستحقاقهم العذاب في النار .
وربما يزيد من شدتها، أنها كانت آخر فقرة من خطبته صلى الله عليه وآله!!
ـ ففي سنن ابن ماجة: 2|905
عن عمرو بن خارجة أن النبي صلى الله عليه وسلم خطبهم وهو على راحلته، وإن راحلته لتقصع بجرتها، وإن لغامها ليسيل بين كتفي، قال... ومن ادعى الى غير أبيه، أو تولى غير مواليه، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل منه صرفٌ ولا عدلٌ. أو قال: عدلٌ ولا صرفٌ.
ـ وفي سنن الترمذي: 3|293
عن أبي أمامة الباهلي قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في خطبته عام حجة الوداع.... ومن ادعى الى غير أبيه، أو انتمى الى غير مواليه، فعليه لعنة الله التابعة الى يوم القيامة.
ـ وفي مسند أحمد: 4|239
عن عمرو بن خارجة قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بمنى على راحلته، وإني لتحت جران ناقته، وهي تقصع بجرتها، ولعابها يسيل بين كتفي، فقال: ألا ومن ادعى الى غير مواليه رغبةً عنهم، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين. ورواه أحمد: 4|187 بلفظ: ألا ومن ادعى الى غير أبيه، أو تولى غير مواليه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً أو عدلاً ولا صرفاً. انتهى. ورواه بعدة روايات في نفس الصفحة والتي قبلها، وفي ص 238 و 186، ورواه الدارمي في سننه: 2|244 و344، ومجمع الزوائد: 5|14، عن أبي مسعود، ورواه البخاري في صحيحه: 2|221، و: 4|67
ولعلك تسأل: ماعلاقة هذه اللعنة المشددة المذكورة في خطب حجة الوداع وغيرها بوصية النبي صلى الله عليه وآله بأهل بيته؟! فهي تنصب على الذي ينكر نسبه من أبيه وينسب نفسه الى شخص آخر، وعلى العبد الذي ينكر مالكه ويدعي أنه عبد
فهذا هو معنى (من ادعى لغير أبيه أو تولى غير مواليه) !
والجواب: أن مقصود النبي صلى الله عليه وآله بالأبوة في هذه الأحاديث الشريفة: أبوته هو المعنوية للأمة، وبالولاء: ولايته وولاية أهل بيته عليها، وليس مراده الأبوة النسبية وولاء المالك لعبده !
والدليل على ذلك: لو أن ولداً هرب من أبيه، وسجل نفسه باسم والدٍ آخر، ثم تاب من فعلته وصحح هويته، واستغفر الله تعالى.. فإن الفقهاء جميعاً يفتون بأن توبته تقبل !
ولو أن عبداً مملوكاً هرب من سيده ولجأ الى شخص، وادعى أنه سيده، وبعد مدة رجع الى سيده واستغفر الله تعالى.. فإن الفقهاء يفتون بأن توبته تقبل.
بينما الشخص الملعون في كلام النبي صلى الله عليه وآله مصبوبٌ عليه الغضب الإلهي الى الأبد! (فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً). والصرف هو التوبة ، والعدل الفدية، وقد فسرتهما الأحاديث الشريفة بذلك.
فهذه العقوبة الإلهية المذكورة في خطب حجة الوداع، إنما تصح لحالات الخيانة العظمى، مثل الإرتداد وشبهه، ولا يعقل أن تكون لولدٍ جاهلٍ يدعو نفسه لغير أبيه، أو لعبدٍ مملوكٍ أو مظلومٍ يدعو نفسه لغير سيده!
ويؤيد ذلك أن بعض رواياتها صرحت بكفر من يفعل ذلك، وخروجه من الإسلام! كما في سنن البيهقي: 8|26، ومجمع الزوائد: 1|97، وكنز العمال: 5|872. وفي كنز العمال: 10 | 324 (من تولى غير مواليه فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه. أحمد عن جابر).
ـ وفي|326 (من تولى غير مواليه فليتبوأ بيتاً في النار. ابن جرير عن عائشة)
ـ وفي|327 (من تولى غير مواليه فقد كفر. ابن جرير عن أنس).
ـ وفي: 16|255 (ومن تولى غير مواليه فهو كافر بما أنزل الله على رسوله. ش)
ويؤيد ذلك أيضاً: أن بعض رواياته كالتي مرت آنفاً وغيرها من روايات أحمد، ليس فيها ذكر للولد والوالد، بل اقتصرت على ذكر العبد الذي هو أقل جرماً من الولد ومع ذلك زادت العقوبة واللعنة عليه، ولم تخففها!
ويؤيد ذلك أيضاً: أن هذه اللعنة وردت في بعض روايات الخطب الشريفة، بعد ذكر ماميز به الله تعالى رسوله صلى الله عليه وآله وأهل بيته عليهم السلام من مالية خاصة هي الخمس، وحرم عليهم الصدقات والزكوات !
ـ ففي مسند أحمد: 4|186
خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على ناقته فقال: ألا إن الصدقة لا تحل لي ولا لأهل بيتي، وأخذ وبرةً من كاهل ناقته، فقال: ولا ما يساوي هذه، أو ما يزن هذه. لعن الله من ادعى الى غير أبيه، أو تولى غير مواليه. انتهى.
ورواه في كنز العمال: 5 | 293، وفي كنز العمال: 10|235 (ومن تولى غير مواليه، فليتبوأ بيتاً في النار . ابن عساكر عن عائشة) انتهى.
أما في مصادر أهل البيت عليهم السلام فالحديث ثابتٌ عنه صلى الله عليه وآله في خطب حجة الوداع في المناسك.. وهو أيضاً جزءٌ من حديث الغدير..
ـ ففي بحار الأنوار: 37|123
عن أمالي المفيد، عن علي بن أحمد القلانسي، عن عبدالله بن محمد، عن عبد الرحمان بن صالح، عن موسى بن عمران، عن أبي إسحاق السبيعي ، عن زيد بن أرقم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله بغدير خم يقول: إن الصدقة لا تحل لي ولا لأهل بيتي، لعن الله من ادعى الى غير أبيه، لعن من تولى الى غير مواليه، الولد لصاحب الفراش وللعاهر الحجر، وليس لوارث وصية.
ألا وإني فرطكم على الحوض ومكاثرٌ بكم الأمم يوم القيامة، فلا تسودوا وجهي.
ألا لأستنقذن رجالاً من النار، وليستنقذن من يدي أقوامٌ.
إن الله مولاي، وأنا مولى كل مؤمن ومؤمنة.
ألا من كنت مولاه فهذا علي مولاه. انتهى.
وروى نحوه في|186، عن بشارة الإسلام .
ـ وقال ابن البطريق الشيعي في كتابه العمدة|344
وأما الأخبار التي تكررت من الصحاح من قول النبى صلى الله عليه وآله: لعن الله من انتمى الى غير أبيه، أو توالى غير مواليه، فهي من أدل على الحث على اتباع أمير المؤمنين عليه السلام والأمر بولائه دون غيره، يريد بقوله: من تولى غير مواليه يعني نفسه صلى الله عليه وآله وعلياً عليه السلام بعده، بدليل ماتقدم من الصحاح من غير طريق، في فصل مفرد مستوفى، وهو قول النبي صلى الله عليه وآله: من كنت مولاه فعلي مولاه، ثم قال مؤكداً لذلك: اللهم وال من والاه وعاد من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله.
فمن كان النبى صلى الله عليه وآله مولاه فعلي مولاه، ومن كان مؤمناً فعلي مولاه أيضاً، بدليل ماتقدم من قول عمر بن الخطاب لعلي لما قال له النبي صلّى الله عليه وآله: من كنت مولاه فعلي مولاه، فقال له عمر: بخٍ بخٍ لك يا علي، أصبحت مولى كل مؤمن و مؤمنة. وفي رواية: مولاي ومولى كل مؤمنة ومؤمن.
وهذه منزلة لم تكن إلا لله سبحانه وتعالى، ثم جعلها الله لرسوله صلى الله عليه وآله ولعلي عليه السلام بدليل قوله تعالى: إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكوة وهم راكعون...
وقوله صلى الله عليه وآله: من انتمى الى غير أبيه فالمراد به: من انتمى الى غير أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام في الولاء، مأخوذٌ من قول النبي صلى الله عليه وآله لعلي عليه السلام: أنا وأنت أبوا هذه الأمة، فعلى عاق والديه لعنة الله. انتهى.
وقد وجدنا أن النبي صلى الله عليه وآله أطلق هذه اللعنة في مناسبة رابعة، عندما كثر طلقاء قريش في المدينة، وتصاعد عملهم مع المنافقين ضد أهل بيت النبي صلى الله عليه وآله وقالوا: (إنما مثل محمد في بني هاشم كمثل نخلة نبتت في كبا، أي مزبلة) فبلغ ذلك النبي فغضب، وأمر علياً أن يصعد المنبر ويجيبهم!!
ـ فقد روى في بحار الأنوار: 38|204
عن أمالي المفيد، عن محمد بن عمر الجعابي، عن ابن عقدة، عن موسى بن يوسف القطان، عن محمد بن سليمان المقري، عن عبد الصمد بن علي النوفلي، عن أبي إسحاق السبيعي، عن الأصبغ بن نباتة قال:
لما ضرب ابن ملجم لعنه الله أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام، غدونا نفر من أصحابنا أنا والحارث وسويد بن غفلة، وجماعة معنا، فقعدنا على الباب، فسمعنا البكاء فبكينا، فخرج إلينا الحسن بن علي فقال: يقول لكم أميرالمؤمنين: انصرفوا الى منازلكم، فانصرف القوم غيري فاشتد البكاء من منزله فبكيت، وخرج الحسن وقال: ألم أقل لكم: انصرفوا؟ فقلت: لا والله ياابن رسول الله لا تتابعني نفسي ولا تحملني رجلي أنصرف حتى أرى أمير المؤمنين عليه السلام.
قال: فبكيت، ودخل فلم يلبث أن خرج فقال لي: أدخل، فدخلت على أميرالمؤمنين عليه السلام فإذا هو مستند معصوب الرأس بعمامة صفراء، قد نزف واصفر وجهه، ما أدري وجهه أصفر أو العمامة؟ فأكببت عليه فقبلته وبكيت.
فقلت له: جعلت فداك إني أعلم والله أنك تصير الى الجنة، وإنما أبكي لفقداني إياك يا أمير المؤمنين. جعلت فداك حدثني بحديث سمعته من رسول الله، فإني أراك لا أسمع منك حديثاً بعد يومي هذا أبداً، قال:
نعم يا أصبغ: دعاني رسول الله صلى الله عليه وآله يوماً فقال لي: ياعلي انطلق حتى تأتي مسجدي، ثم تصعد منبري، ثم تدعو الناس إليك، فتحمد الله تعالى وتثني عليه وتصلي عليَّ صلاةً كثيرة، ثم تقول:
أيها الناس إني رسول رسول الله إليكم، وهو يقول لكم: إن لعنة الله ولعنة ملائكته المقربين وأنبيائه المرسلين ولعنتي على من انتمى الى غير أبيه أو ادعى الى غير مواليه، أو ظلم أجيراً أجره.
فأتيت مسجده وصعدت منبره ، فلما رأتني قريش ومن كان في المسجد أقبلوا نحوي فحمدت الله وأثنيت عليه، وصليت على رسول الله صلى الله عليه وآله صلاةً كثيرةً، ثم قلت:
أيها الناس إني رسول رسول الله إليكم، وهو يقول لكم: ألا إن لعنة الله ولعنة ملائكته المقربين وأنبيائه المرسلين ولعنتي، على من انتمى الى غير أبيه، أو ادعى الى غير مواليه، أو ظلم أجيراً أجره.
قال: فلم يتكلم أحدٌ من القوم إلا عمر بن الخطاب، فإنه قال: قد أبلغت يا أبا الحسن، ولكنك جئت بكلامٍ غير مفسر، فقلت: أُبْلِغُ ذلك رسول الله صلى الله عليه وآله.
فرجعت الى النبي صلى الله عليه وآله فأخبرته الخبر، فقال : إرجع الى مسجدي حتى تصعد منبري، فاحمد الله وأثن عليه وصل علي، ثم قل :
أيها الناس، ما كنا لنجيئكم بشيء إلا وعندنا تأويله وتفسيره، ألا وإني أنا أبوكم ألا وإني أنا مولاكم، ألا وإني أنا أجيركم. انتهى.
وقد وجدنا لهذا الحديث مناسبة خامسة أيضاً، فقد روى فرات بن ابراهيم الكوفي في تفسيره|392 قال: حدثنا عبد السلام بن مالك قال: حدثنا محمد بن موسى بن
قالت: نعم، أخبرني أبي أن النبي صلى الله عليه وآله كان نازلاً بالمدينة، وأن من أتاه من المهاجرين عرضوا أن يفرضوا لرسول الله صلى الله عليه وآله فريضة يستعين بها على من أتاه، فأتوا رسول الله صلى الله عليه وآله وقالوا: قد رأينا ما ينوبك من النوائب، وإنا أتيناك لتفرض فريضة تستعين بها على من أتاك.
قال: فأطرق النبي صلى الله عليه وآله طويلاً ثم رفع رأسه فقال: إني لم أؤمر أن آخذ منكم على ما جئتم به شيئاً، إنطلقوا فإني لم أؤمر بشئ، وإن أمرت به أعلمتكم.
قال: فنزل جبرئيل عليه السلام فقال: يامحمد إن ربك قد سمع مقالة قومك وما عرضوا عليك، وقد أنزل الله عليهم فريضة: قل لا أسألكم عليه أجراً إلا المودة في القربى.
قال فخرجوا وهم يقولون: ما أراد رسول الله إلا أن تذل الأشياء، وتخضع الرقاب مادامت السماوات والأرض لبني عبد الطلب.
قال: فبعث رسول الله صلى الله عليه وآله الى علي بن أبي طالب أن اصعد المنبر وادع الناس إليك ثم قل : أيها الناس من انتقص أجيراً أجره فليتبوأ مقعده من النار، ومن ادعى الى غير مواليه فليتبوأ مقعده من النار، ومن انتفى من والديه فليتبوأ مقعده من النار.
قال: فقام رجلٌ وقال: يا أبا الحسن ما لهن من تأويل؟ فقال: الله ورسوله أعلم. فأتى رسول الله صلى الله عليه وآله فأخبره، فقال رسول الله: ويلٌ لقريشٍ من تأويلهن، ثلاث مرات! ثم قال: يا علي انطلق فأخبرهم أني أنا الأجير الذي أثبت الله مودته من السماء، ثم أنا وأنت مولى المؤمنين، وأنا وأنت أبوا المؤمنين. انتهى.
البحث الرابع
حاجة الأنبياء عليهم السلام في تبليغ رسالاتهم الى حماية الناس
ارتكب المنظرون للخلافة القرشية من المحدثين والمفسرين، خطأين أساسيين في تفسير آية التبليغ ، فشوهوا بذلك معناها:
الخطأ الأول، في مفهوم تبليغ الأنبياء عليهم السلام ومنهم نبينا صلى الله عليه وآله.
والخطأ الثاني، محاولتهم إخفاء واقع قريش بعد الفتح ، وإبعاد الآية عنها، وأن يصوروا للمسلمين أن قريشاً المشركة منجم الفراعنة وأتباعهم، قد تحولت بين عشية وضحاها، الى قبيلة مسلمةٍ مؤمنةٍ تقيةٍ، تقود الناس بالإسلام والهدى!
مفهوم التبليغ في القرآن مفهومٌ بسيط، فتبليغ الرسل يعني بيانهم الرسالة الإلهية للناس.. ثم الناس بعد ذلك مختارون في أن يقبلوا، أو يتولوا، وحسابهم على الله تعالى، وليس على أنبيائه!
ومن هذا الأساس العميق تتفرع عدة مبادئ:
أولاً:
أن النبي يحتاج الى ضمان حرية التعبير عن الرأي، لكي يتمكن من إيصال رسالة ربه الى العباد وإبلاغهم إياها. وقد كان ذلك مطلب الأنبياء عليهم السلام الأول من أممهم.
ثانياً:
مهمة الأنبياء عليهم السلام هي التبليغ فقط (الإبلاغ) حتى أن الجهاد لم يكن مفروضاً على أحد من الأنبياء قبل ابراهيم عليهم السلام وقد فرضه الله تعالى عليه وعلى الأنبياء من ذريته ( وكل الأنبياء والأوصياء بعده من ذريته) من أجل إزاحة العقبات المانعة من التبليغ، أو رد اعتداءات الكفار على الذين اختاروا الدين الإلهي وإقامة حياتهم على أساسه.
ثالثاً:
لا إكراه في الدين، فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر.. فينبغي أن يبقى قانون الهداية والإضلال فعالاً، والقدرة على عمل الخير والشر متوفرة.
رابعاً:
الهدف من الإبلاغ هو إقامة الحجة لله على عباده، واضحة كاملة تامة.. حتى لا يقولوا يوم القيامة: لم يقل النبي لنا، لم يبلغنا ذلك، لم نعرف ذلك، وكنا عنه غافلين. فإقامة الحجة في الدين الإلهي محورٌ أصلي دائم في عمل الأنبياء عليهم السلام سواء على مستوى الكافرين، أو على مستوى أممهم المؤمنين بهم.
فالمهم عند النبي عليه السلام أن يوصل العقيدة والأحكام الى الناس.. أن يقول لهم، ويبين لهم، ويوضح لهم ويفهمهم.. وبذلك يقيم الحجة لربه عز وجل.. وبذلك يؤدي ما عليه، ويسقط المسؤولية عن عاتقه.
أما استجابتهم أو تكذيبهم.. وأما عملهم وسلوكهم، فهو شأنهم وليس النبي مسؤولاً عنه، بل هو من اختصاص الله تعالى.
قال الله تعالى: قل فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين . الأنعام ـ 149
وأدلة هذه الحقائق التي ذكرناها كثيرة، من آيات القرآن وأحاديث السنة، نشير منها الى ماذكره الله تعالى من قول نوح عليه السلام: أبلغكم رسالات ربي وأنصح لكم ، وأعلم من الله ما لا تعلمون. الأعراف ـ 62
وقول شعيب عليه السلام: فتولى عنهم وقال يا قوم لقد أبلغتكم رسالات ربي ونصحت لكم فكيف آسى على قوم كافرين. الأعراف ـ 93
وقوله تعالى عن مهمة جميع الرسل الذين بعثهم عليهم السلام :
فهل على الرسل إلا البلاغ المبين. النحل ـ 35
قالوا ربنا يعلم إنا إليكم لمرسلون. وما علينا إلا البلاغ المبين. يس 16 ـ 17
ولايتسع المجال لاستعراض مفاهيم التبليغ وأحكامه في القرآن والحديث، فهي أجزاء مشرقة من (نظرية متكاملة) نشير منها الى أنه تعالى وصف دينه وقرآنه بأنه بلاغ فقال: هذا بلاغٌ للناس ولينذروا به وليعلموا أنما هو إلَ~ه واحد وليذكر أولو الألباب. ابراهيم ـ 52
وقال إنه بلاغ يشمل الأجيال الآتية التي يَبْلُغها الإسلام:
قل أي شيء أكبر شهادةً؟ قل الله شهيد بيني وبينكم، وأوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ. الأنعام ـ 19
وأثنى تعالى على أمانة أنبيائه وشجاعتهم في تبليغ رسالاته، رغم مقاومة الناس واستهزائهم، فقال عز وجل: الذين يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحداً إلا الله وكفى بالله حسيبا. الأحزاب ـ 39
كما وصف سبحانه عملية تلقي الوحي وتبليغه بأنه من الأعمال الدقيقة الخطيرة التي تحتاج الى شخصيات من نوع خاص، وحراسة ربانية خاصة لهم أيضاً، فقال:
عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحداً، إلا من ارتضى من رسول فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصداً ، ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم وأحاط بما لديهم وأحصى كل شيء عددا. الجن 26 ـ 28
مهمة نبينا صلى الله عليه وآله في التبليغ
والذي يتصل بموضوعنا مباشرةً هو تبليغ نبينا محمد صلى الله عليه وآله فقد قال تعالى عن مهمته ومسؤوليته: وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول واحذروا، فإن توليتم فاعلموا أنما على رسولنا البلاغ المبين. المائدة ـ 92
فإن أسلموا فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما عليك البلاغ والله بصير بالعباد. آل عمران ـ 20
فإن أعرضوا فما أرسلناك عليهم حفيظاً إن عليك إلا البلاغ. الشورى ـ 48
فقد أرسل الله نبينا صلى الله عليه وآله على أساس نظام الرسالة والتبليغ الإلهي، الذي أرسل به جميع الأنبياء عليهم السلام وهو قاعدة: إقامة الحجة وإتمامها على الناس، وعدم إجبارهم على العمل. وهذا هو معنى (فإنما عليك البلاغ) فقط، وفقط!
وهذا هو معنى قوله صلى الله عليه وآله: أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم.
فالإجبار الذي جاء به النبي صلى الله عليه وآله هو إجبار أهل الكتاب على التعايش مع المسلمين ، وليس على الدخول في الإسلام، وإجبار المشركين الوثنيين على الدخول في الإطار العام للإسلام.. وما عداه متروكٌ للأمة، داخل هذا الإطار، يطيع منها من يطيع، ويعصي من يعصي، ويهتدي منها من يهتدي، ويضل من يضل.. والمحاسب هو الله تعالى .
ومن الطبيعي إذن، أن تحتاج مهمة التبليغ الى حماية للنبي صلى الله عليه وآله حتى يؤديها وإلا فإن قبائل قريش الذين يدركون خطر دعوته على نفوذهم وآلهتهم، سرعان ما يدبرون قتله، أو تشويه سمعته وعزله، وحجب الناس عن سماع صوته.
ورغم أن الألطاف الإلهية على أنبيائه عليهم السلام كثيرة ومتنوعة، وما خفي عنا منها أعظم مما عرفناه، أو ما يمكن أن يبلغه فهمنا.. لكن سنته سبحانه في الرسل أن يترك حمايتهم للأسباب (الطبيعية ) مضافاً الى تلك الألطاف.
ولا يوجد دليلٌ واحدٌ على ما ذكروه من ضمان الله تعالى عصمة نبيه صلى الله عليه وآله من الجرح والقتل، وأنواع الأذى التي قد يتعرض لها.. وقد تقدمت النصوص الدالة على استمرار حراسته صلى الله عليه وآله الى آخر حياته، ونضيف هنا ما رواه الجميع من أنه صلى الله عليه وآله كان يطلب من قبائل العرب تأمين هذه الحماية حتى يبلغ رسالة ربه.
إني لغلامٌ شاب مع أبي بمنى ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقف على منازل القبائل من العرب فيقول: يا بني فلان إني رسول الله إليكم يأمركم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً، وأن تخلعوا ما تعبدون من دونه من هذه الأنداد، وأن تؤمنوا بي وتصدقوا بي وتمنعوني حتى أبين عن الله ما بعثني به. انتهى. ورواه الطبري في تاريخه: 2|83، وابن كثير في سيرته: 2|155
ـ وقال اليعقوبي في تاريخه: 2|35:
وكان رسول الله يعرض نفسه على قبائل العرب في كل موسم، ويكلم شريف كل قوم، لايسألهم إلا أن يؤووه ويمنعوه، ويقول: لا أكره أحداً منكم، إنما أريد أن تمنعوني مما يراد بي من القتل، حتى أبلغ رسالات ربي، فلم يقبله أحد، وكانوا يقولون: قوم الرجل أعلم به! انتهى.
كذلك نصت المصادر على أنه صلى الله عليه وآله طلب البيعة من الانصار، على حمايته وحماية أهل بيته مما يحمون أنفسهم وأهليهم.. ففي سيرة ابن هشام: 2|38: فتكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم فتلا القرآن، ودعا الى الله، ورغب في الإسلام ثم قال: أبايعكم على أن تمنعوني مما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم. قال فأخذ البراء بن معرور بيده، ثم قال: نعم والذي بعثك بالحق نبيا لنمعنك مما نمنع منه أزرنا، فبايعنا يا رسول الله، فنحن والله أبناء الحروب، وأهل الحلقة ورثناها كابرا عن كابر.
ـ ورواه في تاريخ الطبري : 2|92، وأسد الغابة: 1|174، وعيون الأثر: 1|217، وسيرة ابن كثير: 2|198، ورواه أحمد: 3|461، وقال عنه في مجمع الزوائد: 6|44: رواه أحمد والطبراني بنحوه، ورجال أحمد رجال الصحيح غير ابن اسحق وقد صرح بالسماع. ورواه في كنز العمال: 1|328، و 8|29
فما عدا مما بدا، حتى نزل الأمر بالتبليغ في آخر التبليغ ، وصار النبي صلى الله عليه وآله الآن وهو قائد الدولة القوية، بحاجة الى حماية وعصمة من الناس!!
إن الباحث ملزمٌ هنا أن يستبعد حاجة النبي صلى الله عليه وآله الى الحماية المادية، لأن الله تعالى أراد أن تجري بالأسباب الطبيعية، ووفرها على أحسن وجه.. فلا بد أن تكون العصمة في الآية من نوع الحماية المعنوية.
والباحث ملزمٌ ثانياً، أن يفسر الأمر بالتبليغ في الآية بأنه تبليغُ موضوعٍ ثقيلٍ على الناس .. وأن يفسر الناس الذين يثقل عليهم ذلك بالمنافقين من المسلمين، لأنه لم يبق أمرٌ ثقيلٌ على الكفار إلا وبلغه لهم، كما أنه لم يبلغهم أمراً بارزاً بعد نزول الآية.
وبهذا لا يبقى معنى للعصمة النازلة من عند الله تعالى، إلا العصمة من الطعن في نبوته، إذا بلغهم أن الحكم من بعده في أهل بيته صلى الله عليه وآله.
فبذلك فقط يتسق معنى الآية ويكون معناها:
يأيها الرسول: إنما أنت رسول مبلغ، ولست مسؤولاً عن النتيجة وما يحدث، بل هو من اختصاص ربك تعالى .
بلغ ما أنزل اليك من ربك: وأمرك به جبرئيل في علي، وحاولت تبليغه مرات في حجة الوداع، فشوش المنافقون عليك.
والله يعصمك من الناس: من طعن قريش بنبوتك بسبب هذا التبليغ ، وإن كان ثقيلاً عليها.. فسوف يمنعها الله أن ترفض نبوتك بسببه.. وسوف تمر المسألة بسلام ولا يكون تشويش عليك في التبليغ ولا ردة.. وبذلك تكون بلغت عن ربك، وأتممت له الحجة على أمتك.. ولكن علياً سوف يحتاج الى قتالها على تأويل القرآن كما قاتلتها أنت على تنزيله!
إن الله لا يهدي القوم الكافرين: الذين يظلمون عترتك من بعدك، ويظلمون الأمة بذلك، ويبدلون نعمة الله كفراً، ويحلون الأمة دار البوار!