في هذه الحادثة الخطيرة حقائق مهمة وكبيرة:

الأولى:

أنهم جاؤوا الى النبي صلى الله عليه وآله الى المدينة.. وهذا يعني أنهم بعد فتح مكة وخضوعهم وإعلانهم الإسلام تحت السيف، وعتق النبي صلى الله عليه وآله لرقابهم، وما فعلوه في حرب حنين.. جاؤوا الى (محمد) في عاصمته يطالبونه بالإعتراف العملي باستقلالهم السياسي.. وهي وقاحةٌ ما فوقها وقاحة! !

صلى الله عليه وآله وقالوا له صلى الله عليه وآله (يا محمد) كما رأيت في صحيح الحاكم على شرط مسلم! وكما في سنن أبي داود: 1|611 ولكن رواية الترمذي جعلتها (يارسول الله)!

وقد مر مايدل على أن الحادثة كانت في المدينة ففي مسند أحمد: 3|82

عن أبي سعيد الخدري قال: كنا جلوساً ننتظر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخرج علينا من بعض بيوت نسائه، قال: فقمنا معه فانقطعت نعله، فتخلف عليها علي يخصفها، فمضى رسول صلى الله عليه وسلم ثمتَ ومضينا معه، ثم قام ينتظره وقمنا معه، فقال: إن منكم من يقاتل على تأويل هذا القرآن كما قاتلت على تنزيله! ! فاستشرفنا وفينا أبو بكر وعمر فقال: لا، ولكنه خاصف النعل! قال فجئنا نبشره قال: وكأنه قد سمعه. انتهى. وقال عنه في مجمع الزوائد: 9|133 (رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح غير فطر بن خليفة، وهو ثقة). انتهى.

الثانية:

أنهم اعتبروا أن فتح مكة (ودخولهم) في الإسلام لا يعني خضوعهم للنبي صلى الله عليه وآله وذوبانهم في الأمة الإسلامية، بل هو تحالف مع النبي صلى الله عليه وآله ضد أعداء دولته من القبائل التي لم تدخل تحت سيطرتها، والى حد ما ضد الروم والفرس. فهو تحالف الند للند، وإن كان تم بفتح مكة بقوة السيف! !

وقد عملوا بزعمهم بهذا التحالف، فحاربوا معه صلى الله عليه وآله في حنين، فعليه الآن أن يعترف بكيانهم القرشي المستقل! وقد اختاروا أول مطلب لهم أو علامة على ذلك: أن يعيد هؤلاء الفارين اليه من أبنائهم وعبيدهم! يعيدهم من دولته الى دولتهم! !


الصفحة 163

الثالثة:

أن القرشيين الذين هاجروا مع النبي صلى الله عليه وآله ـ ماعدا بني هاشم ـ وافقوهم على ذلك! فهذا أبو بكر بن أبي قحافة التيمي، وعمر بن الخطاب العدوي يؤيدان مطلب قريش مئة بالمئة! !

وتتفاوت الروايات هنا في التصريح في موافقة أبي بكر وعمر على مطلب قريش فبعضها كما رأيت في رواية الحاكم الصحيحة ينص على أن أبا بكر قال (صدقوا يا رسول الله!) وقال عمر مثل قوله: صدقوا يارسول الله ردهم اليهم! !

وبعضها لا تذكر تصديقهما لمطلب قريش وشهادتهما بأنه حق، بل تقتصر على سؤالهما إن كانا هما الذين سيبعثهما الله ورسوله لتأديب قريش! كما في رواية الترمذي المتقدمة، وكما في مستدرك الحاكم: 3|122، وكما في مجمع الزوائد: 9|134 و: 5|186، وقال (رواه أبو يعلى ورجاله رجال الصحيح).

وقد غير بعض الرواة القرشيين (الأذكياء) اسم الشيخين الى (ناس) رسول الله صلى الله عليه وسلم!! وكذا في كنز العمال: 10|473 وقال الهندي عن مصادره: أبو داود وابن جرير وصححه، ق ض).

وبعضهم حذفوا اسم أبي بكر وعمر كلياً من الحادثة! كما رأيت في سنن أبي داود، وكما في كنز العمال: 11|613، حيث رواه بعدة روايات عن أحمد، وعن مصادر متعددة، وليس فيه ذكر لأبي بكر وعمر!

الرابعة:

يتساءل الباحث ما هي العلاقة التي كانت تربط أبا بكر وعمر بسهيل بن عمرو، ولماذا أيدا مطلب قريش المفضوح؟!

ويتساءل: مادام النبي صلى الله عليه وآله فهم خطة القرشيين وغضب ورفض مطلبهم وهددهم بالحرب ثانية، بل وعدهم بها.. فلماذا استشار أبا بكر وعمر في الموضوع؟!

على أي حال، إن أقل ما تدل عليه النصوص: أن زعامة قريش كانت متمثلةً في ذلك الوقت بهؤلاء الأربعة، الذين جمعتهم هذه الحادثة وهم:


الصفحة 164
رسول الله محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم صلى الله عليه وآله.

وسهيل بن عمرو العامري، زعيم المشركين بالأمس وزعيم قريش اليوم.

وأبو بكر التيمي وعمر العدوي، الممثلان لقبيلتين صغيرتين لا وزن لهما في قريش، ولكن لشخصيتيهما وزناً مهماً لصحبتهما للنبي صلى الله عليه وآله وقد أيدا مطلب سهيل!

ولا بد للباحث أن يفترض علاقةً واتفاقاً مسبقاً بين وفد قريش وبين الشيخين، بل يفهم من بعض الروايات أن سهيلاً ووفد قريش نزلوا في المدينة في ضيافة عمر، ثم جاء وأبو بكر معهم الى النبي صلى الله عليه وآله لمساعدتهم على مطلبهم.

الخامسة:

تضمن الموقف النبوي من الحادثة أربعة عناصر:

الأول، الغضب النبوي من تفكير قريش الكافر ووقاحتها، وقد ذكرته الروايات ولم تصفه بالتفصيل.

الثاني، يأس النبي صلى الله عليه وآله من أن تصلح قريش ويحسن إسلامها، بل يأسه من أن تترك قريش تعقيد بني عمها إسحاق وفرعنتهم، وتخضع للحق، إلا بقوة السيف!!

ففي عدد من روايات الحادثة كما في الحاكم: 2|125 (فقال: ما أراكم تنتهون يا معشر قريش حتى يبعث الله عليكم من يضرب رقابكم على هذا) أي على الإسلام! وكذا رواه أبو داود : 1|611، والبيهقي في سننه: 9|229، وكنز العمال: 10|473! وهو تصريح بأنهم لم يسلموا ، ولن يسلموا إلا تحت السيف!!

الثالث، تهديدهم بسيف الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وآله علي بن أبي طالب عليه السلام الذي ترتعد منه فرائصهم، لأنهم ذاقوا منه الأمرين، فقد قتل مجموع المسلمين في حروبهم مع قريش نصف أبطالها، وقتل علي وحده نصفهم أو أكثر!

ونلاحظ هنا أن النبي صلى الله عليه وآله كنَّى عن ذلك الشخص الذي سيبعثه الله على قريش فيضرب أعناقهم على الدين، بأنه أنا أو رجل مني (مجمع الزوائد: 9|133) ثم سماه عندما سأله أبو بكر وعمر عنه فقال (أنا أو خاصف النعل ـ كنز العمال: 7|326 وغرضه من التكنية ثم التسمية، أن لا تتصور قريش أن المسألة بعيدة فتطمع في مشروعها!

الصفحة 165
بل ينبغي أن تحتمل أن الأمر قد يصدر غداً الى علي بغزو مكة وقتل فراعنة قريش!

وغرضه صلى الله عليه وآله من تعبير (مني) أن يبين مكانة علي عليه السلام، وأن تعلم قريش أنه مؤمنٌ وأنه هاشمي من ذلك الفرع الذي ما زالت تحسده، وتموت منه غيضاً! !

فلو أنه صلى الله عليه وآله قال لهم: إن علياً سيقاتل قريشاً على تأويل القرآن بعد ربع قرن، كما قاتلتها أنا على تنزيله بالأمس، لطمعت قريش وقالت: إذن عندنا فرصة ربع قرن من الزمان، ولكل حادثٍ حديث!

بل روى في مجمع الزوائد حديثاً قال عنه: رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح: أن علياً عليه السلام كان يعلن في زمان النبي صلى الله عليه وآله تهديده لقريش، ولكل من يفكر بالردة، بأنه سوف يقاتلهم الى آخر نفس، وهو عملٌ وقائي بتوجيه النبي صلى الله عليه وآله لمنع قريش أن تفكر بالردة! قال في مجمع الزوائد: 9|134

وعن ابن عباس أن علياً كان يقول في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله عز وجل يقول: أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم، والله لا ننقلب على أعقابنا بعد إذ هدانا الله تعالى. والله لئن مات أو قتل لأقاتلن على ما قاتل عليه حتى أموت. لا والله.. إني لأخوه، ووليه، وابن عمه، ووارثه، فمن أحق به مني ؟!

ـ وروى في نفس المكان حديثاً آخر ينص على أن النبي صلى الله عليه وآله هدد قريشاً بعلي عليه السلام بعد فتح مكة مباشرةً، قال: وعن عبد الرحمن بن عوف قال: لما افتتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة انصرف الى الطائف فحاصرها سبع عشرة أو ثمان عشرة لم يفتتحها، ثم أوغل روحةً أو غدوةً، ثم نزل ثم هجَّرَ فقال:

يا أيها الناس إني فرطٌ لكم وأوصيكم بعترتى خيراً، وإن موعدكم الحوض. والذي نفسي بيده ليقيموا الصلاة، وليؤتوا الزكاة، أو لأبعثن اليهم رجلاً مني، أو لنفسي، فليضربن أعناق مقاتليهم، وليسبين ذراريهم.

قال فرأى الناس أنه أبو بكر أو عمر، وأخذ بيد علي فقال: هذا هو. رواه أبو يعلى وفيه طلحة بن جبر، وثقه ابن معين في رواية، وضعفه الجوزجاني، وبقية رجاله ثقات.


الصفحة 166

الرابع:

أن النبي صلى الله عليه وآله حكم بكفر أصحاب هذا الطلب، ولعمري إن مجرد طلبهم كافٍ لإثبات ذلك. ويؤكده الغضب النبوي وقوله صلى الله عليه وآله (ما أراكم تنتهون يا معشر قريش) وقوله بأن الله سيبعث عليهم رجلاً يضرب أعناقهم على الدين، مما يدل على أنهم ليسوا عليه. بل لا يسكتون عنه إلا تحت السيف! !

ولكن الفقهاء يريدون دليلاً أكثر لمساً، وقد أعطاهم إياه النبي صلى الله عليه وآله فأبى أن يرد عليهم عبيدهم المملوكين، وأخبرهم أنه أعتقهم فصاروا عتقاء الله تعالى!

فلو كان هؤلاء الطلقاء مسلمين، وكانت ملكيتهم محترمة، فكيف يجوز للنبي صلى الله عليه وآله أن يعتدي على ملكيتهم، وهو أتقى الأتقياء، وهو القائل: لايحل مال امرىَ مسلم إلا بطيب نفسه.. والقائل: إن أموالكم ودماءكم عليكم حرام.. الخ.

أثر هذه الحادثة على قريش

الظاهر أن هذه الحادثة كانت آخر محاولات قريش لانتزاع اعتراف النبي صلى الله عليه وآله باستقلالها السياسي، ولو بصيغة التحالف معه صلى الله عليه وآله، أو بصيغة الحكم الذاتي تحت لواء دولته! فهل سكتت قريش بعد هذه الحادثة؟

الذين يقرؤون التاريخ المكتوب بحبر الخلافة القرشية، والإسلام المفصل بمقصات رواتها.. يقولون: من المؤكد أن قريشاً تابت بعد هذه الحادثة، وأسلم زعماؤها وأتباعهم وحسن إسلامهم، وتصدقوا وأعتقوا وحجوا، وأكثروا من الصوم والحج والصلاة!

ولكن النبي صلى الله عليه وآله قال (ما أراكم تنتهون يا معشر قريش)! ! وطبيعة قريش، وطينة زعامتها تؤكد أنهم واصلوا العمل على كل الجبهات الممكنة! !

نعم.. لقد رأت قريش أن حديدة النبي صلى الله عليه وآله حامية، وأن التفكير بالإستقلال السياسي عنه صلى الله عليه وآله تفكيرٌ خاطىَ، وأن محمداً لا يقعقع له بالشنان، فهو من علياء هاشم وذروة شجعانها، ومعه ابن عمه قَتَّال قريشٍ ومجندل أبطالها، ومعه الأوس والخزرج، الذين تجرؤوا لأول مرة في تاريخهم على حرب قريش..


الصفحة 167
لقد تراجع عند قريش منطق الإستقلال السياسي عن محمد صلى الله عليه وآله، وتأكد عندها المنطق القائل إن دولة محمد شملت كل المنطقة، وهي تتحفز لمقارعة الروم والفرس، وقد وعد محمد المسلمين بذلك وتطلعوا اليه.. فلا معنى لأن تطالبه قريش بحكم مكة ومن أطاعها من قبائل العرب!

إنه لا بد من التأقلم مع الوضع الجديد، والعمل الجاد بالسياسة وبالعنف المنظم، لكي ترث قريش كل دولة محمد! صلى الله عليه وآله

فمحمد من قريش، وقريش أولى بسلطان ابنها، ولا كلام للأنصار اليمانية، ولا لغيرهم من القبائل.

أما مسألة بني هاشم الذين يسميهم محمد صلى الله عليه وآله العترة والقربى، وتنزل عليه فيهم آيات القرآن، ويصدر فيهم الأحاديث، ويجعل لهم خمس ميزانية الدولة.. فلا بد من معالجة أمرهم بأي طريقة ممكنة!

نعم.. هذا ما وصلت اليه قريش التي أعتقها النبي صلى الله عليه وآله من القتل والرق!

وهذا ماجازته به في حياته صلى الله عليه وآله !

وقد ساعدها عليه من ساعدها من أصحابه! !

الخليفة عمر يشهد بفساد قريش!

ـ قال الطبري في تاريخه: 3|426:

عن الحسن البصري قال: كان عمر بن الخطاب قد حجر على أعلام قريش من المهاجرين الخروج في البلدان، إلا بإذنٍ وأجل، فشكوه، فبلغه، فقام فقال: ألا إني قد سننت الإسلام سن البعير، يبدأ فيكون جذعاً، ثم ثنياً ثم رباعياً ثم سديساً، ثم بازلاً، ألا فهل ينتظر بالبازل إلا النقصان.

ألا فإن الإسلام قد بزل، ألا وإن قريشاً يريدون أن يتخذوا مال الله مغوياتٍ دون عباده ألا فأما وابن الخطاب حيٌّ فلا، إني قائمٌ دون شعب الحرة، آخذٌ بحلاقيم قريش

الصفحة 168
وحجزها أن يتهافتوا في النار! ! انتهى. ورواه في كنز العمال: 13|75، وفي تاريخ المدينة لابن شبة: 2|779، وفيه (ألا وإني آخذٌ بحلاقيم قريش عند باب الحرة أن يخرجوا على أمة محمد فيكفروهم). انتهى. ونحوه في: 2|401 .

وهذا الموقف من الخليفة عمر يتضمن عدة أمور، نكتفي بالإشارة اليها:

فهو أولاً، كلام زعيمٍ لا يشك أحدٌ في ولائه لقريش، لأنه حمل راية قريش وأحقيتها بخلافة النبي صلى الله عليه وآله في مقابل الأنصار وبني هاشم، وخاض صراعاتٍ شديدة، حتى خلَّص الخلافة من عترة النبي صلى الله عليه وآله وقدمها على طبقٍ الى قبائل قريش!

وهو ثانياً، شهادةٌ منه بحق المهاجرين القرشيين بأنهم أناسٌ مضلون، يجب أن يحبسوا في المدينة حتى لا يضلوا المسلمين ويخرجوهم من الإسلام! !

وإذا كان حال القرشيين المسلمين المهاجرين هذا، فما هو حال الطلقاء ؟!

وهو ثالثاً، يتضمن تصوراً لانتهاء الإسلام في مدةٍ قليلة، وكأن الإسلام دورةٌ سياسية تمر على الجزيرة والمناطق التي امتد اليها، ثم تنتهي!

وقد ثبت عن الخليفة عمر أنه كان يرى أنه سوف لا تمر سنين طويلة حتى تأخذ الأمم الأخرى مناطق المسلمين بما فيها مكة، ويهجرها أهلها وتخرب! !

ولعله اقتنع بهذا الرأي من كعب الأحبار.. وهو بحثٌ خارجٌ عن موضوعنا.

***

الصفحة 169

الفصـل الثانـي
آيـة الأمر بالتبليـغ

نص الآية مع سياقها

* وقالت اليهود يد الله مغلولة، غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا، بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء، وليزيدن كثيرا منهم ما أنزل إليك من ربك طغياناً وكفراً، وألقينا بينهم العداوة والبغضاء الى يوم القيامة، كلما أوقدوا ناراً للحرب أطفأها الله ويسعون في الأرض فساداً، والله لا يحب المفسدين.

* ولو أن أهل الكتاب آمنوا واتقوا لكفرنا عنهم سيئاتهم ولأدخلناهم جنات النعيم. ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم. منهم أمة مقتصدة وكثير منهم ساء ما يعملون.

* يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك، وإن لم تفعل فما بلغت رسالته، والله يعصمك من الناس، إن الله لا يهدي القوم الكافرين.

* قل يا أهل الكتاب لستم على شيء حتى تقيموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليكم من ربكم، وليزيدن كثيراً منهم ما أنزل إليك من ربك طغياناً وكفراً، فلا تأس على القوم الكافرين.


الصفحة 170
* إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون والنصارى من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً فلا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون.

* لقد أخذنا ميثاق بني إسرائيل وأرسلنا إليهم رسلاً، كلما جاءهم رسولٌ بما لا تهوى أنفسهم فريقاً كذبوا وفريقاً يقتلون. المائدة 64 ـ 70

مكان الآية في القرآن

إذا قلنا بحجية السياق القرآني، فلا بد أن نأخذ في تفسيرالآية أمرين:

الأول، أنها من سورة المائدة التي هي آخر سورة نزلت من القرآن.

والثاني، أنها وقعت في وسط آيات تتحدث عن أهل الكتاب.

والنتيجة: أن الآية تقول للنبي صلى الله عليه وآله: بلغ ولا تخف أهل الكتاب، فنحن متكفلون بعصمتك منهم، فلن يستطيعوا أن يضروك.

ولكن هذا التفسير لا يقبله علماء المسلمين، لا السنة منهم ولا الشيعة، لأنه صلى الله عليه وآله لم يبلغ اليهود والنصارى في الشهرين اللذين عاشهما بعد الآية شيئاً إضافياً بارزاً ولأن خطرهم عليه عند نزولها كان قد زال، وقد خضعوا لحكمه.

وبذلك ينفتح البحث للسؤال عن مكان الآية، وهل أن هذا مكانها من الأصل؟ أم أنها وضعت هنا باجتهاد أحد الصحابة؟

نحن لا نقبل القول بوقوع تحريف في كتاب الله تعالى، معاذ الله، لكن ورد أن الصحابة بعد النبي صلى الله عليه وآله قد اجتهدوا في وضع آياتٍ في سور من القرآن.. والظاهر أن وضع هذه الآية هنا من اجتهاداتهم، أو من المصادفات.

أقوال العلماء السنيين

اختلف المفسرون والفقهاء السنيون في سبب نزول الآية وفي تفسيرها، على أقوال عديدة، أهمها سبعة أقوال، أحدها موافقٌ لتفسير أهل البيت عليهم السلام، وستة مخالفة.. ونورد فيما يلي الأقوال المخالفة مع مناقشاتها:


الصفحة 171

القول الأول

أنها نزلت في أول البعثة، حيث خاف النبي صلى الله عليه وآله على نفسه فامتنع عن تبليغ الاسلام، أو تباطأ! فهدده الله تعالى وطمأنه.. فقام النبي صلى الله عليه وآله بالتبليغ!

وهذا يعني أن الآية نزلت قبل 23 سنة من نزول سورة المائدة!

وقد ذكر الشافعي هذا التفسير بصيغة (يقال) مما يدل على أنه غير مطمئن اليه قال في كتاب الأم: 4|168:

قال الشافعي رحمه الله: ويقال والله تعالى أعلم: إن أول ما أنزل الله عليه: إقرأ باسم ربك الذى خلق، ثم أنزل عليه بعدها ما لم يؤمر فيه بأن يدعو إليه المشركين، فمرت لذلك مدة. ثم يقال: أتاه جبريل عليه السلام عن الله عز وجل بأن يعلمهم نزول الوحي عليه ويدعوهم الى الإيمان به فكبر ذلك عليه وخاف التكذيب وأن يتناول، فنزل عليه: يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس. فقال يعصمك من قتلهم أن يقتلوك حين تبلغ ما أنزل إليك ما مر به، فاستهزأ به قوم فنزل عليه: فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين. إنا كفيناك المستهزئين. انتهى.

ويكفي للرد على هذا القول:

أولا، أن الآية في سورة المائدة، وقد عرفت أنها آخر مانزل من القرآن أو على الأقل من آخر ما نزل، بينما يدعي هذا القول أن الآية من أوائل مانزل! !

وثانياً، أن الشافعي قد ضعف هذا الوجه، لأنه نقله بصيغة يقال ويقال، ولم ينسبه الى النبي صلى الله عليه وآله، بل لم يتبناه.

وثالثاً، أنه لا يمكن قبول هذه التهمة السيئة للنبي صلى الله عليه وآله بأنه تلكأ أو امتنع عن تبليغ رسالات ربه، بسبب خوفه من التكذيب والأذى والقتل، حتى جاءه التهديد الإلَهي بالعذاب، والتأمين من الأذى، فتحرك وبلغ! !

فهذا التصور لا يناسب شخصية المسلم العادي، فضلاً عن النبي المعصوم صلى الله عليه وآله الذي هو أعظم الناس إيماناً وشجاعةً.


الصفحة 172
كما تعارضه الآيات التي تصف حرصه صلى الله عليه وآله على تبليغ الرسالة، وهداية الناس أكثر مما فرض الله تعالى عليه.

روايات (يقال) التي ذكرها الشافعي

ـ قال السيوطي في الدر المنثور: 2|298

أخرج أبو الشيخ عن الحسن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن الله بعثني برسالة فضقت بها ذرعاً، وعرفت أن الناس مكذبي فوعدني لإبلغن أوليعذبني، فأنزل: يا أيها الرسول بلغ ما أنزل اليك من ربك. (وكذا في أسباب النزول: 1|438)

وأخرج ابن جرير عن ابن جريج قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يهاب قريشاً فأنزل الله: والله يعصمك من الناس، فاستلقى ثم قال: من شاء فليخذلني، مرتين أو ثلاثاً.

وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد قال: لما نزلت: بلغ ما أنزل اليك من ربك، قال: يا رب إنما أنا واحدٌ كيف أصنع يجتمع علي الناس؟! فنزلت: وإن لم تفعل فما بلغت رسالته!. انتهى.

ـ ورواه الواحدي في أسباب النزول: 1|139، والطبري في تفسيره: 6|198 ـ وقال النيسابوري في الوسيط: 2|208: وقال الأنباري: كان النبي صلى الله عليه وآله يجاهر ببعض القرآن أيام كان بمكة، ويخفي بعضه إشفاقاً على نفسه من شر المشركين اليه والى أصحابه... انتهى.

ويكفي لرد هذه الروايات مضافاً الى أن الآية جزء من سورة المائدة التي نزلت قبيل وفاته صلى الله عليه وآله، أنها روايات غير مسندة، بل هي قولٌ للحسن البصري ومجاهد وابن جريح وأمثالهم، لا أكثر. وستعرف أن الحسن البصري يقصد رسالةً معينة، وأنه أخذ هذا التعبير من خطبة النبي صلى الله عليه وآله في يوم الغدير، وخاف أن يرويها على حقيقتها!

روايات (يقال) تتحول الى رأي يتبناه العلماء!

مع أن المفسرين يعرفون أن الآية نزلت في أواخر حياة النبي صلى الله عليه وآله، ويعرفون أن تفسيرها بحدث في أوائل البعثة إنما هو قول مفسرين من متفقهة التابعين في العصر

الصفحة 173
الأموي، أو روايات ضعيفة السند. لكن مع ذلك.. تراهم يفسرونها بهذا الوجه ويقدمون نزول الآية جهاراً نهاراً 23 سنة! ويزداد تعجبك عندما ترى منهم مفسرين محترمين مثل الزمخشري والفخر الرازي!

والسبب في ذلك أنهم يريدون الفرار من تفسيرها ببيعة الغدير، ولا يجدون مفراً إلا بأحد أمرين:

إما تفسيرها بأول البعثة والقول بأن النبي صلى الله عليه وآله خاف وتباطأ في تبليغ الرسالة فهدده الله تعالى وطمأنه بالعصمة من الناس! وإما تفسيرها بروايات رفع الحراسة المزعومة التي لايؤيدها التاريخ، ولا يساعد عليها نص الآية، كما سترى.

ـ قال الزمخشري في الكشاف: 1|659

والله يعصمك: عِدَةٌ من الله بالحفظ والكلاءة، والمعنى: والله يضمن لك العصمة من أعدائك...

فإن قلت: أين ضمان العصمة، وقد شُجَّ في وجهه يوم أحد ؟!... قلت المراد: أنه يعصمه من القتل!.

وروي عن رسول الله صلى الله عليه وآله: بعثني الله برسالته فضقت ذرعاً، فأوحى الله الي إن لم تبلغ رسالاتي عذبتك، وضمن لي العصمة فقويت. انتهى. ونحوه في الوسيط: 2|208

ـ وقال الرازي في تفسيره: 6 جزء 12|48 ـ 50

يا أيها الرسول بلغ... روي عن الحسن عن النبي صلى الله عليه وآله قال: إن الله بعثني برسالته فضقت بها ذرعاً وعرفت أن الناس يكذبوني، واليهود والنصارى، وقريش يخوفوني فلما أنزل الله هذه الآية، زال الخوف بالكلية....

في قوله: والله يعصمك من الناس سؤال: وهو كيف يجمع بين ذلك وبين ما روي أنه شج وجهه، وكسرت رباعيته.

والجواب من وجهين: أحدهما أن المراد يعصمه من القتل... وثانيها: أنها نزلت بعد يوم أحد. انتهى.


الصفحة 174
ومما يلاحظ على الرازي أنه قد لم يراعِ الأمانة في النقل، فقد حشر في نقله عن الحسن البصري اليهود والنصارى، لأنه يريد تفسير الآية بالعصمة من اليهود والنصارى، ويبعدها عن قريش! ! ولا نلومه على حبه لقريش ولجده أبي بكر بن أبي قحافة، ولكن نطالبه بالأمانة العلمية! فقد تتبعت المصادر التي نقلته عن البصري فلم أجد ذكراً لليهود والنصارى! وستعرف أن البصري أخذ روايته من حديث الغدير! !

وقد شت ابن كثير كثيراً، فزاد على الرازي وغيره، قال في البداية: 3|53:

روى ابن أبي حاتم في تفسيره، عن أبيه، عن الحسن بن عيسى بن ميسرة الحارثي، عن عبدالله بن عبد القدوس، عن الأعمش، عن المنهال بن عمرو، عن عبدالله بن الحارث قال: قال علي: لما نزلت هذه الآية: وأنذر عشيرتك الأقربين، قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: إصنع لي رجل شاة بصاع من طعام وإناء لبناً، وادع لي بني هاشم، فدعوتهم وإنهم يومئذ لأربعون غير رجل، أو أربعون ورجل، فذكر القصة نحو ما تقدم، الى أن قال: وبدرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم الكلام فقال: أيكم يقضي عني ديني ويكون خليفتي في أهلي؟ قال فسكتوا وسكت العباس خشية أن يحيط ذلك بماله، قال: وسكتُّ أنا لسن العباس.

ثم قالها مرة أخرى فسكت العباس، فلما رأيت ذلك، قلت: أنا يا رسول الله! قال: أنت...

ومعنى قوله في هذالحديث: من يقضي عني ديني ويكون خليفتي في أهلي، يعني إذا مت، وكأنه صلى الله عليه وسلم خشي إذا قام بإبلاغ الرسالة الى مشركي العرب أن يقتلوه، فاستوثق من يقوم بعده بما يصلح أهله، ويقضي عنه، وقد أمنه الله من ذلك في قوله تعالى: يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس. الآية.

والمقصود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استمر يدعو الى الله تعالى ليلاً ونهاراً وسراً وجهاراً، لا يصرفه عن ذلك صارف، ولا يرده عن ذلك راد، ولا يصده

الصفحة 175
عنه ذلك صاد، يتبع الناس في أنديتهم ومجامعهم ومحافلهم وفي المواسم ومواقف الحج... انتهى. وذكره بلفظه تقريباً في السيرة: 1|460

ويلاحظ أنه خلط في كلامه كثيراً، وتعصب أكثر..

فقد بتر حديث (أنذر عشيرتك الأقربين) وحذف منه اختيار النبي صلى الله عليه وآله خليفته من عشيرته الأقربين بأمر ربه تعالى، وأورد بدله حديثاً محرفاً، وفسر الحديث المحرف بأن النبي صلى الله عليه وآله كان يخاف أن يقتله القرشيون، فطلب من بني هاشم شخصاً يكون خليفته في أهله ويقضي دينه، فقبل ذلك علي عليه السلام، ثم انتفت الحاجة الى ذلك بنزول الآية! !

لقد تجاهل ابن كثير أن النبي صلى الله عليه وآله كان مأموراً في تلك المرحلة بدعوة عشيرته الأقربين فقط، ولم يكن مأموراً بعدُ بدعوة قريش وبقية الناس! فلا محل لما حبكته الرواية من خوفه من القتل والأذى!

ثم إن ابن كثير تفرد بربط آية العصمة بآية الأقربين، ولم أجد أحداً سبقه اليه، ولا ذكر من أين أخذه ؟!

وكأن المهم عنده أن يحرِّف كلام النبي صلى الله عليه وآله في حديث الدار ونصه على أن علياً أخوه ووزيره وخليفته من بعده! ويبعد الآية عن سورة المائدة ويوم الغدير! !

وهذا قليلٌ من كثير من عمل ابن كثير، وإليك الحديث الذي بتره:

ـ قال الأميني في الغدير: 1|207:

وها نحن نذكر لفظ الطبري بنصه حتى يتبين الرشد من الغي:

قال في تاريخه: 2|217 من الطبعة الأولى:

إني قد جئتكم بخير الدنيا والآخرة، وقد أمرني الله تعالى أن أدعوكم إليه، فأيكم يوازرني على هذا الأمر على أن يكون أخي ووصيي وخليفتي فيكم؟

قال: فأحجم القوم عنها جميعاً، وقلت ـ وإني لأحدثهم سناً وأرمصهم عيناً وأعظمهم بطناً وأحمشهم ساقاً ـ: أنا يا نبي الله أكون وزيرك عليه.


الصفحة 176
فأخذ برقبتي ثم قال: إن هذا أخي ووصيي وخليفتي فيكم، فاسمعوا له وأطيعوا قال: فقام القوم يضحكون ويقولون لأبي طالب: قد أمرك أن تسمع لابنك وتطيع.

ـ وقال الأميني: 2|279:

وبهذا اللفظ أخرجه أبو جعفرالاسكافي المتكلم المعتزلي البغدادي المتوفى 240 في كتابه نقض العثمانية، وقال: إنه روي في الخبر الصحيح.

ورواه الفقيه برهان الدين في أنباء نجباء الأبناء|46 ـ 48

وابن الأثير في الكامل 2|24

وأبو الفدا عماد الدين الدمشقي في تاريخه 1|116

وشهاب الدين الخفاجي في شرح الشفا للقاضي عياض 3|37 (وبتر آخره) وقال: ذكر في دلايل البيهقي وغيره بسند صحيح.

والخازن علاء الدين البغدادي في تفسيره|390

والحافظ السيوطي في جمع الجوامع كما في ترتيبه 6|392 نقلاً عن الطبري

وفي|397، عن الحفاظ الستة: ابن إسحاق، وابن جرير، وابن أبي حاتم، وابن مردوية، وأبي نعيم، والبيهقي.

وابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة 3|254. انتهى.

ثم شكا صاحب الغدير من تحريف الذين حرفوا الحديث لإرضاء قريش، ومنهم الطبري، الذي رواه في تفسيره بنفس سنده المتقدم في تاريخه، لكنه أبهم كلام النبي صلى الله عليه وآله في حق علي عليه السلام، فقال: ثم قال: إن هذا أخي وكذا وكذا. وتبعه على ذلك ابن كثير في البداية والنهاية: 3|40، وفي تفسيره: 3|351. انتهى.

القول الثاني

أنها نزلت في مكة قبل الهجرة بدون تحديد، فاستغنى بها النبي صلى الله عليه وآله عن حراسة عمه أبي طالب، أو عمه العباس!


الصفحة 177
وهذا القول هو المشهور في مصادر السنيين، ورواياته نوعان: نوعٌ نص على تاريخ نزولها تصريحاً أو تلويحاً، وأنه في مكة.

ونوعٌ لم يصرح بذلك ولم يربط نزولها بحراسة أبي طالب أو العباس، ولكنه ربطه بإلغاء النبي صلى الله عليه وآله لحراسته فحملناه عليه، لأن أصله رواية الترمذي عن عائشة، وقد فهم منها البيهقي وغيره أنها تقصد مكة، كما ستعرف.

فالنوع الأول: كالذي رواه السيوطي في الدر المنثور: 2|298 ـ 299، قال:

أخرج ابن مردوية والضياء في المختارة، عن ابن عباس قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي آية أنزلت من السماء أشد عليك؟

فقال: كنت بمنى أيام الموسم، واجتمع مشركوا العرب وأفناء الناس في الموسم فنزل علي جبريل فقال: يا أيها الرسول بلغ ما أنزل اليك من ربك، وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس. قال فقمت عند العقبة فناديت: يا أيها الناس من ينصرني على أن أبلغ رسالة ربي ولكم الجنة ؟ أيها الناس قولوا لا إلَه إلا الله، وأنا رسول الله إليكم، وتنجوا، ولكم الجنة.

قال فما بقي رجل ولا امرأة ولا صبي إلا يرمون علي بالتراب والحجارة، ويبصقون في وجهى، ويقولون كذاب صابىَ، فعرض علي عارضٌ فقال: يا محمد إن كنت رسول الله فقد آن لك أن تدعو عليهم، كما دعا نوح على قومه بالهلاك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون، وانصرني عليهم أن يجيبوني الى طاعتك، فجاء العباس عمه فأنقذه منهم وطردهم عنه.

قال الأعمش: فبذلك تفتخر بنو العباس....

وأخرج ابن مردوية عن جابر بن عبد الله قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خرج بعث معه أبو طالب من يكلؤه، حتى نزلت والله يعصمك من الناس، فذهب ليبعث معه، فقال: يا عم إن الله قد عصمني لا حاجة لي الى من تبعث! !

وأخرج الطبراني وأبو الشيخ وأبو نعيم في الدلائل وابن مردوية وابن عساكر عن

الصفحة 178
ابن عباس، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يحرس، وكان يرسل معه عمه أبو طالب كل يوم رجالاً من بني هاشم يحرسونه، فقال: ياعم إن الله عصمني لا حاجة الى من تبعث! انتهى. والرواية في معجم الطبراني الكبير: 11|205

ـ وفي مجمع الزوائد: 7|17:

قوله تعالى: والله يعصمك من الناس، عن أبي سعيد الخدري قال: كان عباس عم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيمن يحرسه، فلما نزلت: والله يعصمك من الناس، ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم الحرس. رواه الطبراني في الصغير والأوسط وفيه عطية العوفي وهو ضعيف.

وعن ابن عباس قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يحرس، وكان يرسل معه عمه أبوطالب كل يوم رجالاً من بني هاشم، حتى نزلت هذه الآية: ياأيها الرسول بلغ ماأنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس، فأراد عمه أن يرسل معه من يحرسه، فقال: يا عم إن الله قد عصمني من الجن والإنس.

رواه الطبراني وفيه النضربن عبد الرحمن وهو ضعيف.

والنوع الثاني: أصله ما رواه الترمذي في سننه: 4|317: عن عائشة قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم يُحرس، حتى نزلت هذه الآية: والله يعصمك من الناس، فأخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه من القبة، فقال لهم: يا أيها الناس انصرفوا، فقد عصمني الله. هذا حديث غريب.

وروى بعضهم هذا الحديث عن الجريري، عن عبد الله بن شقيق قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يحرس، ولم يذكروا فيه عن عائشة. انتهى.

ـ ورواه الحاكم في المستدرك: 2|313 عن عائشة أيضاً وقال عنه: هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه. انتهى.

والظاهر أن حديث عائشة يقصد أن الآية نزلت في مكة أيضاً ومعنى (فأخرج رأسه من القبة) أي من الخيمة التي كان فيها، وقال لحراسه انصرفوا.


الصفحة 179
ويؤيد ذلك أن البيهقي رواه في سننه: 9|8 وعقب عليه بقول الشافعي المتقدم فقال: قال الشافعي: يعصمك من قتلهم أن يقتلوك حتى تبلغهم ما أنزل اليك فبلغ ما أمر به فاستهزأ به قوم فنزل: فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين إنا كفيناك المستهزئين. انتهى.

ويؤيده أيضاً أن المراغي نقل في تفسيره: 2 جزء 4|160 رواية السيوطي الأولى عن ابن مردوية عن ابن عباس، ورواية الطبراني أيضاً ثم قال: روى الترمذي وأبو الشيخ .... أن النبي صلى الله عليه وآله كان يحرس في مكة قبل نزول هذه الآية...

وكذلك ذكر غيره، مع أنه لا يوجد في رواية عائشة في الترمذي ما يدل على أنها تقصد مكة، فلعل كلمة في مكة حذفت من نسخة الترمذي الفعلية!

ـ وقال السيوطي في الدر المنثور: 2|291 عن حديث عائشة:

وأخرج عبد بن حميد والترمذي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ والحاكم وأبو نعيم والبيهقي كلاهما في الدلائل، وابن مردوية، عن عائشة...

وروى السيوطي عدة روايات بنفس مضمونه عن غير عائشة، وبعضها قد يفهم منه أن نزول الآية في المدينة، فجعلناه في القول الثالث.

قال في الدر المنثور: 2|298 ـ 299: وأخرج الطبراني وابن مردوية عن أبي سعيد الخدري قال: كان العباس عم النبي صلى الله عليه وسلم فيمن يحرسه فلما نزلت: والله يعصمك من الناس، ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم الحرس.

وأخرج أبو نعيم في الدلائل عن أبي ذر قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا ينام إلا ونحن حوله من مخافة الغوائل، حتى نزلت آية العصمة: والله يعصمك من الناس. انتهى.

وقد أخذ بهذا القول كثير من المفسرين والمؤلفين في السيرة فقد ذكره الزمخشري في الكشاف: 1|659، وكأنه قبله، وكذلك فعل الرازي في تفسيره: 6 جزء 12|50! مع أنهما

الصفحة 180
قالا كما رأيت بنزول الآية في مكة! وبذلك يكونا حملا حديث عائشة على أول البعثة، كما حملا قول الحسن البصري وأمثاله!

ـ وقد أخذ بهذا القول أيضاً السهيلي في الروض الأنف: 2|290، والقسطلاني في إرشاد الساري: 5|86، وابن العربي في شرح الترمذي: 6 جزء 11 |174، والعيني في عمدة القاري7 جزء 14|95، وابن جزي في التسهيل: 1 |244، والنويري في نهاية الإرب: 8 جزء 16|196، و 19 جزء 18|342، والنيسابوري في الوسيط: 2|209، والدميري في حياة الحيوان: 1|79.. وغيرهم، وغيرهم.

ـ وممن أخذ بهذا القول صاحب السيرة الحلبية: 3|327 وقد اغتنم فرصة الآية وارتباطها بحراسة النبي صلى الله عليه وآله لإثبات فضيلة لأبي بكر بن أبي قحافة فقال: حراسه صلى الله عليه وآله قبل أن ينزل عليه قوله تعالى: والله يعصمك من الناس.... سعد بن معاذ حرسه ليلة يوم بدر، وفي ذلك اليوم لم يحرسه إلا أبو بكر شاهراً سيفه حين نام بالعريش. انتهى.

وبذلك ناقض صاحب الحلبية نفسه وجاء بدليل على ضد مراده، لأن إلغاء الحراسة إذا كان قبل الهجرة، فلم تبق حاجة لحراسة أبي بكر وغيره في بدر!

على أن الظاهر أنه لم يكن للمسلمين عريشٌ في بدر! وقد روى الحاكم رواية وصححها على شرط مسلم، تذكر أن ثلث المسلمين حرسوا النبي صلى الله عليه وآله في بدر، وهو أمر معقول، لأن المسلمين نزلوا بالعدوة القصوى وهي منطقة مكشوفة. قال الحاكم: 2|326: عن عبادة ابن الصامت رضي الله عنه قال سألته عن الأنفال، قال: فينا يوم بدر نزلت، كان الناس على ثلاث منازل، ثلثٌ يقاتل العدو، وثلث يجمع المتاع ويأخذ الأسارى وثلث عند الخيمة يحرس رسول الله صلى الله عليه وآله، فلما جمع المتاع اختلفوا فيه.... فجعله الى رسول الله صلى الله عليه وآله فقسمه على السواء. انتهى.

ويدل على بطلان هذا القول: أولاً، ما تقدم في القول الأول.

ثانياً: نفس روايات القول الثالث وغيره، التي تنص على أن إلغاء الحراسة المزعوم حصل في المدينة، وليس في مكة.


الصفحة 181

ثالثاً،:

أن عمدة رواياته رواية القبة عن عائشة، ورواية حراسة العباس.. أما الروايات الأخرى فكلها غير مسندة، وغرض بعضها تقليل دور أبي طالب في نصرة النبي صلى الله عليه وآله كما هو واضحٌ، وأنه صلى الله عليه وآله كان مستغنياً في مكة عن حراسة أبي طالب.

كما يلاحظ في الرواية الأولى أنها تريد إثبات فضيلة للعباس بأنه كان حارس النبي صلى الله عليه وآله في مكة بدل أبي طالب، وأنه هو الذي عصم الله به رسوله من الناس!

وقد كان دور العباس قبل الهجرة دوراً عادياً مثل بقية بني هاشم الذين تضامنوا مع النبي صلى الله عليه وآله وتحملوا معه حصار الشعب، ولم يعرف عنهم أنهم أسلموا، ولم يهاجروا معه الى المدينة مثل علي وحمزة.

ومن المعروف أن العباس قد أسر في بدر وأسلم عند فكاك الأسرى.

هذا مضافاً الى تضعيف الهيثمي وغيره لهذه الرواية، وما تشاهده من ضعف متنها وركته.

ثالثاً: ما سيأتي في إثبات استمرار حراسته صلى الله عليه وآله ونفي كل مايدل على إلغائها ومن ذلك رواية القبة، وسيأتي قول الألباني بعدم صحة نسبتها الى عائشة.

القول الثالث

أنها نزلت في المدينة بدون تاريخ! فقد روى السيوطي عدة روايات تربط نزول الآية بإلغاء النبي صلى الله عليه وآله للحراسة، وليس فيها أن ذلك كان في مكة أو في المدينة، ولكن يفهم من نص بعضها أو رواة بعضها، أن نزولها كان في المدينة.

ـ قال في الدر المنثور: 2|298 ـ 299:

وأخرج الطبراني وابن مردوية عن عصمة بن مالك الخطمي قال: كنا نحرس رسول الله صلى الله عليه وسلم بالليل، حتى نزلت: والله يعصمك من الناس فترك الحرس.

وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن سعيد بن جبير قال: لما نزلت: يا أيها الرسول

الصفحة 182
الى قوله: والله يعصمك من الناس، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تحرسوني، إن ربي قد عصمني.

وأخرج ابن جرير وابن مردوية عن عبد الله بن شقيق أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعتقبه ناس من أصحابه، فلما نزلت: والله يعصمك من الناس، فخرج فقال: يا أيها الناس إلحقوا بملاحقكم، فإن الله قد عصمني من الناس.

وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وأبو الشيخ عن محمد بن كعب القرظي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما زال يحارسه أصحابه، حتى أنزل الله: والله يعصمك من الناس، فترك الحرس حين أخبره أنه سيعصمه من الناس.

وأخرج عبد بن حميد وابن مردوية عن الربيع بن أنس قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يحرسه أصحابه، حتى نزلت هذه الآية: يا أيها الرسول بلغ ما أنزل اليك الآية... انتهى.

ـ ورواه ابن شبة في تاريخ المدينة: 1|301، عن عبد الله بن شقيق وعن محمد بن كعب القرظي. ورواه الطبري في تفسيره: 6|199، عن عبد الله بن شقيق. وابن سعد في الطبقات: 1 جزء 1|113. والبيهقي في دلائل النبوة: 2|180.

ويدل على بطلان هذا القول وغيره من الأقوال التي ربطت نزول الآية بالحراسة:

أن من المجمع عليه في أحاديث سيرته صلى الله عليه وآله أنه كان يطلب من قبائل العرب أن تحميه وتمنعه مما يراد به من القتل، لكي يبلغ رسالة الله عز وجل، وقد بايعه الأنصار بيعة العقبة على أن يحموه ويحموا أهل بيته مما يحمون منه أنفسهم وأهليهم.. فلو أن آية العصمة نزلت في مكة، لما احتاج الى شيء من ذلك!

وسنذكر في آخر البحث أحاديث طلب النبي صلى الله عليه وآله من الأنصار أن يحموه ويحرسوه، وبيعتهم على ذلك!

ثم.. إن مصادر الحديث والتفسير والتاريخ مليئة بالروايات التي ذكرت حراسة النبي صلى الله عليه وآله وأنها كانت في مكة والمدينة، خاصة في الحروب، الى آخر حياته صلى الله عليه وآله !


الصفحة 183
ولذا يجب رفض كل الروايات التي زعمت أنه ألغى الحراسة قبل هذا التاريخ، لأنها تدعي إلغاءها في السلم والحرب والسفر والحضر!

وقد تقدمت في رواية الحاكم أن ثلث المسلمين كانوا يحرسونه صلى الله عليه وآله في بدر!

وقد روى أحمد: 2|222 أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عام غزوة تبوك قام من الليل يصلي فاجتمع وراءه رجال من أصحابه يحرسونه، حتى إذا صلى وانصرف اليهم فقال لهم... الخ.

ورواه في كنز العمال: 12|430، عن مسند عبد الله بن عمرو بن العاص. وقال عنه في مجمع الزوائد: 10|367: رواه أحمد ورجاله ثقات. انتهى.

وغزوة تبوك كانت في آخر سنة من حياته صلى الله عليه وآله.

وفي الفصول التي عقدها المحدثون، وكتَّاب السيرة لحراسته صلى الله عليه وآله وقصصها، وحراسه وأسمائهم وقصصهم.. ما يكفي لرد هذه المقولة!

والعجيب أنك ترى بعضهم يذكر كل ذلك عن الحراسة، ثم يقول إنه صلى الله عليه وآله ألغى الحراسة بعد نزول الآية في مكة قبل الهجرة، أو بعد الهجرة! وكأنه حلف يميناً أن يبعد آية العصمة من الناس عن يوم الغدير! !

ـ قال صاحب عيون الأثر في: 2|402

حرسه يوم بدر حين نام في العريش: سعد بن معاذ، ويوم أحد: محمد بن مسلمة، ويوم الخندق: الزبير بن العوام. وحرسه ليلة بنى بصفية: أبو أيوب الأنصاري بخيبر، أو ببعض طريقها، فذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: اللهم احفظ أبا أيوب كما بات يحفظني. وحرسه بوادي القرى: بلال، وسعد بن أبي وقاص، وذكوان بن عبد قيس. وكان على حرسه عباد بن بشر، فلما نزلت: والله يعصمك من الناس، ترك الحرس! !. انتهى.

وقد حاول أن يجيب على حراستهم للنبي صلى الله عليه وآله في تبوك، ففسر نص الحراسة بأنه يعني انتظارهم انتهاء صلاته!


الصفحة 184
قال في: 1|119: وفي حديث عمرو بن شعيب: فاجتمع رجال من أصحابه يحرسونه حتى إذا صلى... والمراد والله أعلم: ينتظرون فراغه من الصلاة! وأما حرس رسول الله صلى الله عليه وسلم من المشركين، فقد كان انقطع منذ نزلت: والله يعصمك من الناس، وذلك قبل تبوك. والله أعلم. انتهى.

ولكنه تفسير مخالفٌ لنص الرواية في الحراسة!

وعلى كل حال، فإن هذا القول بنزول الآية في المدينة يرد القول الأول الذي جعل تاريخ نزول الآية في مكة!

والنتيجة أن دعوى إلغائه صلى الله عليه وآله للحراسة لا دليل عليها من سيرته صلى الله عليه وآله، بل الدليل على خلافها، وأن بني هاشم كانوا يحرسونه في مكة حتى هجرته، ثم كانوا هم وبقية أصحابه يحرسونه في المدينة، الى آخر عمره الشريف.

وفي اعتقادي أن نفس محاولة تفسير الآية بإلغاء الحراسة دليلٌ على صحة تفسير أهل البيت عليهم السلام بأن الآية تقصد العصمة من الإرتداد، فترى مخالفيهم يصرون على تفسيرها بالعصمة الحسية ويقعون في التناقض مع الواقع!

القول الرابع

أنها نزلت في المدينة في السنة الثانية للهجرة بعد حرب أحد.

ـ قال السيوطي في الدر المنثور: 2|291: وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير عن عطية بن سعد قال: جاء عبادة بن الصامت من بني الحارث بن الخزرج الى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إن لي موالي من يهود كثير عددهم، وإني أبرأ الى الله ورسوله من ولاية يهود، وأتولى الله ورسوله.

فقال عبد الله بن أبي: إني رجل أخاف الدوائر، لا أبرأ من ولاية موالي.

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعبدالله بن أبي: أبا حباب أرأيت الذي نفست به من ولاء يهود على عبادة، فهو لك دونه!