الصفحة 128

وقد حكى الله ذلك عن اليهود، فقال: (وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ)(1).

ثم كانت أيضاً من عقائد المشركين الذين حكى الله عنهم قولهم:

(سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاء اللهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ)(2).

ثم إن هذه العقيدة قد بقيت مهيمنة على عقلية الكثيرين من الناس الذين أسلموا، رغم شدة محاربة الإسلام لها. ومحاولاته الجادة لاقتلاعها من عقل وفكر الإنسان العربي، المبهور بأهل الكتاب، والمتأثر برواسب الشرك.

ولكن ذلك لم يكن أمراً سهلاً ولا ميسوراً. فاستمرت هذه العقيدة تظهر في مواقف وتصريحات الكثيرين منهم.

حتى على مستوى أولئك الذين كان لهم نصيب في السلطة والحكم، بل في أعلى مستويات القيادة بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله).

وقد ظهرت هذه العقيدة في الكثير من مواقف وكلمات الخلفاء بعد الرسول، باستثناء علي، (عليه السلام) ثم في كلمات معاوية، وعائشة، وخالد بن الوليد، وعمر بن سعد، والمنصور، وغير هؤلاء كثيرون، كما يظهر من

____________

(1) سورة المائدة الآية64.

(2) سورة الأنعام الآية148.


الصفحة 129
مراجعة النصوص التاريخية وغيرها. وقد كانت هذه العقيدة هي المفتاح السحري، الذي تحلّ به الرموز، وتفتح به الكنوز، وتدفع به جميع الاعتراضات، وتسد به جميع المنافذ.

فهي التي برر بها عثمان تمسكه بالحكم إلى أن قتل.

وبررت بها عائشة خروجها لحرب أمير المؤمنين علي (عليه السلام). كما تقدم قريباً.

واحتج بها معاوية لعهده لولده يزيد الخمور والفجور بالخلافة بعده.

واستدل بها عمر بن سعد لقتل الإمام الحسين سيد شباب أهل الجنة (عليه الصلاة والسلام)، وارتكاب مجزرة كربلاء.

وهي الحجة التي استدل بها خالد بن الوليد لقتل مالك بن نويرة وأصحابه المسلمين.

وهي التي برر بها معاوية والمنصور العباسي منع الناس من الحصول على حقوقهم من بيت مال المسلمين.

ولم يقتصر الأمر على ذلك بل وضعت الأحاديث على لسان النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) لتأييد هذه العقيدة وتأكيدها، وترويجها ونشرها ويمكن الوقوف على شطر مما ذكرناه بالمراجعة إلى المصادر الواردة في الهامش(1).

____________

(1) إن ما تقدم من أمثلة وشواهد، ومن أحاديث أيضاً موجود في المصادر

=>


الصفحة 130

____________

<=

المختلفة بصورة متفرقة، فمن أراد أن يقف على متفرقاته ويجمع بين شتاته، فليلتقط بعضه من المصادر التالية:

تأويل مختلف الحديث ص5 و6 و29 و45 و48 و82 و83 و128 و235 و236 والهدى إلى دين المصطفى ج2 ص162 و271 والمصنف للصنعاني ج10 ص119 / 122 و18 وج6 ص356 وحياة الصحابة ج2 ص12 و95 و94 و230 وج3 ص487 و492 و501 و529.

وراجع: الغدير ج7 ص147 و154 و158 وج8 ص132 وج9 ص34 و95 و192 وج10 ص333 و245 و249 وج5 ص365 وج6 ص128 و117 ونور القبس ص31 و266 و65 وعيون الأخبار لابن قتيبة ج4 ص69 ومدارك التنزيل (مطبوع بهامش تفسير الخازن) ج1 ص401 وقاموس الرجال ج6 ص36 والفتوح لابن أعثم ج4 ص239 وربيع الأبرار ج2 ص64 / 65 وج1 ص821 والمعجم الصغير ج1 ص158 و74 و130 و255 وج2 ص67 و55 والطبقات الكبرى ط صادر ج5 ص148 و543 وج7 ص163 و417 وج3 ص72 و66 وكلمة الأديان الحية ص77 و80 والإلمام ج6 ص119 ولسان الميزان ج1 ص448 والكفاية في علم الرواية ص166 وجامع بيان العلم ج1 ص20 وج2 ص148 و149 و150 وضحى الإسلام ج3 ص81 وشرح نهج البلاغة للمعتزلي ج1 ص340 وج12 ص78 / 79 والإمامة والسياسة ص183 والأخبار الدخيلة (المستدرك) ج1 ص193و197 ومقارنة الأديان (اليهودية) ص271 و249 وأنيس الأعلام ج1 ص279 و257 والتوحيد وإثبات صفات الرب ص80 ـ 82 والمقدمة لابن خلدون ص143 و144 والأغاني ج3 ص76 والعقد الفريد ج1 ص206 وج2 ص112 وتاريخ الأمم والملوك ط

=>


الصفحة 131
ولكن الشيء الذي لاشك فيه هو أن أمير المؤمنين علياً (عليه السلام) قد قاوم هذا النوع من الاعتقادات الفاسدة، والوافدة، وتصدى له، وقد زخرت كلماته وخطبه بما يدل على خطل هذه العقيدة وفسادها. وشهرة

____________

<=

الاستقامة ج2 ص445 وبحوث مع أهل السنة والسلفية ص43/49 عن العديد من المصادر وتذكرة الخواص ص104 / 105 وتاريخ بغداد ج1 ص160 وبهج الصباغة ج7 ص120 والدر المنثور ج6 والمغازي للواقدي ج3 ص904 والموطأ (مطبوع مع تنوير الحوالك) ج3 ص92 و93 ومصابيح السنة للبغوي ج2 ص67 ومناقب الشافعي ج1 ص17 وصحيح البخاري ج8 ص208 والمعتزلة ص7 و39 / 40 و87 و91 و201 و265، عن: المنية والأمل ص126 والخطط للمقريزي ج4 ص181 والملل والنحل ج1 ص97 / 98 والعقائد النسفية ص85 ووفيات الأعيان ص494.

وفي الإمام الصادق والمذاهب الأربعة ج3 ص45 عن الطبري ج6 ص33 وج3 ص207 وعن الترمذي ص508.

وفي حياة الصحابة نقله عن المصادر التالية: كنز العمال ج3 ص138 / 139 وج8 ص208 وج1 ص86 وصحيح مسلم ج2 ص86 وأبي داود ج2 ص16 والترمذي ج1 ص201 وسنن ابن ماجة ج1 ص209 والسنن الكبرى ج9 ص50 وج6 ص349 ومسند أحمد ج5 ص245 ومجمع الزوائد ج6 ص3 وج1 ص135 وتاريخ الطبري (مقتل برير) ج4 ص124 وج3 ص281 والبداية والنهاية ج7 ص79.

ونقل أيضاً عن: جامع البيان ج6 ص60 وعن تفسير القرآن العظيم ج1 ص594 وعن أنساب الأشراف ج5 ص24.


الصفحة 132
ذلك عنه وكونه هو حامل رايته يغني عن ذكر الشواهد الكثيرة له..

ولعل هذا هو بعض السر في إصرار الحكام الأمويين على إشاعة هذه العقائد الفاسدة وترسيخها في أذهان وعقول الناس، فإنهم كانوا يظهرون حرصاً شديداً على مضادة عليٍ وإبطال آثاره ومخالفته في كل ما جاء عنه حتى ولو كان هو نص القرآن، وصريح العقل والوجدان، وذلك هو ديدنهم، وتلك هي طريقتهم، كما يظهر بأدنى مراجعة لحياتهم، وسيرتهم، وسياساتهم.


الصفحة 133


القسم الثاني

رأي ونقد





الصفحة 134

الصفحة 135


الفصل الأول

تعليلات وتوجيهات لا تصح





الصفحة 136

الصفحة 137

الدليل الضعيف ماذا يعني؟!:

ينظر إلى الدليل الضعيف من زاويتين:

إحداهما: من حيث منشأ الضعف، حيث يكون سبب ذلك ـ أحياناً ـ قصوراً أو تقصيراً من المستدل، إذا كان قليل البضاعة في العلم، أو يعاني من محدودية أو قصورٍ في الفهم، أو من قلة التتبع، فيما يطلب فيه التتبع والاستقصاء، وما إلى ذلك.

وقد يكون الضعف ناشئاً عن سوء نية، وخبث طوية، إذا كان يريد أن يشنع على خصومه، وأن يظهرهم بصفة من يتشبث بالطحلب، وبما هو أوهى من خيط العنكبوت، فينحلهم أدلة واهية وزائفة كيداً منه لهم، وبغياً منه عليهم.

وقد يكون هدفه من هذا الاستدلال أو التعليل الذي ينحلهم إياه أن يُلزمَهم بما لا يلتزمون به، ولا يقبلونه، ولا ينسجم مع أصول تفكيرهم واعتقاداتهم.

الثانية: من حيث الأثر، إذا كان الاستدلال الضعيف والسخيف، سبباً

الصفحة 138
في أن يفقد الإنسان الغافل ثقته بعلمائه وبما لديه من رصيد علمي، فيتركه جانباً ليبدأ البحث عن البديل. ويقع في التيه، فيأتي المترصدون له، بصورة المنقذ والمخلص، فيدخلونه في ظلماتهم، ويغرقونه في بحور ترهاتهم وجهالاتهم، ويرهقونه بأضاليلهم وأقاويلهم. ومن أين له الخلاص والمناص؟ وكيف؟ وأنى؟.

من أجل ذلك، كان اللازم التصدي لكشف الحق، وفضح الباطل، ليحق الله الحق بكلماته.

(بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ)(1).

نماذج للاستدلالات الواهية:

ونذكر هنا نماذج لبعض الاستدلالات والتعليلات الضعيفة، التي لم يلتفت إليها، ولا اهتم بها علماؤنا الأبرار؛ لأنهم أدركوا ما ترمي إليه، فنقول:

الأول: القرابة:

لقد علل البعض دخول علي وفاطمة والحسنين (صلوات الله عليهم) في «أهل البيت» بكونهم قرابته (صلى الله عليه وآله)، وأهل بيته في النسب. ثم

____________

(1) سورة الأنبياء، آية18.


الصفحة 139
جعل الروايات المتقدمة، المصرحة بكونهم (عليهم السلام) هم «أهل البيت»، وهم سبب نزول آية التطهير، مؤيدة لذلك(1).

ونقول:

1 ـ لو كانت القرابة النسبية هي السبب، فقد كان يجب أن يُدخل النبي (صلى الله عليه وآله) عمه العباس فيهم؛ لأن العم أقرب من ابن العم الذي هو علي (عليه السلام) كما أن عقيلاً وأبناء العباس، وجعفراً ـ هم وعلي (عليه السلام) في رتبة واحدة من حيث قرابتهم لرسول الله، فلماذا أدخله (عليه السلام) دونهم؟!

2 ـ لو كانت القرابة النسبية هي المعيار؛ فهل يمكن اعتبار الفسقة والمشركين، ممن ينتسب إلى هاشم؟! ومن تأخر إسلامه إلى عام الفتح مثل عتبة ومعتب ابني أبي لهب لعنه الله تعالى ـ هل يمكن اعتبارهم من «أهل البيت» أيضاً؟!

الثاني: العشرة:

قد علل البعض دخول علي (عليه السلام) في أهل الكساء بمعاشرته لفاطمة بنت النبي (صلى الله عليه وآله)، ثم ملازمته ومعاشرته له (صلى الله عليه وآله)(2).

____________

(1) راجع فتح القدير ج4 ص280.

(2) راجع: إسعاف الراغبين (مطبوع بهامش نور الأبصار) ص108 عن القسطلاني على البخاري، نقلاً عن الخطيب والرازي والتفسير الكبير ج25 ص209 وغرائب القرآن (مطبوع بهامش جامع البيان) ج22 ص10.


الصفحة 140

ونقول:

1 ـ لا ندري متى أصبحت المعاشرة بمجردها سبباً لاستحقاق هذا الوسام العظيم، الذي هو أسمى الأماني، وغاية الطموحات؟ وما هو الدليل الذي دل على ذلك؟

2 ـ لقد نصت الروايات التي ذكرناها في فصل سابق على خروج زوجات النبي (صلى الله عليه وآله)، مع أن عشرتهن له (صلى الله عليه وآله)، وكونهن دائمات الحضور في بيته مما لا يرتاب فيه أحد.

أضف إلى ما تقدم: أن هناك من كان يخدم في بيت رسول الله (صلى الله عليه وآله) وله حضور فيه، فلماذا لا يدخلونهم أيضاً؟

كما أن طول المعاشرة لم يفد ابن نوح (عليه السلام) فقد جاء في القرآن: (وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ)(1).

والحقيقة هي: أن الهدف من طرح أمثال هذه الدعاوى: القرابة، والعشرة، وما إلى ذلك، هو صرف النظر عن حقيقة امتياز هؤلاء الصفوة عن كل من عداهم، في الفضائل وخصال الخير، وكل ما هو جميل ونبيل.

____________

(1) سورة هود الآيتان: 45 و46.


الصفحة 141

الثالث: إطلاقات كلمة «أهل البيت»:

قال الهيثمي: «إن له إطلاقين، إطلاقاً بالمعنى الأعم، وهو ما يشمل جميع الآل تارة، والزوجات أخرى. ومن صدق في محبته وولائه أخرى.

وإطلاقاً بالمعنى الأخص، وهم من ذكروا في خبر مسلم»(1).

والمقصود بمن ذكروا في خبر مسلم: أصحاب الكساء (عليهم السلام).

ونقول:

إن ذلك موضع تأمل؛ وذلك لما يلي:

1 ـ إن إطلاق عبارة: «أهل البيت» على الزوجات لم يعلم صحته إلا بضرب من التجوز والمسامحة. وقد ذكرنا في ما سبق إنكار زيد بن أرقم أيضاً لذلك.

2 ـ إن وجود إطلاقات عديدة للفظ ما، في الموارد المختلفة لا يهمنا، كما لا يهمنا صحة إطلاق كلمة «أهل البيت» على الزوجات أو عدم صحته، وإنما المهم هو تحديد المراد من هذه العبارة في خصوص هذه الآية.

وقد قلنا: إن الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) الذي هو الأعرف بمرامي القرآن ومعانيه قد حدد لنا ذلك، وذلك بتوقيف من الله سبحانه. فأوضح أن

____________

(1) الصواعق المحرقة ص277

الصفحة 142
المراد هو خصوص أهل الكساء (عليهم السلام) وصرح بخروج كل من عداهم، وخصوصاً الزوجات. وقرر (صلى الله عليه وآله) أنهن من أهله، لا من أهل بيته مع أن كونهن من أهله إنما هو نسبة مجازية أيضاً.

3 ـ إن ما تقدم، من سؤال أم سلمة وغيرها إن كانت من «أهل البيت»، يدل على عدم صحة إطلاق هذه الكلمة على الزوجات، وإلا فما معنى سؤالها عن ذلك مع كونها من أهل اللسان؟!.

وقد روى واثلة قال: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: أول من يلحقني من أهل بيتي أنت يا فاطمة، وأول من يلحقني من أزواجي زينب(1).

فهذا التفصيل يدل على وجود فرق بين التعبيرين، وذلك ظاهر.

4 ـ إن كلام البعض يدور حول أمر اعتبروه مفروغاً عنه، وهو أن المراد بالبيت في عبارة «أهل البيت» في الآية هو: بيت السكنى المبني بالحجر والطين، وتكون الألف واللام للجنس، أو بيت النسب.

مع أن الأظهر ـ حسبما أوضحناه ـ هو أن المراد بـ «البيت» بيت النبوة والرسالة..(2).

____________

(1) مجمع البيان ج8 ص356 ومختصر التحفة الاثني عشرية ص151 عن عبد الله المشهدي.

(2) كنز العمال ج21 ص108 وج13 ص703 ط مؤسسة الرسالة عن ابن عساكر.


الصفحة 143
ومن الواضح: بناءً على الاحتمال الأقوى والأظهر، أن صيرورة إنسان ما جزءاً من بيت النبوة منوط بحصول كمال الأهلية والاستعداد لنيل هذا المقام السامي. وإلا.. فإن أبا لهب، لا يمكن أن يكون من بيت النبوة، وكذلك الحال بالنسبة لولديه عتبة ومعتب، الذين أسلما بعد نزول آية التطهير بزمان. ـ والله تعالى هو الذي يعرف أولئك الذين حصلوا على الكمالات التي تؤهلهم لهذا المقام؛ فيخبر عنهم نبيه الأكرم (صلى الله عليه وآله)، ويعينهم (صلى الله عليه وآله) لنا ـ من خلال حديث الكساء، وغيره من النصوص الثابتة عنه (صلى الله عليه وآله).

الرابع: التوجيه غير الوجيه:

والملاحظة الأخرى التي سجلها بعض الكتاب هنا هي: أن حديث أم سلمة، وأبي سعيد المتقدم في فصل النصوص يصطدم بحقيقة: كون آية التطهير ليست آية مستقلة، وإنما هي جزء من آية، فكيف يمكن أن يكون جزء الآية نازلاً في أمر ومناسبة وهو الحديث عن الزوجات، والجزء الثاني ليس ناظراً إلى ذلك الأمر، ولا يتعرض إلى تلك المناسبة؟!(1).

ثم قال: «ومن الحق أن يقال: إن هذا الشمول «يعني لأهل الكساء»، أو الحصر، لا يكون مستقيماً إذا أريد الاستناد فيه إلى هذه الجملة القرآنية، وسياقها، وظروف نزولها.

____________

(1) راجع: التفسير الحديث ج8 ص263 وقد أوضحنا مراده على النحو الذي تراه.


الصفحة 144
وكل ما يسوغ قوله: أن الأحاديث المنسوبة إلى النبي (صلى الله عليه وآله) ـ إذا صحت ـ قد قصدت تعميم مدلول الجملة القرآنية لتشمل الأربعة المطهرين: علياً، وفاطمة، والحسن، والحسين (عليهم السلام)، بالإضافة إلى نساء النبي»(1).

ونقول:

إن كلامه أيضاً لا يصح، وذلك لما يلي:

1 ـ إنه لاريب في وجود الجمل الاعتراضية في القرآن، ووجود الالتفات أيضاً فيه، مع كون هذا الاعتراض وهذا الالتفات إنما يهدفان لبيان شيء مرتبط بنفس الموضوع الذي تعالجه سائر فقرات الآية، أو الآيات السابقة واللاحقة. فمع هذا الوجه لا يبقى وقع لملاحظته بخصوص كون آية التطهير ليست آية برأسها، وإنما هي جزء من آية.

2 ـ قد ذكرنا: أن سياق الآيات إنما هو في أمر النبي (صلى الله عليه وآله) بأن يقول لزوجاته أن يفعلن هذا ويتركن ذاك بهدف بيان كرامة «أهل البيت» (عليهم السلام) وقد خاطب النبي (صلى الله عليه وآله) الزوجات بتلك الأوامر والزواجر امتثالاً لأمر الله تعالى.

أو أن الخطاب الإلهي كان موجهاً إلى النبي (صلى الله عليه وآله) أولاً، ثم التفت إلى الزوجات، وخاطبهن بما له مدخلية في هذا التعظيم والتكريم لمقام

____________

(1) المصدر السابق وراجع: نوادر الأصول ص266.


الصفحة 145
النبوة الأقدس. ثم عاد ليتم الكلام فيما بدأه أولاً، الأمر الذي يعني ـ على كلا التقديرين ـ أنه لا توجد أية مخالفة للسياق، حسبما تقدم توضيحه. ولا يلزم من حصر المقصود بـ «أهل البيت» في أصحاب الكساء أي محذور، لا من حيث مخالفة السياق، ولا من حيث ظروف نزول الآية.

3 ـ إن كلام هذا الرجل يوحي بوجود شك في صحة حديث الكساء. مع أنه قد تقدم: أنه وارد في الصحاح، وغيرها من أمهات الكتب، وهو من المتواترات، فإذا جاز أن يتطرق الشك إلى هذا الحديث، فأي حديث يمكن الاعتماد عليه بعد هذا يا ترى؟.

وكيف يرضى منه أهل نحلته أن يشكك في أحاديث صحيح مسلم، والترمذي، وأحمد، وغير ذلك؟!.

4 ـ إن القرآن إن كان دالاً على ما يريده (صلى الله عليه وآله) وبيّنه من عبارة: «أهل البيت» لم يكن معنى لهذا التوجيه الذي جاء به هذا الرجل، وإن لم يكن دالاً، وقد أراد (صلى الله عليه وآله) أن يعمم مدلول الآية، فإن ذلك غير ممكن؛ لأن الدلالة أمر واقعي، لا يتحقق بمجرد إرادته ومحبته من قبل الناس.

إلا إن كان المراد: أنه (صلى الله عليه وآله) قد أراد توسعة الحكم القرآني، على سبيل التنزيل والمجاز، فيعتبر أشخاصاً كعلي وفاطمة والحسنين (عليهم السلام) ليسوا من «أهل البيت» حقيقة، بل إنهم منهم تنزيلاً ومجازاً.

فإن كان المراد هذا.. فقد تقدم: أن عكس ذلك هو الصحيح،

الصفحة 146
فإن كلمة «أهل البيت» لا تصدق على الزوجات إلا بضرب من المجاز والتنزيل.

5 ـ إن الروايات المتقدمة في الفصل الثاني من القسم الأول قد ذكرت أنه (صلى الله عليه وآله) أراد نفي كون الزوجات من «أهل البيت»، فكان على الكاتب أن يدّعي ـ نظراً إلى ذلك ـ أنه (صلى الله عليه وآله) قد أراد قلب المعاني القرآنية، وعطف دلالة الآيات عن وجهتها الأصلية. لاسيما وأن محط نظر هذا الكاتب حسب تصريحه هو خصوص أحاديث أم سلمة، وأبي سعيد الخدري، ومقتضى هذه الأحاديث هو ما ذكرناه، لا ما ذكره.

الخامس: النبي (صلى الله عليه وآله) دعا لهم بالتطهير:

قال ابن تيمية وغيره:

«إن مضمون هذا الحديث: أن النبي (صلى الله عليه [وآله] وسلم) دعا لهم بأن يذهب الله عنهم الرجس ويطهرهم تطهيراً»(1).

____________

(1) قد وردت صيغة الدعاء في عددٍ من المصادر مثل: مختصر التحفة الاثني عشرية ص151 ومنهاج السنة ج3 ص4 والتبيان ج8 ص307 وجامع البيان ج22 ص7 و6 والدر المنثور ج5 ص198 عن ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والطبراني، وابن مردويه، والخطيب، والترمذي والحاكم، والبيهقي في سننه، وحياة الإمام الحسين (عليه السلام) لابن عساكر (بتحقيق المحمودي) ص62 ـ 68 وفتح القدير ج4 ص279 وتأويل الآيات الظاهرة ج2 ص457 ومجمع

=>


الصفحة 147
وغاية ذلك: أن يكون دعا لهم بعد نزول الآية بأن يكونوا «من المتقين»، الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم، فأحب (صلى الله عليه وآله) أن يدخلهم في الآية التي خوطب بها الأزواج، فهي دعوة لهم خارج التنزيل(1).

____________

<=

البيان ج8 ص356 و357 والبرهان (تفسير) ج3 ص320 والبحار ج35 ص320 ومسند أحمد ج6 ص304 و292 ونظم درر السمطين ص133 و238 و239 وحياة الإمام الحسن (عليه السلام) لابن عساكر (بتحقيق المحمودي) ص66 وكفاية الطالب ص372 والعمدة لابن بطريق ص33و39 وتفسير القمي ج2 ص193 والتفسير الحديث ج8 ص261 و263 والطرائف ص125 و127 و129 وشواهد التنزيل ج2 ص17 و20 و23 و62 ـ 69 و74 و75 و80 و83 و84 و90 وسليم بن قيس ص150 وترجمة الإمام علي لابن عساكر (بتحقيق المحمودي) ج1 ص184 والمناقب لابن المغازلي ص302 و303 والاستيعاب ج3 ص37 والمحاسن والمساوي ج1 ص481 وتهذيب التهذيب ج2 ص 297 والاتقان ج2 ص199 و200 وتاريخ بغداد ج10 ص278 وذكر أخبار أصبهان ج1 ص108 والمعجم الصغير ج1 ص65 وأسد الغابة ج3 ص413 وج4 ص29 والرياض النضرة ج3 ص152 وينابيع المودة ص107 و108 و230 و228 و229 ومشكل الآثار ج1 ص334 وتفسير القرآن العظيم ج3 ص484 ومرقاة الوصول ص108 و105 و106 والبداية والنهاية ج8 ص35 وإحقاق الحق ج2 ص568 ومجمع البيان ج8 ص357. وغير ذلك.

(1) راجع منهاج السنة ج3 ص4 وراجع ج4 ص20 ونوادر الأصول ص266 ومرقاة الوصول ص105 والجامع لأحكام القرآن ج14 ص184.


الصفحة 148
وعلى حد تعبير الدهلوي: «هو دليل صريح على أن نزولها كان في حق الأزواج فقط. وقد أدخل النبي (صلى الله عليه [وآله] وسلم) هؤلاء الأربعة الكرام رضي الله عنهم بدعائه المبارك في تلك الكرامة. ولو كان نزولها في حقهم لما كانت الحاجة إلى دعائه. ولِمَ كان رسول الله (صلى الله عليه [وآله] وسلم) يفعل تحصيل الحاصل؟ ومن ثمة يجعل أم سلمة شريكة في هذا الدعاء، وعلم في حقها هذا الدعاء، تحصيل الحاصل»(1).

وعلى حد تعبير الآلوسي: لو كانت الإرادة تكوينية فلا معنى للدعاء(2).

ونسجل هنا ما يلي:

1 ـ قوله: لو كانت الآية نازلة في أهل الكساء. لم تكن ثمة حاجة إلى دعائه (صلى الله عليه [وآله] وسلم) لهم، وكان ذلك تحصيل الحاصل.

لا يصح، فإن فائدة الدعاء هي استمرار هذا التطهير في المستقبل. وهذا كقول الأنبياء والأولياء والأصفياء: إهدنا الصراط المستقيم، فإن هدايتهم حاصلة بالفعل وهم يطلبون استمرارها وبقاءها، وزيادتها، وتأكيدها.

____________

(1) مختصر التحفة الاثني عشرية ص151.

(2) روح المعاني ج22 ص18.


الصفحة 149
إذن فلا ضير في أن تكون الآية قد نزلت في أهل الكساء، الذين كانوا مطهرين عن كل رجس من أول أمرهم، وقد دعا النبي (صلى الله عليه وآله) لهم لتستمر هذه الطهارة في المستقبل أيضاً.

ويمكن أن تكون فائدة الدعاء هي زيادة مراتب ودرجات الخلوص والتطهير لهم وتعميق ذلك وترسيخه بصورة أتم وأقوى.

وقد تكون فائدة الدعاء مجموع الأمرين المتقدمين.

2 ـ قال العلامة المجلسي (رحمه الله): «إن الآية على ما مر في بعض الروايات إنما نزلت بعد دعوة النبي لهم(1)، وأن يعطيه ما وعده فيهم. وقد سأل الله أن يذهب عنهم الرجس ويطهرهم، لا أن يريد ذلك منهم. فلو كان المراد هذا النوع من الإرادة لكان نزول الآية في الحقيقة رداً لدعوته، لا إجابة لها، وبطلانه ظاهر»(2).

3 ـ بالنسبة لقول الآلوسي: لو كانت الإرادة تكوينية لم يكن ثمة حاجة إلى الدعاء نقول:

أولاً: إن الإرادة تشريعية للزوجات، وهي تكشف عن حصول طهارة حقيقية بصورة قطعية وجازمة بالنسبة لـ«أهل البيت» حسبما تقدم بيانه.

____________

(1) ويدل على ذلك عدد من النصوص، فراجع آية التطهير في أحاديث الفريقين ج1 ص46 و48 و182 و228 و107 و112.

(2) البحار ج35 ص234.


الصفحة 150
ثانياً: لو كانت الإرادة تشريعية أيضاً، لم يكن ثمة حاجة إلى الدعاء، إذ لا معنى لأن يقول (صلى الله عليه وآله): اللهم اجعل أهل بيتي مشمولين لأوامرك، ونواهيك، وأبعدهم عن آثار المخالفة إذا امتثلوا أوامرك ونواهيك..

فإن هذا لا يصدر ممن له أدني مِسْكة، فضلاً عن أن يصدر عن عقل الكل، وإمام الكل، ومدبر الكل.

4 ـ إن ابن تيمية الذي ذكر ما تقدم هو نفسه قد صحح حديث الكساء، وذكر أن مسلماً وأحمد قد روياه.

ونلاحظ هنا:

ألف: إن الذين ذكرهم ابن تيمية نفسه على أنهم قد رووا حديث الكساء، قد ذكروا: أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قد قرأ الآية حين جمع أهل الكساء، لا أنه (صلى الله عليه وآله) دعا لهم بمضمونها. ومنهم من صرح بأن الآية قد نزلت في هذه المناسبة. وهو ما صرحت به عشرات المصادر الأخرى أيضاً، فراجع.

ب: إن نفس ابن تيمية قد اختار النص الذي يصرح فيه بنزول الآية في هذه المناسبة(1). ولكنه حين يريد أن يعترض ويناقش؛ فإنه يسجل اعتراضه على نص آخر تخيل أنه يفيده فيما يرمي إليه ـ انطلاقاً من نصبه وحقده وعدائه لعلي (عليه السلام)، وأهل بيته، وشيعته الأبرار ـ من صرف

____________

(1) منهاج السنة ج3 ص4 وج4 ص20.


الصفحة 151
أية فضيلة لهم (عليهم السلام) إلى أعدائهم وشانئيهم.

5 ـ حتى لو كان (صلى الله عليه وآله) قد دعا لهم بذلك، ولم تنزل آية التطهير أصلاً، فإن الله سبحانه قد قال: ادعوني أستجب لكم، وقد اعترفوا بأن الله تعالى لن يخيب نبيه، ويرد دعاءه بل دعاؤه (صلى الله عليه وآله) ـ حسب اعترافهم ـ مستجاب(1).

فإذا كان الله سبحانه قد استجاب لنبيه، فقد صح: أن أصحاب الكساء قد أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً. ويكون في اختيار الرسول (صلى الله عليه وآله) لهذا التعبير إشارة إلى ذلك كما هو ظاهر.

6 ـ قد اعترف الدهلوي نفسه بما قلناه، حيث ذكر بعد عبارته الآنفة الذكر، ما يلي:

«.. ولكن ذهب محققو أهل السنة إلى أن هذه الآية ـ وإن كانت واقعة في حق الأزواج المطهرات؛ فإنه بحكم: (العبرة لعموم اللفظ، لا بخصوص السبب) داخل في بشارتها هذه جميع «أهل البيت». وكان دعاؤه (صلى الله عليه وآله) في حق هؤلاء الأربعة نظراً إلى خصوص السبب»(1).

ولكن الدهلوي لم يوضح لنا: أنه مع عموم اللفظ الذي يدعي ما هو السبب في منع رسول الله (صلى الله عليه وآله) الزوجات من الدخول معهم وفيهم!!

____________

(1) منهاج السنة ج4 ص22.


الصفحة 152
كما أنه لم يوضح لنا مقصوده، بالسبب وأي سبب دعا إلى نزول الآية سوى جمعه (صلى الله عليه وآله) لهؤلاء الأربعة أو دعائه لهم؟!

7 ـ وأما أن آية التطهير صريحة في إرادة النساء، لكن النبي (صلى الله عليه وآله) قد أحب أن يدخل أصحاب الكساء في ضمنها..

فقد تقدم: أن سياق الآيات ليس فقط لا يأبى عن إرادة أصحاب الكساء دون الزوجات، بل إن ذلك هو الأكثر انسجاماً وملاءمةً للسياق مما لو كانت الآية خطاباً للنساء، وقد شرحنا ذلك في القسم الأول من هذا الكتاب.

8 ـ أضف إلى ما تقدم أنه يرد هنا سؤال: لماذا أحب (صلى الله عليه وآله) أن يدخل خصوص هؤلاء الأشخاص في أهل «البيت» فإن كان ذلك لأجل قرابتهم النسبية، فقد كان ثمة من هو أقرب من بعضهم. ومن يضارعه في القرابة ـ كما قدمنا ـ ونحن نربأ بالنبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) أن تكون حركاته ومواقفه من منطلق العصبية إلى الرحم والنسب.

وإن كان ذلك لخصوصية في هؤلاء الذين أدخلهم تحت الكساء، فإن كانت هذه الخصوصية موجودة في النساء أيضاً، مثل «العِشْرَة» كما ادعوا؛ فقد تقدم: أنها لا توجب لهن هذا الوسام العظيم، ولا هذا التبجيل والتكريم فإن زوجة لوط وزوجة وابن نوح كانوا أقرب إلى نوح ولوط (عليهما السلام) في العِشْرَة من كل أحد. وإن كانت الخصوصية غير موجودة في نسائه (صلى الله عليه وآله)، كالعصمة وكونهم صفوة الخلق، فإن ذلك يقتضي خروج النساء عن مفاد الآية كما هو ظاهر.

____________

(1) مختصر التحفة الاثني عشرية ص151.


الصفحة 153

توضيحات للهيثمي:

قال الهيثمي: «ابتدأت بإنما المفيدة لحصر إرادته تعالى في أمرهم على إذهاب الرجس، الذي هو الإثم والشك فيما يجب الإيمان به عنهم وتطهيرهم من سائر الأخلاق والأحوال المذمومة»(1).

وقال أيضاً: «وحكمة ختم الآية بـ «تطهيراً» المبالغة في وصولهم لأعلاه، وفي رفع التجوز عنه، ثم تنوينه تنوين التعظيم والتكثير، والإعجاب المفيد إلى أنه ليس من جنس ما يتعارف ويؤلف.

ثم أكد (صلى الله عليه وآله) ذلك كله بتكرير طلب ما في الآية له بقوله: «اللهم هؤلاء أهل بيتي إلى آخر ما مر. وبإدخاله نفسه معهم في العد؛ لتعود عليهم بركة اندراجهم في سلكه، بل في رواية: أنه اندرج معهم جبريل وميكائيل، إشارة إلى عليّ قدرهم. وأكده أيضاً بطلب الصلاة عليهم»(1).

ثم ذكر طائفة من النصوص حول ذلك.

ونحن وإن كنا نوافقه على ما قال، إلا أن لنا على كلامه ملاحظة هي:

إن قوله «ثم أكد النبي (صلى الله عليه [وآله] وسلم) ذلك كله

____________

(1) الصواعق المحرقة ص142 و143.

(2) الصواعق المحرقة ص143.