الصفحة 59
دلالة أصرح من دلالة هذه الآية المباركة بأنَّ علم النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن حاضراً بالأشياء، ولو كان حاضراً لأخبر تعالى عنه، بأنَّه كان يعلم بنفاق أولئك الأعراب وبعض أهل المدينة.

فهذه الآيات الكريمة وغيرها من آي الكتاب العزيز صريحة بأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يعلم الغيب. فكيف إذاً شأن الأئمة الأطهار فيه، وبما أوردناه من الآيات البينة كفاية في الدلالة على القصد.

ولا حاجة بنا إلى إيراد شيء من الكتاب الكريم سواها.

«الجواب عنها»

إننا لا نريد أن نثبت بأنَّ علمهم ذاتي، لا يحتاج إلى المعلم حتى العلام تعالى، بل إنَّ علمهم كان بلطف منه جل شأنه، وتعليم من لدنه جل ذكره. فهذا لا يأبى من أنَّهم لا يعلمون بالذات: الغيب ولا غيره، فهذه الآيات الكريمة لا تعارض تلك الآيات التي صرَّحت بأنَّ الله تعالى وإن استأثر بعلم الغيب إلا أنّه إذا شاء أظهر عليه من ارتضاه من الرسل، وأنَّ رسولنا صلى الله عليه وآله ـ كما في الأحاديث ـ ممن إرتضاه الله سبحانه.

على أنَّ هذه الآيات نفسها دلت على هذا المفاد، كما في قوله: (ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء) فإنّ هذا الإستثناء كاف في الدلالة على إشاءته تعالى لأن يحيطوا بشيء من علمه.

وهذه الطائفة محمولة على استئثاره بالعلم الذاتي. وأما من أطلعه على ذلك العلم ـ كما دلت عليه تلك الآيات ـ فذلك العلم محمول على

الصفحة 60
العرضي، بل إنَّنا لا نريد أن نثبت بما سلف أنَّ لديهم كل ما يعلمه الجليل سبحانه، ولا تلازم بين علمهم الحضوري وأنَّهم يعلمون كل ما يعلمه العلام سبحانه؛ فيجوز حينئذٍ أن نحمل ما دل على نفي علمهم وما دل على استئثاره بشيء على إختصاص ذلك بما تخصص به، ولم يطلع عليه أحدا من البشر؛ ويشهد له ما جاء في الأحاديث التي قالت بأنَّ الإسم الأعظم على ثلاثة وسبعين حرفاً وأنَّ عندهم منه إثنين وسبعين، وأنَّ الجليل تعالى استاثر بحرف واحد. فهذا يدل على أنَّه اختص بشيء لم يطلعهم عليه.

على أنَّه قد يقال في الجواب إنَّ هذه الآيات وما سواها، مما دل بظاهره على أنَّ الأنبياء كانوا لا يعلمون، ولا سيما مثل قوله تعالى: (وما أدراك ما ليلة القدر) وقوله جل شأنه: (وما أدراك ما الحاقة) وقوله عز وعلا: (وما أدراك ما يوم الدين) وقوله عز وجل: (ولا تقف ما ليس لك به علم) وقوله سبحانه: (لا تعلمهم نحن نعلمهم) إلى غيرها محمولةً على أنَّ المراد بها الأُمَّة من باب إياك أعني واسمعي يا جارة.

بل يمكن الجواب عن كل آية آية. ولكن لا نريد الإطالة في الجواب، والإكثار من الكلام. ولو لم يمكن التوفيق بين هاتين الطائفتين من الآيات الكريمة، فلا بد من التصرف في ظاهر هذه الطائفة خاصة، لأنَّ حكم العقل قاض بأنَّ الإِمام لابد وأن يكون علمه حضورياً كما أنَّه لا يمكن التصرف في صريح هاتيك الآيات.

الصفحة 61

الصفحة 62

الأخبار النافية
للأخبار الدالة على الحضور

أما الأخبار التي دلت على أنَّ علمهم ليس بحاضر، فهي كثيرة جداً، لا يسع المقام استيفاؤها، وها نحن نشير إلى طرف منها في طيَّ طوائف.

الطائفة الأُولى:
كانوا لا يعلمون الغيب

هناك طائفة من الأحاديث صرَّحت بأنَّ الأئمة لا يعلمون الغيب، حتى أنَّ أبا عبدالله عليه السلام خرج يوماً وهو مغضب، فلما أخذ مجلسه، قال: «يا عجباً لأقوام يزعمون إنّا نعلم الغيب، ما يعلم الغيب إلا الله عز وجل لقد هممت بضرب جاريتي فلانة، فهربت مني، فما علمت في أي بيوت الدار هي» (1).

وهذه ـ كما ترى ـ صريحة بأنهم كانوا لا يعلمون الغيب، ولم يكن علمهم بالأشياء حاضراً لديهم. ولو كانوا حاضري العلم دوماً، والأمور منكشفة لهم أبدا، لما خفي عليه هرب الجارية، ومكانها من بيوت الدار.

____________

(1) الكافي: كتاب الحجة، باب نادر فيه ذكر الغيب.

الصفحة 63

الطائفة الثانية
سهو النبي والأئمة

وهناك طائفة كبيرة من الأحاديث صرحت بسهو النبي صلى الله عليه وآله حتى أنَّه صلى الظهر خمس ركعات، ومرّة صلاها ركعتين! وإنَّ علياً عليه السلام صلى بغير طهر، فأخرج مناديه يعلم الناس بذلك! وحتى أنَّ الرضا عليه السلام ـ كما في عيون الأخبار ـ لعن الذين لا يقولون بسهو النبي صلى الله عليه وآله، ونسبهم إلى الغلو، وأنّ الصادق عليه السلام ـ كما في آخر السرائر ـ قال: «ربما أقعدت الخادم خلفي يحفظ صلواتي».

وهل يتطلب الباحث إلى اكثر من هذا التصريح.. فإنّ علمهم لو كان حاضراً لكان بأفعالهم أجدر؛ فكيف يقع منهم السهو، وهم يعلمون كل شيء من أفعال العباد، أفلا علموا بأفعالهم حتى يتحرزوا من السهو في أفضلها، وهو الصلاة.

الطائفة الثالثة:
نوم النبي عن الصلاة الصبح

لقد جاء في الأخبار الصحيحة أنّ النبي صلى الله عليه وسلم نام عن صلاة

الصفحة 64
الصبح حتى أيقظه حر الشمس. وعلل هذا النوم بأنّ الله عز وجل فعله بنبيه صلى الله عليه وسلم رحمةً بالناس. لئلا يعيَّر النائم عن الصلاة.

وهل بعد هذا التصريح من وجه للقول بأنَّ علمهم كان حاضراً. والأمر لديهم كان متجلياً. وأين كانوا من نومهم إلى أن تطلع الشمس؟ أفلا كانوا على علم منه.

الطائفة الرابعة:
متى شاء الإمام أن يعلم أعلمه الله تعالى

وهذه الطائفة من الأحاديث اشتملت على نصوص عديدة، وكلها مفصحة وقائلة: بأن الإمام متى شاء أن يعلم شيئاً أعلمه الله سبحانه ذلك.

وهذه الطائفة يمكن أن تكون الحد المعتدل والنمرقة الوسطى، وعندها إجتماع ما اختلف من الأدلة، وائتلاف ما افترق من الأحاديث، فتحمل تلك الطوائف على أنَّ علمهم يكون حاضراً إذا شاءوا، وحاصلاً إذا أرادوا، ولا يكون حضوره دوماً، وحصوله ابداً، بل إنَّ تجلي الأُمور وانكشاف الأشياء، عند الإشاءة منهم والإرادة لها.

ومن ثَمَّ يتضح أنَّ ما ظهر منهم من الأقوال والأفعال التي أفصحت عن العلم الحاضر عندهم، والأمر المتجلي لهم، محمول على أنّهم أرادوا علم ذلك الشيء، فأطلعهم تعالى على علمه، فأظهروه بعد تلك الإشاءة.

الصفحة 65

المؤيدات لهذا الجمع

الأول:
استمرارهم عملاً وقولاً على عدم الحضور

إنَّ الذي يؤيد هذا الجمع استمرارهم في الأعمال والأقوال على أنّ ليس لديهم علم حاضر،ولا أمر منكشف. ولو كانت الأمور متجلية لهم لما رفع الصادق عليه السلام الستر ليعلم هل في البيت أحد يسمع، ولما بقيت لمعة في ظهر الباقر عليه السلام لم يصل إليها الماء عندما اغتسل، ولما أكل الكاظم عليه السلام بيضة قامر بها مولىً له. فلما علم بذلك تقيّأها (1).

الثاني:
إقدامهم على القتل وشرب السم

ومما يؤيد أنّ علمهم ليس بحاضر دوماً، أنّهم كانوا يقدمون على القتل وشرب السم، ولو كانوا عالمين بالحال قبل الوقوع في تلك الحبائل، لكان من الإلقاء للنفس في التهلكة. وهم أجل شأناً وأعلى منزلة من ان يقدموا على هذا الإلقاء.

____________

(1) أما الخبر الأول فهو في الكافي في كتاب الحجة باب فيه ذكر الصحيفة والجفر والجامعة ومصحف فاطمة. وأما الخبر الثاني فهو في الوسائل في أبواب الغسل. وأما الثالث ففي الوسائل أيضاً في أبواب التجارة باب تحريم كسب القمار.

الصفحة 66

الثالث:
الغلو

إنّنا لو اعتقدنا بأنَّ النَّبي والأئمة عليه وعليهم السلام حاضرو العلم بالأشياء كافة. ما سبق منها وما هو آت إلى يوم الحشر. بل حتى بما هو في السماء من خبر. وبما بعد يوم القيامة من أثر. الأمر الذي يقف عنده اللبيب مبهوتاً. ويبقى لديه العارف مذهولاً، ولأمكن أن يقال بأنَّ هذا الإعتقاد غلو فيهم. وخروج عن النمرقة الوسطى في الإعتقاد بهم. ولكن لو قلنا بأنَّ علمهم وحضوره راجع إلى الإشاءة منهم. فإذا شاءوا أعلمهم تعالى بما أرادواعلمه لم يكن ذلك غلواً. ولا خروجاً عن الحد المعتدل.

الجواب عن الأول:

قد بينا في مقدمات هذه الرسالة الفرق بين علمه تعالى وعلمهم، وأنَّ علمه تعالى عين ذاته، وأنّ علمهم صفة خارجة عن الذات زائدة عليها وأنّه موهوب منه جل شأنه، وهذا لا ينافي أنّهم لا يعلمون الغيب بالذات بل إنما يعلمونه بالتعليم والمنحة منه تعالى.

على أنَّ التخصيص للكتاب بالسنة جائز ووارد. وقد جاء في المقام قوله تعالى: (إلا من ارتضى من رسول) وكان والله محمد ممن ارتضاه فالرواية بعد التخصيص شاهد على أنَّ النبي كان يعلم الغيب بما أعلمه الله عز وجل.

الصفحة 67

وأما حادثة الجارية، وتظاهره عليه السلام بأنَّه لا يعلم أين هي من بيوت الدار، وإنكاره على من يقول بأنَّهم يعلمون الغيب، فلا يخفي شأنه على ذي بصيرة، لأنهم أعلم الناس بالناس وأعرفهم بضعف عقولهم، وعدم تحملهم. فلو أنَّهم كانوا يتظاهرون دوماً بما منحوا من ذلك العلم لاعتقد بهم أهل الضعف أنَّهم أرباب أو غير ذلك مما يؤول إلى الشرك، ولقد اعتقد بهم ذلك كثير من الناس من البدء حتى اليوم، على أنَّهم كانوا ينفون عنهم تلك المقدرة وذلك العلم أحياناً، وليسوا بأهل السلطة ليقيموا أود الناس بالتأديب بعد الوعظ والزجر، كما سبق لأمير المؤمنين عليه السلام مع أصحاب ابن سبأ.

بل كانوا غرضاً لفراعنة أيامهم، وهدفاً لنبالهم، ولم يكونوا بذلك المظهر عندهم؛ فلو تظاهروا بتلك الخلة كيف ترى يحمل الحسد أولئك الطواغيت على الفتك بهم، وهم المحسودون على ما آتاهم الله من فضله، واي حائل ـ يحجز عما يريدونه بهم وبأولياؤهم.

وإنهم لم يطلعوا أعداءهم ولا سواد أوليائهم على جميع ما رزقوا من ذلك الفضل، وقد لاقوا من المصائب والنوائب،والحوادث والكوارث، والوقائع والفجائع ما تسيخ منه شم الجبال، وتشيب من هوله الرضّع، ولو لم يكونوا رزقوا ذلك الجلد والصبر على قدر ما رزقوا من الفضل لما استطاع أن يحمل ـ ما تّحملوه ـ بشر، وهل مات أحد منهم حتف أنفه دون أن يتجرَّع غصص السم النقيع، أو يصافح حدود الصوارم، ويعتنق قدود الرماح، هذا وفق ما يرونه من الهتك

الصفحة 68
للحرمات، وتسيير العقائل والسب والسلب؛ والغصب للحقوق، والتلاعب بالدين، وتضييع أحكام الشريعة.

نعم! لا يظهر بتلك المنح الإلهية جميعهاً إلا الإمام المنتظر عجّل الله فرجه، لأنّه لا يخشى ذلك التسرب إلى ضعاف البصائر، لو صارح بما وُهب من الفضل، لقدرته على الردع والتأديب، ولا يخاف حسد حاسد أو سطوة ظالم، وهو صاحب السلطة والسيف.

على أنَّ في ذيل تلك الرواية ما يفصح بتلك السعة، وينبىء عن ذلك التعميم والحضور، فإنَّه عليه السلام قال: (علم الكتاب والله كله عندنا، علم الكتاب والله كله عندنا) والكتاب كما أنبأ عنه الجليل جل وعلا جاء بياناً لكل شيء.

الجواب عن الثاني

أما الجواب عن الطائفة الثانية التي صرَّحت بوقوع السهو من النبي صلى الله عليه وسلم ومن الأئمة المعصومين عليهم السلام من الجهة الفقهية، فمعارضة بالاخبار الخاصة. فأما أن تحمل على التقية أو تطرح لضعفها سنداً ومتناً عن مقاومة ما دلَّ على نفي السهو والنسيان من النبي والإمام، ولعدم العامل بها صريحاً غير الصدوق في فقيهه.

وأما من جهة أُصول الدين، فلا يمكن العمل بالأخبار حتى لو صحت سنداً واتضحت دلالة إذ ليس المعتبر إلا حكم العقل، والعقل يمنع من صدور أمثال ذلك عن المعصوم المقتدى، وإنَّ صدور

الصفحة 69
أمثال ذلك لا يوافق مقام النبوة ومنزلة الإمامة بل هو حطّ من تلك الكرامة، ونقص من ذلك المنصب الإلهي.

ولو أردنا أن نجاري الخصم في جواز ذلك منهم فقهاً وعقلاً، فالأدلة الخاصة تأبى من اتصافهم بما تحملته هذه الأحاديث، وكفى منها ما سبق من تلك الطوائف سوى الأخبار التي نفت خصوص السهو والنسيان عنهم، وإنَّ الطبع يمج تلك النسب ويأبى عن قبول هاتيك الدعوى فضلاً عن إباء العقل والفقه لها.

الجواب عن الثالث:

وأما الجواب عن هذه الطائفة، فيعلم من الجواب عن الثانية، وأما كون نوم النبي صلى الله عليه وسلم رحمة للناس لئلا يعيروا بنومهم بعد طلوع الشمس، فتعليل غريب. نعم! هو أنسب بالحزازة بنومه عن الصلاة.

وهل اللائق بمثل تلك المنزلة الجليلة والمقام الرباني، وبمن تنام عينه ولا ينام قلبه، وبمن لا تغمض عينه إلا خلسة، أن ينام عن الفريضة، حتى يوقظه حر الشمس؟

ولو ارتكبه أقل ارباب العبادة والتهجد لكان عارا وحزازة. فكيف بسيد الأنبياء؟

وهل إنحصر رفع التعيير عن النيام إلا بنوم النبي صلى الله عليه وسلم؟

أوليس هذا من دفع القبيح بالأقبح؟

الصفحة 70

أفلا يكفي البيان والإعلان باللسان في دفع التعبير عمن ينام؟

الجواب عن الرابع:

إنَّ هذه الطائفة إنَّما صرَّحت بأنَّ علمهم موقوف على الإشاءة منهم ولكن لا دلالة فيها على أنّهم لا يشاءون إلا في وقت دون آخر، فأي صراحة فيها تعارض ما دل على أنَّهم يشاءون أبداً ويريدون دوماً؟ فتكون مؤيدة للعلم الحضوري على هذا البيان.

على أنَّه إذا كان علمهم موقوفاً على الإرادة منهم فلم يريدون ابداً علم الأشياء؟ ومن الذي لا يريد أن يكون علمه بأعلى مراتب الكمال، وهو بإختياره وإرادته؟ فإنّ الناس تريد حصول المراقي الرفيعة في الفضيلة ولا تكون إلا بالكد والجد والتعب والنصب، فكيف يمتنع أحد عن تحصيلها وهي بالرغبة والإشاءة من دون كلفة وجهاد؟ ولم لا يحصل على تلك الرتب السامية وهو يعرف ما الفضيلة، ويعلم هاتيك الدرج العلية؟

الصفحة 71

الجواب عن المؤيِّد الأول

استمرارهم على عدم العلم الحاضر:

أما دعوى استمرارهم في الأقوال والأعمال على عدم العلم الحاضر فشيء لا يمكن دفعه في الجملة، وعلى نحو الموجبة الجزئية، ولكن تظاهرهم بالحاضر أكثر، ويشهد له في القول ما سبق من تلك الطوائف، وفي العمل ما وقع لهم من الأخبار بالملاحم والمغيِّبات، والأخبار عما يعلمه الناس وعما سيعملونه وعن وساوس الصدور، ومناجاة النفوس، وهذا شيء أصبح من الجلاء والظهور بحيث يعد البرهان عليه فضولاً، والإستشهاد له يكون هذراً، وهذه «مدينة المعاجز»، وقد ذكرت لكل إمام من أئمة أهل البيت عليهم السلام من أمثال ما أشرنا إليه الجم الغفير، بل وهذا «نهج البلاغة» أمام باصرتك فيه من ذكر الملاحم، والأخبار بالمغيبات الشيء الكثير.

لربما يكون تظاهرهم أحياناً بعدم العلم هو من العلم الحاضر نفسه، لعلمهم بزنة عقول الناس ومقادير مداركهم، وعسى أن يكون من حضر أو سمع أو يسمع لا يأمنون عليه من الشذوذ في العقيدة وقوله فيهم بما ليسوا فيه، فيظهرون بعدم العلم دفعاً لذلك المحذور.

أو يخشون من أعدائهم إذا بلغ مسامعهم ذلك القول أو العمل؛

الصفحة 72
فيحملهم على التنكيل بهم أو بأوليائهم. وقد أشارت كثير من تلك الأحاديث إلى أنّهم لا يستطيعون أن يعلنوا بكل ما أوتوا من العلم، فإنَّهم قالوا: «لو كان لألسنتكم أوكية لحدثنا كل امرىء بما له وعليه» (1). وقالوا: «لو وجدنا مستراحا لقلنا والله المستعان» (2)، وقالوا: «إنّ العالم لا يقدر أن يخبرك بكل ما يعلم» (3)، وقال أمير المؤمنين عليه السلام: «إنّ ها هنا علماً جماً لو وجدت له حملة» (4). فعدم تحمل الناس لعلومهم، والحذر من الشذوذ في المعتقد فيهم، والخوف من سطوات أهل الظلم والجور، وغير ذلك مما هم أعلم به، هو الذي دعاهم إلى ذلك الظهور أحياناً بعدم العلم الحاضر.

على أنَّه يمكن الجواب عن كل حادثة من تلك الحوادث التي وقعت منهم، ودلت على عدم العلم. فأما رفع الستر فلعله كان لاطمئنان أبي بصير وكيف يعلم بخبيئة أبي بصير حين دخل عليه ولا يعلم بما وراء الستر.

أما بقاء اللمعة، فلعلها كانت من تخيّل الناظر، ورواية الصادق عليه السلام لها من ذلك الشأن الذي أشرنا إليه أو لتنبيه الناظر أن

____________

(1) الكافي: كتاب الحجة، باب إن الأئمة عليهم السلام لو ستر عليهم لأخبروا كل امرىء بما له وعليه.

(2) المصدر السابق: باب إنه لم يجمع القرآن كله إلا الأئمة عليهم السلام وأنهم يعلمون علمه كله.

(3) وصية الصادق عليه السلام لمؤمن الطاق.

(4) نهج البلاغة.

الصفحة 73
ليس عليه من باس إذا لم يخبر، وإلا كيف تبقى لمعة والغسل كان ارتماسياً، وكيف لا يستولي الماء على جميع بدن المرتمس.

وأما القيء فلعله كان مجاراة للمخبر، ولو أصر الإمام على أنَّ البيضة لم تكن مما اكتسب من القمار لاتهم المخبر الإمام، أو غير ذلك مما يكون من المخبر لتصديق خبره.

وبالجملة إنّنا لا ننكر أنّهم قد يتظاهرون أحياناً بعدم العلم قولاً أو فعلاً، إلا أنّ لذلك وجوهاً جمة لا تخفى على البصير، فلا توجب أن تحمل تلك الأدلة الصريحة بالعلم الحاضر وتصرف عن وجهها لبعض تلك الظواهر.

الجواب عن المؤيد الثاني
إقدامهم على القتل وشرب السم

وأما أنَّهم لا يعلمون بما يجري عليهم، ولو علموا لم يقدموا، لأنَّه من الإلقاء في التهلكة، فهو ينافي صريح الأخبار عنهم في هذا الشأن وأنَّهم أقدموا على علم ويقين.

فهذا الصادق عليه السلام يقول: «أي إمام لا علم ما يصيبه وإلى ما يصير: فليس ذلك بحجة لله على خلقه».

وهذا الكاظم عليه السلام، كيف أعلم السندي والقضاة عن سقيه السم وعما ستتقلب عليه حاله إلى ساعة موته.

الصفحة 74

وهذا الرضا عليه السلام. كيف أجاب السائل الذي طرأت عليه الأوهام والشكوك في حادثة أمير المؤمنين عليه السلام. حين قال له: إنَّ أمير المؤمنين عليه السلام قد عرف قاتله والليلة التي يقتل فيها والموضع الذي يقتل فيه. وقوله لما سمع صياح الأوز في الدار: «صوائح تتبعها نوائح» وقول أم كلثوم: «لو صليت الليلة داخل الدار، وأمرت غيرك أن يصلي بالناس؟» فأبى عليها، وكثرة دخوله وخروجه تلك الليلة بلا سلاح، وقد عرف عليه السلام ان ابن ملجم قاتله بالسيف، كان هذا يجوز أو يحل تعرضه؟ فقال الرضا عليه السلام: «ذلك كان كله، ولكنه خيّر تلك الليلة، لتمضي مقادير الله عز وجل».

وهكذا كان الجواب منهم عليهم السلام عن شأن حادثة الحسين عليه السلام (1) إلى كثير من أمثال هذه الأحاديث والأجوبة. ولكن أجمعها لرفع هاتيك الشبه، وأصرحها في الغرض خبر ضريس الكناسي، فإنّه قال: سمعت أبا جعفر يقول وعنده أناس من أصحابه: «عجبت من قوم يتولّونا ويجعلونا أئمة ويصفون أنّ طاعتنا مفترضة عليهم كطاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم يكسرون حجتهم، ويخصمون أنفسهم بضعف قلوبهم، فينقصون حقّنا ويعيبون ذلك على من أعطاه الله برهان حق معرفتنا والتسليم لأمرنا أترون أن الله تبارك وتعالى افترض طاعة أوليائه على عباده، ثم يخفي عنهم أخبار

____________

(1) الكافي: كتاب الحجة. باب إن الأئمة يعلمون متى يموتون وأنهم لا يموتون إلا باختيار منهم.

الصفحة 75
السماوات والأرض، ويقطع عنهم مواد العلم فيما يرد عليهم مما فيه قوام دينهم».

فقال له حمران: جعلت فداك أرأيت ما كان من أمر قام علي بن أبي طالب والحسن والحسين عليهم السلام وخروجهم وقيامهم بدين الله عز ذكره وما أصيبوا من قتل الطواغيت إياهم والظفر بهم حتى قتلوا وغلبوا؟

فقال أبو جعفر عليه السلام: «يا حمران إنّ الله تبارك وتعالى قد كان قدَّر ذلك عليهم وقضاه وأمضاه وحتّمه على سبيل الإختيار»، و«وفي نسخة الإختبار»، ثم أجراه، فبتقدم علم إليهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم قام علي والحسن والحسين، وبعلم صمت من صمت منّا. ولو أنّهم يا حمران حيث نزل بهم ما نزل من أمر الله عز وجل، وإظهار الطواغيت عليهم، سألوا الله عز وجل أن يدفع عنهم ذلك، وألحوا عليه في طلب إزالة ملك الطواغيت وذهاب ملكهم إذاً لأجابهم ودفع ذلك عنهم، ثم كان انقضاء مدة الطواغيت وذهاب ملكهم أسرع من سلك منظوم انقطع فتبدد، وما كان ذلك الذي اصابهم يا حمران لذنب أقترفوه، ولا لعقوبة معصية خالفوا الله فيها، ولكن لمنازل وكرامة من الله أراد أن يبلغوها، فلا تذهبنَّ بك المذاهب فيهم (1).

وحقاً ألا تذهب بالعارف البصير المذاهب يمنةً ويسرة، بعد هذا البيان الجلّي والحجة الناصعة، على أنَّ في حجج العقل السابقة، كفاية

____________

(1) الكافي: باب إنّ الأئمة يعلمون علم ما كان وما يكون وأنه لا يخفى عليهم شيء صلوات الله عليهم.

الصفحة 76
وقناعة، كيف والأحاديث عنهم في أمثال هذه حجة لا تحصى وكثيرة لا تستقصى.

الجواب عن المؤيد الثالث
الغلو

ليس كلما يستعظمه المرء يكون غلواً، وكلما يستكبره الإنسان يكون خروجاً عن الحد الأوسط، وإفراطاً في الإعتقاد.

إنَّ الغلو إنّما يكون فيما إذا استلزم القول والإعتقاد فيهم إخراجهم عن ناموس البشر، وجعلهم أرباباً، أو شركاء للخالق الرازق سبحانه في خلق أو رزق، أو ما سواهما مما اختص به الله جل شأنه. ومهما اعتقدنا فيهم من سعة العلم، أو ما سوى ذلك من الصفات الغالية، فلا نعتقد فيهم إلا أنَّهم بشر مخلوقون مربوبون مرزوقون على سنن سائر البشر.

وأما الإعتقاد فيهم بأن الله منحهم مواهب جلية، وصفات نبيلة، لا يبلغ مداها ولا يُعرف كنهها، فليس من الغلو في شيء، إذ لا يلزم من ذلك خروجهم عن البشرية، أو مشاركتهم لله سبحانه في شيء من صفاته الخاصة.

ومهما اعتقدنا فيهم من شيء فلا نبلغ فيه مراقيهم القدسية الرفيعة ولو لم يعلموا إننا لا نصل إلى تلك الرتب السامية التي يعرفونها لأنفسهم، لما قالوا لنا: «نزهونا عن الربوبية وقولوا فينا ما شئتم»

الصفحة 77
لعلمهم بأنّنا مهما سبق لنا فيهم من قول وكان دون القول في الله الخالق تعالى، فلا يكون خروجاً عن مستواهم وغلواً فيهم.

الصفحة 78

الصفحة 79

المؤيدات لعلمهم الحضوري


الصفحة 80

الصفحة 81

ثم إنَّ هناك مؤيدات للقول بحضور علمهم وصحة الجمع بين أدلة الجانبين، وتأويل النافي منهما، على نحو ما سبق، وهي أمور جمة نستطرد شيئاً منها.

الأول:
علمهم منَّة منه وهي تقضي بالحضوري

إنّ مما امتن به سبحانه على النبي وأهل بيته عليهم السلام، العلم سوى ما منحهم به من سائر الصفات الكمالية، والفضائل العظيمة، وإنَّ مقتضى الإمتنان والمنحة من ذلك القادر الذي لا يعجزه شيء أن يكون علمهم حضورياً، وتقييده بالإشارة والإرادة خلاف التعميم بالمنة، ولا شيء لا تكون منته عليهم على قدر ما كانوا عليه من الملكات القدسية، وعلى قدر تفضله وألطافه.. أفهل تحد قدرته ولطفه وفضله.

الثاني:
إنَّ سائر صفاتهم غير مقيدة

إنّ الله جل لطفه منح النبي وأوصياءه عليهم السلام بصفات جليلة ومواهب سنية لا تجارى ولا تبارى، ولم يجعل لتلك الخصال الجمة حداً ولا قيداً، ولم يحصرها على دائرة ولم يقصرها على زمن. فلأي وجه إذاً نقصر علمهم دونها. ونحصره في دائرة خاصة سواها؟ فلو كان استعظام علمهم واستكبار شأنه، حدا ببعض الناس إلى تضييق

الصفحة 82
دائرته ضيقاً منهم، وعدم تحمل منهم لتلك السعة، فلم لا يكون ذلك أيضاً حاملاً لهم على تحديد سائر صفاتهم، وتضييق خصالهم.

الثالث:
الحضوري أبعد عن عصيان الناس وأقرب إلى طاعتهم

إن الناس لو علموا بأنَّ الإمام يعلم سرّهم ونجواهم، وما يقترفون من عصيان؛ ويأتون من طاعة، وأنَّه يستطيع على إخبارهم بالشأن، وردعهم عن الموبقات إذا أصابوها، وحثهم على ازدياد الطاعات إذا ارتكبوها، لكان ذلك ابعد عن عصيانهم، وأقرب منهم إلى الطاعة.

الرابع:
حاجة الناس إلى عالم حاضر العلم

إن الناس في حاجة إلى عالم يكشف لهم عما يعلمون ليقربهم إلى الطاعة، ويبعدهم عن المصعية. ولما كان النبي وأوصياؤه أهلاً لأن يمنحهم الجليل تعالى بتلك الكرامة، والناس في حاجة لها، فلأي شيء لا يفيض عليهم ذلك الغمر، مع عدم المفسدة في ذلك الفيض، بل ووجود المصلحة به..؟

الخامس:
الحضوري ممكن وقام الدليل عليه

لا ريب في أنه من الممكن أن يكون علمهم حضورياً، إذ لا دليل

الصفحة 83
يدل على إمتناعه. فأي مانع من الذهاب إليه والزعم به، وقد قامت البراهين المتضافرة، والحجج المتكاثرة، على صدوره ووقوعه،على ذلك النحو من الحضور، وذلك السمت من الحصول، فإن ركني الوجوب في القول به ـ وهما الإمكان والوقوع ـ قد وُجدا ولُمسا عن يقين وخبرة. فأي مانع بعد أن اتفق الركنان من الإعتقاد بالحضوري والمصير إليه.

السادس:
لو لم يكن علمهم حاضراً لجاز إن يوجد من هو اعلم منهم

لو قلنا بأنَّ علمهم غير حاضر لديهم، لجاز أن يكون هناك من هو أعلم منهم بالأمر الذي يقع أو يسألون عنه. ولا يجوز أن يكون أحد أعلم من الإمام في وقته في شيء من الأشياء.

أما استلزام عدم الحضوري وجود الأعلم فأمر بديهي، وذلك لأنّ جزئيات الموضوعات الخارجية لابد وأن يكون هناك من يعرفها كبنوة زيد لعمرو، أو زنا خالد بهند. فلو سئل الغمام عنها، وكان غير عالم بها واتفق وجود العالم بها، فقد وجد حينئذ في الناس الأعلم من الإمام، ولو في الموضوعات الخارجية.

السابع:
جهلهم يستلزم السهو والنسيان وغيرهما أحياناً

إنَّنا لو قلنا بأنَّهم لا يعلمون الموضوعات الصرفة، لجاز عليهم

الصفحة 84
السهو والنسيان فيها، بل لوقع منها قطعاً، بل لجاز عليهم أيضاً حرمان المستحق وإعطاء من لا يستحق، بل لكثر منهم الخطأ في الشؤون الخارجية، وتفويت الواقع أحياناً، لأنَّ هذه شؤون لازمة للجهل لا محالة، ولا ينفك عنها البشر. وأي منقصة أكبر من ذلك للأمام، وهو المنزَّه عن النقائص.

ولو كان ذلك واقعاً منهم، لحكي ونقل على طول الزمن وكثرة الأئمة، وللزم من حدوث هاتيك الأمور منهم المفاسد الكثيرة، واختلال بعض النظام، إلى ما لا يحصى من النقائص والمفاسد، لو جوَّزنا على الإمام الجهل.

الثامن:
جهلهم يستلزم الحاجة للناس

لا شك في أنَّهم يكونون محتاجين إلى الناس في معرفة الموضوعات الصرفة لو قلنا بأنهم غير عالمين بها، لاحتياج الجاهل إلى العالم فيما يجهل، وكيف يحتاجون إلى تعليم أحد، وهم في غنى عن البشر في العلم، وكيف يكون حجة على من هو أعلم منه، وعلى من هو معلمه. فهو من استلزم وجود الأعلم، واحتياجه إلى المعلم سقوط حجيته عليها، ولابد أن يكون الإمام الحجة على كل أحد، وقوله الفصل في كل شيء. وهذا لا يجامع الجهل.

الصفحة 85

التاسع:
جهلهم يستلزم أمهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر

إن للجهل لوازماً كثيرة، وفوق ما سبق، نجد أنَّهم لابد أن يقع منهم ما يخالف الواقع من إرتكاب المنكر، وترك المعروف فيجب عندئذ إذا صدر هذا منهم أن يؤمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر. وأي إمام من يجب أن يؤمر بالمعروف، وينهى عن المنكر.

العاشر:
الجهل لازمه فعل ما يجب معه القصاص

وهذا أيضاً من لوازم الجهل، إذ يجوز عليهم الخطأ في الأقوال والأعمال مع الناس. فلو كان الإمام مبسوط اليه وضرب من لا يستحق الضرب، أو اقتص ممن لا يجب عليه القصاص، لوجب أن يطيع للإقتصاص منه، وكيف يكون إمام وللناس أن يقتصوا منه؛ ويكون لهم عليه حق في ماله أو بدنه.

وهذا بعض المؤيدات للعلم الحضوري واستلزام الجهل بالموضوعات الصرفة، من اللوازم التي ينزه عنها الإمام.

جملة القول:

وجملة القول إنّه لو لم يرد عن الأئمة الميامين، ما يشهد لعلمهم الحضوري من الأفعال والأقوال، والآثار والأخبار، لكان في حكم

الصفحة 86
العقل دلالة كافية، وبرهان نيِّر؛ فإن العقل يرى أنّ اللطيف جل شأنه يجب عليه أن يجعل حجة بينه وبين عباده، يقوم بتبليغ أحكامه، وبيان نظامه، وذلك الحجة جامع لجمع صفات الكمال، وعارٍ عن جميع خصال النقص، ولا يكون فيه ما يجعله عرضة للإنتقاص، ومسرحاً للتوهين ومحلاً للإنتقاد. بل يجب أن يكون المنزَّه عن النقائص في الخلق والخُلق، ليصلح أن تقوم به الحجة، ولا تكون لاحد عليه حجة أو تطاول في فضل أو علم.

وأين هذا من القول بجهلهم بالموضوعات الصرفة التي تؤول بهم إلى تلك اللوازم السيئة، والأعمال الممقوتة؟ وكيف تتفق تلك الخلال اللازمة مع أغراض ذلك الحكيم اللطيف، وألطاف ذلك القدير العليم.

وكيف يأمر جل شأنه، باتباع من يجوز عليه الخطأ والغلط، ويحذر من يخالفه من يؤمن عثاره؟ وكيف يوجب الطاعة والتسليم من يسوغ سهوه ونسيانه، والفشل بجهله، ويزجر عن الإعتراض على من يخاف من سقطاته، ويخشى من هفواته..؟

أفيجوز على الحكيم أن ينصب علماً للناس مَن هاتيك شؤونه، وهذه صفاته؟؟.

الصفحة 87

شبهات بعض القائلين
بعدم العموم والرد عليها


الصفحة 88

الصفحة 89

هناك بعض الشبهات لبعض الأعلام، دعتهم إلى القول بعدم التعميم لعلمهم وعدم الحضورية له في الجميع، أحببنا سطرها، وبيان ما فيها، لئلا تبقى شبهة في المقام لم نقم بدفعها، وإبداء الملاحظة عليها:

الشبهة الأولى:
سهو النبي رحمة للأمة

علل الشيخ الصدوق طاب ثراه في فقيهه في كتاب الصلاة «باب السهو» بأنَّ سهو النبي صلى الله عليه وسلم ليس كسهونا من الشيطان، بل هو إسهاء من الرحمن، لمصلحة الترحّم على الأمَّة، لئلا يعيَّر المسلم الساهي والنائم عن صلاته؛ ولئلا يتوهم فيه الربوبية، وليعلم الناس حكم السهو متى سهوا.

وجوابه: أولاً ـ بأن سهو النبي صلى الله عليه وسلم منقصة له، ويشين عليه، ولا يدفع العار عن الناس، بما يجلب العار إلى سيد الرسل صلى الله عليه وسلم المنزه عن كل نقص.

وثانياً ـ بأنَّ المناقص في الناس كثيرة في الأخلاق والخلقة، فمقتضى هذه العلة أن يجعل الله تلك المناقص فيه دفعاً للعارض عن الناس فيجعله سيِّء الخلق فظاً غليظاً أعرج أعور أشلّ أفطح، إلى ما سوى ذلك، حتى لا يُعيَّر أحد من الناس فيه شيء من الاخلاق السيئة والنقصان في الخلقة.

الصفحة 90

وثالثاً ـ بأنَّ السهو منقصة فيه ذاتية، ولا يتدارك هذه المنقصة دفع العار عن الناس، لانَّ الأعمال تابعة لمصالحها ومفاسدها الشخصية.

ورابعاً بأنَّ رفع توهم الربوبية لا ينحصر في السهو والنوم، بل له طرق أخرى، ومن يغويه الشيطان فيوقعه في حبائل هذا الزعم، فلا يمنعه دعوى السهو والنوم، كما أنَّه ما منع من قال بهذه المقالة نسبة السهو والنوم إليه صلى الله عليه وآله.

وأما معرفة حكم السهو من فعله فالبيان فيها أفصح، والتعليم بها أوضح، وبه غنىً عن فعله، ولربما لا يغني عن البيان في اللفظ.

الشبهة الثانية:
التفصيل بين سهو النوم وغيره، فيجوز في الأول دون الثاني

حكي عن الشيخ المفيد أعلى الله مقامه في الرد على الصدوق في كلامه السالف التفصيل بين السهو في العبادة الناشىء عن غلبة النوم حتى يخرج الوقت فيقضيها بعده، فيجوز عليه، وبين السهو الناشىء عن غير النوم، فلا يجوز معلّلا ذلك بأنَّه نقص عن الكمال الإنساني وعيب يمكن التحرز عنه، وهذا بخلاف النوم، لأنَّه ليس بنقص ولا عيب، إذ لا ينفك عنه بشر.

وجوابه: بأنَّ الفرق بين السهوين ـ إن كان النقص والعيب ـ فهو جارٍ في السهوين، لان النوم عن الصلاة المفروضة، والسهو في الصلاة الواجبة: نقص في الإنسان ذي الدين والفضيلة، فكيف

الصفحة 91
بسيد الرسل وإمام الأمَّة؟ وإن كان النص فإنَّه مردود لمنافاته لحكم العقل وللنصوص الكثيرة الصريحة: على أنّها تعارض ما دل على أنَّ الإمام تنام عينه ولا ينام قلبه، فهو إذاً كالتارك عن عمد، بعد أن كان يقظان القلب وشاعراً بالوقت.

الشبهة الثالثة:
لو كانوا يعلمون الموضوعات للزم سد باب معاشهم ومعاشرتهم

إنّك على حبر بما تقوم به السوق من الكذب والسرقة، وتقلب النقود المغصوبة فيه بأيدي الناس، وبوجود النجاسة الواقعية في الناس، وبإرتكابهم للمحرمات، ولو كانوا حاضري العلم لسد عليهم باب المعاش والمعاشرة، لمخالفة الظاهر للواقع، ولوجب عليهم ردع المرتكب للمحرمات في السر والعلن، أو إقصاؤهم عنهم، ولا نجدهم كانوا على هذا مع الناس في المعاش والمعاشرة.

والجواب أولاً: إنّ معاملتهم بالإمارات الظاهرية مع الناس لا يستلزم عدم علمهم بالواقع، إذ لا يجوز أن يكون تكليفهم في العمل على الظاهر، وإن خالف ما علموه، لعدم إمكانهم أن يعملوا مع الناس بما علموا.

وثانياً: بأنهم يعملون بما يعلمون، ومن الذي أعلمنا بأنَّهم لا يقدرون على العمل بالواقع؟ ولم كان باب المعاش والمعاشرة يسد عليهم، وهم بتلك القدرة التي من الله تعالى عليهم بها؟ نعم! لم تكن

الصفحة 92
معاملاتهم في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع الناس على الواقع، لعدم قدرتهم على تنفيذ الأحكام الآلهية، سوى من كان يمت إليهم بالولاء، فإنَّهم كانوا يردعونهم عن المنكرات، وإن عملوها في الخفاء، ومن سبر شيئاً من أحوال الأئمة عليهم السلام عرف هذا الأمر… ولو كانت معاملاتهم جارية على الظاهر دون العلم، لاتفق لهم الخطأ والسهو، ولانكشفت لهم المخالفة لأعمالهم، مع أنّه لم يتفق لهم ذلك طيلة أيامهم.

الشبهة الرابعة:
قبح العلم الفعلي أحياناً بالموضوعات

لو كان علمهم بالموضوعات فعلياً دوماً، لقبح أحياناً بعضه، كالعلم بفروج النساء حال الجماع.

وجوابه: بأنَّ العلم بالقبيح والمنكر والمستهجن ليس بقبيح ذاتاً، وإلا لكان علم العلاّم تعالى بالأُمور القبيحة قبيحاً، بل وخلقه لآلات التناسل قبيحاً، وللحيوانات النجسة العين ـ كالكلب والخنزير ـ قبيحاً:

نعم! إنّما يقبح تعلم القبيح، والإستعلام والتجسس عنه، وارتكابه ومن ثم اشتبه هذا على ذي الشبهة، فحسب أنّ العلم بالقبيح أيضاً قبيح.

الصفحة 93

الشبهة الخامسة:
الأصل عدم علمهم الفعلي

إنّ علمهم كوجودهم حادث ومسبوق بالعدم، فالأصل بقاؤه على ما كان، وإنما خرج عن الأصل ما تيقن بالدليل، وهو ما كان بالإشاءة.

وجوابه: بأنَّ المدار على هذا العرض على أفاده الدليل، وقد سبق أنَّ الدليل عقلاً ونفلاً شاهد على فعلية علمهم وحضوره، على أنَّ مثل هذه الأصول مقطوع استمرارها للقطع بحدوث علم لهم، كما انقطع أصل الوجود بحدوث الوجود.

الشبهة السادسة:
لو كان علمهم حاضراً للغى نزول جبرائيل

إنَّ نزول جبرائيل بالوحي والآيات، وإخباره بالحوادث والكائنات، دليل قطعي على عدم فعلية علم النبي. إذ لو كان فعلياً لما احتاج إلى مجيء جبرائيل،وغشيانه بالوحي، وإعلامه بالحوادث، ويؤيده قوله تعالى (تنزَّل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر) فإنَّ نزول الملائكة والروح على النبي أو على الإمام بعده في ليلة القدر وإتيانهم بكل أمر يحدث في تلك السنة، شاهد لعدم علمهم بما تأتي به الأيام، لولا تنزّل الملائكة والروح.

الصفحة 94

وجوابه أولاً: بأن لعلمهم الحاضر منابع يستقون من فراتها، وموارد ينتهلون من معينها؛ ومن تلك المنابع والموارد غشيان الملائكة عليهم بالوحي والإعلام بالحوادث، وهذا لا ينافي أن يكون علمهم حاضراً ولحضوره أسباب ودواع.

وثانياً: بأن إنزال الملائكة وجبرائيل والروح بالآيات والحادثات، إنَّما هو لإقامة الحجة وتأييد الدعوة، ومن ثم كان تعدد الأنبياء على الأمم بل وتعددهم في الوقت الواحد، كما كان لكل واحد منهم آيات عديدة ودلائل أكيدة، تقوم على صدق دعواه، ومن تلك الحجج المقامة على العباد إشهاده تعالى عليهم بجعل الحفظة والكرام الكاتبين وتسجيلهم كل عمل وقول، مع أنَّه جلَّ شأنه هو الحفيظ الرقيب والشاهد غير الغائب.

ولو أخذنا بما يدَّعيه الخصم للغي كل هذه البينات، وبطل كل هذه الآيات والحجج والبراهين.

وثالثاً: بأنَّ مثل هذه الحجج المقامة إنمّا تكون لطفاً منه بعباده، لتقريبهم إلى الطاعة وتبعيدهم عن المعصية، ولولا ذلك لكان في العقل وإقامته حجة على العبد، كفاية عن سواه من الدلائل المنصوبة.

ورابعاً: بأنّ هذه الدعوى مصادمة للبراهين العقلية والشواهد النقلية، ولا نرفع اليد عن صريح تينك الحجتين، بمجرد الاحتمال

الصفحة 95
والاستبعاد، ولو جهلنا الحكمة في إنزال جبرائيل بالوحي لتأولناه بصريح العقل والنقل.

وهذه أقوى الشبه التي أوردوها لدفع العلم الحاضر وأقاموها لتأييد زعمهم بأنه موقوف على الإشاءة، وقد عرفت الجواب عنها والدفع لها.

زبدة المخض

إنّ البرهان العقلي دل ـ نظراً لحاجة الناس الماسة إلى وجود الهادي بين ظهرانيهم،والمصلح لشؤونهم، والحاكم بالعدل بينهم، إلى ما سوى هذا مما يتطلبه صالح أمورهم في الدارين: ـ

على أن الله تعالى يجب عليه لطفاً بعباده أن يجعل فيهم ـ وقد جعل ـ من يكون العالم بالكائنات كافة، والعلوم والفنون، والمتحلي بأبراد الكمال كلها، حتى يكون الفرد الأوحد في عصرة، الصالح للنهضة بالإرشاد والهداية للعالم، والمضطلع بهذا العبء الباهض، حتى لو كانت له الهيمنة على الكرة الأرضية برمتها، لاستطاع أن يدير شؤونها أحسن إدارة، ويدبر أمورها أجمل تدبير كما يقوى على خصم كل محاجج بالقوة البيانية والآيات الفعلية، ويستطيع الجواب عن مسألة كل سائل، بالكشف عن الحقيقة، وإماطة الستار عن الواقع، ليكون حقاً هو الحجة البالغة من الخالق على الخلق والهادي لهم بعد ذلك الرسول المنذر.

الصفحة 96

وإنَّ النقل قد عاضد هذا البرهان العقلي، وفصل مجمله، وأبان غامضه حتى لا يبقى لذي وهم ريب، ولذي مسكة عذر، في الإعتقاد بوجوب وجود ذلك الهادي في الأمة.

وقد جاءت الأفعال والأقوال ممن تجلبب بتلك الصفات الكريمة. وفقاً لتينك الدلالتين من العقل والنقل، حتى يتضح للعالم أجمع أنّ من يجب أن يوجد لطفاً منه تعالى بعباده متحلياً بهاتيك الخصال الجميلة والهبات القدسية، قد أصبح والوجود مفاض عليه، بحيث لو فحص عنه طالب الحق لوجده شخصاً مرئياً وقالباً حسياً، لا يحيد عن تلك المزايا الجليلة قيد شعرة.

وقو قام ما يخال بأنَّه برهان على أن ليس في البشر ممن يجمع هذه الخصال،ويتقمص بهذه الصفات، أو أنّها ليست بتلك السعة المزعومة. أو العلم منها خاصة، فهو مردود مرفوض، ملخالفته لجهتي العقل والنقل، بل وللوجدان: من فعل الإمام وقوله.. فهل بعد هذه الحجج النيرة يصغي إلى شبهة، أو يلتفت إلى زعم..».

وقعود الناس عن معرفة تلك الحجة البالغة، وسكوتهم عن طلب ذلك الإمام الهادي أو سلوكهم في غير سبيله، بعد سطوع نهجه، ووضوح أمره، لا ينقص من شأنه ولا يحط من كرامته، ولا يبطل حجته، ولا يفسد المصلحة التي من أجلها اختير وجعل إماماً، ومن جرائها اصطفي وانتخب.

وعدم إظهاره أو تظاهره بذلك العلم المخزون والفيض الغمر

الصفحة 97
أحياناً. حذراً من عدم قبوله أو عدم احتماله، أو خشية من العدو الحاسد وبطشه أو خوفاً من غلو الناس وإفراطهم في الدعوة، لا يكون ذلك شاهداً على عدم الوجدان لذلك العلم أو عدم سعته، وما تحمل الإمام للمصائب والنوائب، وهو القدير على دفع ما مني به، ورفع ما نزل بساحته، إلا لتأكد الحجة على الخلق مع ما له من الحجج البالغة، وإلا لدفع أوهام الغلاة، ومزاعم المفرطين في الحب، الذين يخرجون الإمام عن مستوى البشر،ويلبسونه أبراد الأولوهية.

وقد كشف عن هذه الغامضة السفير الجليل الحسين بن روح عليه الرحمة وقد سأله سائل قائلاً له: أخبرني عن الحسين بن علي عليهما السلام أهو ولي الله؟ قال: نعم. قال الرجل: أخبرني عن قاتله لعنه الله أهو عدو الله؟ قال نعم. قال الرجل: فهل يجوز أن يسلِّط الله تعالى عدوَّه على وليه، فقال له ابن روح: إفهم عني ما أقول لك، إعلم أن الله تعالى لا يخاطب الناس بمشاهدة العيان، ولا يشافههم بالكلام، ولكنه جل جلاله يبعث إليهم رسلاً من أجناسهم وأصنافهم بشراً مثلهم، ول بعث إليهم رسلاً من غير صنفهم وصورهم، لنفروا عنهم، ولم يقبلوا منهم، فلما جاءهم وكانوا من جنسهم يأكلون الطعام، ويمشون في الأسواق، قالوا لهم: أنتم بشر مثلنا لا نقبل منكم حتى تأتونا بشيء نعجز أن تأتي بمثله، فنعلم أنكم مخصوصون دوننا بما لا نقدر عليه. جعل الله عز وجل لهم المعجزات التي تعجز الخلق عنها: فمنهم من جاء بالطوفان بعد

الصفحة 98
الإنذار والإعذار، فغرق جميع من طغى وتمرد ومنهم من القى في النار، فكانت عليه برداً وسلاماً، ومنهم من أخرج من الحجر الصلد ناقة، وأجرى من ضرعها اللبن، ومنهم من فلق البحر وفجَّر له من الحجر العيون، وجعل له العصى اليابسة ثعباناً تلقف ما يأفكون، ومنهم من أبرأ الأكمه والأبرص وأحى الموتى بإذن الله، وأنبأهم بما يأكلون وما يدخرون في بيوتهم، ومنهم من انشق له القمر وكلمته البهائم مثل البعير والذئب وغير ذلك. فلما أتوا بمثل ذلك، وعجز الخلق من أممهم عن أن يأتوا بمثله. كان من تقدير الله تعالى ولطفه بعباده وحكمته، أن جعل الانبياء عليهم السلام مع هذه المعجزات في حال غالبين وفي حال مغلوبين، وفي حال قاهرين وفي حال مقهورين، ولو جعلهم الله تعالى في جميع أحوالهم غالبين وقاهرين، ولم يبتلهم ولم يمتحنهم، لاتخذهم الناس آلهة من دون الله تعالى، ولما عرف فضل صبرهم على البلاء والمحن والإختيار. ولكنه تعالى جعل أحوالهم في ذلك كأحوال غيرهم ليكونوا في حال المحنة والبلوى صابرين، وفي حال العافية والظهور على الأعداء شاكرين، وليكونوا في جميع أحوالهم متواضعين غير شامخين ولا متجبرين، وليعلم العباد بأنّ لهم إلهاً هو خالقهم ومدبرهم، فيعبدوه ويطيعوا رسله وتكون حجة الله ثابتة على من تجاوز الحد فيهم، وادعى الربوبية لهم، أو عاند وخالف وعصى وجحد بما أتت به الأنبياء والرسل عليه السلام، ليهلك من هلك عن بينة، ويحي من حي عن بينة.

قال محدث هذا الحديث «محمد بن إبراهيم بن إسحاق»: فعدت

الصفحة 99
إلى ابن روح من الغد، وأنا أقول في نفسي: «أتراه ذكر ما ذكر لنا يوم أمس من عند نفسه؟ فابتدرني فقال لي: يا محمد لئن أخرَّ من السماء فتخطفني الطير، أو تهوي بي الريح في مكان سحيق، أحب إلي من أن أقوال في دين الله تعالى برأيي ومن عند نفسي، بل ذلك عن الأصل، مسموع عن الحجة عليه السلام (1).

وهل بعد هذا البيان من عذر أو حجة لمن يزعم بأنهم لا يعلمون على ما يقدمون، وأن دائرة علمهم ضيقة لا تحيط بالحوادث، ولعمر الحق إنَّ القول بحضور علمهم لا يحتاج إلى كل هذه الحجج والبراهين بل إنَّ البعض مما سلف كافٍ في الإيضاح عنه والكشف عن نقابه وإزاحة الشبهة فيه غير أنّ وفور الادلة دعانا إلى إستطراد البعض منها وإن أغنى النزر منها.

علم الإمام يجب الإعتقاد به

لما كان نصب الإمام واجباً على الله جلَّ شأنه من باب اللطف، وكانت معرفته بعد وجوب واجبة أيضاً عقلاً ونقلاً، كانت تلك المعرفة له يجب أن تكون بشخصه وكافة صفاته، بحكم العقل وصراحة النقل.

فإذا وجب هذا كله وجب أن يكون الإمام أفضل الناس في جميع الصفات الحميدة، وإذا وجب هذا أيضاً وجب أن يعتقد من يقول بالإمامة بأن الإمام جامع لصفات الفضل ممتازاً بها على العالم بأسره.

____________

(1) إكمال الدين وإتمام النعمة: التوقيعات.

الصفحة 100

ومن تلك الصفات «العلم» وهذا مما لا ينبغي الريب فيه، كما أنَّ البحث في تفصيل هذه الأمور مذكور في كتب الكلام، في أبواب الإمامة، فلا يلزم ذكرها هنا؛ وإنما الذي يلزم البحث عنه في هذا المقام أمران: الأول: هو أنّ علم الإمام ـ بعد وجوب الإعتقاد به ـ هل يجب على نحو التفصيل أو يكفي الإجمال. الثاني: إنّ هذا الإعتقاد ضروري، بحيث يكون من لا يعتقد ذلك منكراً لضروري من الضروريات في الدين. أو ليس الأمر كذلك؟

أما الأول: فلم نجد دليلاً يرشدنا إلى وجوب الإعتقاد تفصيلاً. نعم أقصى ما يدل عليه العقل، هو أنَّ الإمام يجب أن يكون أعلم الناس فإذا وجب هذا، وجب على القائل بالإمامة الإعتقاد بذلك، لأنّه من شؤون الإمامة ولوازمها. ومن أرشده الدليل إلى التفصيل وجب عليه الإعتقاد بما وضح لديه، لأنه من شؤون الإمامة عند ذاك.. وكيف نستطيع أن نقول بوجوب الإعتقاد بالتفصيل مطلقاً، والمعرفة التفصيلية متعذرة لمثل النساء والأطفال، بل وعامة الناس.

وأما الثاني: ففيه تفصيل، وذلك لأنَّ مثل الصبية والنسوة، بل والسواد العام لا يتعقلون في أنَّ علم الإمام، على نحو ما أشرنا إليه من الضروريات، وإنَّ من يتعذر في شأنه فهم الشيء وإدراكه والوصول إلى كنهه كيف يكون اعتقاده به ضرورياً، نعم! إنَّ ذلك إنما يتأتى في شأن الخواص وأهل العلم، ومن قام لديه الدليل على وجوب اتصاف الإمام بتلك الخصال الكريمة، فإنَّ العلم بالنسبة إليه

الصفحة 101
ضروري، وإنكاره شأن إنكار الضروريات في الدين.

إن لطف الإمامة إنّما هو بما يتحمله الإمام من مسؤولية الهداية والإرشاد، ولا يتحمل تلك المسؤولية، ما لم يكن متقمصاً بتلك الصفات الجميلة، فإنكار بعض صفاته التي بها امتيازه إنكار للطف الإمامة، فمن ثم يتضح لديك أنَّ العلم من ضروريات الدّين، وإنكاره إنكار للضروري.

فلا غرابة إذاً لو قلنا بوجوب الإعتقاد بعلم الإمام على نهج الإعتقاد بسائر صفاته، بل هو أظهرها. كما أنَّ إنكاره للخواص وأهل المعرفة إنكار للطف الإمامة. وكيف لا يكون العلم حينئذٍ ضرورياً لهم خاصة.

العلم بعض صفات الإمام
وصفاته أفضل الصفات

إنّ علم الإمام بعض صفاته القدسية، التي يجب أن يتَّصف بها الحجة البالغة، ومنار الهدى والرشاد للعالم بأسره.

ولابد أن يكون الإمام في كل صفة نبيلة أفضل أهل عصره، فإنه لو كان في الناس من هو أفضل منه، ولو في بعض الصفات، لما صح أن يكون حجة على الأفضل، بل ولا المساوي، وما وجبت طاعته على الناس واستماعهم له، إلا لتقمصه بجلباب الدعوة إليه تعالى،

الصفحة 102
وإرشاده للناس إلى طاعته، وكفهم عن عصيانه، ولا يكون كذلك إلا وهو خير الناس في الناس، ولو كان في الناس مثله أو أفضل منه، ولو من بعض النواحي، لكانت إمامته خاصة ترجيحاً بلا مرجح.

ولا يخفى على ذي بصيرة بأنَّ الإحاطة بحقيقة الإمامة، وسبر غورها، ومعرفتها كمعرفة سائر الأمور؛ شيء غي مطاق لنا، لأنّ الإمامة والنبوة مظهر لصفات الله تعالى، ومثال لكمالات الخالق سبحانه ومن يحيط خبراً بكماله العظيم وصفاته القدسية.

الإمام والإمامة

إنَّ لأبي الحسن الرضا عليه السلام كلاماً في الإفصاح عن مقام الإمامة والإمام، والإشادة إلى بعض فوائدهما ووظائفهما، مما ينبئنا عن قصورنا عن إدراك هذه المنزلة، والإحاطة بتلك الحقيقة، وقد تكلم به عندما خاض الناس في الإمامة بمرو في الجامع يوم الجمعة، وقد حكي له ذلك.

ولما كان كلام الإمام هذا دخيلاً من بعض الجهات فيما نحن فيه من البحث، أردنا أن نلتقط من عقوده بعض اللئاليء الكريمة، لتكون مسك الختام.

قال عليه السلام:

«إن الإمامة أجلّ قدراً، وأعظم شاناً، وأعلى مكاناً، وأمنع جانباً، وأبعد غوراً، من أن يبلغها الناس بعقولهم، أو ينالوها بآرائهم، أو

الصفحة 103
يقيموا إماماً باختيارهم».

وقال عليه السلام:

«إنَّ الإمامة منزلة الأنبياء، وإرث الأوصياء، إنَّ الإمامة خلافة الله تعالى، وخلافة الرسول صلى الله عليه وسلم».

«إنّ الإمامة زمام الدين، ونظام المسلمين، وصلاح الدنيا، وعز المؤمنين».

«إنّ الإمامة أس الإسلام النامي، وفرعه السامي. بالإمام تمام الصلاة والزكاة والصيام والحج والجهاد،وتوفير الفيء والصدقات، وإمضاء الحدود والأحكام، ومنع الثغور والأطراف».

«الإمام يحلل حلال الله، ويحرِّم حرام الله، ويقيم حدود الله، ويذبُّ عن دين الله ويدعو إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة والحجة البالغة».

«الإمام كالشمس الطالعة المجللة بنورها للعالم، وهي في الأفق بحيث لا تنالها الأيدي والأبصار».

«الإمام البدر المنير، والسراج الزاهر، والنور الساطع، والنجم الهادي في غياهب الدجى وأجواز (1) البلدان والقفار ولجج البحار».

«الإمام الماء العذب على الظمأ، والدال على الهدى، والمنجى من الردى»

____________

(1) الأجواز جمع جوز: وسط الشيء ومعظمه.

الصفحة 104

«الإمام النار على اليفاع (1)، الحار لمن اصطلى به (2)، والدليل في المهالك، من فارقه فهالك».

«الإمام السحاب الماطر، والغيث الهاطل، والشمس المضيئة؛ والسماء الضليلة، والأرض البسيطة، والعين الغزيرة، والغدير والروضة».

«الإمام الأنيس الرفيق، والوالد الشفيق، والأخ الشفيق، والأم البرة بالولد الصغير، ومفزع العباد في الداهية النآد (3) أمين الله في خلقه، وحجته على عباده، وخليفته في بلاده، والداعي إلى الله والذاب عن حرم الله».

«الإمام المطهرَّ من الذنوب، والمبرأ من العيوب، المخصوص بالعلم والموسوم بالحلم، نظام الدين، وعز المسلمين، وغيض المنافقين وبوار الكافرين».

«الإمام واحد دهره لا يدانيه أحد، ولا يعادله عالم، ولا يوجد منه بدل،ولا له مثل ولا نظير، مخصوص بالفضل كله من غر طلب ولا اكتساب، بل اختصاص من المفضل الوهاب».

«فمن ذا الذي يبلغ معرفة الإمام، أو يمكنه اختياره؟ هيهات

____________

(1) اليفاع: ما ارتفع من الأرض.

(2) لعله كناية عن احتراق من يريد السوء به أو العداء له.

(3) النآد كسحاب: الداهية، ولعل المستفاد من تكرار المعنى. الشدة فالمعنى إذاً الداهية الشديدة.

الصفحة 105
هيهات! ضلّت العقول، وتاهت الحلوم، وحارت الألباب، وخسئت العيون، وتصاغرت العظماء، وتحيَّرت الحكماء، وتقاصرت الحلماء، وحصرت الخطباء، وجهلت الألباء (1) وكلت الشعراء، وعجزت الأدباء، وعييت البلغاء عن وصف شأن من شؤونه، أو فضيلة من فضائله، وأقرت بالعجز والتقصير».

«وكيف يوصف بكله، أو ينعت بكنهه، أو يفهم شيء من أمره، أو يوجد من يقوم مقامه، ويغني غناه؟

لا وكيف وأني. وهو بحيث النجم من يد المتناولين، ووصف الواصفين، فأين الإختيار من هذا؟

وأين العقول عن هذا؟

وأين يوجد مثل هذا؟

أتظنون أن ذلك يوجد في غير آل الرسول صلى الله عليه وسلم».

ثم قال عليه السلام:

«وكيف لهم باختيار الإمام؟ والإمام عالم لا يجهل، وداع لا ينكل معدن القدس والطهارة والنسك والزهادة والعلم والعبادة».

إلى أن يقول عليه السلام:

«… نامي العلم، كامل الحم، مضطلع بالإمامة، عالم

____________

(1) الألبّاء جمع لبيب: العاقل.

الصفحة 106
بالسياسة، مفروض الطاعة، قائم بأمر الله عز وجل، ناصح لعباد الله، حافظ لدين الله».

ثم قال عليه السلام:

«وإنَّ العبد إذا اختاره الله عز وجل لأمور عباده شرح صدره لذلك، وأودع قلبه ينابيع الحكمة، وألهمه العلم إلهاماً، فلم يعي بعده بجواب، ولا يحير فيه عن الصواب، فهو معصوم مؤيد، موفق مسدد، قد أمن من الخطأ والزلل والعثار، يخصه بذلك ليكون حجته على عباده،وشاهده على خلقه وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم، فهل يقدرون على مثل هذا فيختارونه؟ أو يكون مختارهم بهذه الصفة فيقدمونه (1).

***

هذه لؤلؤة مما زانوا به جيد الدهر من البيان عن مقام الإمامة والإمام، ولم نضع هذه الرسالة الوجيزة للكلام عن الإمام حتى نستوفي النقل لتلك الآيات البينات التي أفصحوا بها عن الإمامة وصرحوا بها عن شأن الإمام، أو نشرح هذه اللؤلؤة الغالية الجديرة بالشرح والحقيقة بالإعجاب.

وإنما الغرض الأقصى ـ كما يرمز إليه عنوان الرسالة ـ هو البت في علم الإمام وأنه حضوري ـ أو موقوف على الإشاءة والإرادة منه. وما

____________

(1) راجع الكافي: كتاب الحجة باب نادر في فضل الإمام.

الصفحة 107
كان الخوض منا في هذا البحر الزاخر إلا على قدر ما نحسه وتصل إليه مداركنا، وتحكم به عقولنا، وتفهمه من أحاديثهم التي بين أيدينا.

وكيف نستطيع أن نحدد الإمام حقاً، ونحيط به معرفة، وما ذكر الإمام الرضا عليه السلام إلا بعضاً من صفاته، وما هذا القدر مما ذكره الرضا عليه السلام من شؤون الإمامة، بالنسبة إلى مداركنا، إلا كما قال عليه السلام: «وهو بحيث النجم من يد المتناولين».

وكفى برهاناً على ارتفاع ذلك المنار هذه الآية البيانية والمعجزة الكلامية التي أفصحت عن بعض شمائل الإمام وصفات الإمامة، فإنها دلالة من الإمام على الإمامة وعلامة بينة منه عليه، بل وإمارة قائمة على بعد ذلك المنال عن أبصارنا وبصائرنا.

وما معرفتنا به إلا على قدر ما نلمسه من آثاره، ونقرأه من أخباره، نسأله جل شأنه أن يعرفنا نفسه، لنعرف بذلك رسوله صلى الله عليه وسلم، وان يعرفنا رسوله لنعرف بذلك حجته، وأن يعرفنا حجته لنهتدي لدينه ولا نضل عن سبيله، إنه خير مسؤول، وأكرم مجيب، وهو ولي التوفيق والهداية.

***

كان الفراغ من تسويد هذه الرسالة صبح الإثنين الثالث عشر من صفر الخير أحد شهور السنة الواحدة والستين بعد الألف.

والثلثمائة هجرية على مهاجرها أفضل الصلاة والتحية.

انتهى