الصفحة 41
وقد احتج لذلك بأنه لا بد للأمة من إمام يقيم الدين، وينصر السنة، وينصف المظلومين من الظالمين، ويستوفي الحقوق، ويضعها مواضعها، يقول الماوردي: وهي فرض كفاية، كالجهاد وطلب العلم، فإذا قام بها من هو من أهلها سقط فرضها على كافة الناس، لأن فرضها على الكفاية، وإن لم يقم بها أحد خرج من الناس فريقان، أحدهما: أهل الاختيار، حتى يختاروا للناس إماماً، والثاني: أهل الإمامة، حتى ينتصب أحدهم للإمامة، وليس على من عدا هذين الفريقين من الأمة في تأخير الإمامة جرح ولا مأثم (1).

وقال النووي في روضته فإن لم يكن من يصلح، إلا واحد، تعينت عليه، ولزمه طلبها، إن لم يبتدوه (2).

ومن هنا تنكشف الضرورة الملحة في نصب الإمام بما ذكر من حكم العقل، ومن ثم فقد بادر الأصحاب إلى نصب الخليفة، فقالت الأنصار: منا الخليفة، واحتج المهاجرون عليهم بالقرابة، كما بادر قسم آخر من الأنصار، وقالوا: منا أمير، ومنكم أمير، وقال بنو هاشم - ويؤيدهم جمع كبير من المسلمين -: ليس لها إلا أبو حسن، الإمام علي، صاحب الوصية، وكل هذه الأقوال، إنما تكشف جميعاً عن الباعث العقلي لهم على نصب الخليفة.

هذا فضلاً عن اختلافهم كان ممن يختار الخليفة: من بني هاشم؟ أم من الأنصار؟ أم من المهاجرين؟ ولم يناقش أحد منهم ضرورة نصب الإمام، وذلك لوجود الحاجة الماسة إلى ذلك، فضلاً عن أنها ضرورة يدرك العقل مدى الحاجة الشديدة إليها.

على أن هناك من يرى أن الإمامة - أو الخلافة - ليست واجبة، وإلا ما

____________

(1) الماوردي: الأحكام السلطانية ص 5 - 6.

(2) القلقشندي: مآثر الإنافة في معالم الخلافة - تحقيق عبد الستار أحمد فراج - الجزء الأول - الكويت 1964 ص 29 - 31.

الصفحة 42
تركت لاختيار الناس، يقول الشيخ الأصم - ومن تابعه على رأيه - إن نصب الإمام غير واجب في الدين، وإن كان سائغاً، فمتى استطاعت الأمة أن تقيم حجها وجهادها، وأن تتناصف فيما بينها، وأن تبذل الحق من أنفسها، وأن تقسم الغنائم والفئ والزكوات على أهلها، وأن تقيم الحدود يمكن من وجبت عليه الحدود، فإن ذلك يجزئهم، ولا يجب عليهم نصب إمام يتولى ذلك منهم (1).

وقد اعتمد بعض من رأوا أن الخلافة ليست واجبة، على أنه ليس في القرآن، ولا في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما يشير إلى نظام معين في اختيار الخليفة، مما يشير إلى أن للأمة مطلق الحرية في اختيار الخليفة، ومن النظام الذي يتبع في اختياره، ما دام ذلك في إطار الدين، وفي حدود كتاب الله، وسنة رسول الله، صلى الله عليه وسلم.

ومن ثم يذهب الدكتور صبحي الصالح إلى أن كل من ظن المسلمون به خيراً، لا ضير أن يتولى أمرهم، ويوجه حياتهم الدنيوية، وإن كان سرعان ما يعقب على كلامه بهذا الاستثناء، فيقول: غير أننا إذا رجعنا إلى التاريخ نستنطق فلسفة الأحداث فيه، لا حظنا أن الطريقة التي انتخب بها بعض الخلفاء، كان دون ما قصد، سبباً من أسباب استمرار الخلاف لأسباب شخصية، وأخرى قبلية، لا تزال فيها نعرة جاهلية (2).

ولعل أشهر الدراسات التي ظهرت في العصر الحديث - والتي تعارض وجوب نصب الإمام - إنما هي كتاب الإسلام وأصول الحكم - بحث في الخلافة والحكومة في الإسلام (3) - عام 1925 م، وقد أصدره الشيخ علي

____________

(1) أحمد حسن الباقوري: مع القرآن - القاهرة 1970 ص 4.

(2) صبحي الصالح: النظم الإسلامية: نشأتها وتطورها ص 85.

(3) ربما لم يثر كتاب في العصر الحديث ضجة كالتي أحدثها كتاب الإسلام وأصول الحكم ذلك

=>


الصفحة 43
عبد الرازق - القاضي بمحكمة المنصورة الابتدائية الشرعية -.

وكانت الفكرة الجوهرية في الكتاب - بل الخطيرة - هي دعوى الشيخ علي عبد الرازق أن الإسلام دين، لا دولة، ورسالة روحية، لا علاقة لها بالحكومة والسياسة الدنيوية، وعمارة الكون، وتنظيم المجتمعات، وأن نبي الإسلام - محمداً - صلى الله عليه وسلم، لم يؤسس دولة، ولم يرأس حكومة، ولم يسس مجتمعاً، ولم يدع إلى شئ من ذلك، بل كان رسولاً فقط، ما عليه إلا البلاغ.

ولما كان الأمر كذلك، فليس للإسلام رأي - يجب علينا أن نلتمسه من مصادر الدين وأصوله - في نوع الحكومة، فلا رأي للإسلام في هذا الموضوع، وعلى المسلمين - كأمة أو أمم - أن يلتمسوا لسياستهم الحكومة الصالحة، بمعايير العقل والمصلحة والتجريب، دون أن يقيموا وزناً لدعوة القائلين

____________

<=

أن تركيا بقيادة مصطفى كمال أتاتورك (1298 - 1351 هـ‍/ 1880 - 1938 م) ألغت الخلافة في 22 رجب عام 1342 هـ‍(3 مارس 1924 م)، وبالتالي أصبح العالم الإسلامي - ولأول مرة في تاريخه - يخلو ممن يحمل لقب الخليفة أو حتى سلطان المسلمين، ومن ثم فقد تحركت قوى إسلامية لاحتلال المنصب، ومنها ملك مصر أحمد فؤاد (1284 - 1355 هـ‍/ 1869 - 1936 م) بغية أن يصبح الخليفة، وقامت لجان في المدن والقرى المصرية تدعو لذلك.

وفي هذا الوقت صدر هذا الكتاب، والذي لم يكن بحثاً أكاديمياً من أبحاث السياسة أو علم الكلام، وإنما كان بالدرجة الأولى جهداً سياسياً في معركة سياسية ضارية، وتحدياً لملك، ومناوئة لقطاعات عريضة وخطيرة في العالم الإسلامي كما أفسد على الاستعمار البريطاني فرصة الإفادة من لعبة الخلافة هذه.

وهكذا تحركت قوى كبرى - الملك والأزهر والاستعمار البريطاني - لمحاربة الشيخ على عبد الرازق، وفي نفس الوقت وقف معه حزب الوفد بزعامة سعد زغلول باشا (1273 - 1346 هـ‍/ 1857 - 1927 م)، والكتاب الأحرار - وعلى رأسهم عباس محمود العقاد (1306 - 1384 هـ‍/ 1889 - 1964 م) ومحمد حسين هيكل باشا (1305 - 1375 هـ‍ (1888 - 1956 م) وأحمد حافظ عوض بك (1294 - 1370 هـ‍/ 1877 - 1950 م)، وانتهت الأمور بصدور حكم هيئة كبار العلماء بالأزهر في 22 محرم 1344 هـ‍/ (12 / أغسطس 1925 م) بإخراج الشيخ عبد الرازق من زمرة العلماء، كما فصل من وظيفته، فضلاً عن عزل وزير الحقانية ورئيس حزب الأحرار عبد العزيز فهمي باشا (1287 - 1370 هـ‍/ 1870 - 1951 م) والكتاب صدر في عام 1925 م، ثم صدرت له طبعة في بيروت عام 1966 م، وفي نوفمبر 1971 م نشرت مجلة الطليعة المصرية نصه الكامل.

الصفحة 44
بحكومة إسلامية، ومن يتصورون أن هذه الحكومة الإسلامية، هي نظام الخلافة بالذات ويقول: علي عبد الرازق (1).

إن الناس لا يصلحون فوضى لا سراة لهم، ويمكن أن يقال: إن المسلمين - إذا اعتبرناهم جماعة منفصلين وحدهم - كانوا كغيرهم من أمم العالم كله، محتاجين إلى حكومة تضبط أمورهم، وترعى شؤونهم، في أي صورة كانت الحكومة، ومن أي نوع - مطلقة أو مقيدة، فردية أو جمهورية، استبدادية أو دستورية أو شورية، ديمقراطية أو اشتراكية أو بلشفية - ومعاذ الله أن يجعل عز هذا الدين وذله، منوطين بنوع من الحكومة، ولا بصنف من الأمراء، ولا يريد الله جل شأنه لعباده المسلمين أن يكون صلاحهم وفسادهم رهن الخلافة، ولا تحت رحمة الخلفاء (1).

ثم يذهب صاحب كتاب الإسلام وأصول الحكم إلى أنه لم ينعقد بين المسلمين - صحابة أو غيرهم - إجماع على وجوب نصب الإمام، بالمعنى الذي اصطلح الفقهاء على تسميته بالخليفة، وأنه في ذلك إنما يقف في صف جماعة

____________

(1) ولد علي عبد الرازق (1305 - 1386 هـ‍/ 1887 - 1966 م) في أبو جرج بمحافظة المنيا، من أسرة ذات مكانة في الغنى والعلم والنفوذ، كما كان بيت الأسرة في القاهرة ندوة لصفوة المفكرين كالشيخ محمد عبده (1266 - 1324 هـ‍/ 1849 - 1905 م) وأحمد لطفي السيد باشا (1289 - 1383 هـ‍/ 1872 - 1963 م) وغيرهم. و كان قد التحق بالأزهر، بعد حفظه للقرآن الكريم - وعندما أنشئت الجامعة المصرية عام 1908 م، التحق بها وجمع بين الدراسة في الجامعة والأزهر، وفي عام 1912 م حصل على العالمية من الأزهر، ثم سافر إلى إنجلترا على نفقته للدراسة، ولكنه عاد إلى مصر عام 1915 م بسبب الحرب العالمية الأولى، وفي عام 1915 عين قاضياً شرعياً، واستمر في القضاء حتى أصدر كتابه الإسلام وأصول الحكم ففصل من عمله، حيث كان قاضياً بمحكمة المنصورة، تنفيذاً لقرار هيئة كبار العلماء، الصادر في 22 محرم عام 1344 هـ‍(12 أغسطس 1925) وعندما أصبح أخوه الشيخ مصطفى عبد الرازق باشا (1302 - 1366 هـ‍/ 1885 - 1946 م) شيخاً للأزهر عام 1945 م، أعاد الأزهر للشيخ علي عبد الرازق اعتباره، فدخل ثانية في زمرة العلماء وفي 28 دسمبر 1948 م أصبح وزيراً للأوقاف، كما شغل عضوية مجلس النواب ومجلس الشيوخ وعين عضواً بمجمع اللغة العربية، ثم توفي في 7 جمادى الثاني 1386 هـ‍- (23 سبتمبر 1966 م) (أنظر: محمد عمارة: معركة الإسلام وأصول الحكم - دار الشروق - القاهرة 1989 م).

الصفحة 45
غير قليلة من أهل القبلة، ومن سلف هذه الأمة وعلمائها الصالحين، الذين لا يمكن الطعن في دينهم، ولا في علمهم.

ثم يقول بعد ذلك: وليس صحيحاً أننا ننكر إجماع الصحابة على أنه لا بد لأمة ممن يقوم بأمرها في الدين والدنيا، بل إنه لا بد لأمة منظمة - مهما كان معتقدها، ومهما كان جنسها ولونها ولسانها - من حكومة تباشر شؤونها، وتقوم بضبط الأمر فيها، وأن الناس لا يصلحون فوضى، لا سراة لهم ولعل أبا بكر رضي الله عنه إنما كان يشير إلى ذلك الرأي - حين قال في خطبته لا بد لهذا الدين ممن يقوم به، ولعل الكتاب الكريم ينحو ذلك المنحى أحياناً (1).

هذا ويمكن حينئذ أن يقال بحق: إن المسلمين، إذا اعتبرناهم جماعة منفصلين وحدهم، كانوا كغيرهم من أمم العالم كله، محتاجين إلى حكومة تضبط أمورهم وترعى شؤونهم، إن يكن الفقهاء أرادوا بالإمامة - أو الخلافة - ذلك المعنى الذي يريده علماء السياسة بالحكومة، كان صحيحاً ما يقولون: من أن إقامة الشعائر الدينية وصلاح الرعية يتوقفان على الخلافة بمعنى الحكومة، في أي صورة كانت الحكومة، أما إذا أرادوا بالخلافة ذلك النوع الخاص من الحكم الذي يعرفونه، فدليلهم أقصر من دعواهم، وحجتهم غير ناهضة (2).

ثم ينكر الشيخ علي عبد الرازق وجود أدلة على الخلافة في القرآن الكريم، وفي الحديث النبوي الشريف فيقول: إنه لعجب أن تأخذ بيدك كتاب الله الكريم، وتراجع النظر فيما بين فاتحته وسورة الناس، فترى فيه تصريف كل مثل، وتفصيل كل شئ من أمر هذا الدين * (ما فرطنا في الكتاب من

____________

(1) محمد عمارة: معركة الإسلام وأصول الحكم - دار الشروق - القاهرة 1989 ص 25، علي عبد الرازق: الإسلام وأصول الحكم - القاهرة 1925 م ص 34 - 35، 38.

(2) علي عبد الرازق: الإسلام وأصول الحكم ص 33.

الصفحة 46
شئ) *، ثم لا تجد فيه ذكراً لتلك الإمامة العامة أو الخلافة، إن في ذلك لمجالا للمقال (2).

وفي الواقع، فإن اتجاه المؤلف غير صحيح، وقد قدمنا من قبل الآيات القرآنية، والأحاديث النبوية الشريفة التي اعتمد عليها العلماء في وجوب نصب الإمام (3).

هذا إلى أنه حقيقة: أن في القرآن بيان كل شئ من أمور الدين وأحكام الواقع، ولكن ليس معنى هذا التبيان أنه يذكر أحكام الأشياء على وجه التفصيل، حتى إذا رجعنا إليه في قضية، ولم نجد لها حكماً مفصلاً، خالطت قلوبنا الريبة من حكمها الذي دلت عليه السنة، أو انعقد عليه إجماع أهل العلم، أو شهدت به القواعد المسلمة.

وإنما معنى تبيان لكل شئ: أنه أتى بكليات عامة، وهي معظم ما نزل به، وفصل بعض أحكام، وأحال كثيراً من آياته على بيان السنة النبوية، ثم إن الكتاب والسنة أرشدا إلى أصول أخرى، كالإجماع والقياس وغيرهما من القواعد المستفادة من استقراء جزئيات كثيرة، كقاعدة المصالح المرسلة، وقاعدة سد الذرائع، قال أبو إسحاق الشاطبي في كتابة الموافقات: تعريف القرآن بالأحكام الشرعية أكثره كلي، لا جزئي.

وإذا نظرنا إلى رجوع الشريعة إلى كلياتها المعنوية، وجدناها قد تضمنها القرآن على الكمال، وهي الضروريات والحاجيات والتحسينات ومكمل كل واحد منها، وهذا كله ظاهر أيضاً، فالخارج من الأدلة عن الكتاب هو السنة

____________

(1) سورة الأنعام: آية 38.

(2) علي عبد الرازق المرجع السابق ص 35، محمد عمارة: المرجع السابق ص 99.

(3) أنظر: (سورة البقرة: آية 30، سورة النور: آية 55 سورة ص: آية 26)، وانظر (صحيح مسلم 12 / 230، 12 / 240، نيل الأوطار للشوكاني 8 / 255 - 256، سنن أبي داود 2 / 34.

الصفحة 47
والإجماع والقياس، وجميع ذلك، إنما نشأ عن القرآن (1).

وأما قول المؤلف أننا لا نجد في الأحاديث - بعد كل ذلك - ما ينهض دليلاً لأولئك الذين يتخذون الخلافة عقيدة شرعية، وحكماً من أحكام الدين (2).

فالواقع أن العلماء ما قالوا إن الخلافة من قبيل العقائد، وأنما هي فرع من فروع الشريعة - كسائر أحكامها العملية، قال سعد الدين التفتازاني (712 - 789 هـ‍/ 1312 - 1389 م) في شرح المقاصد: إن مباحث الإمامة بعلم الفروع أليق، لرجوعها إلى أن القيام بالإمامة، من نصب الإمام الموصوف بالصفات المخصوصة من فروض الكفايات، ولا يخفى أن ذلك من الأحكام العملية - دون الاعتقادية - وقد ذكر في كتبنا الفقهية: أنه لا بد للأمة من إمام، يحيي الدين، ويقيم السنة، وينتصف للمظلومين، ويستوفي الحقوق ويضعها مواضعها.

ثم قال: ولكن لما شاعت بين الناس في باب الإمامة، اعتقادات فاسدة واختلافات باردة... ومالت كل فئة إلى تعصبات تكاد تفضي إلى رفض كثير من قواعد الإسلام، ونقض عقائد المسلمين، والقدح في الخلفاء الراشدين... ألحق المتكلمون هذا الباب بأبواب الكلام (3).

وقال السيد في شرح خطبة المواقف: إن الإمامة - وإن كانت من فروع الدين - فقد ألحقت بأصوله، دفعاً لخرافات أهل البدع والأهواء، وصوناً للأئمة المهديين عن مطاعنهم، لئلا يفضي بالقاصرين إلى سوء اعتقاد فيهم - وهكذا

____________

(1) محمد عمارة: المرجع السابق ص 241 - 242، أبو إسحاق الشاطبي: الموافقات 3 / 194 - 195 (المطبعة التونسية).

(2) علي عبد الرازق: الإسلام وأصول الحكم ص 18.

(3) سعد الدين التفتازاني: شرح المقاصد 1 / 199 (طبع الآستانة)، محمد عمارة، المرجع السابق ص 244.


الصفحة 48
يبدو واضحاً أن الخلافة ليست من نوع العقائد، وإنما حشروها في علم الكلام، للعذر الذي أبداه شارح المقاصد وشارح المواقف (1).

ومن ثم فقد استقر الرأي في علم الكلام الإسلامي، على أن مباحث الخلافة - الإمامة - الدولة، إنما هي من الفروع، وليست من عقائد الدين، ولا من أصوله، ومن ثم فإن الخلاف والاختلاف فيها أليق به أوصاف الخطأ والصواب، والضرر والنفع - وليس الكفر والإيمان أو الإلحاد (2) - إلخ إلخ.

يقول ابن جميع في عقيدة التوحيد: إن الإمامة مستخرجة من الرأي، وليست مستخرجة من الكتاب أو السنة (3)، ويقول إمام الحرمين أبو المعالي عبد الملك بن عبد الله الجويني: إن الكلام في الإمامة، ليس من أصول الاعتقاد (4)، ويقول الإمام أبو حامد الغزالي (450 - 505 هـ‍/ 1058 - 1111 م): إن نظرية الإمام ليست من المهمات، وليست من فن المعقولات فيها، بل من الفقهيات (5). ويقول الإمام ابن تيمية (661 - 728 هـ‍/ 1263 - 1328 م): إن الإمامة ليست من الأركان الخمسة، ولا من أركان الإيمان الستة، ولا هي من أركان الإحسان (6)، وفوق ذلك، وتبعاً له، يقول الغزالي: والعلم أن الخطأ في أصل الإمامة تعيينها وشروطها وما يتعلق بها، لا يوجب شئ منه الكفر (7).

ويقول شيخ الأزهر محمد الخضر حسين (1293 - 1377 هـ‍/ 1876 -

____________

(1) نفس المرجع السابق ص 244.

(2) نفس المرجع السابق ص 204.

(3) أبو حفص عمر بن جميع: عقيدة التوحيد - القاهرة 1353 هـ‍- ص 506.

(4) الجويني: الإرشاد - القاهرة 1950 ص 410.

(5) الإمام الغزالي: الاقتصاد في الاعتقاد ص 134 (ط صبيح - القاهرة).

(6) ابن تيمية: منهاج السنة 1 / 70 - 72 (القاهرة 1962).

(7) الغزالي: فصل التفرقة بين الإسلام والزندقة ص 15 (القاهرة 1907).

الصفحة 49
1958 م) في كتابه نقض كتاب الإسلام وأصول الحكم: إن الخلافة ليست من نوع العقائد، والبحث فيها يرجع إلى النظر في حكم عملي، لا في عقيدة من عقائد الدين، ومن ثم فيكتفي من مسندها بالأدلة المفيدة ظناً راجحاً (1).

بقيت الإشارة إلى أن كتاب الشيخ علي عبد الرازق (الإسلام وأصول الحكم) إنما كان سبباً في صدور عدة دراسات جادة وهامة، حول القضية التي عالجها - علاقة الدين بالدولة - وكان من أهمها:

1 - كتاب الشيخ محمد رشيد رضا (1282 - 1354 هـ‍ / 1865 - 1935 م) الخلافة أو الإمامة العظمى، حول إلغاء الخلافة العثمانية - وقد صدر هذا الكتاب قبيل صدور كتاب الإسلام وأصول الحكم 1925 م.

2 - كتاب شيخ الأزهر الشيخ محمد الخضر حسين (1292 - 1377 هـ‍/ 1875 - 1958 م)، رداً على كتاب الشيخ علي عبد الرزاق، وعنوانه نقض كتاب الإسلام وأصول الحكم وقد صدر عام 1344 هـ‍/ 1926 م.

3 - كتاب الشيخ محمد بخيت المطيعي (1271 - 1354 هـ‍/ 1854 - 1935 م) - مفتي الديار المصرية، وعنوانه حقيقة الإسلام وأصول الحكم، وقد صدر عام 1344 هـ‍/ 1926 م، رداً على كتاب الشيخ علي عبد الرازق. هذا فضلاً عن مجموعة من المقالات العلمية الجادة شارك أصحابها في هذه المعركة الفكرية مؤيدين أو معارضين - للشيخ علي عبد الرازق.

____________

(1) محمد الخضر حسين: نقض كتاب الإسلام وأصول الحكم - القاهرة 1926 ص 33، وانظر ص 74 - 75.

الصفحة 50

ثالثاً: اختيار الإمام

اختلفت المذاهب الإسلامية فيمن يشغل منصب الخلافة، فذهب فريق من العلماء إلى أن الأمة إنما تختار من تشاء، متى رأوا فيه القدرة على حراسة الدين، وسياسة الدنيا، لا فرق بين قريشي وغيره، وهذا كان رأي غالبية الأنصار، حين رأوا في اجتماع السقيفة أن يبايعوا سعد بن عبادة، قبل بيعة أبي بكر الصديق، رضي الله عنهما، وقد أخذ بهذا الرأي - فيما بعد - المعتزلة، وأكثر الخوارج، وجماعة من الزيدية.

وقد احتج هذا الفريق بحديث النبي صلى الله عليه وسلم، الذي رواه الإمام مسلم في صحيحه، عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: من أطاعني فقد أطاع الله، ومن يعصني فقد عصى الله، ومن يطع الأمير، فقد أطاعني، ومن يعص الأمير فقد عصاني (1).

وروى مسلم أيضاً في صحيحه بسنده عن شعبة عن أبي عمران عن عبد الله بن الصامت عن أبي ذر قال: إن خليلي أوصاني أن أسمع وأطيع، وإن كان عبداً مجدع الأطراف (2).

ومن ثم فقد أجاز الخوارج أن يكون الإمام من غير قريش (3)، وأن من

____________

(1) صحيح مسلم 12 / 223 (دار الكتب العلمية - بيروت 1403 هـ‍/ 1983).

(2) صحيح مسلم 12 / 225.

(3) قال السيوطي: وأخرج عبد الرحمن بن أبزى عن عمر بن الخطاب أنه قال: هذا الأمر (أي الخلافة) في أهل بدر، ما بقي منهم أحد، ثم في أهل أحد، ما بقي منهم أحد، وفي كذا وكذا،

=>


الصفحة 51
يستحقها هو من قام بالكتاب والسنة - سواء أكان عربياً أم أعجمياً - وبالغ ضرار بن عمرو فقال: إن تولية غير القرشي أولى، لأنه يكون أقل عشيرة، فإذا عصى أمكن خلعه (2)، قال الشهرستاني:

وبدعتهم (أي الخوارج) في الإمامة: إذا جوزوا أن تكون الإمامة في غير قريش، وكل من نصبوه برأيهم، وعاشر الناس على ما مثلوا له من العدل، واجتناب الجور، كان إماماً، ومن خرج عليه يجب نصب القتال معه، وإن غير السيرة، وعدل عن الحق، وجب عزله أو قتله، وهم أشد الناس قولاً بالقياس، كما جوزوا أن لا يكون في العالم إمام أصلاً، وإن احتيج إليه فيجوز أن يكون عبداً أو حراً أو نبطياً أو قرشياً (2).

وقال ضرار بن عمرو (4): إذا اجتمع حبشي وقرشي، كلاهما قائم بالكتاب والسنة، فالواجب أن يقدم الحبشي، لأنه أسهل لخلعه، إذا حاد عن الطريقة (4).

ويقول البغدادي: وقالوا: من شرط الإمامة النسب إلى قريش - وهم بنو النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان - على خلاف قول من زعم من الضرارية أن الإمامة تصلح في جميع أصناف العرب، وفي الموالي والعجم، وخلاف قول الخوارج بإمامة زعمائهم الذين كانوا من ربيعة وغيرهم - كنافع بن الأزرق الحنفي، ونجدة بن عامر الحنفي، وعبد الله بن وهب الراسبي، وحرقوص بن زهير البجلي، وشبيب بن يزيد

____________

<=

وليس فيها لطليق، ولا لولد طليق، ولا لمسلمة الفتح شئ (تاريخ الخلفاء ص 144).

(1) ذهب النظام والخوارج و نشوان الحميري وبعض الحشوية، أنها تصح في جميع الناس مطلقاً فرق في ذلك بين عربي وعجمي وزنجي (المذهب الزيدي ص 43).

(2) الشهرستاني: الملل والنحل 1 / 116 (ط الحلبي - القاهرة 1387 هـ‍/ 1968).

(3) ضرار بن عمرو: من رجال منتصف القرآن الثاني الهجري، اختلف في نسبة إلى المعتزلة، فابن الرواندي يثبت أنه من المعتزلة، والخياط ينفي ذلك وأنه كان تلميذاً لواصل بن عطاء، ثم انصرف عنه وأسس الضرارية، وأنه كان حياً حوالي عام 180 هـ‍.

(4) ابن حزم الأندلسي: الفصل في الملل والأهواء والنحل 4 / 108 (ط محمد علي صبيح - القاهرة 1384 هـ‍/ 1964 م).

الصفحة 52
الشيباني وأمثالهم - عناداً منهم لقول النبي صلى الله عليه وسلم: الأئمة من قريش (1).

ورواية الأئمة من قريش (2) هذه، إنما جاءت - كما يقول ابن حزم في الفصل في الملل والأهواء والنحل - عن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، مجئ التواتر، رواها أنس بن مالك وعبد الله بن عمر بن الخطاب، ومعاوية، وروى جابر بن عبد الله، وجابر بن سمرة، وعبادة بن الصامت، معناها (3).

ويقول ابن حزم: ومما يدل على صحة ذلك، إذعان الأنصار، رضي الله عنهم يوم السقيفة، وهم أهل الدار والمنعة والعدة والعدد والسابقة في الإسلام، ومن المحال أن يتركوا اجتهادهم لاجتهاد غيرهم، لولا قيام الحجة عليهم، بنص رسول الله صلى الله عليه وسلم، على أن الحق لغيرهم في ذلك (4).

ومن ثم فقد ذهب فريق ثان إلى أن الخلفاء من قريش خاصة، وهذا رأي غالبية المهاجرين، وقد احتجوا بحديث الأئمة من قريش.

وروى البخاري في صحيحه (كتاب الأحكام - باب الأمراء من قريش) بسنده عن معاوية أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن هذا الأمر في قريش، لا يعاديهم أحد، إلا كبه الله على وجهه، ما أقاموا الدين (5).

وتابعه نعيم عن ابن المبارك عن معمر عن الزهري عن محمد بن جبير - حدثنا أحمد بن يونس، حدثنا عاصم بن محمد: سمعت أبي يقول، قال ابن عمر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يزال هذا الأمر في قريش، ما بقي منهم اثنان (6).

____________

(1) ابن حزم الأندلسي: الفصل الملل والأهواء والنحل 4 / 87 - 88.

(2) عبد القادر بن طاهر بن محمد البغدادي: الفرق بين الفرق ص 349 (دار المعرفة - بيروت).

(3) أخرجه الطيالسي عن أبي برزة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وتمام الحديث: الأئمة من قريش، ما حكموا، فعدلوا، ووعدوا فوفوا، واسترحموا فرحموا، - وأخرجه الإمام أحمد.

(4) ابن حزم: الملل والأهواء والنحل 4 / 108.

(5) صحيح البخاري 9 / 77 - 78.

(6) صحيح البخاري 9 / 78.

الصفحة 53
وروى الإمام مسلم في صحيحه بسنده عدة أحاديث، منها: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الناس تبع لقريش في هذا الشأن، مسلمهم تبع لمسلمهم، وكافرهم تبع لكافرهم (1).

وحدثنا أحمد بن عبد الله بن يونس، حدثنا عاصم بن محمد بن زيد عن أبيه قال: قال عبد الله، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يزال هذا الأمر في قريش، ما بقي من الناس اثنان (2).

ويقول الإمام النووي (3) في الشرح: قوله صلى الله عليه وسلم: الناس تبع لقريش في هذا الشأن مسلمهم لمسلمهم، وكافرهم لكافرهم، وفي رواية: الناس تبع لقريش في الخير والشر، وفي رواية: لا يزال هذا الأمر في قريش، ما بقي من الناس اثنان، وفي رواية البخاري: ما بقي منهم اثنان، هذه الأحاديث وأشباهها دليل ظاهر أن الخلافة مختصة بقريش، لا يجوز عقدها لأحد من غيرهم.

وعلى هذا انعقد الإجماع في زمن الصحابة، وكذلك بعدهم، ومن خالف فيه من أهل البدع، أو عرض بخلاف من غيرهم، فهو محجوج بإجماع الصحابة والتابعين فمن بعدهم، بالأحاديث الصحيحة.

وقال القاضي: اشتراط كونه (أي الخليفة) قرشياً هو مذهب العلماء كافة، قال: وقد احتج به أبو بكر وعمر، رضي الله عنهما، على الأنصار يوم السقيفة، فلم ينكره أحد، قال القاضي: وقد عدها العلماء في مسائل الإجماع، ولم ينقل عن أحد من السلف فيها قول ولا فعل يخالف ما ذكرنا، وكذلك من بعدهم في جميع الأعصار. وقال: ولا اعتداد بقول النظام، ومن وافقه من الخوارج وأهل البدع: أنه يجوز كونه من غير قريش، ولا بسخافة ضرار بن

____________

(1) صحيح مسلم 12 / 200.

(2) صحيح مسلم 12 / 201.

(3) الإمام النووي: صحيح مسلم بشرح النووي - 12 / 199 - 201 (دار الكتب العلمية - بيروت 1403 هـ‍/ 1983 م).

الصفحة 54
عمرو في قوله: إن غير القرشي من النبط وغيرهم، يقدم على القرشي، لهوان خلعه، إن عرض منه أمر، وهذا الذي قاله من باطل القول وزخرفه، مع ما هو عليه من مخالفة إجماع المسلمين، والله أعلم.

وأما قوله صلى الله عليه وسلم: الناس تبع لقريش من الخير والشر، فمعناه في الإسلام والجاهلية، كما هو مصرح به في الرواية الأولى، لأنهم كانوا في الجاهلية رؤساء العرب، وأصحاب حرم الله، وأهل حج بيت الله، وكانت العرب تنتظر إسلامهم، فلما أسلموا وفتحت مكة، تبعهم الناس، وجاءت وفود العرب من كل جهة، ودخل الناس في دين الله أفواجاً، وكذلك في الإسلام هم أصحاب الخلافة، والناس تبع لهم، ولقد بين رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن هذا الحكم مستمر إلى آخر الدنيا، ما بقي من الناس اثنان، وقد ظهر ما قاله صلى الله عليه وسلم، فمن زمنه صلى الله عليه وسلم، إلى الآن (زمن المؤلف)، الخلافة في قريش من غير مزاحمة لهم فيها، وتبقى كذلك ما بقي اثنان، كما قاله صلى الله عليه وسلم.

وقال القاضي عياض: استدل أصحاب الشافعي بهذا الحديث على فضيلة الإمام الشافعي، قال: ولا دلالة فيه لهم لأن المراد، تقديم قريش في الخلافة فقط. قال النووي: هو حجة في مزية قريش، والشافعي قرشي (1).

وروى الإمام مسلم في صحيحه بسنده عن جابر بن سمرة قال: دخلت مع أبي على النبي صلى الله عليه وسلم، فسمعته يقول: إن هذا الأمر لا ينقضي، حتى يمضي فيهم اثنا عشر خليفة، قال: ثم تكلم بكلام خفي علي قال: فقلت لأبي ما قال:

قال: كلهم من قريش (2).

وعن عبد الملك بن عمير عن جابر بن سمرة قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم،

____________

(1) الإمام النووي: صحيح مسلم بشرح النووي 12 / 199 - 201 (دار الكتب العلمية - بيروت 1403 هـ‍/ 1983 م).

(2) صحيح مسلم 12 / 201.

الصفحة 55
يقول: لا يزال أمر الناس ماضياً، ما وليهم اثنا عشر رجلاً، ثم تكلم النبي صلى الله عليه وسلم، بكلمة خفيت علي، فسألت أبي: ماذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: كلهم من قريش (1).

وعن سماك بن حرب قال: سمعت جابر بن سمرة يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: لا يزال الإسلام عزيزاً، إلى اثني عشر خليفة، ثم قال كلمة لم أفهمها، فقلت لأبي ما قال: فقال: كلهم من قريش (2).

والحديث صحيح - وقد رواه الشيخان، كما رواه - كما أشرنا من قبل - الترمذي (3) وأبو نعيم (4) والحاكم (5) وأحمد (6) والهيتمي (7) والهيثمي (8) والسيوطي (9)، والمتقي الهندي (6).

وروى أو داود الطيالسي بسنده عن أبي برزة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:

الأئمة من قريش، ما حكموا فعدلوا، ووعدوا فوفوا، واسترحموا فرحموا (10).

وأخرج الإمام أحمد في مسنده روايات كثيرة، صحيحة الإسناد تؤدي هذا، منها قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما بعد، يا معشر قريش، فإنكم أهل هذا الأمر، ما لم تعصوا الله، فإذا عصيتموه بعث إليكم من يلحاكم، كما يلحى هذا القضيب - القضيب في يده، ثم لحا قضيبه، فإذا هو أبيض يصلد (11).

____________

(1) صحيح مسلم 12 / 202.

(2) صحيح مسلم 12 / 202، وانظر روايات أخرى 12 / 202 - 204.

(3) صحيح الترمذي 2 / 35.

(4) أبو نعيم الأصفهاني: دلائل النبوة ط 48 - 482 (ط الباز - مكة المكرمة 1977 م).

(5) المستدرك للحاكم 4 / 501.

(6) مسند الإمام أحمد بن حنبل 1 / 389، 406، 5 / 86، 92، 99، 106، 108.

(7) ابن حجر الهيتمي: الصواعق المحرقة.

(8) الهيثمي: مجمع الزوائد 5 / 190 - 191.

(9) السيوطي: تاريخ الخلفاء ص 9 - 11.

(10) كنز العمال 3 / 205، 6 / 160، 201

(11) مسند الإمام أحمد - الجزء السادس (رقم 4380)، الجزء السابع (رقم 4832)، الجزء الثالث عشر (رقم 7034، 7547).

الصفحة 56
هذا ومن المعروف أن المهاجرين قد احتجوا على الأنصار، بأن الإمامة في قريش، لأنهم أولياء النبي وعشيرته، وأحق الناس بالأمر من بعده، وكما قال لهم عمر بن الخطاب، رضي الله عنه: إنه والله لا ترضى العرب أن تؤمركم، ونبيها من غيركم، وأن العرب لا تولي هذا الأمر، إلا من كانت النبوة فيهم، لا ينازعنا سلطان محمد وميراثه، ونحن أولياؤه وعشيرته، إلا مدل بباطل، أو متجانف لإثم، أو متورط في هلكة، ولقد أخذ بهذا الرأي فيما بعد عامة أهل السنة.

هذا وقد نص الحافظ ابن حجر العسقلاني في فتح الباري (كتاب العلم) في شرح قوله صلى الله عليه وسلم، من كذب علي متعمداً، فليتبوأ مقعده في النار، على أن حديث الأئمة من قريش متواتر، - كأحاديث المسح على الخفين ورفع اليدين في الصلاة، والحوض، ورؤية الله في الآخرة، ومن بنى لله مسجداً وغيرها - ثم أفرد حديث الأئمة من قريش بجزء جمع فيه طرقه عن نحو أربعين صحابياً، وقال في كتاب الأحكام من الفتح الباري (الجزء 13) ما نصه: وإلى اشتراط كون الإمام قرشياً، ذهب جمهور أهل العلم. ثم قال: وقال عياض: اشترط كون الإمام قرشياً مذهب العلماء كافة، وقد عدوها في مسائل الإجماع، ولم ينقل عن أحد من السلف فيها خلاف، وكذلك من بعدهم في جميع الأمطار، ولا اعتداد بقول الخوارج ومن وافقهم من المعتزلة (1)، لما فيه من مخالفة المسلمين (2).

____________

(1) كان القاضي أبو بكر الباقلاني (ت 403 هـ‍) ممن نفى اشتراط النسب القرشي، لما أدرك عليه عصبية قريش من التلاشي والاضمحلال، واستبداد ملوك العجم من الخلفاء، فأسقط شرط القرشية، وإن كان موافقاً لرأي الخوارج، لما رأى حال الخلفاء لعهده، وبقي الجمهور على القول باشتراطها، وصحة الإمامة للقرشي، ولو كان عاجزاً عن القيام بأمور المسلمين، ورد عليهم سقوط شرط الكفاية التي يقوم بها على أمره، لأنه إذ ذهبت الشوكة بذهاب العصبية، فقد ذهبت الكفاية، وإذا وقع الإخلال بشرط الكفاية، تطرق ذلك أيضاً إلى العلم والدين، وسقط اعتبار شروط هذا المنصب، وهو خلاف الاجتماع (مقدمة ابن خلدون ص 194 - 195).

(2) محمد العربي التباني: تحذير العبقري من محاضرات الخضري 1 / 186 - 187 (دار الكتب العلمية - بيروت 1404 هـ‍/ 1984).

الصفحة 57
وليس صحيحاً ما ذهب إليه ابن خلدون (1) من أن الحكمة من اشتراط النسب القرشي، إنما هو ما كان لهم من العصبية، وإنما الصحيح - فيما يرى التباني - هو مقام النبوة - لا العصبية والتقدم - وهي واضحة لكل من رزق فهماً مستقيماً في كلام الصديق - وكذا الفاروق - الذي قيل يوم السقيفة، احتجاجاً على الأنصار (2).

يروي البلاذري في أنساب الأشراف: قال أبو بكر للأنصار: ولن تعرف العرب الأمر، إلا لهذا الحي من قريش، وقال صلى الله عليه وسلم، هذا الشأن بعدي في قريش (3)، وفي رواية الطبري: وإن العرب لا تعرف هذا الأمر، إلا لهذا الحي من قريش، وهم أوسط العرب داراً ونسباً (4).

وقال عمر بن الخطاب: هيهات لا يجتمع اثنان في قرن. والله لا ترضى العرب أن تؤمركم، ونبينا من غيركم، ولا تمتنع العرب أن تولي أمرها، من كانت النبوة فيهم، ولنا بذلك الحجة الظاهرة، من ينازعنا سلطان محمد، ونحن أولياؤه وعشيرته (5).

على أن آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم، إنما كان رأيهم أن الخلافة يجب أن تكون في بيت النبوة، والقدم فيهم، سيدنا الإمام علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، وكرم الله وجهه في الجنة، وأبناؤه من السيدة فاطمة الزهراء، سيدة نساء العالمين، وبنت النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم.

وقالت الشيعة الإثنا عشرية: أن الإمامة خاصة بالإمام علي وولديه - الحسن والحسين - ثم لأولاد الحسين فقط (6)، واستدلوا على ذلك بما رواه

____________

(1) مقدمة ابن خلدون ص 195 - 197.

(2) محمد العربي التباني: المرجع السابق ص 195.

(3) البلاذري: أنساب الأشراف 1 / 584 (تحقيق محمد حميد الله دار المعارف - القاهرة 1959).

(4) تاريخ الطبري 3 / 205 - 206 (تحقيق محمد أبو الفضل - دار المعارف - القاهرة 1979).

(5) ابن الأثير: الكامل في التاريخ 2 / 329 - 330 (بيروت 11385 هـ‍/ 1965 م).

(6) محمد جواد مغنية: الشيعة في الميزان ص 37.