وعن قتادة عن أبي المليح، أن عبيد الله بن زياد، دخل على معقل بن يسار في مرضه، فقال له معقل: إني محدثك بحديث، لولا أني في الموت، لم أحدثك به، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ما من أمير يلي أمر المسلمين، ثم لا يجتهد لهم وينصح، إلا لم يدخل معهم الجنة (2).
وعن الحسن قال: عاد عبيد الله بن زياد، معقل بن يسار المزني، في مرضه الذي مات فيه، قال معقل: إني محدثك حديثاً سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، لو علمت أن لي حياة، ما حدثتك، إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ما من عبد يسترعيه الله رعية، يموت يوم يموت، وهو غاش لرعيته، إلا حرم الله عليه الجنة (3).
وعن يونس عن الحسن قال: دخل عبيد الله بن زياد على معقل بن يسار، وهو وجع، فسأله فقال: إني محدثك حديثاً لم أكن حدثتكه، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا يسترعي الله عبداً رعية، يموت حين يموت، وهو غاش لها، إلا حرم الله عليه الجنة، قال: ألا كنت حدثتني هذا قبل اليوم، قال: ما حدثتك، أو لم أكن لأحدثك (4).
____________
(1) صحيح مسلم 12 / 213.
(2) صحيح مسلم 12 / 215.
(3) صحيح مسلم 2 / 165.
(4) صحيح مسلم 2 / 165 - 166.
وروى البخاري في صحيحه بسنده عن أبي الأشهب عن الحسن قال: أن عبيد الله بن زياد، عاد معقل بن يسار في مرضه الذي مات فيه، فقال له معقل:
أحدثك حديثاً سمعته من رسول الله صلى الله عليه و سلم، سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ما من عبد استرعاه الله رعية، فلم يحطها بنصيحة، إلا لم يجد رائحة الجنة (2).
وعن هشام عن الحسن قال: أتينا معقل بن يسار نعوده، فدخل عبيد الله، فقال له معقل: أحدثك حديثاً سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ما من وال يلي رعية من المسلمين فيموت وهو غاش لهم، إلا حرم الله عليه الجنة (3).
وروى البخاري في صحيحه بسنده عن عبد الله بن دينار عن عبد الله بن عمر، رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ألا كلكم راع، وكلكم مسؤول عن رعيته، فالإمام الذي على الناس راع، وهو مسؤول عن رعيته، والرجل راع على أهل بيته، وهو مسؤول عن رعيته، والمرأة راعية على أهل بيت زوجها وولده، وهي مسؤولة عنهم، وعبد الرجل راع على مال سيده، وهو مسؤول عنه، ألا فكلكم راع، وكلكم مسؤول عن رعيته (4).
وروى أبو داود في سننه بسنده عن عبد الله بن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ألا كلكم راع، وكلكم مسؤول عن رعيته، فالأمير الذي على الناس راع عليهم، وهو مسؤول عنهم، والرجل راع على أهل بيته، وهو مسؤول عنهم،
____________
(1) صحيح مسلم 2 / 166.
(2) صحيح البخاري 9 / 80.
(3) صحيح البخاري 9 / 80.
(4) صحيح البخاري 9 / 77 (وانظر روايات أخرى 4 / 6، 7 / 34).
وروى البخاري في صحيحه بسنده عن أبي هريرة، رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: إذا ضيعت الأمانة، انتظر الساعة، قيل: يا رسول الله: وما إضاعتها، قال: إذا وسد الأمر إلى غير أهله، فانتظر الساعة (2).
وروى البخاري في صحيحه (1 / 22): الدين النصيحة لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم (3).
هذا وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من الأمراء الظلمة، فقال: سيكون من بعدي أمراء يكذبون ويظلمون، فمن صدقهم بكذبهم، وأعانهم على ظلمهم، فليس مني، ولست منه، ولم يرد على الحوض (4).
وروى أبو هريرة أنه صلى الله عليه وسلم، قال: أبغض القراء إلى الله تعالى الذين يزورون الأمراء، وفي الخبر: خير الأمراء الذين يأتون العلماء، وشر العلماء الذين يأتون الأمراء.
وفي الخبر أيضاً: العلماء أمناء الرسل على عباد الله، ما لم يخالطوا السلطان، فإذا فعلوا ذلك، فقد خانوا الرسل، فاحذروهم واعتزلوهم (5).
ومن ثم فإن القلهاتي أبو عبد الله محمد بن سعيد الأزدي (المتوفى سنة 328 هـ)، إنما يعيب على أهل السنة دعوتهم إلى طاعة الإمام، ولو كان
____________
(1) سنن أبي داود 2 / 117 (ط الحلبي - القاهرة 1952).
(2) ابن تيمية: السياسة الشرعية ص 14.
(3) صحيح البخاري 1 / 22.
(4) أبو حامد الغزالي: إحياء علوم الدين 5 / 896 (ط دار الشعب: القاهرة 1969) - والحديث رواه النسائي والترمذي وصححه والحاكم، من حديث كعب بن عجرة.
(5) الغزالي: المرجع السابق ص 896.
ويصف القلهاتي الإمام بأنه رجل من المسلمين، له ما لهم، وعليه ما عليهم، ليس له أن يستحل بما والاه الله تعالى من أمر عباده وبلاده حراماً، ولا يحرم حالاً، بل تزيده الولاية لحق الله تعظيماً (2).
ويستنكر القلهاتي مذهب أهل السنة في طاعة الإمام، مطالباً بضرورة الخروج على الإمام الجائر، محتجاً بمثل قول الله تعالى: * (ولا تطع منهم آثماً أو كفوراً) *، وقول الرسول صلى الله عليه وسلم لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، وقول أبي بكر الصديق أطيعوني ما أطعت الله، فإن عصيت الله، فلا طاعة لي عليكم (3).
غير أن الآثار إنما تشير إلى غير ما ذهب إليه القلهاتي، فقد قال حذيفة إياكم ومواقف الفتن، قيل: وما هي؟ قال: أبواب الأمراء، يدخل أحدكم على الأمير، فيصدقه بالكذب، ويقول ما ليس فيه، وقال أبو ذر لسلمة: يا سلمة، لا تغش أبواب السلاطين، فإنك لا تصيب من دنياهم شيئاً، إلا أصابوا من دينك، أفضل منه.
وقال سفيان: في جهنم واد لا يسكنه إلا القراء الزوارون للملوك.
____________
(1) القلهاتي: الكشف والبيان - تحقيق الدكتورة سيدة إسماعيل كاشف - الجزء الثاني - عمان 1980 ص 239.
(2) القلهاتي: المرجع السابق ص 402.
(3) القلهاتي: المرجع السابق ص 367، عبد الفتاح أحمد فؤاد: الأصول الإيمانية لدى الفرق الإسلامية - الإسكندرية 1990 ص 384 - 385.
وقال عبادة بن الصامت: حب القارئ الناسك الأمراء نفاق، وحبه الأغنياء رياء.
وقال ابن مسعود: إن الرجل ليدخل على السلطان ومعه دينه، فيخرج ولا دين له، قيل له: لم؟ قال: لأنه يرضيه بسخط الله.
وقال الفضيل: ما ازداد رجل من ذي سلطان قرباً، إلا ازداد من الله بعداً.
وكان سعيد بن المسيب: يتجر في الزيت، ويقول: إن في هذا لغنى عن هؤلاء السلاطين.
وقال وهيب: هؤلاء الذين يدخلون على الملوك لهم أضر على الأمة من المقامرين.
____________
(1) الأوزاعي: هو أبو عمرو عبد الرحمن بن عمرو بن يحمد الأوزاعي، ولد عام 88 هـ(707 م)، وتوفي في بيروت عام 157 هـ(774 م)، سكن دمشق، وبيروت، وسمع عن عطاء بن أبي رباح وقتادة والزهري وغيرهم، وكان بعض العلماء يفضلونه على سفيان الثوري، وكما في تذكرة الحفاظ: كان الأوزاعي أفضل أهل زمانه، كان يصلح للخلافة (أنظر عنه: طبقات ابن سعد 7 / 2 / 185، الجرح والتعديل لابن أبي حاتم 2 / 226 - 227، المقدمة لابن أبي حاتم ص 174 - 218، حلية الأولياء 6 / 135 - 149، تذكرة الحفاظ للذهبي ص 178 - 183، التهذيب لابن حجر 6 / 338 - 242، البداية والنهاية لابن كثير 10 / 115 - 120، الأعلام للزركلي 4 / 94، معجم المؤلفين لكحالة 5 / 163، وفيات الأعيان 3 / 127 - 128، صفة الصفوة 4 / 228، عبر الذهبي 1 / 227، شذرات الذهب 1 / 241، فؤاد سزكين: تاريخ التراث العربي - الفقه 3 / 243 - 235).
كان عاملاً للحجاج فعزله، فقال الرجل: إنما عملت له على شئ يسير، فقال له عمر: حسبك بصحبته يوماً، أو بعض يوم، شؤماً وشراً (1).
وروى أن الخليفة الأموي هشام بن عبد الملك (105 - 125 هـ/ 724 - 743 م) قدم حاجاً إلى مكة، فلما دخلها قال: ائتوني برجل من الصحابة، فقيل: يا أمير المؤمنين قد تفانوا، فقال: من التابعين، فأوتي بً طاوس اليمانيً، فلما دخل عليه خلع نعليه بحاشية بساطه، ولم يسلم عليه بإمرة المؤمنين، ولكن قال: السلام عليك يا هشام، ولم يكنه، وجلس بإزائه، وقال:
كيف أنت يا هشام؟.
فغضب هشام غضباً شديداً، حتى هم بقتله، فقيل له: أنت في حرم الله وحرم رسوله، ولا يمكن ذلك، فقال له: يا طاوس، ما الذي حملك على ما صنعت؟ قال: وما الذي صنعت؟ فازداد غضباً وغيظاً، قال: خلعت نعليك بحاشية بساطي، ولم تقبل يدي، ولم تسلم علي بإمرة المؤمنين، ولم تكنني، وجلست بإزائي بغير إذني، وقلت: كيف أنت يا هشام.
قال: أما ما فعلت من خلع نعلي بحاشية بساطك، فإني أخلعهما بين يدي رب العزة كل يوم خمس مرات، ولا يعاقبني ولا يغضب عليه، وأما قولك لم تقبل يدي، فإني سمعت أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، يقول:
لا يحل لرجل أن يقبل يد أحد، إلا امرأة من شهوة، أو ولده من رحمة، وأما قولك: لم تسلم علي بإمرة المؤمنين، فليس كل الناس راضين بإمرتك، فكرهت أن أكذب، وأما قولك: لم تكنني، فإن الله تعالى سمى أنبياءه وأولياءه فقال: يا داود، يا يحيى، يا عيسى، وكنى أعداءه فقال تبت يدا أبي لهب، وأما قولك، جلست بإزائي، فإني سمعت أمير المؤمنين علياً رضي الله عنه، يقول
____________
(1) الغزالي: إحياء علوم الدين 5 / 896 - 897 (القاهرة 1969).
فقال له هشام: عظني، فقال: سمعت أمير المؤمنين علي رضي الله عنه يقول: إن في جهنم حيات كالقلال، وعقارب كالبغال، يلدغ كل أمير، لا يعدل في رعيته، ثم قام وهرب (9). (أي طاوس) (2).
وعن سفيان الثوري (3)، رضي الله عنه قال: أدخلت على أبي جعفر المنصور بمنى، فقال لي: إرفع إلينا حاجتك، فقلت له: إتق الله، فقد ملأت الأرض ظلماً وجوراً، قال: فطأطأ رأسه، ثم رفعه، فقال: إرفع إلينا حاجتك، فقلت: إنما أنزلت هذه المنزلة بسيوف المهاجرين والأنصار، وأبناؤهم يموتون جوعاً فاتق الله، وأوصل إليهم حقوقهم، فطأطأ رأسه ثم رفعه، فقال: إرفع إلينا حاجتك، فقلت: حج عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، (13 - 23 هـ/ 634
____________
(1) الغزالي: إحياء علوم الدين 5 / 903 - 904.
(2) أنظر عن طاوس: (حلية الأولياء 4 / 3 - 23، وفيات الأعيان 2 / 509 - 511، طبقات ابن سعد 7 / 537، تذكرة الحفاظ ص 90، صفة الصفوة 2 / 160، تهذيب التهذيب 5 / 8، عبر الذهبي 1 / 130، العقد الثمين 6 / 59، شذرات 1 / 134 - 133).
(3) سفيان الثوري: هو أبو عبد الله سفيان بن سعيد مسروق الثوري الكوفي، ولد عام 95 هـ/ 713 م (وقيل عام 96 أو 97 هـ)، وتوفي عام 161 هـ(778 م)، درس على علماء عصره، ورفض منصب القضاء تحرجاً وورعاً، مما أغضب الخليفة حتى اضطر إلى أن يظل بقية عمره مستتراً، ويعد سفيان الثوري أول من رتب الأحاديث ترتيباً موضوعياً في الكوفة، وبصفته من أتباع أهل الحديث فقد أسس مذهباً فقهياً لم يدم طويلاً، كما قيل إن الثوري كان عالماً بالرياضيات (أنظر: طبقات ابن سعد 6 / 371 - 374، الجرح والتعديل لابن أبي حاتم 2 / 222 - 227، التقدمة ص 55 - 129، المشاهير لابن حبان ص 169 - 170، تاريخ بغداد للخطيب 9 / 151 - 174، حلية الأولياء 6 / 356 - 393، 7 / 3 - 144، تذكرة الحفاظ للذهبي ص 203 - 207، ميزان الاعتدال 1 / 396، التهذيب لابن حجر 4 / 111 - 115، أعيان الشيعة للعاملي 35 / 137 - 149، الأعلام للزركلي 3 / 158، معجم المؤلفين لكحالة 4 / 234 - 235، فؤاد سزكين:
تاريخ التراث العربي 1 / 247 - 249، وفيات الأعيان 2 / 386 - 391، شذرات الذهب 1 / 250 - 251).
فهكذا كانوا يدخلون على السلاطين - إذا ألزموا - وكانوا يغررون بأرواحهم للانتقام لله من ظلمهم.
ولما استعمل عثمان بن عفان رضي الله عنه (23 - 35 هـ/ 644 - 656 م) عبد الله بن عامر، أتاه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبطأ عنه أبو ذر، وكان له صديقاً، فعاتبه، فقال أبو ذر: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن الرجل إذا ولي ولاية، تباعد الله عنه (1).
ودخل مالك بن دينار (2)، على أمير البصرة فقال: أيها الأمير، قرأت في بعض الكتب إن الله تعالى يقول: ما أحمق من سلطان، وما أجهل ممن عصاني، ومن أعز ممن اعتز بي، أيها الراعي السوء: دفعت إليك غنماً سماناً صحاحاً، فأكلت اللحم، ولبست الصوف، وتركتها عظاماً تتقعقع.
فقال له والي البصرة: أتدري ما الذي يجرئك علينا، ويجبننا عنك، قال:
لا، قال: قلة الطمع فينا، وترك الإمساك لما في أيدينا (3).
____________
(1) الغزالي: إحياء علوم الدين 5 / 904.
(2) مالك بن دينار: أبو يحيى مالك بن دينار البصري، من موالي بني سامة بن لؤي القرشي، كان عالماً زاهداً كثير الورع، لا يأكل إلا من كسبه وكان يكتب المصاحف بالأجرة، توفي عام 131 هـ (أنظر: حلية الأولياء 2 / 257 - 388، وفيات الأعيان 4 / 139 - 140، صفة الصفوة 3 / 197، تهذيب التهذيب 10 / 14، ابن العماد الحنبلي: شذرات الذهب 1 / 173، حيث جعل وفاته في عام 127 هـ).
(3) الغزالي: إحياء علوم الدين 5 / 904 (القاهرة 1969).
سابعاً: حقوق الإمام وواجباته
لا ريب في أن الإسلام إنما أقام توازناً بين حقوق الإمام وواجباته - كما رأينا من قبل - فكما حذر من عصيان الإمام، والخروج على الجماعة، فلقد حذر الإمام وولاته من غش الرعية حتى أنه ما من أمير يلي أمر المسلمين، ثم لا يجهد لهم وينصح، إلا لم يدخل معهم الجنة.
ويعبر سيدنا الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وكرم الله وجهه في الجنة (600 - 656 / 656 - 661 م) (23 ق. هـ- 35 هـ) (35 - 40 هـ) عن ذلك، بقوله: حق على الإمام أن يحكم بالعدل، ويؤدي الأمانة، فإذا فعل ذلك، وجب على المسلمين أن يطيعوه، لأن الله تعالى أمر بأداء الأمانة والعدل، ثم أمر بطاعته (1).
ولعل من الأفضل هنا أن نشير إلى هذه الحقوق والواجبات بشئ من التفصيل:
فأما حقوق الإمام فحقان:
1 - حق الطاعة: وهو حق ثابت بالكتاب والسنة، وقد تحدثنا عنه كثيراً من قبل، فالله تعالى يقول: * (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول
____________
(1) تفسير القرطبي ص 1829 (كتاب الشعب - القاهرة 1970).
والنص القرآني الكريم واضح وصريح، فهو يجعل طاعة الله أصلاً، وطاعة رسوله أصلاً كذلك - بما أنه مرسل منه سبحانه وتعالى - ويجعل طاعة أولي الأمر منكم، تبعاً لطاعة الله وطاعة رسوله، ومن ثم فهو لا يكرر لفظ الطاعة عند ذكرهم - كما كررها عند ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم - ليقرر أن طاعة أولي الأمر، مستمدة من طاعة الله وطاعة رسوله، بعد أن قرر أنهم منكم بقيد الإيمان وشرطه.
هذا فضلاً عن أن طاعة أولي الأمر منكم - بعد هذه التقريرات كلها - إنما هي في حدود المشروع من الله تعالى، والذي لم يرد نص بحرمته، ولا يكون من المحرم عندما يرد إلى مبادئ شرعية، عند الاختلاف فيه (2).
والسنة النبوية الشريفة إنما تقرر حدود هذه الطاعة - على وجه الجزم واليقين - ففي الصحيحين بسنده عن علي رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم إنما الطاعة في المعروف (3).
وفي الصحيحين أيضاً عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم السمع والطاعة على المرء المسلم، فيما أحب وأكره، ما لم يؤمر بمعصية، فإن أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة (4).
____________
(1) سورة النساء: آية 59، وانظر: تفسير الطبري 8 / 495 - 499، تفسير النسفي 1 / 232، تفسير الظلال 2 / 687 - 692، تفسير ابن كثير 1 / 782 - 785، تفسير القرطبي ص 1828 - 1833، تفسير المنار 5 / 146 - 158.
(2) سيد قطب: في القرآن 2 / 691 (دار الشروق - ط التاسعة - القاهرة - بيروت 1400 هـ/ 1980 م).
(3) صحيح البخاري 9 / 78 - 79، صحيح مسلم 12 / 226 - 227.
(4) صحيح البخاري 9 / 78، صحيح مسلم 12 / 226.
وبهذا يجعل الإسلام كل فرد - في أمة الإسلام - أميناً على شريعة الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، أميناً على إيمانه هو ودينه، أميناً على نفسه وعقله، أميناً على مصيره في الدنيا والآخرة، ولا يجعله بهيمة في القطيع، تزجر من هنا، أو من هنا، فتسمع وتطيع، فالمنهج واضح، وحدود الطاعة واضحة، والشريعة التي تطاع، والسنة التي تتبع، واحدة، لا تتعدد ولا تتفرق (2).
2 - حق المعاضدة والمناصرة: والحق الثاني للإمام إنما هو المعاضدة والمناصرة في أمور الدين، وجهاد العدو، قال الله تعالى: * (وتعاونوا على البر والتقوى) * (3)، ولا أعلى من معاونة الإمام على إقامة الدين ونصرته.
وروى الإمام مسلم في صحيحه بسنده عن أبي قيس بن رياح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: من خرج من الطاعة، وفارق الجماعة فمات، مات ميتة جاهلية، ومن قاتل تحت راية عمية، يغضب لعصبة، أو يدعو إلى عصبة، أو ينصر عصبة فقتل، فقتلة جاهلية، ومن خرج على أمتي يضرب برها وفاجرها، ولا يتحاشى من مؤمنها، ولا يفي لذي عهد، فليس مني، ولست منه (4).
فالنبي صلى الله عليه وسلم إنما يذم الخارج تحت راية عمية، والداعي إلى العصبية، وهو مستلزم لنصرة الدين، دون النصرة عليه.
____________
(1) صحيح مسلم 12 / 225.
(2) في ظلال القرآن 2 / 691.
(3) سورة المائدة: آية 2.
(4) صحيح مسلم 12 / 238 - 239.
الأول: حفظ الدين على أصوله المستقرة، وما أجمع عليه سلف الأمة، فإن نجم مبتدع أو زاع ذو شبهة، أوضح له الحجة، وبين له الصواب، وأخذه بما يلزمه من الحقوق والحدود، ليكون الدين محروساً من خلل، والأمة ممنوعة من زلل.
والثاني: تنفيذ الأحكام بين المتشاجرين، وقطع الخصام بين المتنازعين حتى تتم النصفة، فلا يعتدي ظالم، ولا يضعف مظلوم.
والثالث: حماية بيضة الإسلام، والذب عن الحريم، ليتصرف الناس في المعايش، وينتشروا في الأسفار آمنين على أنفسهم وأموالهم.
والرابع: إقامة الحدود، لتصان محارم الله تعالى عن الانتهاك، وتحفظ حقوق عباده من إتلاف واستهلاك.
والخامس: تحصين الثغور بالعدد، ووفور العدد، حتى لا يظفر العدو بغرة، فينتهك فيها محرماً، أو يسفك دماً لمسلم أو معاهد.
والسادس: جهاد الكفرة المعاندين للإسلام، حتى يسلموا أو يدخلوا في ذمة المسلمين، قياماً بحق الله تعالى في ظهور دينه على الدين كله.
والسابع: اختيار الأمناء الأكفاء، وتقليد الولايات للثقات النصحاء، لتضبط الأعمال بالكفاة، وتحفظ الأموال بالأمناء.
والثامن: جباية أموال الفئ والصدقات والخراج، على ما أوجبه الشرع نصاً أو اجتهاداً، من غير حيف، ولا عسف.
____________
(1) الماوردي: الأحكام السلطانية والولايات الدينية - دار الكتب العلمية - بيروت 1402 هـ/ 1982 ص 15 - 16.
والعاشر: أن يباشر بنفسه مشارفة الأمور، وتصفح الأحوال، لينهض بسياسة الأمة، وحراسة الملة، ولا يعول على التفويض، تشاغلاً بلذة أو عبادة، فقد يخون الأمين، ويغش الناصح، وقد قال الله تعالى: * (يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى، فيضلك عن سبيل الله) * (1).
فلم يقتصر الله سبحانه وتعالى على التفويض، دون المباشرة، ولا عذره في الاتباع، حتى وصفه بالضلال، وهذا - وإن كان مستحقاً عليه بحكم الدين، ومنصب الخلافة - فهو من حقوق السياسة، لكل مسترع.
روى الإمام مسلم في صحيحه بسنده عن نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: كلكم راع، وكلكم مسؤول عن رعيته، فالأمير الذي على الناس راع، وهو مسؤول عن رعية، والرجل راع على أهل بيته، وهو مسؤول عنهم، والمرأة راعية على بيت بعلها وولده، وهي مسؤولة عنهم، والعبد راع على مال سيده، وهو مسؤول عنه، ألا فكلكم راع، وكلكم مسؤول عن رعيته (2).
وروى البخاري في صحيحه بسنده عن الزهري قال: أخبرني سالم عن ابن عمر، رضي الله عنهما، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: كلكم راع، ومسؤول عن رعيته، والإمام راع، ومسؤول عن رعيته، والرجل راع في أهله، ومسؤول عن رعيته، والمرأة في بيت زوجها راعية، ومسؤولة عن رعيتها،
____________
(1) سورة ص: آية 26.
(2) صحيح مسلم 12 / 213 (دار الكتب العلمية - بيروت 1403 هـ/ 1983 م).
والرجل راع في مال أبيه (1).
وأخرج الترمذي من حديث عمرو بن مرة الجهني قال لمعاوية: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ما من إمام يغلق بابه، دون ذوي الحاجات والمسكنة، إلا أغلق الله أبواب السماء دون خلته وحاجته ومسكنته، فجعل معاوية رجلاً على مصالح الناس (2).
وروى البخاري في صحيحه (باب من استرعى رعية فلم ينصح) بسنده عن الحسن أن عبيد الله بن زياد، عاد معقل بن يسار في مرضه الذي مات فيه. فقال له معقل: إني محدثك حديثاً، سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ما من عبد استرعاه الله رعية، فلم تحطها بنصيحة، إلا لم يجد رائحة الجنة (3).
وعن سعيد المقبري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إنكم ستحرصون على الإمارة، وستكون ندامة يوم القيامة، فنعم المرضعة، وبئست الفاطمة (4).
____________
(1) صحيح البخاري 4 / 6، وانظر روايات أخرى للحديث الشريف (صحيح البخاري 7 / 34، 9 / 77).
(2) صحيح الترمذي 6 / 73.
(3) صحيح البخاري 9 / 80 (دار الجيل - بيروت).
(4) صحيح البخاري 9 / 79.
ثامناً: ألقاب الإمام أو الخليفة
يقول ابن خلدون (1) (732 - 808 هـ/ 332 - 1406 م) في مقدمته المشهورة: إن منصب الخلافة أو الإمامة، إنما هو نيابة عن صاحب الشريعة في حفظ الدين، وسياسة الدنيا به، ومن ثم فهي تسمى خلافة وإمامة، والقائم به خليفة وإماماً، فأما تسميته إماماً فتشبيهاً بإمام الصلاة في اتباعه والاقتداء به، ولهذا يقال الإمامة الكبرى.
وأما تسميته خليفة فلكونه يخلف النبي صلى الله عليه وسلم، في أمته، فيقال خليفة، بإطلاق، وخليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
واختلف في تسميته خليفة الله فأجازه بعضهم، اقتباساً من الخلافة التي للآدميين في قول الله تعالى: * (إني جاعل في الأرض خليفة) * (2)، وقول الله تعالى: * (وهو الذي جعلكم خلائف الأرض) * (3).
على أن الجمهور قد منع ذلك، لأن معنى الآية ليس عليه، وقد نهى أبو بكر الصديق عنه، لما دعي به، وقال: لست خليفة الله، ولكني خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن الاستخلاف إنما هو في حق الغائب، وأما الحاضر فلا (4).
____________
(1) مقدمة ابن خلدون ص 191 - 192 (دار القلم - بيروت 1981).
(2) سورة البقرة: آية 30.
(3) سورة الأنعام: آية 165.
(4) مقدمة ابن خلدون ص 191.
واختلفوا: هل يجوز أن يقال: يا خليفة الله؟ فجوزه البعض، لقيامه بحقوقه في خلقه، ولقول الله تعالى: * (وهو الذي جعلكم خلائف الأرض ورفع بعضكم فوق بعض درجات) *.
وامتنع الجمهور من جواز ذلك، ونسبوا قائله إلى الفجور، وقالوا:
يستخلف من يغيب أو يموت، والله - سبحانه وتعالى - لا يغيب ولا يموت، وقد قيل لأبي بكر الصديق، رضي الله عنه: يا خليفة الله فقال: لست بخليفة الله، ولكني خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم (1).
ومع ذلك فلقد روى أبو داود في سننه بسنده عن شريك عن سليمان الأعمش، قال: جمعت مع الحجاج فخطب، فذكر حديث أبي بكر بن عياش، قال فيها: فاسمعوا وأطيعوا لخليفة الله وصفيه عبد الملك بن مروان - وساق الحديث (2).
غير أن كلام الحجاج الثقفي ليس بحجة، حتى أنه - في نفس الصفحة - إنما يفضل خليفة المرء على رسوله، روى أبو داود في سننه بسنده عن المغيرة عن الربيع بن خالد الضبي قال: سمعت الحجاج يخطب، فقال في خطبته:
رسول أحدكم في حاجته أكرم عليه، أم خليفته في أهله، فقلت في نفسي: لله على ألا أصلي خلفك صلاة أبداً، وإن وجدت قوماً يجاهدونك، لأجاهدنك معهم - زاد إسحاق في حديثه، قال: فقال في الجماجم حتى قتل (3).
____________
(1) الماوردي: الأحكام السلطانية ص 15.
(2) سنن أبي داود 2 / 514 (ط الحلبي - القاهرة 1371 هـ/ 1952).
(3) سنن أبي داود 2 / 514.
1 - الخليفة:
كان أبو بكر الصديق رضي الله عنه، أول الخلفاء الراشدين، قد لقب بلقب خليفة رسول الله، إذ كان يقوم مقام الرسول في حكم الدولة الإسلامية، والمحافظة على الدين - وكان عمر - في بدء خلافته - يلقب بلقب خليفة رسول الله.
روى البلاذري (أحمد بن يحيى بن جابر - المتوفى 279 هـ/ 892 م) أن بلال مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقف بباب النبي صلى الله عليه وسلم، ويقول: السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته، حي على الصلاة، حي على الفلاح، الصلاة يا رسول الله.
فلما ولي أبو بكر (11 - 13 هـ/ 632 - 634 م) كان المؤذن يقف بالباب، ويقول: السلام عليك يا خليفة رسول الله، ورحمة الله وبركاته، حي على الصلاة، حي على الفلاح، الصلاة يا خليفة رسول الله.
. من خلافة عمر بن الخطاب (13 - 23 هـ/ 644 م)، كان المؤذن يردد هذه الكلمات، مبتدئاً بقوله: السلام عليك يا خليفة رسول الله (1).
والخليفة - كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية (661 - 728 هـ/ 1263 - 1328 م) - هو من كان خلفاً عن غيره (فعلية بمعنى فاعلة)، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول اللهم أنت الصاحب في الفسر، والخليفة في الأهل، وقال صلى الله عليه وسلم من جهز غازيا فقد غزا، ومن خلفه في أهله فقد غزا (2).
وفي القرآن * (سيقول المخلفون من الأعراب) * (3) و * (فرح المخلفون
____________
(1) حسن إبراهيم: تاريخ الإسلام السياسي 1 / 438 - 439 - القاهرة 1964).
(2) ابن تيمية: مجموع فتاوي شيخ الإسلام أحمد بن تيمية 35 / 43 (الرياض 1386 هـ).
(3) سورة الفتح: آية 11.
أن الله هو العالم الكبير، بناء على أصلهم الكفري في وحدة الوجود، وأن الله هو عين وجود المخلوقات، فالإنسان من بين المظاهر، هو الخليفة الجامع الأسماء والصفات (2).
ثم يقول ابن تيمية: والله لا يجوز له خليفة، ولهذا لما قالوا لأبي بكر:
يا خليفة الله، قال: لست بخليفة الله، ولكني خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، حسبي ذلك، بل هو سبحانه يكون خليفة لغيره، قال النبي صلى الله عليه وسلم: اللهم أنت الصاحب في السفر، والخليفة في الأهل، اللهم اصحبنا في سفرنا، واخلفنا في أهلنا.
وبدهي أن ذلك لأن الله تعالى، حي، شهيد، مهيمن، قيوم، رقيب، حفيظ، غني عن العالمين، ليس له شريك ولا ظهير، ولا يشفع أحد عنده إلا بإذنه.
والخليفة إنما يكون عند عدم المستخلف، بموت أو غيبة، ويكون لحاجة المستخلف إلى الاستخلاف، وسمى خليفة، لأنه خلف عن الغزو، وهو قائم خلفه، وكل هذه المعاني منتفية في حق الله تعالى، وهو منزه عنها، فإنه حي قيوم، شهيد، لا يموت ولا يغيب، وهو غني يرزق ولا يرزق، يرزق عباده وينصر هم ويهديهم ويعافيهم، بما خلقه من الأسباب التي هي من خلقه، والتي هي مفتقرة إليه، كافتقار المسببات إلى أسبابها، فالله هو الغني الحميد له منا في
____________
(1) سورة التوبة: آية 81.