فقال له العباس: لم أرفعك في شئ، إلا رجعت إلي مستأخراً بما أكره، أشرت عليك عند وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن تسأله فيمن هذا الأمر، فأبيت، وأشرت عليك حين سماك عمر في الشورى، ألا تدخل معه فأبيت، أحفظ عني واحدة، كلما عرض عليك القوم فقل: لا، إلا أن يولوك، واحذر هؤلاء الرهط، فإنهم لا يبرحون يبعدوننا عن هذا الأمر، حتى يقوم لنا به غيرنا، وأيم الله لا تناله إلا بشر، لا ينفع معه خير، فقال على: أما لئن بقي عثمان لأذكرنه ما أتى، ولئن مات ليتداولنها بينهم، ولئن فعلوا لتجدني حيث يكرهون (1).
وجمع المقداد بن عمرو أهل الشورى - في بيت المال أو بيت المسور بن مخرمة أو في حجرة عائشة أو في بيت فاطمة أخت الضحاك بن قيس، على اختلاف في الآراء - وجاء عمرو بن العاص والمغيرة بن شعبة، فحصد بهما سعد، وقال: تريدان أن تقولا: حضرنا وكنا في الشورى، وتكلم عثمان - وكان أكبرهم سناً، فقد كان في التاسعة والسبعين - ثم تكلم الزبير ثم سعد، ثم تكلم الإمام علي - وكان أصغرهم سناً، بعد الأربعين بعام أو عامين - فقال: الحمد لله الذي بعث محمداً منا نبياً، وبعثه إلينا رسولاً، فنحن بيت النبوة، ومعدن الحكمة، وأمان أهل الأرض، ونجاة لمن طلب، لنا حق، إن نعطه نأخذه، وإن نمنعه نركب أعجاز الإبل، ولو طال السرى، لو عهد إلينا رسول الله عهداً لأنفذنا عهده، ولو قال لنا قولاً لجادلنا عليه حتى نموت، لن يسرع أحد قبلي إلى دعوة حق، وصلة رحم، لا حول ولا قوة إلا بالله، اسمعوا كلامي، وعوا منطقي، عسى أن تروا هذا الأمر، بعد هذا المجمع تنتضي فيه السيوف، وتخان فيه العهود، حتى تكونوا جماعة، ويكون بعضكم أئمة لأهل الضلال، وشيعة لأهل الجهالة (1).
____________
(1) تاريخ الطبري 4 / 229 - 230، الكامل لابن الأثير 3 / 67 - 68.
(2) ابن الأثير: الكامل في التاريخ 3 / 73.
واختلى عبد الرحمن بالإمام علي ثم بعثمان، وبين لكل منهما حقه، ثم قال لكل منهما: إذا صرف عنك هذا الأمر، من تراه أحق به؟ فأجاب علي:
عثمان، وأجاب عثمان: علي، ثم قال الإمام علي لسعد بن أبي وقاص:
واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام وأسألك برحم بني هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورحم عمي حمزة (وهو خال سعد)، ألا تكون مع عبد الرحمن ظهيراً لعثمان علي.
ومضى عبد الرحمن إلى رؤساء الجند، وأشراف الناس يشاورهم، حتى إذا ما كانت الليلة التي في صبيحتها يستكمل الأجل المضروب - وهو ثلاثة أيام - أتى إلى منزل ابن أخته المسور بن مخرمة في آخر الليل، فأيقظه وقال له:
انطلق فادع الزبير وسعداً، فلما حضرا حاول أن يقنعهما بالبيعة لعثمان، وطبقاً لرواية الطبري قال لسعد: أنت وأنا كلالة، فاجعل نصيبك لي فأختار، قال: إن اخترت نفسك فنعم، وإن اخترت عثمان، فعلي أحب إلي، وأما الزبير فقال:
نصيبي لعلي، ثم دعا عبد الرحمن علياً وعثمان، وانصرف علي - كرم الله وجهه في الجنة - وهو لا يشك أنه صاحب الأمر.
فلما صلى الصبح بهم صهيب جمع عبد الرحمن أهل الشورى الخمسة
فقال عمار: أيها الناس، إن الله أكرمنا بنبيه، وأعزنا بدينه، فأنى تصرفون هذا الأمر عن أهل بيت نبيكم، فقام رجل من بني مخزوم فقال: لقد عدوت طورك يا ابن سمية، وما أنت و تأمير قريش لنفسها، وأوشكت النعرات الجاهلية أن تثور بين القوم، فقال سعد: يا عبد الرحمن، أفرغ قبل أن يفتتن الناس.
فارتقى عبد الرحمن المنبر وقال: أيها الناس، إني سألتكم سراً وجهراً، من إمامكم؟ فلم أجدكم تعدلون بأحد هذين الرجلين - علي وعثمان - فدعا علياً وقال له: عليك عهد الله و ميثاقه لتعملن بكتاب الله وسنة رسول الله، وسيرة الخليفتين بعده، قال: أرجو أن أفعل، فأعمل بمبلغ علمي وطاقتي، ودعا عثمان فقال: له مثل ما قال لعلي، فقال: نعم، فبايعه، ودعا الناس إلى بيعته.
فقال علي: ليس هذا أول يوم تظاهرتم فيه علي، فصبر جميل، والله المستعان على ما تصفون، أما و الله ما وليت عثمان، إلا ليرد الأمر إليك (1)،
____________
(1) روي أن عثمان اعتل علة، فدعا حمران بن أبان، وكتب عهداً لمن بعده، وترك موضع الاسم، ثم كتبه بيده عبد الرحمن بن عوف، وربطه وبعثه إلى أم حبيبة بنت أبي سفيان، فقرأه حمران في الطريق، فأتى عبد الرحمن فأخبره، فقال عبد الرحمن - وقد غضب غضباً شديداً - استعملته علانية ويستعملني سراً، وانتشر الخبر في المدينة، وغضب بنو أمية، فدعا عثمان بمولاه حمران، فضربه مائة سوط، وسيره إلى البصرة، فكان ذلك سبب العداوة بين عبد الرحمن وعثمان (تاريخ اليعقوبي 2 / 169).
سيبلغ الكتاب أجله.
وروى ابن الأثير بسنده عن أبي بكر عن عياش عن عاصم عن أبي وائل قال: قلت لعبد الرحمن بن عوف: كيف بايعتم عثمان وتركتم علياً؟ فقال: ما ذنبي؟ قد بدأت بعلي فقلت: أبايعك على كتاب الله وسنة نبيه وسيرة أبي بكر وعمر، قال فقال: فيما استطعت، قال: ثم عرضتها على عثمان فقبلها (رواه ابن حنبل في مسنده 1 / 57).
وقال المقداد: أما والله لقد تركته من الذين يقضون بالحق، وبه يعدلون:
فقال: يا مقداد: والله لقد اجتهدت للمسلمين، قال: إن كنت أردت بذلك الله، فأثابك الله ثواب المحسنين.
وروى اليعقوبي في تاريخه: ومال قوم مع علي بن أبي طالب، وتحاملوا في القول على عثمان، فروى بعضهم قال: دخلت مسجد رسول الله، فرأيت رجلاً جاثياً على ركبتيه يتلهف تلهف من كأن الدنيا كانت له فسلبها، وهو يقول: واعجباً لقريش، ودفعهم هذا الأمر على أهل بيت نبيهم، وفيهم أول المؤمنين، وابن عم رسول الله، أعلم الناس وأفقههم في دين الله، وأعظمهم عناء في الإسلام، وأبصرهم بالطريق، وأهداهم للصراط المستقيم، والله لقد زووها عن الهادي المهتدي، الطاهر النقي، وما أرادوا إصلاحاً للأمة، ولا صواباً في المذهب، ولكنهم آثروا الدنيا على الآخرة، فبعداً وسحقاً للقوم الظالمين، فدنوت منه فقلت: من أنت يرحمك الله، ومن هذا الرجل؟.
فقال: أنا المقداد بن عمرو، وهذا الرجل، علي بن أبي طالب، قال:
فقلت: ألا تقوم بهذا الأمر فأعينك عليه؟ فقال: يا ابن أخي، إن هذا الأمر لا يجري فيه الرجل ولا الرجلان، ثم خرجت، فلقيت أبا ذر، فذكرت له ذلك،
وروي أن الإمام علي قال: إن الناس ينظرون إلى قريش، وقريش تنظر إلى بيتها فتقول: إن ولي عليكم بنو هاشم لم تخرج منهم أبداً، وما كانت في غيرهم من قريش تداولتموها بينكم.
وسرعان ما حدث هرج ومرج، ورأى الإمام علي أن اختلاف الناس قد يؤدي إلى الفتنة، فشق الناس حتى بايع، وهو يقول: خدعة أيما خدعة، ثم ارتقى المنبر فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: لقد علمتم أني أحق الناس من غيري، والله لأسلمن ما سلمت أمور المسلمين، ولم يكن فيها جور، إلا علي خاصة، التماساً لأجر ذلك وفضله.
وفي أسد الغابة بسنده عن يحيى بن عروة المرادي قال: سمعت علياً رضي الله عنه يقول: قبض النبي صلى الله عليه وسلم، وأنا أرى أني أحق بهذا الأمر، فاجتمع المسلمون على أبي بكر، فسمعت وأطعت، ثم إن أبا بكر أصيب، فظننت أنه لا يعدلها عني، فجعلها في عمر، فسمعت وأطعت، ثم إن عمر أصيب، فظننت أنه لا يعدلها عني، فجعلها في ستة أنا أحدهم، فولوها عثمان، فسمعت وأطعت، ثم إن عثمان قتل، فجاءوا فبايعوني - طائعين غير مكرهين - ثم خلعوا بيعتي، فوالله ما وجدت إلا السيف أو الكفر بما أنزل، عز وجل، على محمد صلى الله عليه وسلم.
وهكذا بايع الإمام علي الخليفة الجديد - رغم اقتناعه أنه أحق الناس بالخلافة - بل ودعا الناس إلى بيعته، وخاصة أولئك الذين رأوا في اختيار عثمان ظلماً للإمام علي، سواء أكانوا من بني هاشم، أو من أهل الورع والسابقة في الإسلام - مثل سلمان وعمار وأبي ذر والمقداد وغيرهم من رواد شيعة الإمام - حتى لا يتحول هذا الشعور في أعماقهم إلى مرارة، وربما إلى نقمة على عثمان، وحرصاً على أن يطيع الجميع ولي الأمر الجديد، وأن يكون الإمام علي
وروى الطبري وابن الأثير: أن المغيرة بن شعبة قال لعبد الرحمن بن عوف: يا أبا محمد، قد أصبت إذا بايعت عثمان، وقال لعثمان: لو بايع عبد الرحمن غيرك ما رضينا، فقال عبد الرحمن: كذبت يا أعور، لو بايعت غيره لبايعته، ولقلت هذه المقالة، وعلى أية حال، فلقد تمت البيعة بحضور طلحة من سفره، ومبايعته لعثمان (1).
ولعل من الأهمية بمكان الإشارة إلى عدة نقاط تتصل بقصة الشورى، وبيعة عثمان خليفة للمسلمين: منها (أولاً) أن الفاروق عمر، رضي الله عنه، إنما كان يريد اختيار الإمام علي - رضي الله عنه. وكرم الله وجهه في الجنة - لأن الإمام - فيما يرى - أحرى أن يحملهم على الحق، ولكنه تردد أخيراً، حتى لا يتحمل مسؤولية الخلافة حياً وميتاً، ومن ثم فقد لجأ إلى الشورى، ومع ذلك فإنه يقول - حين أوصى بالشورى - لو ولوها الأحيلج لحملهم على الجادة، أو إنه أحراهم - إن كان عليهم - أن يقيمهم على طريقة من الحق، ولعله كان في هذا مقتدياً بقوله صلى الله عليه وسلم: وإن تؤمروا علياً - ولا أراكم فاعلين - تجدوه هادياً مهدياً، يأخذ بكم الصراط المستقيم.
هذا فضلاً عما يتحلى به الإمام علي - رضوان الله عليه - من فضائل كثيرة،
____________
(1) أنظر عن قصة الشورى (تاريخ الطبري 3 / 227 - 239، الكامل لابن الأثير 3 / 65 - 75، تاريخ اليعقوبي 2 / 162 - 163، ابن قتيبة: الإمامة والسياسة 1 / 39 - 745 الماوردي: الأحكام السلطانية ص 11 - 13، تاريخ ابن خلدون 2 / 993 - 998، شرح نهج البلاغة 1 / 185 - 197، ابن كثير: البداية والنهاية 7 / 158 - 161، البلاذري: أنساب الأشراف 5 / 16 - 22، ابن دقماق:
الجوهر الثمين في سير الخلفاء والملوك والسلاطين ص 39 - 40، السيوطي: تاريخ الخلفاء ص 153 - 154، العقاد: ذو النورين - عثمان بن عفان ص 126 - 152، ابن عبد ربه: العقد الفريد 5 / 26 - 36 أسد الغابة 3 / 592 - 593، 4 / 112، محمد بيومي مهران: الإمام علي بن أبي طالب 1 / 163 - 173، شرح نهج البلاغة 12 / 256 - 281، طبقات ابن سعد 3 / 41 - 42، طه حسين: الفتنة الكبرى - الجزء الأول - عثمان - القاهرة 1984 ص 48 - 49، 58 - 64.
ولا ريب في أن الفاروق عمر إنما كان صاحب فراسة صادقة، وحدس يكاد لا يخطئ، أو نادراً ما يخطئ حين أشار بتولية الإمام علي، فقد كان يراه أشبه الناس به - أو هو أشبه الناس به - في شدته في الحق، و إذعانه للحق، وغلظته على الذين ينكرون الحق أو يضيقون به، ولكن القوم لم يولوا الإمام بعد الفاروق، حين كانت الدنيا مقبلة، والنشاط قوياً، و الإقدام قارحاً، والبصائر نافذة، والأمور تجري بالمسلمين على ما أحبوا، و إنما ولوا خلافتهم عثمان، فكان من أمرهم معه، وأمره معهم ما كان.
ومنها (ثانياً) أن أصحاب الشورى الخمسة الذين حضروا مجلس الشورى - وهم علي وعثمان والزبير وسعد وعبد الرحمن - كان ثلاثة منهم مع علي - وهم علي والزبير وسعد - وقد ذكرنا من قبل: أن عبد الرحمن طلب أن يعطيه سعد نصيبه، فقال: إن اخترت نفسك فنعم، وإن اخترت عثمان فعلي أحب إلي، وأن الزبير أعطى نصيبه لعلي، هذا إذا سلمنا أن عبد الرحمن كان في صف صهره عثمان، وطبقاً لوصية عمر في الشورى فصاحب الأغلبية هو الخليفة، وعلي هو صاحب الأغلبية.
ومن ثم فإن هاشم - فضلاً عن شيعة الإمام علي - رأوا فيما فعله عبد الرحمن خدعة لإقصاء الإمام علي وبني هاشم عن الخلافة.
على أن الدكتور جمال سرور، من ناحية أخرى، إنما يذهب إلى أن طلب عبد الرحمن من الإمام علي، أن يتعهد بأن يسير بسيرة الخليفتين - أبي بكر وعمر - وهو يعلم أن علياً لا يرضى أن يتقيد بسياستهما، إنما أراد أن يحرجه، ليفسح المجال لاختيار عثمان، وسرعان ما تحقق غرضه، فقد تحرج الإمام علي من أن يعطي هذا العهد خشية أن تضطره الظروف إلى عدم الوفاء به، وعبر عن رفضه له بقوله: اللهم لا، ولكن على جهدي من ذلك وطاقتي، وفي رواية:
أرجو أن أفعل، فأعمل بمبلغ علمي وطاقتي. ثم دعا عبد الرحمن عثمان، وقال له مثل ما قال لعلي، فقال عثمان: اللهم نعم، فرفع عبد الرحمن رأسه إلى سقف المسجد، ويده في يد عثمان، ثم قال: اللهم اسمع واشهد، إني جعلت ما في رقبتي في رقبة عثمان، فازدحم الناس على عثمان يبايعونه.
وهكذا كان انتخاب عثمان مصطبغاً بصبغة التحيز للأمويين، وقد وجدت هذه النتيجة - من أول الأمر - معارضة من الهاشميين، فضلاً عن أهل الورع والسبق في الإسلام، مثل سلمان وعمار وأبي ذر والمقداد وغيرهم من رواد شيعة الإمام، حتى ذهب البعض إلى أن التشيع إنما بدأ منذ تلك اللحظة.
هذا ويذهب الدكتور أحمد صبحي (1) إلى أن عبد الرحمن بن عوف قد بنى
____________
(1) أحمد محمود صبحي: الزيدية - الإسكندرية 1980 ص 10.
ومنها (ثالثاً) ما ذهب إليه الأستاذ الخطيب (1)، من أن انتقال الخلافة من شخص إلى شخص، ومن بيت إلى بيت، من شأنه أن يحدث في مشاعر الناس وفي أفكارهم شيئاً جديداً، يتولد من نظرتهم لهذا الشخص وتقديرهم له، وصلتهم النفسية أو النسبية به وبأهله، وقد حدث شئ من هذا في خلافة الصديق والفاروق، فرضي أناس، وسخط آخرون، ولكن سرعان ما فاء الساخطون إلى الرضا،، فقد كان الناس قريبي عهد بالنبوة، وأمرهم لم يزل قائماً لحساب الدين وفي ظله، أكثر من قيامه لحساب العصبية وفي ظلها.
غير أن خلافة ذي النورين - عثمان بن عفان - إنما كان الأمر فيها مختلفاً، لأسباب، منها أن الزمن كان قد تراخى قليلاً بعهد النبوة، فانطلقت النفوس على طبيعتها، وتحركت النزوات والأطماع التي كان الدين قد اعتقلها زمناً، ومنها أن الصديق أبا بكر والفاروق عمر، لم يكونا من البيوت المتنازعة على زعامة قريش، بعكس عثمان - وهو أموي - ومن ثم فقد تحركت العصبية التي كانت قائمة قبل الإسلام بين بني أمية وبني هاشم، بل لقد ظن الأمويون أن هذه فرصتهم للحاق ببني هاشم، وأن الخلافة ستعيد إليهم مكانتهم التي كانت لهم
____________
(1) عبد الكريم الخطيب: علي بن أبي طالب - بقية النبوة وخاتم الخلافة - بيروت 1975.
ونمي هذا القول إلى المهاجرين والأنصار، وغير ذلك الكلام، فقام عمار ابن ياسر في المسجد، فقال: يا معشر قريش، أما إذ صرفتم هذا الأمر عن أهل بيت نبيكم، ههنا مرة، وههنا مرة، فما أنا ينزعه الله منكم، فيضعه في غيركم، كما نزعتموه من أهله، ووضعتموه في غير أهله.
وقال المقداد: ما رأيت مثل ما أوذي به أهل هذا البيت بعد نبيهم، فقال له عبد الرحمن بن عوف: وما أنت وذاك يا مقداد بن عمر، فقال المقداد: إني والله لأحبهم، لحب رسول الله صلى الله عليه وسلم إياهم، وإن الحق معهم وفيهم، يا عبد الرحمن، أعجب من قريش - وإنما تطولهم على الناس بفضل أهل هذا البيت - قد اجتمعوا على نزع سلطان رسول الله صلى الله عليه وسلم، بعده من أيديهم، أما وأيم الله يا عبد الرحمن، لو أجد على قريش أنصاراً لقاتلهم، كقتالي إياهم مع النبي عليه الصلاة والسلام، يوم بدر (1).
ومنها أن عثمان كان سخي اليد، سمح النفس، قريب الرضا، بعيد الغضب، كما كان فيه حياء حي، يملك عليه أمره، إنه يلقى أحداً بما يسوؤه أو يحرجه أو يخزيه، هذا إلى أنه - كما وصفه الإمام علي - إنه أوصلنا للرحم، وفي طبقات ابن سعد عن الزهري قال: لما ولي عثمان عاش اثنتي عشرة سنة أميراً، يعمل ست سنين لا ينقم الناس عليه شيئاً، وإنه لأحب إلى قريش من عمر بن الخطاب، لأن عمر كان شديداً عليهم، فلما وليهم عثمان لان لهم ووصلهم، ثم توانى في أمرهم، واستعمل أقرباءه وأهل بيته في الست الأواخر،
____________
(1) المسعودي: مروج الذهب ومعادن الجوهر 1 / 633 (بيروت 1982).
وقال: إن أبا بكر وعمر تركا من ذلك ما هو لهما، وإني أخذته فقسمته في أقربائي، فأنكر الناس عليه، وعن أم بكر بنت المسور عن أبيها عن أبيها قال: سمعت عثمان يقول: أيها الناس، إن أبا بكر وعمر كانا يتأولان في هذا المال ظلف أنفسهما وذوي أرحامهما وإني تأولت فيه صلة رحمي (1).
ومن عجب أن صلة رحم عثمان بأهله وبره بهم، إنما كانت من الأسباب التي أدت إلى تغيير مجرى الأحداث، حتى انتهت بقتله شهيداً بين يدي كتاب الله، فلقد استغل بنو أمية أدب ذي النورين في صلة رحمه، أسوأ استغلال، فكان عثمان - وهو القانت ذو النورين - يصوم الدهر، وما يكاد يشبع من طعام، ثم يمنح أبا سفيان مائتي ألف دينار (2)، ويسمح لأعوانه أن يتخذوا
____________
(1) طبقات ابن سعد 3 / 44 (دار التحرير - القاهرة 1969).
(2) ليس صحيحاً ما ذهبت إليه بعض المراجع عن غنى أبي سفيان وثروته الطائلة من التجارة على أيام الجاهلية وأول الإسلام، ودليلنا أن ولده معاوية بن أبي سفيان كان على أيام النبي صلى الله عليه وسلم، فقيراً وربما معدماً، وقد روى أهل الفقه والحديث والمغازي وأصحاب الطبقات ما يدل على ذلك في قصة فاطمة بنت قيس، حيث روى الأئمة مالك ومسلم وأبو داود وابن قيم الجوزية وابن سعد وابن الأثير وابن حجر العسقلاني، واللفظ هنا للإمام مالك، حيث يروي في الموطأ (باب ما جاء في نفقة المطلقة) بسنده عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف، عن فاطمة بنت قيس: أن أبا عمر بن حفص طلقها البتة - وهو غائب بالشام - فأرسل إليها وكيلة بشعير فسخطته، فقال: والله ما لك علينا من شئ، فجاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكرت ذلك له، فقال: ليس لك عليه نفقة، وأمرها أن تعتد في بيت أم شريك، ثم قال: تلك امرأة يغشاها أصحابي، اعتد عند عبد الله بن أم مكتوم، فإنه رجل أعمى، تضعين ثيابك عنده، فإذا حللت فأذنيني، قالت: فلما حللت ذكرت له: أن معاوية بن أبي سفيان، وأبا جهم بن هشام، خطباني، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
أما أبو جهم فلا يضع عصاه عن عاتقه، وأما معاوية فصعلوك، لا مال له، انكحي أسامة بن زيد، فنكحته، فجعل الله في ذلك خيراً، واغتبطت به (الموطأ ص 358 - 359، صحيح مسلم 10 / 94 - 98، سنن أبي داود 1 / 531 - 532، ابن الأثير: أسد الغابة 7 / 230، ابن حجر:
الإصابة في معرفة الصحابة 3 / 497 - 498، ابن قيم الجوزية: زاد المعاد 5 / 185 - 186، ابن سعد: الطبقات الكبرى 8 / 200.
=>
وكان عثمان قد أخذ نفسه بورع الخلافة والإمامة والسنة الشريفة، ولكن عماله وأقاربه قد تسلطوا على رقاب الناس، فأخذوا الرعية بسياسة الملك العضوض، و ليس بسياسة الإمامة الورعة، ثم رأى الخليفة أنه من البر بذوي القربى ألا يسوءهم فتمادوا في مظالمهم، يحبسون مخالفيهم ويضربونهم بالسياط، وهم من خيرة الصحابة البررة الأمر الذي أثار ثائرة الناس على الخليفة، وسرعان ما وجد أعداء الإسلام من تفرق الشمل، ثغرة تسللوا منها، ومن ثم فليت الخليفة الشهيد أخذ عماله بسياسة عمر، ولكنه كان رفيقاً بهم، فرتعوا حتى سخطت الرعية، وانتهت الأمور بقتل الخليفة المظلوم، رضوان الله عليه -.
بقيت الإشارة إلى أن ابن خلدون، رغم أنه إنما يرى أن بداية التشيع إنما كان عندما توفي سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، غير أن الشيعة إنما وضح أمرها في أيام الشورى، حيث يقول: كان جماعة من الصحابة يتشيعون لعلي، ويرون
____________
<=
وروى الطبري وابن الأثير وابن أبي الحديد بسنده عن زيد بن أسلم عن أبيه قالوا: إن هند
ابنة عتبة قامت إلى عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، فاستقرضته من بيت المال أربعة آلاف
درهم، تتجر فيها وتضمنها، فأقرضها، فخرجت فيها إلى بلاد كلب، فاشترت وباعت، فبلغها أن
أبا سفيان وعمرو بن أبي سفيان قد أتيا معاوية (وكان أميراً في الشام) فعدلت إليه من بلاد
كلب، فأتت معاوية - وكان أبو سفيان قد طلقها، قال: ما أقدمك أي أمة؟ قالت النظر إليك أي
بني، إنه عمر، وإنما يعمل لله، وقد أتاك أبوك فخشيت أن تخرج إليه من كل شئ، وأهل ذلك
هو، فلا يعلم الناس من أين أعطيته فيؤنبونك، عمر، فلا يستقيلها أبداً، فبعث إلى أبيه
وأخيه بمائة دينار، وكساهما و حملهما، فتعظمها عمر، فقال أبو سفيان: لا تعظمها، فإنه عطاء
لم تغب عنه هند، ومشورة قد حضرتها هند، ورجعوا جميعاً، فقال أبو سفيان لهند: أربحت؟
فقالت: الله أعلم، معي تجارة إلى المدينة، فلما أتت المدينة وباعت شكت الوضيعة، فقال لها
عمر: لو كان مالي لتركته لك، ولكنه مال المسلمين، هذه مشورة لم يغب عنها أبو سفيان،
فبعث إليه، فحبسه حتى أوفته، وقال لأبي سفيان: بكم أجازك معاوية، فقال: بمائة دينار
(تاريخ الطبري 4 / 221، ابن الأثير: الكامل في التاريخ 3 / 62، ابن أبي الحديد: شرح نهج
البلاغة 12 / 98).
رابعاً: منذ أخريات أيام عثمان:
يميل كثير من كتاب الفرق والباحثين المحدثين إلى أن يرجعوا بداية التشيع إلى أواخر عهد عثمان، أو إلى حركة ابن سبأ بتعبير أدق، فأبو الحسن الملطي، حينما يذكر الاثني عشرة فرقة من أهل الضلال الرافضة الملقبين بالإمامية، إنما يجعل السبئية على رأسهم، دونما أدنى تفرقة في الحكم بينهم وبين الإمامية، فكلهم - في زعمه - روافض ملحدون، ومنشأ التشيع من ابن سبأ (2).
هذا ويذهب الأستاذ الدكتور النشار بعيداً، حيث يرى أن اليهود إنما هم مؤسسو العقيدة الشيعية الغالية الحقيقيين، فقد دخل بعض أحبارهم - أو كهانهم - في الإسلام، وتقدموا إلى العالم الإسلامي، منتهزين إبعاد علي عن الخلافة، بفكرة الإمام المعصوم، أو خاتم الأوصياء، وتكاد تجمع كتب العقائد الإسلامية على أن عبد الله بن سبأ - وهو أول من دعا إلى فكرة القداسة التي نسبت إلى علي - كان يهودياً.
ويؤكد الدكتور النشار أن الفكرة التي تقول إن الإمام علي - رضي الله عنه، وكرم الله وجهه في الجنة - إنما هو صاحب الحق الأول في الخلافة، لم تظهر إلا على أيام عثمان، على يد عبد الله بن سبأ، والذي كان يمثل تباراً باطنياً من
____________
(1) تاريخ ابن خلدون 3 / 364 - 365.
(2) أحمد صبحي: نظرية الإمامة لدى الشيعة الاثني عشرية ص 35 (القاهرة 1969)، أبو الحسين الملطي: التنبيه والرد على أهل الأهواء والبدع ص 25.
والأمر كذلك بالنسبة إلى القصيمي، الذي يعتبر ابن سبأ أساس المذهب الشيعي، والحجر الأول في بنائه (2).
ويذهب المقريزي إلى أن ابن سبأ - ويكنيه بابن السوداء - هو الذي أحدث القول بوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي بالإمامة من بعده، فهو وصي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخليفته على أمته من بعده بالنص، وأحدث القول برجعة علي، وبرجعة رسول الله صلى الله عليه وسلم أيضاً، وزعم أن علياً لم يقتل، وأنه حي، وأن فيه الجزء الإلهي، وأنه هو الذي يجئ في السحاب، وأن الرعد صوته، والبرق سوطه، وأنه لا بد أن ينزل إلى الأرض فيملأها عدلاً، كما ملئت جوراً، ومن ابن سبأ تشعبت أصناف الغلاة من الرافضة، وصاروا يقولون بالوقف، أي إن الإمامة موقوفة على أناس معينين، وهو صاحب القول بتناسخ الأرواح، وأن الجزء الإلهي يحل في الأئمة بعد علي بن أبي طالب، وبهذا فقد استحقوا الإمامة بطريق الوجوب، كما استحق آدم عليه السلام سجود الملائكة، وابن سبأ هو الذي أثار الفتنة على عثمان حتى قتل، وأن له أنصاراً في معظم الأقطار، فكثرت الشيعة (3).
ويذهب الشيخ أبو زهرة إلى أن الطاغوت الأكبر - عبد الله بن سبأ - إنما هو الذي دعا إلى ولاية علي ووصايته وإلى رجعة النبي، وأنه في ظل هذه الفتن نشأ المذهب الشيعي (4).
ويخطئ أصحاب هذا الاتجاه في رؤياهم لأسباب منها (أولاً) أن عبد الله بن سبأ، لو كان هو منشأ التشيع في الإسلام، لما هاجمه علماء الشيعة هجوماً يفوق هجوم أهل السنة، ومنها (ثانياً) أن كلمة الوصي بخاصة، والتي
____________
(1) علي سامي النشار: نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام 2 / 23 - 27.
(2) عبد الله القصيمي: الصراع بين الإسلام والوثنية ص 41.
(3) المقريزي: الخطط 4 / 82، وانظر: علي مصطفى الغرابي: تاريخ الفرق الإسلامية ص 17 (القاهرة 1959).
(4) محمد أبو زهرة: المذاهب الإسلامية ص 46.
وروى الهيثمي في مجمعه بسنده عن أبي الطفيل قال: خطبنا الحسن بن علي، عليهما السلام، فحمد الله وأثنى عليه، وذكر أمير المؤمنين علياً، رضي الله عنه، خاتم الأوصياء، ووصي الأنبياء، وأمين الصديقين والشهداء (2)، وروى الهيثمي في مجمعه بسنده عن سلمان قال: قلت يا رسول الله، إن لكل نبي وصياً فمن وصيك، فسكت عني، فلما كان بعد رآني فقال: يا سلمان، فأسرعت إليه قلت: لبيك، قال: تعلم من وصي موسى عليه السلام؟ قلت:
يوشع بن نون، قال: لم؟ قلت: لأنه كان أعلمهم يومئذ، قال: فإن وصيي وموضع سري، وخير من أترك بعدي، وينجز عدتي، ويقضي ديني، علي بن أبي طالب (قال رواه الطبراني) (3).
وروى ابن حجر في تهذيب التهذيب بسنده عن أنس عن سلمان قال: قال رسول الله صلى الله عليه السلام لعلي: هذا وصيي وموضع سري، وخير من أترك بعدي (4)، وفي
____________
(1) المستدرك للحاكم 3 / 172، وانظر: المحب الطبري: ذخائر العقبى ص 138.
(2) مجمع الزوائد للهيثمي 9 / 146.
(3) مجمع الزوائد 9 / 113 (ط مكتبة القدسي - القاهرة 1352 هـ).
(4) ابن حجر العسقلاني: تهذيب التهذيب 3 / 106 (حيدر أباد الدكن 1325 هـ).
وروى الإمام أحمد في الفضائل بسنده عن مطر عن أنس - يعني ابن مالك - قال: قلنا لسلمان: سل النبي صلى الله عليه وسلم، من وصيه؟ فقال له سلمان:
يا رسول الله من وصيك، قال: يا سلمان من كان وصي موسى؟ قال: يوشع بن نون، قال: فإن وصيي ووارثي، يقضي ديني، وينجز عدتي، علي بن أبي طالب (2).
وفي رواية كنوز الحقائق: أنا خاتم الأنبياء، وأنت يا علي خاتم الأوصياء (قال أخرجه الديلمي)، وفي رواية أخرى: لكل نبي وصي ووارث، وعلي وصيي ووارثي (قال أخرجه الديلمي) (3).
ومنها (ثالثاً) أنه ليس صحيحاً أن التشيع كعقيدة تحمل آراء محدثة قد ظهرت في وقت مبكر على أيام عثمان، صحيح أنه ليس هناك ما يمنع أن يدخل في الإسلام بعض المنافقين ليكيدوا له، وصحيح كذلك ليس هنا ما يمنع أيضاً أن يستغل يهودي الأحداث التي جرت في عهد عثمان، ليحدث فتنة، وليزيدها اشتعالاً، ويؤلب الناس على عثمان، بل وأن ينادي بأفكار غريبة، ولكنه صحيح كذلك أنه من السابق لأوانه أن يكون لابن سبأ هذا الأثر الفكري العميق، فيحدث هذا الانشقاق العقائدي بين طائفة كبيرة من المسلمين.
ومن ثم فقد تشكك بعض الباحثين في وجود ابن سبأ هذا فكرياً، أي من ناحية أثره في التطور العقائدي للإسلام، فيقول برنارد لويس: ولكن
____________
(1) كنز العمال للمتقي الهندي 6 / 154 (حيدر أباد الدكن 1312 هـ).
(2) الإمام أحمد بن حنبل: كتاب فضائل الصحابة 2 / 615 (بيروت 1983 - نشر جامعة أم القرى بمكة المكرمة).
(3) عبد الرؤوف المناوي: كنوز الحقائق في أحاديث خير الخلائق ص 42 (إسلامبول 1285 هـ)،
وانظر: الخطيب البغدادي: تاريخ بغداد 10 / 356 (القاهرة 1329 هـ).