ويروي اليعقوبي في تاريخه من خطبة لأمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام، يوضح فيها المقصود من غرق الناس ونجاتهم بالأخذ عن أهل البيت، معادن العلم، ومصابيح الهدى، وأعلام الإمام، وتراجم النبوة، مع ما فيها من الدلالة على إمامة مولانا أمير المؤمنين علي وأولاده الطاهرين المطهرين، يقول فيها: (وإن الخير كله فيمن عرف قدره)... ثم يستمر في وصف من نصب نفسه قاضيا بين الناس، ووصف بالعلم، وليس هو من أهله:
مفتاح عشوات، خباط جهالات، لا يعتذر، مما لا يعلم فيسلم، ولا يعرض في العلم ببصيرة، يذرو الروايات ذرو الريح الهشيم، تصرخ منه الدماء، وتبكي منه المواريث، ويستحل بقضائه الفرج الحرام، فأين يتاه بكم، بل أين تذهبون عن أهل بيت نبيكم؟ إنا من سنخ أصلاب أصحاب السفينة، وكما نجا في هاتيك من نجا، ينجو في هذه من ينجو، ويل رهين لمن تخلف عنهم، إني فيكم كالكهف لأصحاب الكهف، وإني فيكم باب حطة (2) من دخل منه نجا، ومن تخلف عنه هلك، حجة من ذي الحجة في حجة الوداع، إني قد تركت بين أظهركم ما إن تمسكتم به، لن تضلوا بعدي أبدا، كتاب الله، وعترتي أهل بيتي) (3).
وروى صاحب كتاب (جواهر البخاري) في مقدمته عن ابن اليمن بن عساكر، أثناء ذكره أهل البيت الطاهرين (إنهم إن شاء الله الفرقة الناجية).
____________
(1) مهدي السماوي: الإمامة في ضوء الكتاب والسنة - ص 165 - 167 (القاهرة 1397 هـ / 1977 م).
(2) أنظر عن (باب حطة) (سورة البقرة: آية 58، سورة الأعراف: آية 161، وانظر: تفسير ابن كثير 1 / 147 - 151، 2 / 407 - 408، تفسير الطبري 2 / 103 - 111، 13 / 178).
(3) تاريخ اليعقوبي 2 / 211 - 212 (بيروت 1980)، مهدي السماوي: المرجع السابق ص 168.
فحديث السفينة، واختلاف الأمة، وكون فرقة ناجية من مجموع هذه الفرق، وتداول المسلمين هذه الأحاديث النبوية الشريفة بينهم - حتى في أغلب مجالسهم الخاصة - ليدل دلالة واضحة، على لزوم تحديد المسلم موقفه عقلا وشرعا.
وسفينة نوح، عندما أغرق الماء القوم الظالمين، وغطى عاليها سافلها، وأن لا منجى إلا بركوبها، وقد هلك من هلك، ولم ينج إلا راكبها - الأمر المعروف والمشهور عند كل أهل الأديان.
وآل محمد صلى الله عليه وسلم، إنما هم مثل سفينة نوح، لا ينجو إلا من تمسك بحبهم، واعتصم بولائهم، وأخذ بسببهم (2).
5 - قوله صلى الله عليه وسلم، في حديث الثقلين: إني مخلف فيكم، ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي، كتاب الله، وعترتي أهل بيتي:
روى الإمام مسلم في صحيحه بسنده عن زيد بن أرقم قال: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم، يوما فينا خطيبا بماء يدعى خما بين مكة والمدينة، فحمد الله
____________
(1) محمد السماوي: طرافة الأحلام ص 31، مهدي السماوي: المرجع السابق ص 169 - 170.
(2) نفس المرجع السابق ص 170.
وفي رواية: فقلنا من أهل بيته، نساؤه؟ قال: لا وأيم الله، إن المرأة تكون مع الرجل العصر من الدهر، ثم يطلقها فترجع إلى أبيها وقومها، أهل بيته أصله وعصبته، الذين حرموا لصدقة بعده) (2). ورواه الإمام أحمد في المسند (3)، والبيهقي في السنن (4)، والدارمي في سننه (5)، والمتقي في كنز العمال (6)، والطحاوي في مشكل الآثار (7).
وروى الترمذي في صحيحه بسنده عن أبي سعيد والأعمش عن حبيب بن أبي ثابت عن زيد بن أرقم قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني تارك فيكم، ما إن تمسكتم به، لن تضلوا بعدي، أحدهما أعظم من الآخر، كتاب الله، حبل ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي، ولن يفترقا حتى يردا على الحوض، فانظروا كيف تخلفوني فيهما) (8).
وفي رواية عن جابر بن عبد الله قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، في حجته يوم عرفة، وهو على ناقته القصوى يخطب فسمعته يقول: يا أيها الناس، إني قد
____________
(1) صحيح مسلم 15 / 179 - 180 (بيروت 1981).
(2) صحيح مسلم 15 / 181.
(3) مسند الإمام أحمد 4 / 366.
(4) سنن البيهقي 2 / 148، 7 / 30.
(5) سنن الدارمي 2 / 431.
(6) كنز العمال 1 / 45، 7 / 103.
(7) مشكل الآثار 4 / 368.
(8) صحيح الترمذي 2 / 308.
ورواه المتقي في كنز العمال، وقال: أخرجه ابن أبي شيبة والخطيب في المتفق والمفترق عن جابر (2). وروى الإمام أحمد في الفضائل بسنده عن زيد بن ثابت قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني تارك فيكم خليفتين، كتاب الله حبل ممدود ما بين السماء والأرض، وعترتي أهل بيتي، وإنهما لن يفترقا حتى يردا على الحوض (3).
وعن أبي الجحاف عن عطية عن أبي سعيد قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
تركت فيكم ما إن تمسكتم به، فلن تضلوا، كتاب الله وأهل بيتي (4).
وروى الإمام أحمد (أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني 164 هـ / 789 م - 241 هـ / 855 م) في الفضائل بسنده عن زيد بن ثابت قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، إني قد تركت فيكم خليفتين، كتاب الله، وعترتي أهل بيتي، وإنهما يردان على الحوض (5).
وعن عطية عن أبي سعيد قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني تارك فيكم الثقلين، أحدهما أكبر من الآخر، كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي، وإنهما لن يفترقا حتى يردا على الحوض (6).
وعن الأعمش عن عطية العوفي عن أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم
____________
(1) صحيح الترمذي 2 / 308.
(2) كنز العمال 1 / 48، فضائل الخمسة 2 / 45.
(3) فضائل الصحابة 2 / 603، وانظر منتخب مسند عبد بن حميد (938) من طريق شريك.
(4) فضائل الصحابة 1 / 171 - 172، وانظر مسند الإمام أحمد 3 / 14 - 17، 26، 59، الترمذي 5 / 663، المعجم الكبير للطبراني 3 / 200، مجمع الزوائد 9 / 163، 165.
(5) فضائل الصحابة 2 / 786 (وأخرجه أحمد في المسند 5 / 181، 182، وابن أبي عاصم في السنة (ل 67 ب).
(6) فضائل الصحابة 2 / 779 (وأخرجه أحمد في المسند 3 / 17، والطبراني في الكبير 3 / 62).
وروى ابن الأثير في أسد الغابة بسنده عن أبي سعيد والأعمش عن حبيب بن أبي ثابت عن زيد بن أرقم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا، أحدهما أعظم من الآخر، كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي، ولن يتفرقا حتى يردا على الحوض، فانظروا كيف تخلفوني فيهما (2).
وروى الحاكم في المستدرك بسنده عن أبي الطفيل عن زيد بن أرقم قال:
لما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من حجة الوداع، ونزل غدير خم، أمر بدوحات فأقمن فقال: كأني قد دعيت فأجبت، إني قد تركت فيكم الثقلين، أحدهما أكبر من الآخر، كتاب الله تعالى، وعترتي، فانظروا كيف تخلفوني فيهما، فإنهما لن يفترقا حتى يردا على الحوض، ثم قال: إن الله عز وجل مولاي، وأنا مولى كل مؤمن، ثم أخذ بيد علي عليه السلام، فقال: من كنت مولاه فهذا وليه، اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه....) (3).
وروى النسائي في الخصائص بسنده عن زيد بن أرقم قال: لما فرغ النبي صلى الله عليه وسلم من حجة الوداع ونزل غدير خم، أمر بدوحات فأقمن، ثم قال: كأني دعيت فأجبت، وإني تارك فيكم الثقلين، أحدهما أكبر من الآخر كتاب الله وعترتي أهل بيتي، فانظروا كيف تخلفوني فيهما، فإنهما لن يفترقا حتى يردا على الحوض، ثم قال: إن الله مولاي، وأنا ولي كل مؤمن، ثم إنه أخذ بيد
____________
(1) فضائل الصحابة 2 / 779 (وانظر المسند 3 / 17، الطبراني في الكبير 3 / 62.
(2) أسد الغابة 2 / 13 (كتاب الشعب 1971).
(3) المستدرك على الصحيحين للحاكم 3 / 109.
وروى الحاكم في المستدرك بسنده عن سلمة بن كهيل عن أبيه عن أبي الطفيل عن ابن واثلة، أنه سمع زيد بن أرقم يقول: نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم بين مكة والمدينة عند شجرات خمس دوحات عظام، فكنس الناس ما تحت الشجرات، ثم راح رسول الله صلى الله عليه وسلم عشية فصلى، ثم قام خطيبا، فحمد الله وأثنى عليه، وذكر ووعظ، فقال: ما شاء الله أن يقول، ثم قال: أيها الناس، إني تارك فيكم أمرين لن تضلوا إن اتبعتموهما، وهما كتاب الله وأهل بيتي عترتي، ثم قال: أتعلمون أني أولى بالمؤمنين من أنفسهم ثلاث مرات؟ قالوا نعم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من كنت مولاه فعلي مولاه (3).
وروى الحاكم في المستدرك بسنده عن مسلم بن صبيح عن زيد بن أرقم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إني تارك فيكم الثقلين، كتاب الله، وأهل بيتي، وإنهما لن يتفرقا حتى يردا على الحوض (4).
وروى الإمام أحمد في المسند وفي الفضائل بسنده عن علي بن ربيعة قال: لقيت زيد بن أرقم - وهو داخل على المختار، أو خارج من عنده - فقلت له: أسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إني تارك فيكم الثقلين؟ قال: نعم (5)، ورواه الطحاوي في مشكل الآثار (6).
____________
(1) النسائي: تهذيب خصائص أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه - بيروت 1983 صپ 50 - 51.
(2) كنز العمال 1 / 48، 6 / 390.
(3) المستدرك للحاكم 3 / 109.
(4) المستدرك للحاكم 3 / 148.
(5) مسند الإمام أحمد 4 / 371، فضائل الصحابة 2 / 572 وانظر الفضائل 1 / 171، 2 / 585، 603.
(6) مشكل الآثار 4 / 368.
وروى الحافظ أبو نعيم في الحلية بسنده عن الإمام جعفر الصادق عن أبيه عن جده عن علي قال: خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجحفة فقال: أيها الناس، ألست أولى بكم من أنفسكم، قالوا: بلى، قال: فإني كأني لكم على الحوض فرطا، وسائلكم عن اثنتين، عن القرآن وعن عترتي...) (2).
وروى المتقي الهندي في كنز العمال بسنده عن محمد بن عمر بن علي عن أبيه عن علي بن أبي طالب عليه السلام أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إني تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلوا، كتاب الله، سبب بيد الله، وسبب بأيديكم، وأهل بيتي (3).
وروى الهيثمي في مجمعه بسنده عن حذيفة بن أسيد قال: لما صدر رسول الله صلى الله عليه وسلم من حجة الوداع، نهى أصحابه عن شجرات متفرقات بالبطحاء أن ينزلوا تحتهن، ثم بعث إليهم فقم ما تحتهن من الشوك وعمد إليهن فصلى عندهن، ثم قال فقال: يا أيها الناس إنه قد نبأني اللطيف الخبير، أنه لم يعمر نبي إلا نصف عمر الذي يليه من قبله، وإني لأظن يوشك أن أدعى فأجيب، وإني مسؤول، وأنتم مسؤولون، فماذا أنتم قائلون؟ قالوا: نشهد أنك قد بلغت
____________
(1) أبو نعيم الأصفهاني: حلية الأولياء وطبقات الأصفياء 1 / 355 (دار الفكر - بيروت).
(2) حلية الأولياء 9 / 64، (وانظر: أسد الغابة 3 / 147، مجمع الزوائد 5 / 195، وانظر: ابن تيمية:
رسالة فضل أهل البيت وحقوقهم ص 75، 86، 90، 117).
(3) كنز العمال 1 / 96، (وانظر: مجمع الزوائد 9 / 163).
ويقول المحدث الفقيه ابن حجر الهيثمي: أن للحديث (حديث الثقلين) طرقا كثيرة، وردت عن نيف وعشرين صحابيا، وله طرق كثيرة، وفي بعض تلك الطرق أن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ذلك في حجة الوداع في عرفة، وفي أخرى أنه قاله في المدينة في مرضه، وقد امتلأت الحجرة بأصحابه، وفي أخرى أنه قاله في غدير خم، وفي أخرى أنه بعد انصرافه من الطائف، ولا تنافي إذ لا مانع من أنه كرر عليهم ذلك في كل تلك المواطن وغيرها، اهتماما بشأن الكتاب العزيز، والعترة الطيبة الطاهرة.
وفي رواية عن ابن عمر: آخر ما تكلم بن النبي صلى الله عليه وسلم: اخلفوني في أهل بيتي.
وفي رواية أخرى عند الطبراني وأبي الشيخ: إن لله عز وجل ثلاث حرمات، فمن حفظهن حفظ الله دينه ودنياه، ومن لم يحفظهن لم يحفظ الله دنياه
____________
(1) الهيثمي: مجمع الزوائد 9 / 164، (وانظر العمال (1 / 48، 3 / 61).
هذا وقد سمى رسول الله صلى الله عليه وسلم، القرآن وعترته ثقلين، لأن الثقل كل نفيس خطير مصون، وهذان كذلك، إذ أن كلا منهما معدن للعلوم اللدنية، والأسرار والحكم العلية، والأحكام الشرعية، ولذا حث صلى الله عليه وسلم، على الاقتداء والتمسك بهم، والتعلم منهم، وقال: الحمد لله الذي جعل فينا الحكمة أهل البيت، وقيل سميا (ثقلين) لثقل وجوب رعاية حقوقهما.
هذا إلى أن الذين وقع الحث عليهم من أهل البيت، إنما هم العارفون بكتاب الله وسنة رسوله، إذ هم الذين لا يفارقون الكتاب إلى الحوض، وهم الذين قال عنهم النبي صلى الله عليه وسلم: ولا تعلموهم فإنهم أعلم منكم، وقد تميزوا بذلك عن بقية العلماء، لأن الله أذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا، وشرفهم بالكرامات الباهرة والمزايا المتكاثرة.
وفي أحاديث الحث على التمسك بأهل البيت، إشارة إلى عدم انقطاع متأهل منهم للتمسك به إلى يوم القيامة - كما أن الكتاب العزيز كذلك - ولهذا كانوا أمانا لأهل الأرض، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث يقول: في كل خلف من أمتي عدول من أهل بيتي.
ولا ريب في أن أحق من يتمسك به، إمام أهل البيت وعالمهم، سيدنا ومولانا وجدنا الإمام علي بن أبي طالب - رضي الله عنه، وكرم الله وجهه في الجنة - لعلمه الغزير، ودقائق مستنبطاته، ومن ثم قال أبو بكر: علي عترة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أي الذين حث على التمسك بهم، فخصه لما قلنا، وكذلك خصه صلى الله عليه وسلم، بما مر يوم غدير خم، والمراد بالعيبة والكرش، فيما سبق، إن أهل البيت موضع سر النبي صلى الله عليه وسلم، وأمانته، ومعادن نفائس معارفه وحضرته، إذ كل من العيبة والكرش مستودع لما يخفى فيه مما به القوام والصلاح، لأن الأول لما يحرز فيه نفائس الأمتعة، والثاني: مستقر الغذاء لما به النمو، وقوام البنية،
والخلاصة أن حديث الثقلين - كما يقول العلامة الفيروزآبادي (2) - من الأدلة القوية، والحجج الجلية، على خلافة علي عليه السلام، وإمامته من بعد النبي صلى الله عليه وسلم، بلا فصل، بل لو لم يكن للشيعة دليل على خلافة الإمام علي، سوى حديث الثقلين، لكفاهم ذلك حجة على المخالف، والاستدلال به يتوقف على بيان سنده ودلالته.
فأما السند: فهو قوي جدا، فهو حديث صحيح مستفيض، - بل متواتر، قد رواه أجلاء الصحابة ومشاهيرهم عن النبي صلى الله عليه وسلم، من أمثال: الإمام علي، وأبي ذر، وجابر بن عبد الله الأنصاري، وزيد بن أرقم وأبي سعيد الخدري، وزيد بن ثابت، وحذيفة بن أسيد الغفاري، وعبد الله بن حنطب، وأبي هريرة وغيرهم كثير، قال المناوي (3): قال السمهوري: وفي الباب ما يزيد على عشرين من الصحابة، وقال ابن حجر الهيثمي (4) - كما رأينا آنفا - وللحديث طرق كثيرة، وردت عن نيف وعشرين صحابيا (5).
وأما الدلالة: - فهي قوية جدا، بل في أعلى مراتب القوة - بعد رعاية القرائن القطعية، والشواهد الجلية المحفوفة به، كقوله صلى الله عليه وسلم: (إني مقبوض - أو إنما أنا بشر يوشك أن يأتي رسول ربي فأجيب، أو إني لا أجد لنبي إلا نصف عمر الذي قبله، وإني أوشك أن أدعى فأجيب).
____________
(1) ابن حجر الهيثمي: الصواعق المحرقة ص 230 - 232 (بيروت 1983).
(2) السيد مرتضى الحسيني الفيروزآبادي: فضائل الخمسة من الصحاح الستة 2 / 53 - 54 (بيروت 1973).
(3) فيض القدير 3 / 14.
(4) الصواعق المحرقة ص 230 - 231.
(5) ذكر مهدي السماوي في كتابه (الإمامة في ضوء الكتاب والسنة) (ص 187 - 229) 35 مصدرا لحديث الثقلين برواية زيد بن أرقم، كما ذكر 184 إسما من العلماء الذين رووا الحديث الشريف.
أو قوله صلى الله عليه وسلم: ولا تقدموهما فتهلكوا، ولا تعلموهما، فإنهما أعلم منكم، أو فلا تقدموهما فتهلكوا ولا تقصروا عنهما فتهلكوا، ولا تعلموهما فهما أعلم منكم.
فكل تلك إنما هي شواهد جلية، وقرائن قطعية على أن النبي صلى الله عليه وسلم، إنما قد دنا أجله وقربت وفاته، فصار في مقام الاستخلاف، وتعيين الخليفة من بعده، فعين الكتاب وأهل بيته، وبين للناس أنهما أعلم منهم، وقد نهاهم عن تقدمهما، وعن التقصير عنهما.
وإذا ثبت في مجموع تلك القرائن والشواهد، أن النبي صلى الله عليه وسلم، قد استخلف الكتاب وأهل بيته، وترك في الأمة هذين الثقلين، ثبتت خلافة سيدنا علي عليه السلام، من بين أهل البيت الطاهرين بالخصوص، فإنه أعلمهم وأفضلهم، ولم يدع منهم أحد منصب الخلافة والإمامة، ما دام الإمام علي كان ما يزال حيا، موجودا في دار الدنيا.
هذا فضلا عن الأحاديث الشريفة التي كان فيها تصريح باسم الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام، وأن النبي صلى الله عليه وسلم - بعد ما قال: إني قد تركت فيكم الثقلين، أو إني تارك فيكم أمرين، كتاب الله، وأهل بيتي - قد أخذ بيد الإمام علي، وقال: من كنت مولاه - أو أولى به من نفسه - فعلي مولاه أو وليه (1).
ويقول صاحب كتاب (الإمامة): وقد استدلت الإمامية بحديث الثقلين، على تعيين النبي صلى الله عليه وسلم، وأهل بيته - الثقل الأصغر، أعدال القرآن المجيد - أئمة
____________
(1) الفيروزآبادي: فضائل الخمسة من الصحاح السنة 2 / 54 - 55.
وهذا الحديث الشريف يظهر من أساليبه، وأقول الناقلين له، أنه كان في مناسبات مختلفة - كما قال ابن محمد الهيثمي - استغلالا للفرص، وتوكيدا في الحجة، وإظهارا للحق، وتكريما لأهله.
ولا ريب في أن الحكم الإلهية إنما تقتضي تواتر هذا الحديث، وكثرة النقلة له، ليتم بذلك وضوح المضمون في الغرض الأسمى، وقطعية السند، ليكون قاطعا للغدر، بإقامته الحجة - سندا ومتنا - وقد ألفت الكتب في حديث الثقلين، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم، بوجوب التمسك بالثقلين - الكتاب وأهل البيت - (1).
وأقل ما يقال في حديث الثقلين هذا، أن أهل البيت - وعلى رأسهم الإمام علي - إنما هم قدوة المسلمين، في علمهم واستقامتهم، وأنهم في نظر المسلمين، أمثلة حية للتمسك بالإسلام، الذي جاء به جدهم محمد صلى الله عليه وسلم (2)، ومن ثم فهم أهل الإمامة والخلافة، دون غيرهم.
6 - قوله صلى الله عليه وسلم لعلي: أنت مني بمنزلة هارون من موسى، إلا أنه لا نبي بعدي: -
روى البخاري في صحيحه بسنده عن سعد قال: سمعت إبراهيم بن سعد عن أبيه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم لعلي: أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى (3).
____________
(1) مهدي السماوي: الإمامة في ضوء الكتاب والسنة ص 175.
(2) محمد عبده يماني: علموا أولادكم محبة آل النبي صلى الله عليه وسلم - جده 1992 ص 55.
(3) صحيح البخاري 5 / 24.
وروى مسلم في صحيحه بسنده عن سعيد بن المسيب عن عامر بن سعد بن وقاص عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي: أنت مني بمنزلة هارون من موسى، إلا أنه لا نبي بعدي، قال سعيد: فأحببت أن أشافه بها سعدا، فلقيت سعدا، فحدثته بما حدثني عامر، فقال: أنا سمعته، فقلت: أنت سمعته، فوضع إصبعيه على أذنيه، فقال: نعم، وإلا فاستكتا (2).
وروى مسلم أيضا بسنده عن الحكم عن مصعب بن سعد بن وقاص قال:
خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب في غزوة تبوك، فقال: يا رسول الله، تخلفني في النساء والصبيان، فقال: أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى، غير أنه لا نبي بعدي (3).
وروى مسلم في صحيحه أيضا بسنده عن عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه قال: أمر معاوية بن أبي سفيان سعدا، فقال: ما منعك أن تسب أبا التراب، فقال: أما ما ذكرت ثلاثا قالهن له رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلن أسبه، لأن تكون لي واحدة منهن أحب إلي من حمر النعم، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول له، خلفه في بعض مغازيه، فقال له علي: خلفتني مع النساء والصبيان، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موصى، إلا أنه لا نبوة بعدي، وسمعته يقول يوم خيبر: لأعطين الراية رجلا يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله، قال: فتطاولنا لهما، فقال: ادعوا لي عليا، فأتي به أرمد،
____________
(1) صحيح البخاري 6 / 3.
(2) صحيح مسلم 15 / 173 - 75 (بيروت 1981).
(3) صحيح مسلم 15 / 175.
وروى مسلم أيضا بسنده عن شعبة عن سعد بن إبراهيم: سمعت إبراهيم بن سعد عن سعد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لعلي: أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى (2).
وروى النسائي في الخصائص بسنده عن عامر بن سعد بن أبي وقاص قال: أمر معاوية سعدا فقال: ما يمنعك أن تسب أبا تراب، فقال: أما ذكرت ثلاثا قالهن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلن أسبه، لأن تكون لي واحدة منها أحب إلي من حمر النعم، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول له، وخلفه في بعض مغازيه، فقال له علي: أتخلفني مع النساء والصبيان، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى، إلا أنه لا نبوة بعدي، وسمعته يقول يوم خيبر:
لأعطين الراية غدا رجلا يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله، فتطاولنا إليها فقال: ادعوا إلي عليا، فأتي به أرمد، فبصق في عينه ودفع الراية إليه، ولما نزلت (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا) دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عليا وفاطمة وحسنا وحسينا، فقال: اللهم هؤلاء أهل بيتي) (3).
هذا وقد روى الإمام النسائي حديث المنزلة هذا بعدة طرق، وبصيغ مختلفة (4).
____________
(1) صحيح مسلم 15 / 175 - 176.
(2) صحيح مسلم 15 / 176.
(3) النسائي: تهذيب خصائص أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه - تهذيب وترتيب كمال يوسف الحوت - عالم الكتب - (بيروت 1983) ص 19 - 20.
(4) تهذيب خصائص أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه ص 19، 20، 28، 29، 39، 40، 41، 42، 43، 44، 45، 46، 72 (وهي الأحاديث الشريفة أرقام 8، 9، 21، 41،
=>
فدعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعزم علي لما تخلفت، قبل أن أتكلم، قال: فبكيت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما يبكيك يا علي؟ قلت: يا رسول الله، يبكيني خصال غير واحدة، تقول قريش غدا: ما أسرع ما تخلف عن ابن عمه وخذله، ويبكيني خصلة أخرى، كنت أريد أن أتعرض للجهاد في سبيل الله، لأن الله يقول: (ولا يطؤون موطأ يغيظ الكفار * ولا ينالون من عدو نيلا).. إلى آخر الآية، فكنت أريد أن أتعرض لفضل الله).
(فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما قولك تقول قريش: ما أسرع ما تخلف عن ابن عمه وخذله، فإن لك بي أسوة، قد قالوا: ساحر وكاهن وكذاب، أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى، إلا أنه لا نبي بعدي؟ وأما قولك أتعرض لفضل الله، فهذه أبهار من فلفل، جاءنا من اليمن، فبعه واستمتع به أنت وفاطمة، حتى يأتيكم الله من فضله، فإن المدينة لا تصلح إلا بي أو بك، قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد.
وذكره السيوطي في الدر المنثور في تفسير قوله تعالى: (ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله) في أواخر التوبة، وقال: أخرجه ابن مردويه عن علي (1).
وأخرج الإمام أحمد في الفضائل بسنده عن سعيد بن المسيب عن عامر بن سعد عن أبيه سعد سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول لعلي: أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى، إلا أنه ليس بعدي نبي؟ قال سعيد: فأحببت أن أشافه بذلك
____________
<=
42، 43، 44، 45، 46، 47، 48، 49، 50، 51، 52، 53، 54، 55، 56، 57، 58،
112).
(1) المستدرك للحاكم 2 / 337، الفيروزآبادي: فضائل الخمسة 1 / 302 - 303.
هذا وقد روى الإمام أحمد حديث المنزلة هذا في الفضائل (2) والمسند (3) بطرق وصيغ مختلفة، ورواه أيضا الهيثمي في مجمع الزوائد (4)، والمتقي في كنز العمال (5).
وروى ابن سعد في الطبقات الكبرى بسنده عن أبي سعيد قال: غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم غزوة تبوك، وخلف عليا في أهله، فقال بعض الناس: ما منعه أن يخرج به، إلا أنه كره صحبته، فبلغ ذلك عليا، فذكره للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا ابن أبي طالب، أما ترضى أن تنزل مني بمنزلة هارون من موسى) (6).
وعن عبد الله بن شريك قال: سمعت عبد الله بن رقيم الكناني قال: قدمنا المدينة، فلقينا سعد بن مالك فقال، خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تبوك، وخلف عليا، فقال له: يا رسول الله خرجت وخلفتني، فقال: أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى، إلا أنه لا نبي بعدي (7).
وعن سعيد بن المسيب قال قلت لسعد بن مالك: إني أريد أن أسألك عن حديث، وأنا أهابك أن أسألك عنه، قال: لا تفعل يا ابن أخي، إذا علمت أن عندي علما، فسلني عنه ولا تهبني، فقلت قول رسول الله صلى الله عليه وسلم، لعلي حين خلفه
____________
(1) فضائل الصحابة 2 / 633.
(2) فضائل الصحابة 2 / 566، 567، 592، 610، 7611 612، 633، 642، 643، 633، 670، 7675 682 - 684 (وهي الأحاديث أرقام 954، 956، 1006، 1041، 1045، 1078، 1091، 1093، 1131، 1143، 1153، 1168).
(3) مسند الإمام أحمد 1 / 170، 175، 177، 184، 330، 6 / 369.
(4) مجمع الزوائد 9 / 109، 110، 111، 119.
(5) كنز العمال 3 / 154، 5 / 40، 6 / 154، 188، 395، 405.
(6) الطبقات الكبرى 3 / 14، 15.
(7) الطبقات الكبرى 3 / 15.
فقال: أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى، فأدبر علي مسرعا، وكأني أنظر إلى غبار قدميه يسطع (1).
وروى الحافظ أبو نعيم في حليته بسنده عن حبشي بن جنادة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي رضي الله تعالى عنه: أنت مني بمنزلة هارون من موسى، إلا أنه لا نبي بعدي (2).
ورواه الهيثمي في مجمعه (3)، نقلا عن الطبراني في الثلاثة.
وفي الحلية أيضا بسنده عن سعيد بن المسيب عن علي قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، في غزوة تبوك: خلفتك أن تكون خليفتي في أهلي، قلت: لا أتخلف بعدك يا نبي الله، قال: ألا ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى، إلا أنه لا نبي بعدي (4)؟ - ورواه المتقي في كنز العمال (5)، والهيثمي في مجمعه (6).
وفي رواية عن سعيد بن المسيب قال: قال سمعت سعدا يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، لعلي بن أبي طالب: أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى، إلا أنه لا نبي بعدي، قال الحضرمي في حديثه: بلى رضيت رضيت (7).
وفي الحلية أيضا بسنده عن الحكم عن مصعب بن سعد عن سعد قال:
____________
(1) الطبقات الكبرى 3 / 15.
(2) حلية الأولياء 4 / 345، وانظر 7 / 194 - 197.
(3) مجمع الزوائد 9 / 109.
(4) حلية الأولياء 7 / 196.
(5) كنز العمال 6 / 404.
(6) مجمع الزوائد 9 / 110.