الصفحة 143
وفي رواية: ألا أرضيك يا علي؟ أنت أخي ووزيري، تقضي ديني، وتنجز موعدي، وتبرئ ذمتي - وقال: أخرجه الطبراني عن ابن عمر (1)، وذكره الشنقيطي في كفاية الطالب، وقال: أخرجه أحمد في المناقب (2).

وأخرج ابن حجر العسقلاني في الإصابة بسنده عن ليلى الغفارية قالت:

كنت أغزو مع النبي صلى الله عليه وسلم، فأداوي الجرحى، وأقوم على المرضى، فلما خرج علي إلى البصرة خرجت معه، فلما رأيت عائشة أتيتها فقلت: هل سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فضيلة في علي، قالت: نعم، دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو معي، وعليه جرد قطيفة، فجلس بيننا، فقلت: أما وجدت مكانا هو أوسع لك من هذا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا عائشة، دعي لي أخي، فإنه أول الناس إسلاما، وآخر الناس بي عهدا، وأول الناس لي لقيا يوم القيامة (3).

وروى عثمان بن سعيد عن عبد الله بن بكير عن حكيم ين جبير قال:

خطب علي عليه السلم، فقال في أثناء خطبته: (أنا عبد الله، وأخو رسوله، لا يقولها أحد قبلي ولا بعدي، إلا كذب، ورثت نبي الرحمة، ونكحت سيدة نساء هذه الأمة، وأنا خاتم الوصيين) (4).

ولعل من الأهمية: بمكان الإشارة إلى أن المهاجرين إنما قد خرجوا من مكة، وقد تركوا فيها أموالهم، وحلوا بالمدينة، وليس لهم فيها بيت يأويهم، ولا مال ينهض بحوائجهم، فاستقبلهم الأنصار على الرحب والسعة، حريصين على الحفاوة بهم، متنافسين في ضيافتهم، حتى أنه ما نزل مهاجري على أنصاري، إلا بقرعة، وذلك من كثرة الراغبين في الإيواء، وتحمل الأعباء، بل إن تاريخ الدنيا كلها لم يعرف حادثا جماعيا، كحادث استقبال الأنصار

____________

(1) كنز العمال 6 / 155.

(2) كفاية الطالب ص 34.

(3) ابن حجر العسقلاني: الإصابة في تمييز الصحابة 4 / 402 - 403.

(4) ابن أبي الحديد: شرح نهج البلاغة 2 / 287.

الصفحة 144
للمهاجرين، بهذا الحب الكريم، وبهذا البذل السخي، وبهذه المشاركة الرضية، وبهذا التسابق إلى الإيواء، واحتمال الأعباء، والإيثار على النفس مع الحاجة، فلقد بلغ الأنصار في كل هذا قمة علية لم تشهد لها البشرية من قبل نظيرا.

ويصور القرآن الكريم ذلك كله في قول الله تعالى: (والذين تبوأوا الدار والإيمان من قبلهم * يحبون من هاجر إليهم * ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا * ويؤثرون على أنفسهم * ولو كان بهم خصاصة * ومن يوقن شح نفسه * فأولئك هم المفلحون) (1)، وقد قدر المهاجرون هذا البذل الخالص، فما استغلوه، ما نالوا منه، إلا بقدر ما يتوجهون إلى العمل الحر الشريف.

هذا وقد اختلفت الروايات في ابتداء المؤاخاة، فذهب قوم إلى أنها إنما كانت إبان بناء النبي صلى الله عليه وسلم، لمسجده الشريف، وذهب آخرون إلى أنها بعد الهجرة بخمسة أشهر أو تسعة، على أن هناك وجها ثالثا للنظر يذهب أصحابه إلى أنها كانت قبل بدر بسنة وثلاثة أشهر، وعند ابن سعد (في شرف المصطفى) أنها كانت في المسجد هذا وقد ظلت عقود الإخاء مقدمة على حقوق القرابة من توارث التركات، فكان إذا مات المهاجر ورثه أخوه الأنصاري، وإذا مات الأنصاري ورثه أخوه المهاجر، فلما كانت (غزوة بدر) (في صباح يوم الجمعة 17 رمضان عام 2 هـ = 17 مارس 624 م)، وعز شأن الإسلام، نزلت آية الأنفال (وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله * إن الله بكل شئ عليم) (2)، فنسخت هذه الآية ما كان قبلها، وانقطعت المؤاخاة في الميراث، ورجع كل إنسان إلى نسبه، وورثه ذو رحمه.

ويروي البخاري في صحيحه (3) بسنده عن ابن عباس في تفسير آية النساء

____________

(1) سورة الحشر: آية 9.

(2) سورة الأنفال: آية 75.

(3) صحيح البخاري 6 / 55 - 56.

الصفحة 145
(ولكل جعلنا موالي مما ترك الوالدان والأقربون * والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم) (1)، قال: كان المهاجرون لما قدموا المدينة، يرث المهاجر الأنصاري، دون ذوي رحمته، للأخوة التي آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم، بينهم، فلما نزلت الآية (ولكل جعلنا موالي...) نسخت، ثم قال: (والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم) من النصر والرفادة والنصيحة، وقد ذهب الميراث، ويوصى له (2).

على أن هناك ما يشير إلى أن منع الإرث، إنما كان بعد أحد، وليس بعد بدر، جاء في تفسير ابن كثير: أخرج ابن سعد: آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم، بين الزبير بن العوام وكعب بن مالك، قال الزبير: لقد رأيت كعبا أصابته الجراحة بأحد، فقلت: لو مات ورثته، فنزلت آية الأنفال (75).

ولا ريب في أن الهدف من المؤاخاة إنما كان ليذهب عن المهاجرين وحشة الغربة، ويؤنسهم، من مفارقة الأهل والعشيرة، ويشد أزرهم بعضهم ببعض، ويتوارثون بعد الممات، دون ذوي الأرحام، ويروي ابن إسحاق في السيرة عن تفاصيل هذا الإخاء فيقول: آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم، بين أصحابه من المهاجرين والأنصار، فقال: تآخوا في الله أخوين أخوين، ثم أخذ بيد علي بن أبي طالب، فقال: هذا أخي، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم، سيد المرسلين، وإمام المتقين، ورسول رب العالمين، الذي ليس له خطير ولا نظير من العباد، وعلي بن أبي طالب، رضي الله عنه أخوين، ثم يعدد ابن إسحاق أسماء من آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم، بينهم من المهاجرين والأنصار (3).

ولعل من الجدير بالإشارة أن هناك مؤاخاة أخرى، كانت قبل الهجرة، آخى فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم بين حمزة وزيد بن حارثة، وبين أبي بكر وعمر بن

____________

(1) سورة النساء: آية 33، وانظر: تفسير ابن كثير 1 / 738 - 740 (بيروت (1986).

(2) تفسير ابن كثير 1 / 740 - 741.

(3) سيرة ابن هشام 2 / 320 - 321، وانظر: السيرة الحلبية 2 / 291.

الصفحة 146
الخطاب، وبين عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف، وبين الزبير وابن مسعود، وبين عبادة بن الحارث وبلال، وبين مصعب بن عمير وسعد بن أبي وقاص، وبين سعيد بن زيد وطلحة بن عبيد الله، وبين علي بن أبي طالب وبين نفسه صلى الله عليه وسلم، وقال: أما ترضى أن أكون أخاك، قال: بلى يا رسول الله، رضيت، قال النبي صلى الله عليه وسلم: فأنت أخي في الدنيا والآخرة (1).

هذا وقد أنكر (ابن تيمية) مؤاخاة المهاجرين بعضهم لبعض، وخصوصا بين المصطفى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلي بن أبي طالب، رضي الله عنه، وكرم الله وجهه في الجنة، وقال: إن المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، ولا معنى لمؤاخاة مهاجرين لمهاجرين، لأن المؤاخاة شرعت لإرفاق بعضهم ببعض (2).

وقد تابع (ابن تيمية) في رأيه هذا، (ابن القيم) و (ابن كثير)، وقال (ابن القيم): إن المؤاخاة كانت بين المهاجرين والأنصار، وأن المهاجرين كانوا مستغنين بأخوة الإسلام، وأخوة الدار، وقرابة النسب، عن عقد مؤاخاة، بخلاف المهاجرين مع الأنصار، ولو آخى النبي صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين، لاختار الصديق، رضي الله عنه (3).

هذا وقد رد (ابن حجر العسقلاني) على ذلك - فيما يروي الزرقاني في شرح المواهب اللدنية - بأن هذا القول رد للنص بالقياس، وأن الحكمة في مؤاخاة المهاجرين أن بعضهم كان أقوى من بعض، في المال والعشيرة، فآخى النبي صلى الله عليه وسلم، بين الأعلى والأدنى، ليرتفق الأدنى بالأعلى، وبهذا ظهرت الحكمة في مؤاخاة النبي صلى الله عليه وسلم، لعلي رضي الله عنه، لأنه صلى الله عليه وسلم هو الذي كان يقوم بأمره قبل البعثة وبعدها (4).

____________

(1) فتح الباري 7 / 191، البلاذري: أنساب الأشراف 1 / 270 (القاهرة 1959).

(2) فتاوى ابن تيمية 35 / 92 - 93.

(3) ابن قيم الجوزية: زاد المعاد في هدى خير العباد 3 / 63 - 65 (بيروت 1985).

(4) السيرة الحلبية 2 / 181 - 182.

الصفحة 147
ثم إن (ابن القيم) نفسه، وفي نفس كتابه (زاد المعاد)، الذي أنكر فيه المؤاخاة بين المهاجرين بعضهم مع بعض، إنما يثبت - عند الكلام على عمرة القضية - هذه المؤاخاة، فيقول - مشيدا بالمؤاخاة بين المهاجرين في مكة - وقول زيد (ابنة أخي)، يريد الإخاء الذي عقده رسول الله صلى الله عليه وسلم بينه (أي زيد) وبين حمزة، لما آخى بين المهاجرين، فإنه آخى بين أصحابه مرتين، فآخى بين المهاجرين بعضهم مع بعض قبل الهجرة على الحق والمساواة، فآخى بين أبي بكر وعمر، وبين حمزة وزيد بن حارثة، وبين عثمان وعبد الرحمن بن عوف، وبين الزبير وعبد الله بن مسعود، وبين عبيدة بن الحارث وبلال، وبين مصعب بن عمير وسعد بن أبي وقاص، وبين سعيد بن زيد وطلحة بن عبيد الله، وبين أبي عبيدة وسالم مولى أبي حذيفة، وفي المرة الثانية آخى بين المهاجرين والأنصار في دار أنس بن مالك بعد مقدمه المدينة (1).

وأما (ابن كثير) فربما كان أقرب إلى الموافقة على مؤاخاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، لعلي، أكثر منه رفضا لها، فيقول: أما مؤاخاة النبي صلى الله عليه وسلم، لعلي، فإن من العلماء من ينكرها، ويمنع صحتها، ومستنده في ذلك أن هذه المؤاخاة إنما شرعت لأجل ارتفاق بعضهم مع بعض، وليتألف قلوب بعضهم على بعض، فلا معنى لمؤاخاة النبي صلى الله عليه وسلم، لأحد منهم، ولمهاجري آخر، كما ذكر من مؤاخاة حمزة وزيد بن ثابت، اللهم إلا أن يكون صلى الله عليه وسلم، لم يجعل مصلحة علي إلى غيره، فإنه كان ممن ينفق عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، من صغره، في حياة أبيه أبي طالب، وكذلك يكون حمزة قد التزم بمصالح مولاهم زيد بن حارثة، فأخذه بهذا الاعتبار (2).

هذا وقد عرض شيخ الإسلام عز الدين بن عبد السلام (577 - 660 هـ / 1181 - 1262 م) لقضية المؤاخاة بما يشعر بأنه لا مانع من وقوع

____________

(1) ابن قيم الجوزية: زاد المعاد في هدى خير العباد 3 / 374، 377، 378.

(2) ابن كثير: البداية والنهاية 3 / 272، السيرة النبوية 2 / 326.

الصفحة 148
المؤاخاة بين المهاجرين بعضهم مع بعض في مكة قبل الهجرة ومن وقوعها بين المهاجرين والأنصار بعد الهجرة، وفي الصحيح أن زيد بن حارثة قال عن إمامة بنت حمزة بن عبد المطلب، ابنة أخي، وذلك بسبب المؤاخاة بين حمزة وزيد، هذا وقد ذكر ذلك الحاكم في الإكليل، وأبو سعد النيسابوري في شرف المصطفى، هذا فضلا عن أن الحاكم قد أخرج في المستدرك، وابن عبد البر في الإستيعاب أن النبي صلى الله عليه وسلم آخى بين الزبير وابن مسعود (1).

ويقول العلامة أبو زهرة: وما ينكره (ابن القيم) نحن نثبته، ونرجح أن المؤاخاة بين المهاجرين بعضهم مع بعض، والأنصار بعضهم مع بعض نقررها، وذلك لأن الحافظ ابن كثير لم يتكلم في صحة هذه الرواية المثبتة، ولأن قصر الباعث في المؤاخاة على مجرد تمكين المهاجرين من الارتفاق من إخوانهم الأنصار، قصر لا دليل عليه، بل هو أخذ من ظاهر الهجرة والإيواء والنصرة، كما صرح بذلك القرآن الكريم.

ثم يقول: إن المؤاخاة ليس المقصود منها - فيما نحسب - هذا الارتفاق فقط، ولكن آثار غير ذلك:

منها (أولا) عقد الألفة بين الضعيف والقوي، وتمكين الصحبة بين المؤمنين، وألا يتعالى مؤمن على مؤمن، وناهيك بمؤاخاة حمزة - الشريف النسب - مع زيد بن حارثة، المولى، الذي كان عبدا، ومن النبي صلى الله عليه وسلم، عليه بالعتق، وكان قد أعلاه، وجعله ابنا له، حتى حرم الله تعالى الأدعياء، وقال سبحانه وتعالى: (وما جعل أدعياءكم أبناءكم)، فكان من حكمة النبي صلى الله عليه وسلم أن يجعله أخا لابن عبد المطلب.

ومنها (ثانيا) أن المهاجرين كانوا من قبائل مختلفة، والقرشيون منهم،

____________

(1) المستدرك للحاكم 1 / 580، الإستيعاب في معرفة الأصحاب لابن عبد البر 2 / 397.

الصفحة 149
كانوا من بيوت متنافسة، فكان لا بد من محو العصبية، والدمج بينهم بحكم أخوة الإسلام.

ومنها (ثالثا) أن الأنصار لم يكونوا متآلفين فيما بينهم، فكانت على مقربة من هدايتهم، العداوة المستمرة الأوار بينهم، بين الأوس والخزرج، فكان لا بد من العمل على نسيانها، وذلك بالمؤاخاة المحمدية.

ومنها (رابعا) أن النبي صلى الله عليه وسلم، عندما عقد المؤاخاة، إنما كان يشرع للأمة من بعث هذا النظام الذي يجمع المسلمين، ولم يكن حكما لحادثة واقعة، ولا علاجا مقصورا، على ما بين المهاجرين والأنصار، بل هو تأليف للمؤمنين، ونظام متبع، وربما تكون الحاجة إليه من بعد، أشد وأكبر، ولذلك كان ولاء الموالاة الذي تقرر، أنه لم ينسخ، وأنه بين العرب وغيرهم من الأعاجم الذين يدخلون في الإسلام من بعد (1).

وفي الواقع فإن الأحاديث الشريفة التي رويت عن سيدنا ومولانا وجدنا محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم في مؤاخاته للإمام علي بن أبي طالب - رضي الله عنه، وكرم الله وجهه في الجنة، جد كثيرة، وأكبر من أن يقف في سبيلها قول قائل - كما رأينا من قبل - فلقد آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم، مرتين، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم، آخى بين المهاجرين، ثم آخى بين المهاجرين والأنصار بعد الهجرة، وقال لعلي، في كل واحدة منها: أنت أخي في الدنيا والآخرة (2).

ولعل من الأهمية بمكان الإشارة إلى أن أخوة النبي صلى الله عليه وسلم، للإمام علي بن أبي طالب، إنما تمتاز عن غيرها، من أخوة الإيمان العامة، التي كانت بين أفراد المهاجرين قبل الهجرة، بما كان للإمام علي - رضي الله عنه، وكرم الله وجهه في الجنة - من منزلة خاصة عند النبي صلى الله عليه وسلم، دون الناس جميعا، اقتضتها

____________

(1) محمد أبو زهرة: خاتم النبيين 2 / 558 - 559 (دار الفكر العربي).

(2) ابن الأثير: أسد الغابة 4 / 91.

الصفحة 150
وشائج الأسرة، التي تدل على أحد أفرادها، ولهذا خلفه بعده في الهجرة ليرد ودائع الناس التي كانت عنده صلى الله عليه وسلم، لأهلها، وأنامه على فراشه، وأمره أن يتسجى ببرده، ليرى أعداؤه المتربصون به، أنه صلى الله عليه وسلم، نائم في فراشه - والأمر كذلك في بلاغ براءة، كما سنبينه في مكانه من هذه الدراسة.

ولعل مما يؤيد ذلك قول ابن عبد البر في الإستيعاب: ولم يتخلف علي عن مشهد شهده رسول الله صلى الله عليه وسلم، منذ قدم المدينة، إلا تبوك، فإنه خلفه رسول الله صلى الله عليه وسلم، على المدينة وعلى عياله بعده في غزوة تبوك، وقال له في الحديث الصحيح: (أنت مني بمنزلة هارون من موسى)، وفي رواية (أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى، إلا أنه لا نبي بعدي) (1).

ولا ريب في أن هذا كله، إنما يدل على أخوة خاصة، أرفع درجات من الأخوة الإيمانية العامة، أغنت الإمام عن أن يدخل في المؤاخاة العامة التي كانت بين المهاجرين بعضهم مع بعض، والتي كان النبي صلى الله عليه وسلم، ينميها بكل وسيلة، وكما قال ابن عبد البر وابن الأثير: إن النبي صلى الله عليه وسلم، آخى بين المهاجرين بعضهم مع بعض، وآخى بين المهاجرين والأنصار، وقال في كل واحدة منهما لعلي، رضي الله عنه، (أنت أخي في الدنيا والآخرة)، وآخى بينه وبين نفسه (2).

وهكذا، ولحكمة أرادها الله، كرر النبي صلى الله عليه وسلم، قوله لعلي، رضي الله عنه:

(أنت أخي في الدنيا والآخرة)، مرة في عقدة أخوة المهاجرين بعضهم مع بعض، ومرة في عقد الأخوة بين المهاجرين والأنصار، وقال ابن عبد البر: وقد روينا من وجوه، عن علي رضي الله عنه، أنه كان يقول: (أنا عبد الله وأخو رسول الله، لا يقولها أحد غيري إلا كذاب) (3).

____________

(1) ابن عبد البر: الإستيعاب في معرفة الأصحاب 3 / 34.

(2) ابن الأثير: أسد الغابة 4 / 91 الإستيعاب 3 / 35.

(3) الإستيعاب 3 / 35.

الصفحة 151
وصدق الإمام علي في قوله هذا، تصديقا لقول المعصوم، سيد الأنبياء والمرسلين، سيدنا ومولانا وجدنا محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم (أنت مني بمنزلة هارون من موسى)، فهذه منزلة رفيعة، لا يتطاول إليها أحد من العالمين، ولا يدعيها أحد، غير الإمام علي، إلا كان كاذبا في ادعائه، مفتريا على الله ورسوله، بل حتى الذين أنكروا المؤاخاة بين النبي صلى الله عليه وسلم، والإمام علي، إنما كانت حجتهم ضعيفة، وفي أحسن الأحوال، إنما كان قولهم ردا للنص بالقياس، بل إن الحافظ ابن كثير - بعد أن تردد في ذلك - قال: اللهم إلا أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم، لم يجعل مصلحة علي إلى غيره، فإنه كان مما ينفق عليه من صغره، في حياة أبيه أبي طالب، فآخاه بهذا الاعتبار - كما أشرنا آنفا.

وفي الحق أن الإمام علي إنما كان لسيدنا ومولانا وجدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم:

(كان أخا وابنا وعونا - دائما وأبدا - حتى كان آخر عهد النبي صلى الله عليه وسلم، بالحياة، بل كان يقوم، بما كان يقوم به النبي صلى الله عليه وسلم، في أموره الخاصة، ولعل حوادث: ليلة الهجرة، ويوم تبوك، ويوم براءة، مما يؤيد وجهة نظرنا هذه (1).

ولعل سائلا يتساءل: ما مدلول هذا الإخاء بين النبي صلى الله عليه وسلم، والإمام علي؟

وهل يضيف ما لعلي من فضل في خاصة نفسه، وما أعطى لله ولرسوله من جهاد وتضحية وإيثار؟

من البدهي أن الجواب نعم، وقد أمسك علي نفسه - فيما يرى الأستاذ الخطيب - بهذا الفضل العظيم، والشرف الكبير، اللذين كانا من هذا النسب

____________

(1) علي بن برهان الدين الحلبي: إنسان العيون في سيرة الأمين المأمون - الشهيرة بالسيرة الحلبية 2 / 291 - 296 (القاهرة 1964)، محمد الصادق إبراهيم عرجون: محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم 2 / 53 - 74 (بيروت 1985)، محمد أبو زهرة: خاتم النبيين 2 / 556 - 560، أبو الحسن الندوي:

السيرة النبوية ص 172 - 173 (جدة 1983)، محمد رضا: محمد رسول الله ص 149 - 150 (بيروت 1975)، محمد سعيد رمضان البوطي: فقه السيرة ص 155 - 159 (دار الفكر - بيروت 1978)، محمد بيومي مهران: السيرة النبوية الشريفة 2 / 27 - 35 (دار النهضة العربية - بيروت 1990).

الصفحة 152
الكريم، وتلك الأخوة التي تجمع بينه وبين سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، في رحاب الله، وفي دين الله، وعلى طريق الدعوة إلى الله.

وفي الواقع أن الإمام علي، لو سكت عن التحدث بهذا الفضل، ومباهاة الناس بتلك الأخوة، وإلفاتهم إليها، لما سكت الناس، ذلك لأن دلالتها لا تخفى على أحد، وكان مما تنطوي عليه من نفحات النبوة، أقوى من أن يحول بينها وبين أن تشم في أعطاف الإمام علي، وما يعرض للنفوس الحاقدة من علل، وما يصيب القلوب الكارهة من مرض.

على أن هناك فرقا بين هذه الأخوة، وقرابة الإمام علي من سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، في النسب فهما أبناء عم، كان مرباهما معا إلى أبي طالب، العم البار الرحيم، الذي قام من النبي صلى الله عليه وسلم مقام الأب، عطفا وحنوا، حتى كان لابنه علي أشبه بالعم، إذ استأثر النبي صلى الله عليه وسلم، بأبوته، كما استأثر النبي صلى الله عليه وسلم، بعلي دونه في رعايته وتنشئته، والنظر في أمره كله، فهذه القرابة التي جمعت بين النبي صلى الله عليه وسلم، وعلي، كان من شأنها أن تجعل من ابني العم أخوين، نسبا وقرابة، ودون أن يكون لفارق السن بينهما حساب في تقرير هذه الأخوة، فقد كان بين الإمام علي وبين بعض إخوته من أبيه وأمه، أكثر مما بينه وبين ابن عمه النبي صلى الله عليه وسلم، من فارق السن.

وعند أكثر الذين تلقوا قول الرسول صلى الله عليه وسلم، لعلي: (أنت أخي ترثني وأرثك)، قد وقع في نفوسهم أن هذه الأخوة، إنما هي أخوة قرابة ونسب، إن لم تكن على سبيل الحقيقة، فعلى سبيل المجاز.

غير أن المؤاخاة بين النبي صلى الله عليه وسلم، وعلي، غير قرابة النسب، والقرابة القريبة، فقد ظلت هذه الأخوة قائمة، حتى بعد أن نسخت آيات المواريث ما كان يترتب عليها من ميراث الأخ لأخيه، بدليل حديث المنزلة الصحيح المشهور (أنت مني بمنزلة هارون من موسى، إلا أنه لا نبي بعدي)، وهو في غزوة تبوك، سنة تسع من الهجرة، وهي كذلك باقية، إذا لم يكن من ورائها قرابة ونسب.


الصفحة 153
على أن قرابة المؤاخاة لا يستقيم أمرها، إلا إذا كان بين ابن العم مشاركة ومقاربة في الصفات النفسية والروحية، وفي كل ما تحتاج إليه الدعوة الجديدة من قوى في الرجل الذي يحمل رسالتها، وفي الرجال الذين يشدون من أزره في الحفاظ عليها، وفي إبلاغها للناس، وقد كان ذلك كله، فإذا اجتمع لذلك قرابة مدانية، كان ذلك مما يدعم تلك المنزلة، التي ينزلها الإمام علي من سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويوثقها ويزيدها قربا إلى قرب، وقد كانت قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، لبني هاشم، قوة له في وجه أعدائه الذين أنكروا دعوته فيهم، ومقامه بينهم، كان ذلك كذلك، وكثير من بني هاشم على ما كانت عليه قريش، بل إن بعضا منهم دخل معه في دين الله أول الأمر، استجابة لعاطفة تلك القرابة، من غير نظر إلى هذا الدين، وما يحمل للناس من خير وهدى ورحمة.

وقد ظلت هذه الأخوة، أو المؤاخاة عاملة بين النبي صلى الله عليه وسلم، والإمام علي، تعطي آثارها في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، في كل موقف يحتاج فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلى أن يلقاه بنفسه، أو بمن يراه في منزلة نفسه، كما في أحداث ليلة الهجرة، وسورة براءة، وغزوة تبوك، وقوله صلى الله عليه وسلم: (أنت مني بمنزلة هارون من موسى، إلا أنه لا نبي بعدي) (1).

وهل بعد هذا دليل على أن الإمام علي بن أبي طالب إنما كان أحق الناس بخلافة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

11 - قوله صلى الله عليه وسلم: لا يؤدي عني إلا أنا أو علي:

روى الترمذي في صحيحه بسنده عن أنس بن مالك قال: بعث النبي صلى الله عليه وسلم، ببراءة مع أبي بكر، ثم دعاه فقال: لا ينبغي لأحد أن يبلغ هذا، إلا رجل من أهلي، فدعا عليا، فأعطاه إياه (2).

____________

(1) عبد الكريم الخطيب: علي بن أبي طالب - بقية النبوة وخاتم الخلافة - بيروت 1975، محمد بيومي مهران: السيرة النبوية الشريفة 2 / 33 - 34 (دار النهضة العربية - بيروت 1990).

(2) صحيح الترمذي 2 / 183.

الصفحة 154
ورواه الإمام أحمد في المسند (1)، والسيوطي في الدر المنثور في تفسير قوله تعالى: (براءة من الله ورسوله)، وقال أخرجه ابن أبي شيبة وأحمد والترمذي وحسنه، وأبو الشيخ وابن مردويه عن أنس (2).

وروى الترمذي أيضا بسنده عن ابن عباس قال: بعث النبي صلى الله عليه وسلم، أبا بكر، وأمره أن ينادي بهذه الكلمات، ثم اتبعه عليا، فبينا أبو بكر في بعض الطريق، إذ سمع رغاء ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم، القصواء، فخرج أبو بكر فزعا، فظن أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا هو علي، فدفع إليه كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمر عليا أن ينادي بهذه الكلمات (الحديث).

ثم روى عن زيد بن يثيع قال: سألنا عليا بأي شئ بعثت في الحجة؟

قال: بعثت بأربع: أن لا يطوف بالبيت عريان، ومن كان بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم، عهد، فإلى مدته، ومن لم يكن له عهد، فأجله أربعة أشهر، ولا يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة، ولا يجتمع المسلمون والمشركون بعد عامهم هذا (3).

وعن جابر رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم، بعث أبا بكر، رضي الله عنه، فأقبلنا معه، حتى إذا كان بالعرج (4)، ثوب بالصبح، ثم استوى ليكبر، فسمع الرغوة خلف ظهره، فوقف عن التكبير، فقال: هذه رغوة ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم، لقد بدا لرسول الله صلى الله عليه وسلم في الحج، فلعله أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنصلي معه، فإذا علي عليها، فقال أبو بكر: أمير أم رسول؟ فقال علي: لا بل رسول أرسلني رسول الله صلى الله عليه وسلم، ببراءة أقرؤها على الناس في مواقف الحج، فقدمنا مكة، فلما كان قبل التروية بيوم، قام أبو بكر فخطب في الناس فحدثهم عن

____________

(1) مسند الإمام أحمد 3 / 283.

(2) فضائل الخمسة 2 / 342 - 343.

(3) صحيح الترمذي 2 / 183.

(4) العرج: موضع بن الحرمين، على مبعدة 105 كيلا من المدينة (مسيرة يومين وبعض الثالث) - المغانم المطابة ص 251.

الصفحة 155
مناسكهم، حتى إذا فرغ قام علي، فقرأ على الناس سورة البراءة حتى ختمها، ثم كان يوم النحر فأفضنا، فلما رجع أبو بكر خطب الناس فحدثهم عن إفاضتهم وعن نحرهم عن مناسكهم، فلما فرغ قام علي فقرأ على الناس براءة حتى ختمها، فلما كان يوم النفر الأول، قام أبو بكر فخطب الناس فحدثهم كيف ينفرون، وكيف يرمون، فعلمهم مناسكهم، فلما فرغ قام علي فقرأ على الناس براءة حتى ختمها (1).

وجاء في حديث أنس، رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا ينبغي أن يبلغ هذا، إلا رجل من أهلي، فدعا عليا، فأعطاه إياه (2).

وروى النسائي في الخصائص بسنده عن زيد بن سبيع عن علي رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: بعث ببراءة إلى أهل مكة مع أبي بكر، ثم أتبعه بعلي فقال له: خذ الكتاب فامض به إلى أهل مكة، قال: فلحقه فأخذ الكتاب منه، فانصرف أبو بكر، وهو كئيب، فقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم أنزل في شئ؟، قال: لا إلا أني أمرت أن أبلغه أنا، أو رجل من أهل بيتي (3).

وفي رواية عن عبد الله بن أرقم عن سعد قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم، أبا بكر ببراءة، حتى إذا كان ببعض الطريق، أرسل عليا رضي الله عنه، فأخذها منه، ثم سار بها، فوجد أبو بكر في نفسه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يؤدي عني إلا أنا، أو رجل مني (4).

وروى النسائي في الخصائص بسنده عن أبي الزبير عن جابر: أن

____________

(1) أخرجه النسائي في السنن 5 / 247، والدارمي 2 / 66، والبيهقي 5 / 111، وأبو زرعة الدمشقي تاريخه (1 / 11 / 589) وابن أبي حاتم في تفسيره 4 / 339، والطبراني في المعجم الكبير 11 / 400، والخوارزمي في المناقب، والحاكم في المستدرك، وانظر: محمد عبده يماني:

علموا أولادكم محبة آل النبي ص 113 - 114.

(2) أخرجه الترمذي في التفسير 5 / 256.

(3) النسائي: تهذيب خصائص أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ص 48 - 49 (بيروت 1983).

(4) تهذيب الخصائص ص 49.

الصفحة 156
النبي صلى الله عليه وسلم، حين رجع من عمرة الجعرانة بعث أبا بكر على الحج، فأقبلنا معه حتى إذا كنا بالعرج ثوب بالصبح (1)، فلما استولى بالتكبير سمع الرغوة خلف ظهره، فوقف عن التكبير فقال: هذه رغوة ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم، الجدعاء، لقد بدا لرسول الله صلى الله عليه وسلم في الحج، فلعله أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنصلي معه، فإذا علي، رضي الله عنه، عليها، فقال له أبو بكر: أمير أم رسول، قال: لا بل رسول، أرسلني رسول الله صلى الله عليه وسلم ببراءة، أقرؤها على الناس في مواقف الحج، فقدمنا مكة، فلما كان قبل التروية بيوم، قام أبو بكر فخطب الناس فحدثهم عن مناسكهم، حتى إذا فرغ قام علي فقرأ على الناس براءة حتى ختمها، ثم خرجنا معه حتى إذا كان يوم عرفة، قام أبو بكر فخطب الناس فحثهم على مناسكهم، حتى إذا فرغ قام علي رضي الله عنه، فقرأ على الناس، براءة حتى ختمها، فلما كان النفر الأول قام أبو بكر فخطب الناس فحثهم كيف ينفرون أو كيف يرمون فعلمهم مناسكهم، فلما فرغ قام علي رضي الله عنه، فقرأ على الناس براءة حتى ختمها (2).

وروى النسائي بسنده عن أبي إسحاق عن حبشي بن جنادة السلولي قال:

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: علي مني وأنا منه، فلا يؤدي عني إلا أنا أو علي (3).

وروى النسائي بسنده عن سماك بن حرب عن أنس قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم، براءة مع أبي بكر، ثم دعاه فقال: لا ينبغي أن يبلغ هذا، إلا رجل من أهلي، فدعا عليا فأعطاه إياها (4).

وروى الإمام أحمد في الفضائل بسنده عن أبي إسحاق عن حبشي بن

____________

(1) المراد بالتثويب هنا: الإقامة للصلاة (النهاية 1 / 226).

(2) تهذيب الخصائص ص (49 - 50).

(3) تهذيب الخصائص ص 48.

(4) تهذيب الخصائص ص 48.

الصفحة 157
جنادة، قال ابن آدم السلولي - وكان قد شهد حجة الوداع قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: علي مني، وأنا منه، ولا يقضي عني ديني إلا أنا، أو علي، قال ابن آدم: ولا يؤدي عني إلا أنا، أو علي (1).

ورواه أحمد في المسند، وأخرجه النسائي في الكوفي كما في تحفة الأشراف، ورواه ابن ماجة، وذكره المحب الطبري في الرياض النضرة (2).

وروى السيوطي في الدر المنثور في تفسير قول الله تعالى (براءة من الله ورسوله)، قال: وأخرج ابن حيان وابن مردويه عن أبي سعيد الخدري قال:

بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم، أبا بكر يؤدي عنه براءة، فلما أرسله بعث إلى علي فقال:

يا علي، إنه لا يؤدي عني إلا أنا أو أنت، فحمله على ناقته العضباء، فسار حتى لحق بأبي بكر فأخذ منه براءة، فأتى أبو بكر النبي صلى الله عليه وسلم، وقد دخله من ذلك مخافة أن يكون قد أنزل فيه شئ، فلما أتاه قال: ما لي يا رسول الله (وساق الحديث) إلى ذكر قول النبي صلى الله عليه وسلم لا يبلغ عني غيري، أو رجل مني (3).

وفي السيرة الحلبية: وفي كلام السهيلي (في الروض الآنف): لما أردف أبو بكر بعلي، رضي الله تعالى عنهما، رجع أبو بكر للنبي صلى الله عليه وسلم وقال: يا رسول الله هل نزل في قرآن؟ قال: لا، ولكني أردت أن يبلغ عني من هو من أهل بيتي، فمضى أبو بكر رضي الله عنه، فحج بالناس... وكان نزول صورة براءة بعد سفر أبي بكر رضي الله تعالى عنه، فقيل له صلى الله عليه وسلم: لو بعثت بها إلى أبي بكر، فقال: لا يؤدي عني إلا رجل من أهل بيتي، ثم دعا صلى الله عليه وسلم، عليا، كرم الله وجهه في الجنة، فقال: أخرج بسورة براءة، وأذن في الناس يوم النحر - أي الذي هو يوم الحج الأكبر - إذا اجتمعوا بمنى، فقرأ علي بن أبي طالب،

____________

(1) فضائل الصحابة 2 / 594، وانظر 2 / 599.

(2) المسند 4 / 164، تحفة الأشراف 3 / 13، الرياض النضرة 2 / 229.

(3) فضائل الخمسة 2 / 347.

الصفحة 158
كرم الله وجهه، براءة يوم النحر، عند الجمرة الأولى، وقال: لا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: أمرني علي كرم الله وجهه، أن أطوف في المنازل من منى ببراءة، فكنت أصيح حتى صحل حلقي، فقيل له: بماذا كنت تنادي؟ فقال: بأربع، أن لا يدخل الجنة إلا مؤمن، وأن لا يحج بعد العام مشرك، وأن لا يطوف بالبيت عريان، ومن كان له عهد، فله عهد أربعة شهور، ثم لا عهد له، وأول تلك الأربعة يوم النحر من ذلك العام، وأما من لا عهد له، فعهده إلى انقضاء المحرم (1).

وروى الإمام الطبري في تفسيره عن محمد بن كعب القرظي وغيره قالوا:

بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر أميرا على الموسم سنة تسع، وبعث علي بن أبي طالب، رضي الله عنهما، بثلاثين أو أربعين آية من (براءة)، فقرأها على الناس، يؤجل المشركين أربعة أشهر يسيحون في الأرض، فقرأ عليهم براءة يوم عرفة، أجل المشركين عشرين من ذي الحجة والمحرم وصفر وشهر ربيع الأول، وعشرا من ربيع الآخر، وقرأها عليهم في منازلهم، وقال: لا يحجن بعد عامنا هذا مشرك، ولا يطوفن بالبيت عريان (2).

وفي رواية أخرى عن المحرر بن أبي هريرة عن أبيه قال: كنت مع علي حين بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم ببراءة إلى أهل مكة، فكنت أنادي حتى صحل صوتي، فقلت: بأي شئ كنت تنادي؟ قال: أمرنا أن ننادي: أنه لا يدخل الجنة إلا مؤمن، ومن كان بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، عهد، فأجله إلى أربعة أشهر، فإذا حل الأجل، فإن الله برئ من المشركين ورسوله، ولا يطف بالبيت عريان، ولا يحج بعد العام مشرك (3).

____________

(1) السيرة الحلبية 3 / 232.

(2) تفسير الطبري 14 / 100.

(3) تفسير الطبري 14 / 104 - 105، وانظر روايات أخرى 14 / 105 - 107.

الصفحة 159
وفي رواية عن الإمام أبي جعفر محمد الباقر بن علي بن حسين بن علي قال: لما نزلت براءة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد كان بعث أبا بكر الصديق، رحمة الله عليه، ليقيم الحج للناس، قيل له: يا رسول الله لو بعثت بها إلى أبي بكر، فقال: لا يؤدي عني إلا رجل من أهل بيتي، ثم دعا علي بن أبي طالب، رحمة الله عليه فقال: أخرج بهذه القصة من سورة (براءة)، وأذن في الناس يوم النحر، إذا اجتمعوا بمنى: أنه لا يدخل الجنة كافر، ولا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان، ومن كان له عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، عهد فهو إلى مدته، فخرج علي بن أبي طالب رحمة الله عليه على ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم العضباء، حتى أدرك أبا بكر الصديق بالطريق، فلما رآه أبو بكر قال: أمير أو مأمور، قال: مأمور، ثم مضيا رحمة الله عليهما، فأقام أبو بكر للناس الحج، والعرب إذ ذاك في تلك السنة على منازلهم في الحج التي كانوا عليها في الجاهلية، حتى إذا كان يوم النحر، قام علي بن أبي طالب، رحمة الله عليه، فأذن في الناس بالذي أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا أيها الناس، لا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة، ولا يحج بعد العام مشرك، ولا يطف بالبيت عريان، ثم قدما على رسول الله صلى الله عليه وسلم (1).

وروى ابن كثير في تفسيره: لما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم، من غزوة تبوك، وهم بالحج، ثم ذكر أن المشركين يحضرون عامهم هذا الموسم على عاداتهم في ذلك، وأنهم يطوفون بالبيت عراة، فكره مخالطتهم، وبعث أبا بكر الصديق رضي الله عنه، أميرا على الحج تلك السنة ليقيم للناس مناسكهم، ويعلم المشركين أن لا يحجوا بعد عامهم هذا، وأن ينادي في الناس (براءة من الله ورسوله)، فلما قفل، أتبعه بعلي بن أبي طالب، ليكون مبلغا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكونه عصبة له (2).

____________

(1) تفسير الطبري 14 / 107 - 108، وانظر روايات أخرى 14 / 108 - 112.

(2) تفسير ابن كثير 2 / 519 - 520، وانظر: المستدرك للحاكم (3 / 51) حيث يروي أن النبي أرسل ببراءة أبا بكر وعمر، ثم بعث علي فأخذها منهما.