وأخرج ابن حجر العسقلاني في الإصابة بسنده عن ليلى الغفارية قالت:
كنت أغزو مع النبي صلى الله عليه وسلم، فأداوي الجرحى، وأقوم على المرضى، فلما خرج علي إلى البصرة خرجت معه، فلما رأيت عائشة أتيتها فقلت: هل سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فضيلة في علي، قالت: نعم، دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو معي، وعليه جرد قطيفة، فجلس بيننا، فقلت: أما وجدت مكانا هو أوسع لك من هذا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا عائشة، دعي لي أخي، فإنه أول الناس إسلاما، وآخر الناس بي عهدا، وأول الناس لي لقيا يوم القيامة (3).
وروى عثمان بن سعيد عن عبد الله بن بكير عن حكيم ين جبير قال:
خطب علي عليه السلم، فقال في أثناء خطبته: (أنا عبد الله، وأخو رسوله، لا يقولها أحد قبلي ولا بعدي، إلا كذب، ورثت نبي الرحمة، ونكحت سيدة نساء هذه الأمة، وأنا خاتم الوصيين) (4).
ولعل من الأهمية: بمكان الإشارة إلى أن المهاجرين إنما قد خرجوا من مكة، وقد تركوا فيها أموالهم، وحلوا بالمدينة، وليس لهم فيها بيت يأويهم، ولا مال ينهض بحوائجهم، فاستقبلهم الأنصار على الرحب والسعة، حريصين على الحفاوة بهم، متنافسين في ضيافتهم، حتى أنه ما نزل مهاجري على أنصاري، إلا بقرعة، وذلك من كثرة الراغبين في الإيواء، وتحمل الأعباء، بل إن تاريخ الدنيا كلها لم يعرف حادثا جماعيا، كحادث استقبال الأنصار
____________
(1) كنز العمال 6 / 155.
(2) كفاية الطالب ص 34.
(3) ابن حجر العسقلاني: الإصابة في تمييز الصحابة 4 / 402 - 403.
(4) ابن أبي الحديد: شرح نهج البلاغة 2 / 287.
ويصور القرآن الكريم ذلك كله في قول الله تعالى: (والذين تبوأوا الدار والإيمان من قبلهم * يحبون من هاجر إليهم * ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا * ويؤثرون على أنفسهم * ولو كان بهم خصاصة * ومن يوقن شح نفسه * فأولئك هم المفلحون) (1)، وقد قدر المهاجرون هذا البذل الخالص، فما استغلوه، ما نالوا منه، إلا بقدر ما يتوجهون إلى العمل الحر الشريف.
هذا وقد اختلفت الروايات في ابتداء المؤاخاة، فذهب قوم إلى أنها إنما كانت إبان بناء النبي صلى الله عليه وسلم، لمسجده الشريف، وذهب آخرون إلى أنها بعد الهجرة بخمسة أشهر أو تسعة، على أن هناك وجها ثالثا للنظر يذهب أصحابه إلى أنها كانت قبل بدر بسنة وثلاثة أشهر، وعند ابن سعد (في شرف المصطفى) أنها كانت في المسجد هذا وقد ظلت عقود الإخاء مقدمة على حقوق القرابة من توارث التركات، فكان إذا مات المهاجر ورثه أخوه الأنصاري، وإذا مات الأنصاري ورثه أخوه المهاجر، فلما كانت (غزوة بدر) (في صباح يوم الجمعة 17 رمضان عام 2 هـ = 17 مارس 624 م)، وعز شأن الإسلام، نزلت آية الأنفال (وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله * إن الله بكل شئ عليم) (2)، فنسخت هذه الآية ما كان قبلها، وانقطعت المؤاخاة في الميراث، ورجع كل إنسان إلى نسبه، وورثه ذو رحمه.
ويروي البخاري في صحيحه (3) بسنده عن ابن عباس في تفسير آية النساء
____________
(1) سورة الحشر: آية 9.
(2) سورة الأنفال: آية 75.
(3) صحيح البخاري 6 / 55 - 56.
على أن هناك ما يشير إلى أن منع الإرث، إنما كان بعد أحد، وليس بعد بدر، جاء في تفسير ابن كثير: أخرج ابن سعد: آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم، بين الزبير بن العوام وكعب بن مالك، قال الزبير: لقد رأيت كعبا أصابته الجراحة بأحد، فقلت: لو مات ورثته، فنزلت آية الأنفال (75).
ولا ريب في أن الهدف من المؤاخاة إنما كان ليذهب عن المهاجرين وحشة الغربة، ويؤنسهم، من مفارقة الأهل والعشيرة، ويشد أزرهم بعضهم ببعض، ويتوارثون بعد الممات، دون ذوي الأرحام، ويروي ابن إسحاق في السيرة عن تفاصيل هذا الإخاء فيقول: آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم، بين أصحابه من المهاجرين والأنصار، فقال: تآخوا في الله أخوين أخوين، ثم أخذ بيد علي بن أبي طالب، فقال: هذا أخي، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم، سيد المرسلين، وإمام المتقين، ورسول رب العالمين، الذي ليس له خطير ولا نظير من العباد، وعلي بن أبي طالب، رضي الله عنه أخوين، ثم يعدد ابن إسحاق أسماء من آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم، بينهم من المهاجرين والأنصار (3).
ولعل من الجدير بالإشارة أن هناك مؤاخاة أخرى، كانت قبل الهجرة، آخى فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم بين حمزة وزيد بن حارثة، وبين أبي بكر وعمر بن
____________
(1) سورة النساء: آية 33، وانظر: تفسير ابن كثير 1 / 738 - 740 (بيروت (1986).
(2) تفسير ابن كثير 1 / 740 - 741.
(3) سيرة ابن هشام 2 / 320 - 321، وانظر: السيرة الحلبية 2 / 291.
هذا وقد أنكر (ابن تيمية) مؤاخاة المهاجرين بعضهم لبعض، وخصوصا بين المصطفى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلي بن أبي طالب، رضي الله عنه، وكرم الله وجهه في الجنة، وقال: إن المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، ولا معنى لمؤاخاة مهاجرين لمهاجرين، لأن المؤاخاة شرعت لإرفاق بعضهم ببعض (2).
وقد تابع (ابن تيمية) في رأيه هذا، (ابن القيم) و (ابن كثير)، وقال (ابن القيم): إن المؤاخاة كانت بين المهاجرين والأنصار، وأن المهاجرين كانوا مستغنين بأخوة الإسلام، وأخوة الدار، وقرابة النسب، عن عقد مؤاخاة، بخلاف المهاجرين مع الأنصار، ولو آخى النبي صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين، لاختار الصديق، رضي الله عنه (3).
هذا وقد رد (ابن حجر العسقلاني) على ذلك - فيما يروي الزرقاني في شرح المواهب اللدنية - بأن هذا القول رد للنص بالقياس، وأن الحكمة في مؤاخاة المهاجرين أن بعضهم كان أقوى من بعض، في المال والعشيرة، فآخى النبي صلى الله عليه وسلم، بين الأعلى والأدنى، ليرتفق الأدنى بالأعلى، وبهذا ظهرت الحكمة في مؤاخاة النبي صلى الله عليه وسلم، لعلي رضي الله عنه، لأنه صلى الله عليه وسلم هو الذي كان يقوم بأمره قبل البعثة وبعدها (4).
____________
(1) فتح الباري 7 / 191، البلاذري: أنساب الأشراف 1 / 270 (القاهرة 1959).
(2) فتاوى ابن تيمية 35 / 92 - 93.
(3) ابن قيم الجوزية: زاد المعاد في هدى خير العباد 3 / 63 - 65 (بيروت 1985).
(4) السيرة الحلبية 2 / 181 - 182.
وأما (ابن كثير) فربما كان أقرب إلى الموافقة على مؤاخاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، لعلي، أكثر منه رفضا لها، فيقول: أما مؤاخاة النبي صلى الله عليه وسلم، لعلي، فإن من العلماء من ينكرها، ويمنع صحتها، ومستنده في ذلك أن هذه المؤاخاة إنما شرعت لأجل ارتفاق بعضهم مع بعض، وليتألف قلوب بعضهم على بعض، فلا معنى لمؤاخاة النبي صلى الله عليه وسلم، لأحد منهم، ولمهاجري آخر، كما ذكر من مؤاخاة حمزة وزيد بن ثابت، اللهم إلا أن يكون صلى الله عليه وسلم، لم يجعل مصلحة علي إلى غيره، فإنه كان ممن ينفق عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، من صغره، في حياة أبيه أبي طالب، وكذلك يكون حمزة قد التزم بمصالح مولاهم زيد بن حارثة، فأخذه بهذا الاعتبار (2).
هذا وقد عرض شيخ الإسلام عز الدين بن عبد السلام (577 - 660 هـ / 1181 - 1262 م) لقضية المؤاخاة بما يشعر بأنه لا مانع من وقوع
____________
(1) ابن قيم الجوزية: زاد المعاد في هدى خير العباد 3 / 374، 377، 378.
(2) ابن كثير: البداية والنهاية 3 / 272، السيرة النبوية 2 / 326.
ويقول العلامة أبو زهرة: وما ينكره (ابن القيم) نحن نثبته، ونرجح أن المؤاخاة بين المهاجرين بعضهم مع بعض، والأنصار بعضهم مع بعض نقررها، وذلك لأن الحافظ ابن كثير لم يتكلم في صحة هذه الرواية المثبتة، ولأن قصر الباعث في المؤاخاة على مجرد تمكين المهاجرين من الارتفاق من إخوانهم الأنصار، قصر لا دليل عليه، بل هو أخذ من ظاهر الهجرة والإيواء والنصرة، كما صرح بذلك القرآن الكريم.
ثم يقول: إن المؤاخاة ليس المقصود منها - فيما نحسب - هذا الارتفاق فقط، ولكن آثار غير ذلك:
منها (أولا) عقد الألفة بين الضعيف والقوي، وتمكين الصحبة بين المؤمنين، وألا يتعالى مؤمن على مؤمن، وناهيك بمؤاخاة حمزة - الشريف النسب - مع زيد بن حارثة، المولى، الذي كان عبدا، ومن النبي صلى الله عليه وسلم، عليه بالعتق، وكان قد أعلاه، وجعله ابنا له، حتى حرم الله تعالى الأدعياء، وقال سبحانه وتعالى: (وما جعل أدعياءكم أبناءكم)، فكان من حكمة النبي صلى الله عليه وسلم أن يجعله أخا لابن عبد المطلب.
ومنها (ثانيا) أن المهاجرين كانوا من قبائل مختلفة، والقرشيون منهم،
____________
(1) المستدرك للحاكم 1 / 580، الإستيعاب في معرفة الأصحاب لابن عبد البر 2 / 397.
ومنها (ثالثا) أن الأنصار لم يكونوا متآلفين فيما بينهم، فكانت على مقربة من هدايتهم، العداوة المستمرة الأوار بينهم، بين الأوس والخزرج، فكان لا بد من العمل على نسيانها، وذلك بالمؤاخاة المحمدية.
ومنها (رابعا) أن النبي صلى الله عليه وسلم، عندما عقد المؤاخاة، إنما كان يشرع للأمة من بعث هذا النظام الذي يجمع المسلمين، ولم يكن حكما لحادثة واقعة، ولا علاجا مقصورا، على ما بين المهاجرين والأنصار، بل هو تأليف للمؤمنين، ونظام متبع، وربما تكون الحاجة إليه من بعد، أشد وأكبر، ولذلك كان ولاء الموالاة الذي تقرر، أنه لم ينسخ، وأنه بين العرب وغيرهم من الأعاجم الذين يدخلون في الإسلام من بعد (1).
وفي الواقع فإن الأحاديث الشريفة التي رويت عن سيدنا ومولانا وجدنا محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم في مؤاخاته للإمام علي بن أبي طالب - رضي الله عنه، وكرم الله وجهه في الجنة، جد كثيرة، وأكبر من أن يقف في سبيلها قول قائل - كما رأينا من قبل - فلقد آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم، مرتين، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم، آخى بين المهاجرين، ثم آخى بين المهاجرين والأنصار بعد الهجرة، وقال لعلي، في كل واحدة منها: أنت أخي في الدنيا والآخرة (2).
ولعل من الأهمية بمكان الإشارة إلى أن أخوة النبي صلى الله عليه وسلم، للإمام علي بن أبي طالب، إنما تمتاز عن غيرها، من أخوة الإيمان العامة، التي كانت بين أفراد المهاجرين قبل الهجرة، بما كان للإمام علي - رضي الله عنه، وكرم الله وجهه في الجنة - من منزلة خاصة عند النبي صلى الله عليه وسلم، دون الناس جميعا، اقتضتها
____________
(1) محمد أبو زهرة: خاتم النبيين 2 / 558 - 559 (دار الفكر العربي).
(2) ابن الأثير: أسد الغابة 4 / 91.
ولعل مما يؤيد ذلك قول ابن عبد البر في الإستيعاب: ولم يتخلف علي عن مشهد شهده رسول الله صلى الله عليه وسلم، منذ قدم المدينة، إلا تبوك، فإنه خلفه رسول الله صلى الله عليه وسلم، على المدينة وعلى عياله بعده في غزوة تبوك، وقال له في الحديث الصحيح: (أنت مني بمنزلة هارون من موسى)، وفي رواية (أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى، إلا أنه لا نبي بعدي) (1).
ولا ريب في أن هذا كله، إنما يدل على أخوة خاصة، أرفع درجات من الأخوة الإيمانية العامة، أغنت الإمام عن أن يدخل في المؤاخاة العامة التي كانت بين المهاجرين بعضهم مع بعض، والتي كان النبي صلى الله عليه وسلم، ينميها بكل وسيلة، وكما قال ابن عبد البر وابن الأثير: إن النبي صلى الله عليه وسلم، آخى بين المهاجرين بعضهم مع بعض، وآخى بين المهاجرين والأنصار، وقال في كل واحدة منهما لعلي، رضي الله عنه، (أنت أخي في الدنيا والآخرة)، وآخى بينه وبين نفسه (2).
وهكذا، ولحكمة أرادها الله، كرر النبي صلى الله عليه وسلم، قوله لعلي، رضي الله عنه:
(أنت أخي في الدنيا والآخرة)، مرة في عقدة أخوة المهاجرين بعضهم مع بعض، ومرة في عقد الأخوة بين المهاجرين والأنصار، وقال ابن عبد البر: وقد روينا من وجوه، عن علي رضي الله عنه، أنه كان يقول: (أنا عبد الله وأخو رسول الله، لا يقولها أحد غيري إلا كذاب) (3).
____________
(1) ابن عبد البر: الإستيعاب في معرفة الأصحاب 3 / 34.
(2) ابن الأثير: أسد الغابة 4 / 91 الإستيعاب 3 / 35.
(3) الإستيعاب 3 / 35.
وفي الحق أن الإمام علي إنما كان لسيدنا ومولانا وجدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(كان أخا وابنا وعونا - دائما وأبدا - حتى كان آخر عهد النبي صلى الله عليه وسلم، بالحياة، بل كان يقوم، بما كان يقوم به النبي صلى الله عليه وسلم، في أموره الخاصة، ولعل حوادث: ليلة الهجرة، ويوم تبوك، ويوم براءة، مما يؤيد وجهة نظرنا هذه (1).
ولعل سائلا يتساءل: ما مدلول هذا الإخاء بين النبي صلى الله عليه وسلم، والإمام علي؟
وهل يضيف ما لعلي من فضل في خاصة نفسه، وما أعطى لله ولرسوله من جهاد وتضحية وإيثار؟
من البدهي أن الجواب نعم، وقد أمسك علي نفسه - فيما يرى الأستاذ الخطيب - بهذا الفضل العظيم، والشرف الكبير، اللذين كانا من هذا النسب
____________
(1) علي بن برهان الدين الحلبي: إنسان العيون في سيرة الأمين المأمون - الشهيرة بالسيرة الحلبية 2 / 291 - 296 (القاهرة 1964)، محمد الصادق إبراهيم عرجون: محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم 2 / 53 - 74 (بيروت 1985)، محمد أبو زهرة: خاتم النبيين 2 / 556 - 560، أبو الحسن الندوي:
السيرة النبوية ص 172 - 173 (جدة 1983)، محمد رضا: محمد رسول الله ص 149 - 150 (بيروت 1975)، محمد سعيد رمضان البوطي: فقه السيرة ص 155 - 159 (دار الفكر - بيروت 1978)، محمد بيومي مهران: السيرة النبوية الشريفة 2 / 27 - 35 (دار النهضة العربية - بيروت 1990).
وفي الواقع أن الإمام علي، لو سكت عن التحدث بهذا الفضل، ومباهاة الناس بتلك الأخوة، وإلفاتهم إليها، لما سكت الناس، ذلك لأن دلالتها لا تخفى على أحد، وكان مما تنطوي عليه من نفحات النبوة، أقوى من أن يحول بينها وبين أن تشم في أعطاف الإمام علي، وما يعرض للنفوس الحاقدة من علل، وما يصيب القلوب الكارهة من مرض.
على أن هناك فرقا بين هذه الأخوة، وقرابة الإمام علي من سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، في النسب فهما أبناء عم، كان مرباهما معا إلى أبي طالب، العم البار الرحيم، الذي قام من النبي صلى الله عليه وسلم مقام الأب، عطفا وحنوا، حتى كان لابنه علي أشبه بالعم، إذ استأثر النبي صلى الله عليه وسلم، بأبوته، كما استأثر النبي صلى الله عليه وسلم، بعلي دونه في رعايته وتنشئته، والنظر في أمره كله، فهذه القرابة التي جمعت بين النبي صلى الله عليه وسلم، وعلي، كان من شأنها أن تجعل من ابني العم أخوين، نسبا وقرابة، ودون أن يكون لفارق السن بينهما حساب في تقرير هذه الأخوة، فقد كان بين الإمام علي وبين بعض إخوته من أبيه وأمه، أكثر مما بينه وبين ابن عمه النبي صلى الله عليه وسلم، من فارق السن.
وعند أكثر الذين تلقوا قول الرسول صلى الله عليه وسلم، لعلي: (أنت أخي ترثني وأرثك)، قد وقع في نفوسهم أن هذه الأخوة، إنما هي أخوة قرابة ونسب، إن لم تكن على سبيل الحقيقة، فعلى سبيل المجاز.
غير أن المؤاخاة بين النبي صلى الله عليه وسلم، وعلي، غير قرابة النسب، والقرابة القريبة، فقد ظلت هذه الأخوة قائمة، حتى بعد أن نسخت آيات المواريث ما كان يترتب عليها من ميراث الأخ لأخيه، بدليل حديث المنزلة الصحيح المشهور (أنت مني بمنزلة هارون من موسى، إلا أنه لا نبي بعدي)، وهو في غزوة تبوك، سنة تسع من الهجرة، وهي كذلك باقية، إذا لم يكن من ورائها قرابة ونسب.
وقد ظلت هذه الأخوة، أو المؤاخاة عاملة بين النبي صلى الله عليه وسلم، والإمام علي، تعطي آثارها في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، في كل موقف يحتاج فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلى أن يلقاه بنفسه، أو بمن يراه في منزلة نفسه، كما في أحداث ليلة الهجرة، وسورة براءة، وغزوة تبوك، وقوله صلى الله عليه وسلم: (أنت مني بمنزلة هارون من موسى، إلا أنه لا نبي بعدي) (1).
وهل بعد هذا دليل على أن الإمام علي بن أبي طالب إنما كان أحق الناس بخلافة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
11 - قوله صلى الله عليه وسلم: لا يؤدي عني إلا أنا أو علي:
روى الترمذي في صحيحه بسنده عن أنس بن مالك قال: بعث النبي صلى الله عليه وسلم، ببراءة مع أبي بكر، ثم دعاه فقال: لا ينبغي لأحد أن يبلغ هذا، إلا رجل من أهلي، فدعا عليا، فأعطاه إياه (2).
____________
(1) عبد الكريم الخطيب: علي بن أبي طالب - بقية النبوة وخاتم الخلافة - بيروت 1975، محمد بيومي مهران: السيرة النبوية الشريفة 2 / 33 - 34 (دار النهضة العربية - بيروت 1990).
(2) صحيح الترمذي 2 / 183.
وروى الترمذي أيضا بسنده عن ابن عباس قال: بعث النبي صلى الله عليه وسلم، أبا بكر، وأمره أن ينادي بهذه الكلمات، ثم اتبعه عليا، فبينا أبو بكر في بعض الطريق، إذ سمع رغاء ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم، القصواء، فخرج أبو بكر فزعا، فظن أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا هو علي، فدفع إليه كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمر عليا أن ينادي بهذه الكلمات (الحديث).
ثم روى عن زيد بن يثيع قال: سألنا عليا بأي شئ بعثت في الحجة؟
قال: بعثت بأربع: أن لا يطوف بالبيت عريان، ومن كان بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم، عهد، فإلى مدته، ومن لم يكن له عهد، فأجله أربعة أشهر، ولا يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة، ولا يجتمع المسلمون والمشركون بعد عامهم هذا (3).
وعن جابر رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم، بعث أبا بكر، رضي الله عنه، فأقبلنا معه، حتى إذا كان بالعرج (4)، ثوب بالصبح، ثم استوى ليكبر، فسمع الرغوة خلف ظهره، فوقف عن التكبير، فقال: هذه رغوة ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم، لقد بدا لرسول الله صلى الله عليه وسلم في الحج، فلعله أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنصلي معه، فإذا علي عليها، فقال أبو بكر: أمير أم رسول؟ فقال علي: لا بل رسول أرسلني رسول الله صلى الله عليه وسلم، ببراءة أقرؤها على الناس في مواقف الحج، فقدمنا مكة، فلما كان قبل التروية بيوم، قام أبو بكر فخطب في الناس فحدثهم عن
____________
(1) مسند الإمام أحمد 3 / 283.
(2) فضائل الخمسة 2 / 342 - 343.
(3) صحيح الترمذي 2 / 183.
(4) العرج: موضع بن الحرمين، على مبعدة 105 كيلا من المدينة (مسيرة يومين وبعض الثالث) - المغانم المطابة ص 251.
وجاء في حديث أنس، رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا ينبغي أن يبلغ هذا، إلا رجل من أهلي، فدعا عليا، فأعطاه إياه (2).
وروى النسائي في الخصائص بسنده عن زيد بن سبيع عن علي رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: بعث ببراءة إلى أهل مكة مع أبي بكر، ثم أتبعه بعلي فقال له: خذ الكتاب فامض به إلى أهل مكة، قال: فلحقه فأخذ الكتاب منه، فانصرف أبو بكر، وهو كئيب، فقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم أنزل في شئ؟، قال: لا إلا أني أمرت أن أبلغه أنا، أو رجل من أهل بيتي (3).
وفي رواية عن عبد الله بن أرقم عن سعد قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم، أبا بكر ببراءة، حتى إذا كان ببعض الطريق، أرسل عليا رضي الله عنه، فأخذها منه، ثم سار بها، فوجد أبو بكر في نفسه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يؤدي عني إلا أنا، أو رجل مني (4).
وروى النسائي في الخصائص بسنده عن أبي الزبير عن جابر: أن
____________
(1) أخرجه النسائي في السنن 5 / 247، والدارمي 2 / 66، والبيهقي 5 / 111، وأبو زرعة الدمشقي تاريخه (1 / 11 / 589) وابن أبي حاتم في تفسيره 4 / 339، والطبراني في المعجم الكبير 11 / 400، والخوارزمي في المناقب، والحاكم في المستدرك، وانظر: محمد عبده يماني:
علموا أولادكم محبة آل النبي ص 113 - 114.
(2) أخرجه الترمذي في التفسير 5 / 256.
(3) النسائي: تهذيب خصائص أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ص 48 - 49 (بيروت 1983).
(4) تهذيب الخصائص ص 49.
وروى النسائي بسنده عن أبي إسحاق عن حبشي بن جنادة السلولي قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: علي مني وأنا منه، فلا يؤدي عني إلا أنا أو علي (3).
وروى النسائي بسنده عن سماك بن حرب عن أنس قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم، براءة مع أبي بكر، ثم دعاه فقال: لا ينبغي أن يبلغ هذا، إلا رجل من أهلي، فدعا عليا فأعطاه إياها (4).
وروى الإمام أحمد في الفضائل بسنده عن أبي إسحاق عن حبشي بن
____________
(1) المراد بالتثويب هنا: الإقامة للصلاة (النهاية 1 / 226).
(2) تهذيب الخصائص ص (49 - 50).
(3) تهذيب الخصائص ص 48.
(4) تهذيب الخصائص ص 48.
ورواه أحمد في المسند، وأخرجه النسائي في الكوفي كما في تحفة الأشراف، ورواه ابن ماجة، وذكره المحب الطبري في الرياض النضرة (2).
وروى السيوطي في الدر المنثور في تفسير قول الله تعالى (براءة من الله ورسوله)، قال: وأخرج ابن حيان وابن مردويه عن أبي سعيد الخدري قال:
بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم، أبا بكر يؤدي عنه براءة، فلما أرسله بعث إلى علي فقال:
يا علي، إنه لا يؤدي عني إلا أنا أو أنت، فحمله على ناقته العضباء، فسار حتى لحق بأبي بكر فأخذ منه براءة، فأتى أبو بكر النبي صلى الله عليه وسلم، وقد دخله من ذلك مخافة أن يكون قد أنزل فيه شئ، فلما أتاه قال: ما لي يا رسول الله (وساق الحديث) إلى ذكر قول النبي صلى الله عليه وسلم لا يبلغ عني غيري، أو رجل مني (3).
وفي السيرة الحلبية: وفي كلام السهيلي (في الروض الآنف): لما أردف أبو بكر بعلي، رضي الله تعالى عنهما، رجع أبو بكر للنبي صلى الله عليه وسلم وقال: يا رسول الله هل نزل في قرآن؟ قال: لا، ولكني أردت أن يبلغ عني من هو من أهل بيتي، فمضى أبو بكر رضي الله عنه، فحج بالناس... وكان نزول صورة براءة بعد سفر أبي بكر رضي الله تعالى عنه، فقيل له صلى الله عليه وسلم: لو بعثت بها إلى أبي بكر، فقال: لا يؤدي عني إلا رجل من أهل بيتي، ثم دعا صلى الله عليه وسلم، عليا، كرم الله وجهه في الجنة، فقال: أخرج بسورة براءة، وأذن في الناس يوم النحر - أي الذي هو يوم الحج الأكبر - إذا اجتمعوا بمنى، فقرأ علي بن أبي طالب،
____________
(1) فضائل الصحابة 2 / 594، وانظر 2 / 599.
(2) المسند 4 / 164، تحفة الأشراف 3 / 13، الرياض النضرة 2 / 229.
(3) فضائل الخمسة 2 / 347.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: أمرني علي كرم الله وجهه، أن أطوف في المنازل من منى ببراءة، فكنت أصيح حتى صحل حلقي، فقيل له: بماذا كنت تنادي؟ فقال: بأربع، أن لا يدخل الجنة إلا مؤمن، وأن لا يحج بعد العام مشرك، وأن لا يطوف بالبيت عريان، ومن كان له عهد، فله عهد أربعة شهور، ثم لا عهد له، وأول تلك الأربعة يوم النحر من ذلك العام، وأما من لا عهد له، فعهده إلى انقضاء المحرم (1).
وروى الإمام الطبري في تفسيره عن محمد بن كعب القرظي وغيره قالوا:
بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر أميرا على الموسم سنة تسع، وبعث علي بن أبي طالب، رضي الله عنهما، بثلاثين أو أربعين آية من (براءة)، فقرأها على الناس، يؤجل المشركين أربعة أشهر يسيحون في الأرض، فقرأ عليهم براءة يوم عرفة، أجل المشركين عشرين من ذي الحجة والمحرم وصفر وشهر ربيع الأول، وعشرا من ربيع الآخر، وقرأها عليهم في منازلهم، وقال: لا يحجن بعد عامنا هذا مشرك، ولا يطوفن بالبيت عريان (2).
وفي رواية أخرى عن المحرر بن أبي هريرة عن أبيه قال: كنت مع علي حين بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم ببراءة إلى أهل مكة، فكنت أنادي حتى صحل صوتي، فقلت: بأي شئ كنت تنادي؟ قال: أمرنا أن ننادي: أنه لا يدخل الجنة إلا مؤمن، ومن كان بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، عهد، فأجله إلى أربعة أشهر، فإذا حل الأجل، فإن الله برئ من المشركين ورسوله، ولا يطف بالبيت عريان، ولا يحج بعد العام مشرك (3).
____________
(1) السيرة الحلبية 3 / 232.
(2) تفسير الطبري 14 / 100.
(3) تفسير الطبري 14 / 104 - 105، وانظر روايات أخرى 14 / 105 - 107.
وروى ابن كثير في تفسيره: لما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم، من غزوة تبوك، وهم بالحج، ثم ذكر أن المشركين يحضرون عامهم هذا الموسم على عاداتهم في ذلك، وأنهم يطوفون بالبيت عراة، فكره مخالطتهم، وبعث أبا بكر الصديق رضي الله عنه، أميرا على الحج تلك السنة ليقيم للناس مناسكهم، ويعلم المشركين أن لا يحجوا بعد عامهم هذا، وأن ينادي في الناس (براءة من الله ورسوله)، فلما قفل، أتبعه بعلي بن أبي طالب، ليكون مبلغا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكونه عصبة له (2).
____________
(1) تفسير الطبري 14 / 107 - 108، وانظر روايات أخرى 14 / 108 - 112.
(2) تفسير ابن كثير 2 / 519 - 520، وانظر: المستدرك للحاكم (3 / 51) حيث يروي أن النبي أرسل
ببراءة أبا بكر وعمر، ثم بعث علي فأخذها منهما.