الصفحة 229

19 - قوله صلى الله عليه وسلم عن علي: ما أنا انتجيته، ولكن الله انتجاه:

اختص الله تعالى الإمام علي بن أبي طالب، بمناجاة الرسول صلى الله عليه وسلم، يوم الطائف، فلقد روى جابر، رضي الله عنه، قال: دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم، عليا، يوم الطائف، فانتجاه، فقال الناس: لقد طال نجواه مع ابن عمه، فقال صلى الله عليه وسلم: ما أنا انتجيته، ولكن الله انتجاه (1).

وقال: ومعنى قوله: ولكن الله انتجاه، أي أن الله أمري أن أنتجي معه (2).

وفي نهج البلاغة: دعا صلى الله عليه وسلم، عليا في غزوة الطائف، فانتجاه، وأطال نجواه، حتى كره قوم من الصحابة ذلك، فقال قائل منهم: لقد أطال اليوم نجوى ابن عمه، فبلغه عليه الصلاة والسلام ذلك، فجمع منهم قوما، ثم قال:

إن قائلا قال: لقد أطال اليوم نجوى ابن عمه، أما إني ما انتجيته، ولكن الله انتجاه - رواه أحمد رحمه الله في المسند (3).

20 - مبيت الإمام علي في فراش النبي صلى الله عليه وسلم، ليلة الهجرة:

روى الفخر الرازي في التفسير الكبير في تفسير قول الله تعالى: (ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله، والله رؤوف بالعباد) (4)، قال: نزلت في علي بن أبي طالب عليه السلام، بات على فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم، ليلة خروجه إلى الغار.

قال: ويروى أنه لما نام على فراشه صلى الله عليه وسلم، قام جبريل عند رأسه، وميكائيل عند رجليه، وجبريل ينادي: بخ بخ، من مثلك يا ابن أبي طالب، يباهي الله بك

____________

(1) ناجاه وانتجاه: أي حادثه وساره (ابن الأثير: جامع الأصول 8 / 659).

(2) رواه الترمذي برقم (36438) عن الطبراني، بأن النبي صلى الله عليه وسلم، بقي مع علي يوم الطائف مليا، ثم مر، فقال له أبو بكر: يا رسول الله، لقد طلت مناجاتك عليا منذ اليوم، فقال الحديث (محمد عبده يماني: علموا أولادكم محبة آل بيت النبي ص 111).

(3) ابن أبي الحديد: شرح نهج البلاغة 9 / 173.

(4) سورة البقرة: آية 207.

الصفحة 230
الملائكة، ونزلت الآية، يعني بها: (ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله * والله رؤوف بالعباد) (1).

وروى ابن الأثير في أسد الغابة بإسناده إلى الأستاذ أبي إسحاق، أحمد بن إبراهيم الثعلبي المفسر، قال: رأيت في بعض الكتب، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لما أراد الهجرة، خلف علي بن أبي طالب بمكة لقضاء ديون، ورد الودائع التي كانت عنده، وأمره ليلة خرج إلى الغار، وقد أحاط المشركون بالدار، أن ينام على فراشه، وقال له: اتشح ببردي الحضرمي الأخضر، فإنه لا يخلص إليك منهم مكروه، إن شاء الله تعالى، ففعل ذلك، فأوحى الله إلى جبريل وميكائيل عليهما السلام: إني آخيت بينكما، وجعلت عمر أحدكما أطول من عمر الآخر، فأيكما يؤثر صاحبه بالحياة؟ فاختار كلاهما الحياة، فأوحى الله عز وجل إليهما: أفلا كنتما مثل علي بن أبي طالب؟ آخيت بينه وبين نبيي محمد، فبات على فراشه يحرسه، يفديه، بنفسه ويؤثره بالحياة، إهبطا إلى الأرض واحفظاه من عدوه، فنزلا، فكان جبريل عند رأس علي، وميكائيل عند رجليه، وجبريل ينادي: بخ بخ، من مثلك يا ابن أبي طالب، يباهي الله عز وجل به الملائكة، فأنزل الله عز وجل على رسوله، وهو متوجه إلى المدينة في شأن علي (ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله * والله رؤوف بالعباد) (2).

وروى ابن الأثير في أسد الغابة بسنده عن يونس بن بكير عن ابن إسحاق قال: وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم - يعني بعد أن هاجر أصحابه إلى المدينة - ينتظر مجئ جبريل عليه السلام، وأمره له أن يخرج من مكة، بإذن الله له في الهجرة إلى المدينة، حتى إذا اجتمعت قريش فمكرت بالنبي، وأرادوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أرادوا، أتاه جبريل عليه السلام، وأمره أن لا يبيت في مكانه الذي يبيت فيه،

____________

(1) فضائل الخمسة 2 / 309.

(2) أسد الغابة 4 / 103 - 104، سورة البقرة: آية 207. وانظر (محمد بيومي مهران: السيرة النبوية الشريفة 1 / 319 - 324 - بيروت 1990 م).

الصفحة 231
فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم، علي بن أبي طالب، فأمره أن يبيت على فراشه، ويتسجى ببرد له أخضر، ففعل، ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم، على القوم، وهم على بابه.

قال ابن إسحاق: وتتابع الناس في الهجرة، وكان آخر من قدم المدينة من الناس ولم يفتن في دينه، علي بن أبي طالب، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أخره بمكة، وأمره أن ينام على فراشه وأجله ثلاثا، وأمره أن يؤدي إلى كل ذي حق حقه ففعل، ثم لحق برسول الله صلى الله عليه وسلم (1).

وقال المنادي في كنوز الحقائق: إن الله يباهي بعلي كل يوم الملائكة - قال: أخرجه الديلمي (2).

وروى النسائي بسنده عن عمرو بن ميمون... إلى أن قال: وشرى علي نفسه، لبس ثوب النبي صلى الله عليه وسلم، ثم نام مكانه، قال: وكان المشركون يرمون رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاء أبو بكر، وعلي نائم، قال: وأبو بكر يحسبه أنه نبي الله، قال: فقال له علي: إن نبي الله صلى الله عليه وسلم قد انطلق نحو بئر ميمون فأدركه، قال:

فانطلق أبو بكر، فدخل معه الغار، قال: وجعل علي يرمي بالحجارة، كما كان يرمي نبي الله، وهو يتضور، قال: لف رأسه في الثوب لا يخرجه، حتى أصبح، ثم كشف عن رأسه، فقالوا: إنك للئيم، كان صاحبك نرميه، فلا يتضور، وأنت تتضور، وقد استنكرنا ذلك (3).

ورواه الحاكم في المستدرك، ولا إمام أحمد في المسند، والمحب الطبري في الذخائر، والمتقي في كنز العمال، والهيثمي في مجمعه، وقال رواه أحمد، والطبراني في الكبير والأوسط اختصار (4).

____________

(1) أسد الغابة 4 / 95، سيرة ابن هشام 1 / 480 - 485.

(2) كنوز الحقائق ص 31.

(3) تهذيب خصائص للنسائي ص 27 - 28.

(4) المستدرك للحاكم 3 / 4، المسند 1 / 330، كنز العمال 8 / 133، ذخائر العقبى ص 86، مجمع الزوائد 9 / 119.

الصفحة 232
وروى الحاكم في المستدرك بسنده عن الإمام علي زين العابدين بن الإمام الحسين عليهما السلام: أن أول من شرى نفسه ابتغاء مرضاة الله، علي بن أبي طالب عليه السلام، وقال علي، عند مبيته على فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم:

وقت نفسي خير من وطأ الحصى * ومن طاف البيت العتيق والحجر
رسول إله خاف أن يمكروا به * فنجاه ذو الطول الإله من المكر
وبات رسول الله في الغار آمنا * موقى وفي حفظ الإله وفي ستر
وبت أراعيهم ولم يتهمونني * وقد وطنت نفسي على القتل والأسر (1)

وروى الإمام أحمد في المسند بسنده عن ابن عباس في قوله تعالى: (وإذ يمكر الذين كفروا ليثبتوك...) قال: تشاورت قريش ليلة بمكة، فقال بعضهم:

إذا أصبح فأثبتوه بالوثاق - يريدون النبي صلى الله عليه وسلم - وقال بعضهم: بل اقتلوه، وقال بعضهم: بل اخرجوه، فاطلع الله عز وجل نبيه على ذلك، فبات علي عليه السلام، على فراش النبي صلى الله عليه وسلم، تلك الليلة، وخرج النبي صلى الله عليه وسلم، حتى لحق بالغار، وبات المشركون يحرسون عليا، يحسبونه النبي صلى الله عليه وسلم، فلما أصبحوا ثاروا إليه، فلما رأوا عليا، رد الله مكرهم، فقالوا: أين صاحبك هذا؟ قال: لا أدري، فاقتفوا أثره، فلما بلغوا الجبل خلط عليهم، فصعدوا في الجبل، فمروا بالغار، فرأوا على بابه نسج العنكبوت، فقالوا: لو دخل هاهنا، لم يكن نسج العنكبوت على بابه، فمكث فيه ثلاث ليال (2).

ورواه الخطيب البغدادي في تاريخه، والهيثمي في مجمعه وقال: رواه أحمد والطبراني (3).

____________

(1) المستدرك للحاكم 3 / 4.

(2) مسند الإمام أحمد 1 / 348.

(3) تاريخ بغداد 13 / 191، مجمع الزوائد 7 / 27.

الصفحة 233
وروى المتقي الهندي في كنز العمال بسنده عن أبي الطفيل، عامر بن واثلة، قال: كنت على الباب يوم الشورى فارتفعت الأصوات بينهم، فسمعت عليا عليه السلام يقول: بايع الناس لأبي بكر، وأنا والله أولى بالأمر منه، وأحق به منه - إلى أن قال: إن عمر جعلني في خمسة أنفار، أنا سادسهم، لا يعرف:

لي فضلا عليهم في الصلاح، ولا يعرفونه لي، كلنا فيه شرع سواء، وأيم الله، لو أشاء أن أتكلم، ثم لا يستطيع عربيهم ولا عجميهم، ولا المعاهد منهم ولا المشرك، رد خصلة منها لفعلت - إلى أن قال: أفيكم أحد كان أعظم غناء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، حين اضطجعت على فراشه، ووقيته بنفسي، وبذلت له مهجة دمي، قالوا: اللهم لا (1).

وروى السيوطي في تفسير (الدر المنثور) في تفسير قول الله تعالى: - (وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك ويخرجوك) (2). قال: وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد عن قتادة، قال: دخلوا دار الندوة يأتمرون بالنبي صلى الله عليه وسلم - وساق الحديث إلى أن قال: وقام علي عليه السلام على فراش النبي صلى الله عليه وسلم، أتوا يحرسونه - يعني المشركين - يحسبون أنه النبي صلى الله عليه وسلم، فلما أصبحوا ثاروا إليه، فإذا هم بعلي عليه السلام، فقالوا أين صاحبك، فقال: لا أدري أثره، حتى بلغوا الغار، ثم رجعوا (3).

وروى ابن سعد في طبقاته: وأمر صلى الله عليه وسلم، عليا أن يبيت في مضجعه تلك الليلة، فبات فيه علي، وتغشى بردا أحمر حضرميا، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، ينام فيه، واجتمع أولئك النفر من قريش يتطلعون من صير الباب، ويرصدونه يريدون ثيابه ويأتمرون أيهم يحمل على المضطجع، صاحب الفراش، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم، عليهم، وهم جلوس على الباب، فأخذ حفنة من البطحاء فجعل

____________

(1) كنز العمال 3 / 155.

(2) سورة الأنفال: آية 30.

(3) فضائل الخمسة 2 / 313.

الصفحة 234
يذرها على رؤوسهم، ويتلو (يس والقرآن الحكيم)، حتى بلغ (سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون)، ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم (1).

وعن عبد الله بن جعفر عن أم بكر بنت المسور عن أبيها: أن رقيقة بنت صيفي بن هاشم بن عبد مناف - وهي أم مخرمة بنت نوفل - حذرت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: إن قريشا قد اجتمعت تريد بياتك الليلة، قال المسور:

فتحول رسول الله صلى الله عليه وسلم، عن فراشه، وبات عليه علي بن أبي طالب، عليه السلام (2).

وروى الإمام الطبري في تفسيره بسنده عن عكرمة قال: لما خرج النبي صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر، إلى الغار، أمر علي بن أبي طالب فنام في مضجعه، فبات المشركون يحرسونه، فإذا رأوه نائما حسبوا أنه النبي صلى الله عليه وسلم، فلما أصبحوا، فإذا هم بعلي، فقالوا: أين صاحبك، قال: لا أدري، فركبوا الصعب، والذلول في طلبه (3).

وعن ابن عباس قال: تشاورت قريش ليلة بمكة، فقال بعضهم: إذا أصبح فأثبتوه بالوثاق - يريدون النبي صلى الله عليه وسلم - وقال بعضهم: بل اقتلوه، وقال بعضهم:

بل أخرجوه، فأطلع الله نبيه على ذلك، فبات علي، رحمه الله، على فراش النبي صلى الله عليه وسلم، تلك الليلة، وخرج النبي صلى الله عليه وسلم، حتى لحق بالغار، وبات المشركون يحرسون عليا، يحسبونه أنه النبي صلى الله عليه وسلم، فلما أصبحوا ثاروا إليه، فلما رأوا عليا رحمة الله عليه، رد الله مكرهم فقالوا: أين صاحبك؟ قال: لا أدري، فاقتصوا أثره، فلما بلغوا الجبل، ومروا بالغار، رأوا على بابه نسج العنكبوت، قالوا: لو دخل هاهنا، لم يكن نسج على بابه، فمكث فيه ثلاثا (4).

____________

(1) الطبقات الكبرى 1 / 153 - 154.

(2) الطبقات الكبرى 8 / 35، وانظر 8 / 162.

(3) تفسير الطبري 13 / 496 - 497 (دار المعارف - القاهرة 1958) . (1) تفسير الطبري 13 / 497.

الصفحة 235
ورواه الهيثمي في مجمعه، وقال: رواه أحمد والطبراني (1).

وفي رواية عن السدي قال: وأخبر الله رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنام على الفراش، وجعلوا عليه العيون، فلما كان في بعض الليل، انطلق هو وأبو بكر إلى الغار، ونام علي بن أبي طالب على الفراش (2).

وفي تفسير ابن كثير: وتشاورت قريش ليلة بمكة، فقال بعضهم: إذا أصبح فأثبتوه بالوثاق - يريدون النبي صلى الله عليه وسلم - وقال بعضهم: بل اقتلوه، وقال بعضهم: بل أخرجوه، فأطلع الله نبيه صلى الله عليه وسلم على ذلك، فبات علي رضي الله عنه، على فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخرج النبي صلى الله عليه وسلم حتى لحق بالغار، وبات المشركون يحرسون عليا، يحسبونه النبي صلى الله عليه وسلم، فلما أصبحوا ثاروا إليه، فما رأوا عليا، رد الله مكرهم فقالوا: أين صاحبك؟ قال: لا أدري، فاقتصوا أثره، فلما بلغوا الجبل فمروا بالغار، فرأوا على بابه نسج العنكبوت، فقالوا: لو دخل هاهنا، لم يكن نسج العنكبوت على بابه، فمكث فيه ثلاث ليال (3).

وروى النسفي في تفسيره (4): أن قريشا لما أسلمت الأنصار فرقوا أن يتفاقم أمره، فاجتمعوا في دار الندوة متشاورين في أمره، فدخل عليهم إبليس في صورة شيخ، وقال: أنا شيخ من نجد دخلت مكة فسمعت باجتماعكم فأردت أن أحضركم، ولن تعدموا مني رأيا ونصحا، فقال أبو البختري رأيي أن تحبسوه في بيت وأن تشدوا وثاقه، وتسدوا بابه، غير كوة، تلقون إليه طعامه وشرابه منها، وتتربصوا به ريب المنون، فقال إبليس: بئس الرأي، يأتيكم من يقاتلكم من قومه ويخلصه من أيديكم، فقال هشام بن عمرو، رأيي أن تحملوه

____________

(1) مجمع الزوائد 7 / 27.

(2) تفسير الطبري 13 / 498.

(3) تفسير ابن كثير 2 / 477.

(4) تفسير النسفي 2 / 101.

الصفحة 236
على جمل، وتخرجوه من بين أظهركم، فلا يضركم ما صنع، واسترحتم، فقال إبليس: بئس الرأي، يفسد قوما غيركم ويقاتلكم بهم، فقال أبو جهل - لعنه الله - أنا أرى أن تأخذوا من كل بطن غلاما وتعطوهم سيفا، فيضربوه ضربة رجل واحد، فيتفرق دمه في القبائل، فلا يقوى بنو هاشم على حرب قريش كلهم، فإذا طلبوا العقل عقلناه واسترحنا، فقال اللعين: صدق هذا الفتى، هو أجودكم رأيا، فتفرقوا على رأي أبي جهل مجتمعين على قتله، فأخبر جبريل عليه السلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمره أن لا يبيت في مضجعه، وأذن الله له في الهجرة، فأمر علي بن أبي طالب فنام في مضجعه، وقال له: اتشح ببردتي، فإنه لن يخلص إليك أمر تكرهه، وباتوا مترصدين، فلما أصبحوا ثاروا إلى مضجعه، فأبصروا عليا فبهتوا، وخيب الله سعيهم، واقتفوا أثره، فأبطل الله مكرهم وقد جاءت القصة في كتب التفسير، وفي كتب السيرة النبوية الشريفة (1).

ولعل من الأهمية بمكان الإشارة إلى أن دور الإمام علي بن أبي طالب - رضي الله عنه، وكرم الله وجهه في الجنة - إنما كان من أهم أدوار الهجرة

____________

(1) أنظر: تفسير القرطبي ص 2833، صفوة التفاسير 1 / 501 - 502، تيسير الكريم الرحمن من تفسير كلام المنان 2 / 78، محمد بيومي مهران: السيرة النبوية الشريفة 1 / 319 - 324، سيرة ابن هشام 2 / 302 - 312، السيرة الحلبية 2 / 189 - 215، محمد الصادق إبراهيم عرجون:

محمد رسول الله 2 / 495 - 520، ابن كثير: السيرة النبوية 2 / 226 - 256، محمد أبو شهبة:

السيرة النبوية 2 / 490 - 499، محمد أبو زهرة: خاتم النبيين 1 / 510 - 519، الندوي: السيرة النبوية ص 141 - 148، محمد رضا محمد رسول الله ص 127 - 130.

وانظر عن: حماية أبي طالب للنبي (السيرة الحلبية 1 / 462 - 264، عرجون: محمد رسول 2 / 312 - 318، ابن كثير: السيرة النبوية 1 / 473 - 477، سيرة ابن هشام 1 / 160 - 162، تاريخ الطبري 2 / 326 - 328).

وعن حصار قريش لبني هاشم (أنظر: سيرة ابن هشام 1 / 219 - 221، السيرة الحلبية 2 / 25 - 26، تاريخ الطبري 2 / 341 - 343، ابن كثير: السيرة النبوية 2 / 43 - 48، محمد أبو زهرة:

خاتم النبيين 2 / 422 - 426، ابن حزم: جوامع السيرة ص 51 - 52.

وانظر: موقف بني هاشم من أحداث الهجرة (محمد بيومي مهران: السيرة النبوية الشريفة 1 / 328 - 377).

الصفحة 237
وأخطرها، ذلك أن خطة الهجرة المحكمة، إنما كانت تتطلب أن يأخذ مكان سيدنا ومولانا وجدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، في البيت، رجل تشغل حركته داخل الدار، أنظار المحاصرين لها من مشركي قريش، وتخدعهم بعض الوقت، عن مخرج النبي صلى الله عليه وسلم، حتى يكون هو وصاحبه قد جاوزا منطقة الخطر، وخلفا وراءهما من متاهات الصحراء مسافات تتشتت فيها مطاردة قريش، إذا هي خرجت في طلبهما.

وكان من البدهي أن يكون مصير الذي يخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم، في داره، ويخدع قريشا عن مخرجه، ويجعل كيدها الذي عبأت فيه كل قواها، لا هزيمة ماحقة فحسب، بل وسخرية تضحك منه ولدانها، خزيا يجثم فوق جبينها، لا ريب في أن مصيره القتل، إن لم تجد قريش ما هو أشد من القتل تشفيا وفتكا، ومن ثم فلا بد أن يكون هذا الفدائي من طراز فريد، وهكذا اختار النبي صلى الله عليه وسلم، علي بن أبي طالب، لأنه من بيت النبوة، ولأنه سليل بني هاشم، ولأنه ربيب الوحي، ولأنه أول المسلمين، ولأنه تلميذ النبي صلى الله عليه وسلم، وربيبه.

على أنه مهمة الإمام علي، عليه السلام، لم تكن مقصورة على المبيت مكان النبي صلى الله عليه وسلم، والمكر بقريش، حتى يغادر نبي الله وصاحبه مكة، بل إنها إنما كانت ذات جانب آخر، تتطلب بنفس القدرة من الفدائية والبذل والتضحية، ذلك هو قيام الإمام علي برد الأمانات والودائع، التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يحتفظ بها لذويها من أهل مكة، دونه أن ينيل منه فرصة، تحول بينه وبين إنجاز مهمته، وهذه المهمة، إنما هي - دونما ريب - خصيصة للإمام علي، لمكانته من النبي صلى الله عليه وسلم، ومنزلته الخاصة في قرابته وبيئته، لأنه ربيبه، وأعرف الناس بالنبي مدخلا ومخرجا، وأعلمهم بأحواله، وفي ثقة الناس به.

وليس هناك إلى سبيل من ريب، في أن مبيت علي المرتضى، في فراش النبي صلى الله عليه وسلم، وجعل نفسه فداء لصاحب الرسالة، وهو أول فداء في الإسلام، إنما كان فضلا من الله تعالى، على الإمام علي، فما زال المسلمون - وسيظلون إن

الصفحة 238
شاء الله إلى يوم الدين - عندما يذكرون حادث الهجرة، يذكرون عظمة الإمام علي بن أبي طالب، وبطولته وشجاعته، التي فاقت كل بطولة وشجاعة، لأنه جاد بحياته في سبيل إحياء حياة النبي صلى الله عليه وسلم، ليحيا الإسلام، وتنتشر دعوة النبي صلى الله عليه وسلم، وليتألق الإسلام في آفاق الدنيا كلها، وهو يعلم أن السيوف المسلولة تنتظره في الصباح.

ولا ريب في أنه لا تعليل لذلك، سوى الإيمان الصادق، الذي تغلغل في نفس الإمام علي - رضي الله عنه، وكرم الله وجهه في الجنة - وخالط وجدانه، فدفعه إلى إيثار حياة النبي صلى الله عليه وسلم، على حياته، فقام مقام الرسول، وتغطى بالبرد الحضرمي، الذي كان يتغطى به النبي صلى الله عليه وسلم، فكان الإمام علي، أول من شرى نفسه ابتغاء مرضاة الله، ووقى بنفسه رسول الله صلى الله عليه وسلم، قبل أن يقول له النبي (لن يخلص إليك شئ)، وفيه نزل قول الله تعالى: (ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله * والله رؤوف بالعباد) (1).

وليس هناك من ريب في أن مبيت الإمام علي في فراش النبي صلى الله عليه وسلم، في تلك الليلة المباركة، إنما قد أذهل الدنيا - بل أذهل أهل الأرض والسماء - روى الإمام الفخر الرازي في التفسير الكبير: أن الآية نزلت في علي بن أبي طالب، بات على فراش النبي صلى الله عليه وسلم، قام جبريل عليه السلام، عند رأسه، وميكائيل عليه السلام، عند رجليه، وجبريل ينادي: بخ بخ، من مثلك يا ابن أبي طالب، يباهي الله بك الملائكة، ونزلت الآية: (ومن الناس يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله * والله رؤوف بالعباد).

وروى الإمام الغزالي في (إحياء علوم الدين): أن ليلة بات علي بن أبي طالب على فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم، أوحى الله إلى جبريل وميكائيل أني آخيت بينكما، وجعلت عمر أحدكما أطول من عمر الآخر، فأيكما يؤثر صاحبه

____________

(1) سورة البقرة: آية 207.

الصفحة 239
بالحياة، فاختار كلاهما الحياة وأحباها، فأوحى الله إليهما: أفلا كنتما مثل علي بن أبي طالب، آخيت بينه وبين محمد، فبات علي على فراشه يفديه بنفسه، ويؤثره بالحياة، إهبطا إلى الأرض فاحفظاه من عدوه، فكان جبريل عند رأسه، وميكائيل عند رجليه، ينادي: بخ بخ من مثلك يا ابن أبي طالب، تباهى بك الملائكة، فأنزل الله تعالى: (ومن الناس يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله * والله رؤوف بالعباد).

وروي أن السيدة عائشة، رضي الله عنها، قد افتخرت بأبيها يوما، لأنه ثاني اثنين في الغار، فقال لها أحد الأصحاب: شتان بين من قيل له (لا تحزن إن الله معنا)، ومن بات على الفراش، وهو يرى أنه يقتل، وأنزل الله فيه: (ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله * والله رؤوف بالعباد).

هذا ويتساءل الأستاذ الخطيب في كتابه (علي بن أبي طالب - بقية النبوة، وخاتم الخلافة) يتساءل: أكان لإلباس رسول الله صلى الله عليه وسلم شخصيته لعلي بن أبي طالب في تلك الليلة، ما يوحي بأن هناك جامعة تجمع بين الرسول وعلي، أكثر من جامعة القرابة القريبة التي تجمع بينهما؟.

وهل لنا أن نستشف من ذلك، أنه إذا غاب شخص رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان علي بن أبي طالب، هو الشخصية المهيأة لأن تخلفه، وتمثل شخصه، وتقوم مقامه؟.

ثم يجيب الأستاذ الخطيب: أحسبنا لم نتعسف كثيرا، إذا نظرنا إلى علي بن أبي طالب - رضي الله عنه، وكرم الله وجهه في الجنة - وهو في برد الرسول، وفي مثوى منامه، الذي اعتاد أن ينام فيه، فقلنا: هذا خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم، والقائم مقامه.

ثم إذا نظرنا إلى علي بن أبي طالب، وهو يواجه قريشا، بعد أن فعل بها ما فعل، وبعد أن صفعها تلك الليلة الصفعة المذلة المهينة، فمكر بها، حتى أفلت النبي صلى الله عليه وسلم، من بين يديها.


الصفحة 240
ألا يذكرنا ذلك بما كان من قريش للإمام علي، وإرهاقها له، وتجنيها عليه، بعد أن دخلت الإسلام، حيث لم ير الإمام علي من قريش، إلا حقدا عليه، وكيدا له، وإزورارا عنه، وقد يقول قائل: إن الإسلام قد ذهب بسخائم النفوس، غير أن ما فعله الإمام علي ليلة الهجرة، وما فعله بأبطال قريش وصناديدها في حروب الإسلام - وخاصة في بدر وأحد والخندق - أكبر من أن تنساه كل النفوس.

ثم هناك أمر آخر: إن هجرة النبي صلى الله عليه وسلم، وتركه في مكة قلوبا مضطغنة عليه، متحرقة إلى ضره وأذاه، ثم استقباله في المدينة قلوبا فياضة بالبشر، عامرة بالحب، وفي نفس الوقت، يخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم، الإمام علي، في مجتمع مكة المضطرب، ومع جماعة حانقة مبغضة، يعيش معها أياما، ثم يلحق برسول الله صلى الله عليه وسلم في مهاجره الجديد، ثم يمضي رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلى ربه، ويلحق بالرفيق الأعلى، وينتقل من دار إلى دار خير منها، أشبه بانتقاله من مكة إلى المدينة، يترك عليا وراءه يصطدم بالأحداث، يكابد الشدائد، حتى يلحق بالنبي في الرفيق الأعلى، كما لحق به في مهاجره من قبل.

ألا يبدو لنا من هذا الموقف ما نستشف منه أن للإمام علي بن أبي طالب، شأنا في رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودورا في دعوة الإسلام، ليس لأحد غيره من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

21 - زواج الإمام علي من السيدة فاطمة الزهراء:

روى ابن الأثير في أسد الغابة بسنده عن أبي إسحاق عن الحارث عن علي قال: خطب أبو بكر وعمر - يعني فاطمة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم - فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم، عليهما، فقال عمر: أنت لها يا علي، فقلت: ما لي من شئ إلا درعي أرهنها، فزوجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاطمة، فلما بلغ ذلك فاطمة بكت، قال: فدخل عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال ما لك تبكين يا فاطمة، فوالله، فقد

الصفحة 241
أنكحتك أكثرهم علما، وأفضلهم حلما، وأولهم إسلاما (1).

وعن عبد الله بن بريدة عن أبيه قال: خطب أبو بكر وعمر فاطمة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنها صغيرة)، فخطبها علي فزوجها منه.

والحديث أخرجه النسائي وابن حبان والحاكم والقطيعي وابن المؤيد الجويني وابن سعد والبزار (2). وعن ابن مسعود، رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه قال: إن الله أمرني أن أزوج فاطمة من علي (3).

وروى الهيثمي في مجمعه بسنده عن أنس قال: إن عمر بن الخطاب، أتى أبا بكر فقال: ما يمنعك أن تزوج فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: لا يزوجني، قال: إذا لم يزوجك فمن يزوج؟ وإنك من أكرم الناس عليه، وأقدمهم في الإسلام، قال: فانطلق أبو بكر إلى بيت عائشة، فقال: يا عائشة، إذا رأيت من رسول الله صلى الله عليه وسلم، طيب نفس، وإقبالا عليك، فاذكري له، أني ذكرت فاطمة، فلعل الله عز وجل أن ييسرها لي، قالت: فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرأيت منه طيب نفس، وإقبالا، فقالت: يا رسول الله، إن أبا بكر ذكر فاطمة، وأمرني أن أذكرها، قال: حتى ينزل القضاء، قال: فرجع إليها أبو بكر فقالت: يا أبتاه، وددت أني لم أذكر له الذي ذكرت، فلقي أبو بكر عمر، فذكر أبو بكر لعمر، ما أخبرته عائشة، فانطلق عمر إلى حفصة، فقال: يا حفصة، إذا رأيت من رسول الله صلى الله عليه وسلم، إقبالا - يعني عليك - فاذكريني له، واذكري فاطمة، لعل الله أن ييسرها لي، قال: فلقي رسول الله صلى الله عليه وسلم، حفصة، فرأت طيب نفس، ورأت منه إقبالا فذكرت له فاطمة، رضي الله عنها، فقال: حتى ينزل القضاء، فلقي عمر

____________

(1) أسد الغابة 7 / 221.

(2) سنن النسائي 6 / 62، ابن حبان (549 موارد)، المستدرك للحاكم 2 / 1267، زوائد الفضائل للقطيعي (1051)، فرائد السمطين لابن المؤيد الجويني 1 / 88، طبقات ابن سعد 8 / 19، مختصر زوائد مسند البزار (376)، محمد عبده يماني: علموا أولادكم محبة آل بيت النبي ص 75.

(3) أنظر: مجمع الزوائد 9 / 202.

الصفحة 242
حفصة فقالت له: (يا أبتاه، وددت أني لم أكن ذكرت له شيئا).

(فانطلق عمر إلى علي بن أبي طالب عليه السلام، فقال: ما يمنعك من فاطمة؟ فقال: أخشى أن لا يزوجني، قال: فإن لم يزوجك فمن يزوج، وأنت أقرب خلق الله إليه، فانطلق علي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يكن له مثل عائشة، أو مثل حفصة، قال: فلقي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: إني أريد أن أتزوج فاطمة، قال: فافعل، قال: ما عندي إلا درعي الحطمية، قال: فاجمع ما قدرت عليه، وائتني به، قال: (فأتى باثنتي عشرة أوقية، أربعمائة وثمانين، فأتى بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فزوجه فاطمة رضي الله عنها، فقبض ثلاث قبضات، فدفعها إلى أم أيمن، فقال: إجعلي منها قبضة في الطيب، أحسبه قال: والباقي فيما يصلح المرأة من المتاع، فلما فرغت من الجهاز، وأدخلتهم بيتا).

قال: (يا علي لا تحدثن إلى أهلك شيئا حتى آتيك، فأتاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا فاطمة متقنعة، وعلي قاعد، وأم أيمن في البيت، فقال: يا أم أيمن، آتيني بقدح من ماء، فأتته بقعب فيه ماء، فشرب منه، ثم مج فيه، ثم ناوله فاطمة فشربت، وأخذ منه، فضرب به جبينها، وبين كتفيها وصدرها، ثم دفعها إلى علي، فقال: يا علي، إشرب، ثم أخذ منه، فضرب به جبينه وبين كتفيه، ثم قال: أهل بيتي، فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأم أيمن، وقال: يا علي، أهلك - ثم قال: رواه البزار (1).

وروى الإمام أحمد في الفضائل بسنده عن الحسين بن واقد عن عبد الله بن بريدة عن أبيه: أن أبا بكر وعمر خطبا فاطمة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: إنها صغيرة، فخطبها علي، فزوجها منه (2).

وروى المحب الطبري في الرياض النضرة، وفي ذخائر العقبى بسنده عن

____________

(1) مجمع الزوائد 9 / 206.

(2) الإمام أحمد بن حنبل: فضائل الصحابة 2 / 614.

الصفحة 243
أنس بن مالك قال: جاء أبو بكر إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقعد بين يديه فقال: يا رسول الله، قد علمت مناصحتي وقدمي في الإسلام، وإني وإني، قال: وما ذاك؟ قال: تزوجني فاطمة، قال: فسكت عنه، قال: فرجع أبو بكر إلى عمر، فقال: هلكت وأهلكت، قال: وما ذاك، قال: خطبت فاطمة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأعرض عني، قال: مكانك حتى آتي النبي صلى الله عليه وسلم، فقعد بين يديه، فقال: يا رسول الله، قد علمت مناصحتي وقدمي في الإسلام، وإني وإني، قال: وما ذاك؟ قال: تزوجني فاطمة، فسكت عنه، فرجع إلى أبي بكر، فقال: إنه ينتظر أمر الله فيها، قم بنا إل علي حتى نأمره يطلب مثل الذي طلبنا، قال علي:

فأتياني، وأنا أعالج فسيلا لي، فقالا: إنا جئناك من عند ابن عمك بخطبة).

(قال علي: فنبهاني لأمر، فقمت أجر ردائي، حتى أتيت النبي صلى الله عليه وسلم، فقعدت بين يديه، فقلت: يا رسول الله، قد علمت قدمي في الإسلام ومناصحتي، وإني وإني، قال: وما ذاك، قلت: تزوجني فاطمة، قال: وما عندك؟ قلت: فرسي وبزتي، قال: أما فرسك، فلا بد لك منها، وأما بزتك فبعها، قال: فبعتها بأربعمائة وثمانين).

(قال: فجئت بها حتى وضعتها في حجر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقبض منها قبضة، فقال: أي بلال، أبغنا بها طيبا، وأمرهم أن يجهزوها، فحمل لها سريرا مشرطا بالشرط، ووسادة من أدم، حشوه ليف، وقال لعلي: إذا أتتك فلا تحدث شيئا حتى آتيك، فجاءت مع أم أيمن، حتى قعدت في جانب البيت، وأنا في جانب).

(وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: هاهنا أخي، قالت أم أيمن: أخوك وقد زوجته ابنتك، قال: نعم، ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلم البيت، فقال لفاطمة: ائتني بماء، فقامت إلى قعب في البيت، فأتت به ماء، فأخذه النبي صلى الله عليه وسلم، ومج فيه، ثم قال: تقدمي، فتقدمت فنضح بين ثدييها وعلى رأسها، وقال: اللهم إني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم، ثم قال لها: أدبري، فأدبرت فصب بين

الصفحة 244
كتفيها، وقال: اللهم إني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرحيم).

(ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إئتوني بماء، قال علي: فعلمت الذي يريد، فقمت فملأت القعب ماء وأتيته به، فأخذه ومج فيه، ثم قال: تقدم فصب على رأسي وبين ثديي، ثم قال: اللهم إني أعيذه بك وذريته من الشيطان الرجيم، ثم قال: أدبر فأدبرت، فصب بين كتفي، وقال: اللهم إني أعيذه بك وذريته من الشيطان الرجيم، ثم قال لعلي: أدخل بأهلك باسم الله والبركة (1).

وروى المحب الطبري في الرياض النضرة بسنده عن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: خطب أبو بكر إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ابنته فاطمة، فقال صلى الله عليه وسلم: يا أبا بكر لم ينزل القضاء بعد، ثم خطبها عمر، مع عدة من قريش، كلهم يقول له مثل قوله لأبي بكر، فقيل لعلي: لو خطبت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فاطمة، لخليق أن يزوجكها، قال: وكيف وقد خطبها أشراف قريش، فلم يزوجها، قال: فخطبها، فقال صلى الله عليه وسلم: قد أمرني ربي عز وجل بذلك.

قال أنس: ثم دعاني النبي صلى الله عليه وسلم، فقال لي: يا أنس، اخرج وادع لي أبا بكر الصديق وعمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص وطلحة والزبير، وبعدتهم من الأنصار، قال: فدعوتهم، فلما اجتمعوا عنده صلى الله عليه وسلم، وأخذوا مجالسهم، وكان علي غائبا، في حاجة النبي صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم.

(الحمد لله المحمود بنعمته، المعبود بقدرته، المطاع بسلطانه، المرهوب من عذابه وسطوته، النافذ أمره في سمائه وأرضه، الذي خلق الخلق بقدرته، وميزهم بأحكامه، وأعزهم بدينه، وأكرمهم بنبيه محمد صلى الله عليه وسلم، إن الله تبارك اسمه، وتعالت عظمته، جعل المصاهرة سببا لا حقا، وأمرا مفترضا، أوشج به الأرحام،

____________

(1) الرياض النضرة 2 / 238 - 239، ذخائر العقبى ص 29.

الصفحة 245
وألزم الأنام، فقال عز من قائل: (وهو الذي خلق من الماء بشرا، فجعله نسبا وصهرا، وكان ربك قديرا)، فأمر الله تعالى يجري إلى قضائه، قضاؤه يجري إلى قدره، ولكل قدر أجل، ولكل أجل كتاب، يمحو الله ويثبت، وعنده أم الكتاب). (ثم إن الله عز وجل أمرني أن أزوج فاطمة بنت خديجة على أربعمائة مثقال فضة، إن رضي بذلك علي بن أبي طالب، ثم دعا بطبق من بسر فوضعه بين أيدينا، ثم قال: انهبوا، فنهبنا، فبينا نحن ننتهب، إذ دخل علي على النبي صلى الله عليه وسلم، فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم في وجهه، ثم قال: إن الله أمرني أن أزوجك فاطمة على أربعمائة مثقال فضة، إن رضيت بذلك، فقال: قد رضيت بذلك يا رسول الله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: جمع الله شملكما، وأسعد جدكما، وبارك عليكما وأخرج منكما كثيرا طيبا).

قال أنس: فوالله لقد أخرج منها كثيرا طيبا - أخرجه أبو الخير القزويني الحاكمي (1).

وروى ابن سعد في طبقاته بسنده عن علباء بن أحمد اليشكري: أن أبا بكر خطب فاطمة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا أبا بكر انتظر بها القضاء، فذكر ذلك أبو بكر لعمر، فقال عمر: ردك با أبا بكر، ثم إن أبا بكر قال لعمر: أخطب فاطمة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فخطبها فقال له مثل ما قال لأبي بكر: انتظر بها القضاء، فجاء عمر إلى أبي بكر فأخبره، فقال له: ردك يا عمر، ثم إن أهل علي قالوا لعلي: أخطب فاطمة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: بعد أبي بكر وعمر؟ فذكروا له قرابته من النبي صلى الله عليه وسلم، فخطبها فزوجه النبي صلى الله عليه وسلم، فباع علي بعيرا له، وبعض متاعه، فبلغ أربعمائة وثمانين، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: إجعل ثلثين في الطيب، وثلثا في المتاع (2).

____________

(1) الرياض النضرة 2 / 240 - 241.

(2) الطبقات الكبرى 8 / 11 - 12.