الصفحة 23
بطاعته وسئل: أكانت طاعة علي واجبة على الناس في حياة رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، وبعد وفاته؟ قال: نعم، ولكنه صمت فلم يتكلم في حياة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) (1).

ثم يفسر الإمام الباقر قول الله تعالى: (فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم) (2) وهو ينظر إلى الحجيج، وهم يطوفون حول الكعبة المشرفة، فيقول: هكذا كانوا يطوفون في الجاهلية، إنما أمروا أن يطوفوا بها، ثم ينظروا إلينا، فيعلمونا ولايتهم ومودتهم، ويعرضوا علينا نصرتهم (3).

ويشرح الإمام الباقر ضلال الناس، إذا لم يهتدوا بأئمة أهل البيت بقوله:

" من عبد الله عبادة اهتمام وتعب، ولم يعتقد بإمام عادل، وأنه منصوب من الله، فلا يقبل الله منه سعيا، ومثله كمثل نعجة فقدت راعيها وقطيعها، فظلت حائرة نهارها، فلما جن الليل ظنت أنها وجدت راعيها وقطيعها لتلحق بهم، فلما أصبح الصباح رأت الراعي غير راعيها، فعادت إلى حيرتها تبحث، ثم رأت قطيعا آخر، فأرادت أن تلحق بها، ودعاها راعي ذلك القطيع، وقد رأى أنها ضالة، ولما وجدت أنه غير راعيها عادت إلى حيرتها، حتى لقيها الذئب فافترسها، ذلك هو حال من أصبح لا إمام له، حتى إذا مات، مات ميتة جاهلية " (4).

وعن جابر قال قال لي محمد بن علي: يا جابر لا تخاصم، فإن الخصومة تكذب القرآن (5).

____________

(1) أحمد صبحي: المرجع السابق ص 358.

(2) سورة إبراهيم: آية 37.

(3) علي سامي النشار: نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام - الجزء الثاني - نشأة التشيع وتطوره ص 137 (الإسكندرية 1969 م).

(4) أحمد صبحي: المرجع السابق ص 359، دونالدسون: عقيدة الشيعة (تاريخ الإسلام في العراق وإيران) القاهرة 1946 ص 334.

(5) طبقات ابن سعد 5 / 236.

الصفحة 24

3 - الإمام الباقر وأهل السنة:

يقول ابن خلكان في " وفيات الأعيان ": كان الباقر عالما، سيدا كبيرا، وإنما قيل له الباقر، لأنه تبقر في العلم، أي توسع، والتبقر: التوسع، وفيه يقول الشاعر:

يا باقر العلم لأهل التقى * وخير من لبى على الأجبل (1)

ويقول ابن تيمية: أبو جعفر محمد بن علي، من خيار أهل العلم والدين، وقيل: إنما سمي الباقر، لأنه بقر العلم، لا لأجل بقر السجود جبهته، وإن كان ابن تيمية ينكر " كونه أعلم أهل زمانه " (2) لأن هذا القول يحتاج إلى دليل، ويرى أن الزهري - وهو من أقران محمد بن علي الباقر - هو عند الناس أعلم منه، ولكن ابن تيمية يعترف أنه أخذ الحديث عن جابر، وأنه روى عنه عددا كبيرا من الأحاديث الصحيحة، ودخل على جابر مع أبيه علي بن الحسين، بعدما كبر جابر، وكان جابر من المحبين لهم، رضي الله عنهم.

ويرى ابن تيمية أيضا أن الإمام الباقر أخذ الحديث أيضا عن أنس بن مالك وابن عباس وأبي سعيد الخدري وأبي هريرة وغيرهم من الصحابة، وعن سعيد بن المسيب وعبد الله بن أبي رافع كاتب الإمام علي، ثم روى عنه أبو إسحاق الهمداني وربيعة بن عبيد أبي عبد الرحمن والأعرج - وهو أسن من محمد الباقر، وولده جعفر الصادق - وابن جريج ويحيى بن أبي كثير، والأوزاعي وغيرهم (3)، وأضاف ابن كثير عمر بن دينار (4).

ولا ريب في أن هذا إنما يدل على ما يكنه ابن تيمية - وهو من علماء

____________

(1) وفيات الأعيان 4 / 174.

(2) ابن تيمية: المنتقى من منهاج السنة ص 171 (دمشق 1374 هـ).

(3) ابن تيمية: منهاج السنة 1 / 132.

(4) ابن كثير: البداية والنهاية 9 / 309.

الصفحة 25
السلف، بل عالمهم الكبير المتأخر - من احترام كبير لإمام من أئمة أهل البيت الطاهرين، نشر العلم الإسلامي وأخلص لأعظم جوانبه، وهو جانب علم الحديث، وكان ابن تيمية محدثا مشهورا، فوضعه للإمام الباقر في نسق المحدثين العظام، العدول، إنما يدل على ما كان للإمام الباقر من مقام عظيم حتى في أوساط السلف وأهل السنة والجماعة.

وأما إنكار " ابن تيمية " " كون الباقر أعلم أهل زمانه " - فهذا - كما يقول الدكتور النشار - اتجاه سلفي من عالم اشتهر عنه تخطئة الناس جميعا - حتى إمامة الإمام أحمد بن حنبل، بل الصحابة كأبي بكر وعمر وعثمان وعلي - ثم هو مزاج ابن تيمية الحار، وهو يناقش " ابن المطهر الحلي " من عدم كون علي وأولاده، دون الناس، أصحاب العلم، وورثة الأنبياء، وإليهم مرجع أمور المسلمين (1).

ويقول ابن كثير: هو أبو جعفر محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، سمي الباقر لبقره العلوم واستنباطه الحكم، كان ذاكرا خاشعا صابرا، وكان من سلالة النبوة، رفيع النسب، عالي الحسب، وكان عارفا بالخطرات، كثير البكاء والعبرات، معرضا عن الجدال والخصومات.

وعن عبد الله بن عطاء قال: ما رأيت العلماء عند أحد، أصغر منهم عند أبي جعفر محمد بن علي، قال: رأيت الحكيم عنده كأنه متعلم، وقال: كان لي أخ في عيني عظيم، وكان الذي عظمه في عيني صغر الدنيا في عينه، وقال ابن كثير: هو تابعي جليل، كبير القدر كثيرا، أحد أعلام هذه الأمة - علما وعملا، وسيادة وشرفا - وقد روى عن غير واحد من الصحابة، وحدث عنه جماعة من كبار التابعين وغيرهم، فمن روى عنه: ابنه جعفر الصادق، والحكم بن عتيبة، وربيعة، والأعمش، وأبو إسحاق السبعيني، والأوزاعي،

____________

(1) علي سامي النشار: المرجع السابق ص 140.

الصفحة 26
والأعرج - وهو أسن منه - وابن جريج، وعطاء، وعمرو بن دينار، والزهري.

وروى سفيان بن عيينة عن جعفر الصادق قال: حدثني أبي - وكان خير محمدي على وجه الأرض - قال العجلي: هو مدني تابعي ثقة (1).

ويقول ابن سعد في الطبقات الكبرى: وكان ثقة، كثير العلم والحديث، وليس يروى عنه من يحتج به (2).

ويقول الحافظ أبو نعيم الأصفهاني في حليته: هو الحاضر الذاكر، الخاشع الصابر، أبو جعفر محمد بن علي الباقر، كان من سلالة النبوة، وممن جمع حسب الدين والأبوة، تكلم في العوارض والخطرات، وسفح الدموع والعبرات، ونهى عن المراء والخصومات (3).

ويقول الشبلنجي في نور الأبصار: قال صاحب الإرشادات: لم يظهر أحد من ولد الحسن والحسين من علم الدين والسنن، وعلم القرآن والسير، وفنون الأدب، ما ظهر من أبي جعفر الباقر، روى عن معالم الدين بقايا الصحابة ووجوه التابعين والسير، وسارت بذكر علومه الأخبار، وأنشد في مدائحه الأشعار، فمن ذلك ما قاله " مالك بن أعين الجهني " من قصيدة يمدحه فيها:

إذا طلب الناس علم القرآن * كانت قريش عليه عيالا
وإن فاه ابن بنية النبي * تلقت يداك فروعا طوالا

وفيه يقول الشريف الرضي:

____________

(1) البداية والنهاية 9 / 347 - 351.

(2) طبقات ابن سعد 5 / 238.

(3) حلية الأولياء 3 / 180

الصفحة 27

باقر العلم لأهل التقى * وخير من لبى على الأجل (1)

ويقول المحدث الفقيه ابن حجر الهيثمي في صواعقه: أبو جعفر محمد الباقر، سمي بذلك: من بقر الأرض، أي شقها وأثار مخبآتها ومكامنها، فلذلك هو أظهر من مخبآت كنوز المعارف، وحقائق الأحكام والحكم واللطائف، ما لا يخفى إلا على منطمس البصيرة، أو فاسد الطوية والسريرة، ومن ثم قيل فيه:

هو باقر العلم وجامعه، وشاهر علمه ورافعه، صفا قلبه: وزكا علمه وعمله، وطهرت نفسه، وشرف خلقه، وعمرت أوقاته بطاعة الله، وله من الرسوم في مقامات العارفين، ما تكل عنه ألسنة الواصفين، وله كلمات كثيرة في السلوك والمعارف لا تحتملها هذه العجالة.

وكفاه شرفا، أن ابن المديني روى عن جابر، أنه قال له - وهو صغير - " رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يسلم عليك، فقيل له: وكيف ذاك؟ قال: كنت جالسا عنده - والحسين في حجره، وهو يداعبه - فقال: يا جابر، يولد له مولود اسمه علي، إذا كان يوم القيامة نادى مناد: ليقم سيد العابدين، فيقوم ولده، ثم يولد له ولد اسمه محمد، فإن أدركته يا جابر، فأقرئه مني السلام (2).

ويقول أبو زهرة (3): ورث الباقر إمامة العلم، ونبل الهداية، عن أبيه زين العابدين، ولذا كان مقصد العلماء من كل البلاد الإسلامية، وما زار أحد المدينة، إلا عرج على بيت محمد الباقر يأخذ عنه، وكان ممن يزوره علماء من الذين يتشيعون لآل البيت، وعلماء من أهل السنة، وكان يقصده بعض المنحرفين الغلاة في تشيعهم الذين أفرطوا، فكان يبين لهم الحق، فإن اهتدوا أخذ بيدهم إلى الحق الكامل، وإن استمروا على غيهم صدهم، وأخرجهم من مجلسه.

____________

(1) نور الأبصار ص 143.

(2) الصواعق المحرقة ص 304 - 305.

(3) محمد أبو زهرة: الإمام الصادق ص 22.

الصفحة 28
وكان يقصده من أئمة الفقه والحديث كثيرون، منهم " سفيان الثوري " (96 - 161 هـ / 713 - 778 م) و " سفيان بن عيينة " (107 - 96 هـ / 725 - 811 م) محدث مكة، ومنهم الإمام أبو حنيفة (80 - 159 م / 699 - 767 م) فقيه العراق، وكان يرشد كل من يجئ إليه، ويبين له الحق، الذي لا عوج فيه.

وقال الصبان في إسعاف الراغبين: هو صاحب المعارف، وأخو الدقائق واللطائف، ظهرت كراماته، وكثرت في السوالك إشاراته، ولقب بالباقر، لأنه بقر العلم، أي شقه، فعرف أصله وخفيه (1).

وقال أبو زهرة: كان رضي الله عنه مفسرا للقرآن، ومفسرا للفقه الإسلامي، مدركا حكمة الأوامر والنواهي، فاهما - كل الفهم - لمراميها، وكان راوية للأحاديث، يروي أحاديث آل البيت، ويروي أحاديث الصحابة من غير تفرقة، ولكمال نفسه، ونور قلبه، وقوة مداركه، أنطقه الله تعالى بالحكم الرائعة، ورويت عنه عبارات في الأخلاق الشخصية والاجتماعية، ما لو نظم في سلك لتكون فيه مذهب خلقي سام، يعلو بمن يأخذ به إلى مدارج السمو الإنساني (2).

4 - الإمام الباقر والشيعة:

تتجلى في الإمام الباقر - رضوان الله عليه - الصفة الأساسية في الشيعة الأوائل، من الحفاظ على الإسلام، ومنع من يفعل ذلك بالعدل والروية والحسنة (3)، قال الإمام الباقر: " والله ما شيعتنا، إلا من اتقى الله وأطاعه، وما كانوا يعرفون إلا بالتواضع، والتخشع، وأداء الأمانة، وذكر الله، والصوم والصلاة والبر بالوالدين، وتعهد الجيران من الفقراء، وذوي المسكنة، وصدق

____________

(1) إسعاف الراغبين ص 229.

(2) أبو زهرة: الإمام الصادق ص 24.

(3) كامل مصطفى الشيبي: الصلة بين التصرف والتشيع 1 / 170 (بغداد 1963).

الصفحة 29
الحديث، وتلاوة القرآن، وكف الألسن عن الناس (1).

وروى الحافظ أبو نعيم بسنده عن جابر عن أبي جعفر الباقر قال: إن الله تعالى يلقي في قلوب شيعتنا الرعب، فإذا قام قائمنا، وظهر مهدينا، كان الرجل أجرأ من ليث، وأمضى من سنان " (2).

وعن يونس بن أبي يعقوب عن أخيه عن أبي جعفر قال: " شيعتنا ثلاثة أصناف، صنف يأكلون الناس بنا، وصنف كالزجاج ينهشم، وصنف كالذهب، كلما دخل النار ازداد جودة " (3).

وروي أنه في ذات يوم كان الإمام الباقر في بيته، وعنده جماعة من أصحابه، وإذا بشيخ وقف على الباب، وقال: السلام عليك يا ابن رسول الله ورحمة الله وبركاته، وبعد أن رد الإمام عليه السلام، قال الشيخ: جعلني الله فداك يا ابن رسول الله، والله إني لأحبكم، وأحب من يحبكم لله - لا للدنيا - وإني لأبغض عدوكم، وأبرأ منه، لا لشئ بيني وبينه، وإني لأحلل حلالكم، وأحرم حرامكم، وأنتظر أمركم، فهل ترجو لي الخير، جعلني الله فداك؟.

قال الإمام: أتى أبي رجل، وسأل مثل الذي سألت، فقال له: إن تمت ترد على رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، وعلي، والحسن والحسين، ويثلج قلبك، وتقر عينك، وتستقبل بالروح والريحان، وأنت معنا في السنام الأعلى.

فقال الشيخ: الله أكبر، أنا معكم في السنام الأعلى، وبكى فرحا، وأخذ يد الإمام وقبلها، ثم وضعها على عينيه، ومسح بها وجهه وصدره، ثم قام وودع وخرج، فقال الإمام: من أحب أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة، فلينظر إلى هذا.

____________

(1) محمد جواد مغنية: فضائل الإمام علي ص 225 (بيروت 1981).

(2) حلية الأولياء 3 / 184.

(3) حلية الأولياء 3 / 183.

الصفحة 30
ويقول الأستاذ مغنية: هذا هو التحديد الصحيح لشيعة أهل البيت، عليهم السلام، يحللون حلالهم، ويحرمون حرامهم، ويحبون من يحبهم، ويبغضون عدوهم في الله، ولله، أما من يحلل اليوم ما حرمه بالأمس، تبعا لشهواته وميوله، أما من يزعم أنه من الشيعة الموالين، وفي الوقت نفسه ينصب العداء للمحبين ويكيد لهم، فليس من الإسلام، ولا التشيع في شئ، بل هو عدو الله ورسوله وأهل بيته.

وقال الإمام الرضا: " من عادى شيعتنا، فقد عادانا، ومن والاهم فقد والانا، لأنهم خلقوا من طينتنا، من أحبهم فهو منا، ومن أبغضهم فليس منا " (1).

وقال الإمام الباقر لشيعته: " إنا لا نغني عنكم من الله شيئا، إلا بالورع، وإن ولايتنا لا تدرك إلا بالعمل، وإن أشد الناس يوم القيامة حسرة، من وصف عدلا، وأتى جورا.

وقال: لا تذوقن بقلة - أي نبتة - ولا تشمها، حتى تعلم ما هي؟ ولا تشرب من سقاء حتى تعلم ما فيه ولا تسير إلا مع من تعرف (2).

5 - الإمام الباقر والمعتزلة:

كان الإمام الباقر - رضوان الله عليه - محدثا، وكان أهل الحديث في المدينة قد كرهوا الكلام في الدين، واعتبروه مراء، وأتى " واصل بن عطاء " (3).

____________

(1) محمد جواد مغنية: الشيعة في الميزان ص 230 - 231.

(2) محمد جواد مغنية: فضائل الإمام علي ص 226 - 227.

(3) هو أبو حذيفة واصل بن عطاء الغزال، ولد بالمدينة عام 80 هـ (699 م) وعاش في البصرة، وحضر دروس الحسن البصري، ويعد واصل مؤسس مدرسة الاعتزال - في رأي أكثر الباحثين - وقد اعتزل الحسن البصري - لاختلافه معه حول مرتكب الكبيرة، فجعله واصل " منزلة بين المنزلتين "، ثم انضم إليه " عمرو بن عبيد (80 - 144 هـ / 699 - 761 م)، كما أنكر واصل القول بقدم الصفات الإلهية، وكان يقول برأي " القدرية " في القدر، وبإثم من شاركوا في مقتل عثمان

=>


الصفحة 31
إلى المدينة، وتتلمذ عليه أخوه " زيد بن علي "، فكره الإمام الباقر هذا كل الكراهية (1)، وروى ابن سعد في طبقاته بسنده عن جابر قال: قال لي محمد بن علي الباقر: " يا جابر، لا تخاصم، فإن الخصومة تكذب القرآن " (2)، وعن ليث عن أبي جعفر قال: لا تجالسوا أصحاب الخصومات، فإنهم الذين يخوضون في آيات الله " (3)، وقال: إياكم والخصومة فإنها تفسد القلب، وتورث النفاق (4).

هذا وقد أورد الشهرستاني مناظرة جرت بين الإمام الباقر وأخيه زيد - من حيث كان زيد يتتلمذ لواصل بن عطاء، ويقتبس العلم ممن يجوز الخطأ على جده الإمام علي بن أبي طالب في قتال الناكثين والقاسطين والمارقين، ومن حيث كان يتكلم في القدر، على غير ما ذهب إليه أهل البيت، ومن حيث أنه كان يشترط الخروج شرطا في كون الإمام إماما، حتى قال له يوما: على مقتضى مذهبك والدك ليس بإمام، فإنه لم يخرج قط، ولا تعرض للخروج (5).

ولعل من الأهمية بمكان الإشارة هنا إلى أن قتال الإمام علي بن أبي طالب للناكثين والقاسطين والمارقين، إنما كان - كما أشرنا بالتفصيل إلى ذلك عند الحديث على أدلة إمامة الإمام علي من قبل - بأمر سيدنا ومولانا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) (6).

____________

<=

وفي وقعة الجمل وصفين، وتوفي واصل عام 131 هـ / 748 م، وأهم مصادر ترجمته (الجاحظ:

البيان والتبيين 1 / 16، 21 - 29، إرشاد الأريب لياقوت 7 / 223 - 225، ميزان الاعتدال للذهبي 3 / 267، فوات الوفيات للكتبي 2 / 317، مرآة الجنان لليافعي (1 / 274، النجوم الزاهرة لابن تغري بردي 1 / 313 - 314، المعتزلة لابن المرتضى ص 28 - 35، وفيات الأعيان 6 / 7 - 11).

(1) علي سامي النشار: المرجع السابق ص 141.

(2) طبقات ابن سعد 5 / 236.

(3) حلية الأولياء 3 / 184، طبقات ابن سعد 5 / 236.

(4) حلية الأولياء 3 / 184.

(5) الشهرستاني: الملل والنحل 1 / 156.

(6) أنظر: المستدرك للحاكم 3 / 139، تاريخ بغداد للخطيب البغدادي 8 / 340، 13 / 186

=>


الصفحة 32
وروى ابن كثير أن الباقر قال: " القرآن كلام الله عز وجل، غير مخلوق "، وهذا نص - فيما يقول الدكتور النشار - خطير، يثبت أن الإمام الباقر قد أزعجه تماما الأصل المعتزلي: أن كلام الله مخلوق (1).

6 - الإمام الباقر والصوفية:

صب مؤلفو كتب التصوف جوانب الإمام الباقر في قالب صوفي زهدي، بحيث بدا واحدا منهم (2)، وأول ما يجب أن نلتفت إليه البكاء الذي يضاف للإمام الباقر - وهو معاصر للحسن البصري (3) (21 - 110 هـ / 642 - 728 م) - البكاء المشهور، كما عاصر الحسن الإمام علي زين العابدين، وكان الإمام زين العابدين يعلل بكاءه على شهداء كربلاء من آل بيت النبوة، الذين قتلوا على مذبح أطماع الأمويين - فقد رآهم يقتلون رأي العين (4).

وعن أبي حمزة الثمالي عن الإمام جعفر الصادق عن الإمام محمد الباقر قال: سئل علي بن الحسين عن كثرة بكائه، فقال: " لا تلوموني، فإن يعقوب - عليه السلام - فقد سبطا من ولده، فبكى حتى ابيضت عيناه، ولم يعلم أنه

____________

<=

الخصائص للنسائي ص 59 - 105، فضائل الصحابة لابن حنبل 2 / 637، كنز العمال للمتقي الهندي 6 / 72، 82، 88، 319، 392، 8 / 215، مجمع الزوائد للهيثمي 7 / 138، 238، 9 / 235.

(1) علي سامي النشار: المرجع السابق ص 142.

(2) الشيبي: المرجع السابق ص 173 - 175.

(3) من أهم مصادر ترجمة الحسن البصري (ابن قتيبة: المعارف ص 225، ابن أبي حاتم: الجرح والتعديل 1 / 40 - 42، الفهرست لابن النديم ص 37 - 38، 183، طبقات ابن سعد 7 / 156 - 178، حلية الأولياء 2 / 131 - 161، طبقات الفقهاء للشيرازي ص 68 - 69، التذكرة للذهبي ص 71 - 72، ميزان الاعتدال للذهبي 1 / 254، المعتزلة لابن المرتضى 18 - 24، الأعلام للزركلي 2 / 242، وفيات الأعيان 2 / 69 - 73، شذرات الذهب 1 / 136 - 138).

(4) حلية الأولياء 3 / 138.

الصفحة 33
مات، وقد نظرت إلى أربعة عشر رجلا من أهل بيتي في غزاة واحدة، أفترون حزنهم يذهب من قلبي " (1).

ثم تطورت فكرة البكاء تطورا زهديا، عبر عنه الإمام علي زين العابدين بقوله: " فقد الأحبة غربة " (2)، ويقول ولده الإمام الباقر: " ما اغرورقت عين بمائها، إلا حرم الله وجه صاحبها على النار "، بل إن الإمام الباقر، إنما يقسم البكاء - كما قسم المعرفة (وكذلك فعل أبوه من قبل) (3) - فقال: " فإن سالت على الخدين لم يرهق وجهه قتر ولا ذلة، وما من شئ إلا له جزءا إلا الدمعة، فإن الله يكفر بها بحور الخطايا، ولو أن باكيا بكى في أمة، لحرم الله تلك الأمة على النار " (4).

وهكذا نرى جذور البكاء في الزهد والتصوف، حتى تحولت إلى الذكر الذي يصفي القلوب، كما يصفيها بكاء الشيعي على الإمام الشهيد - مولانا الإمام الحسين - الذي كانت مجالس البكاء عليه تعقد جهارا أيام " المأمون " (189 - 218 هـ - 813 - 833 م)، وقد ربط الإمام الباقر البكاء بالذكر صراحة فقال:

" الصواعق تصيب المؤمن وغير المؤمن، ولا تصيب الذاكر "، وقد رأينا البكاء ومنزلته، فلا بد أن يقترن بالذكر لتنمحي الذنوب، وهكذا أسس الشيعة جذور البكاء في الذكر، ببكائهم على الشهيد - الإمام الحسين (5) -.

هذا وقد زكى المحدث الفقيه ابن حجر الهيثمي في صواعقه، الإمام الباقر صوفيا بقوله فيه: وله من الرسوم في مقامات العارفين، ما تكل عنه ألسنة

____________

(1) ابن كثير: البداية والنهاية 9 / 119، حلية الأولياء 3 / 138.

(2) صفة الصفوة 2 / 53.

(3) تفسير علي بن إبراهيم ص 416.

(4) صفة الصفوة 2 / 61.

(5) الشيبي: المرجع السابق ص 174.

الصفحة 34
الواصفين، وله كلمات كثيرة في السلوك والمعارف لا تحتملها هذه العجالة (1)، ومن تلك الكلمات ما يدخل في سلسلة السند في روايته " أبو علي الروذباردي "، وسفيان الثوري، وذلك في نقل قول الباقر في التوكل " الغنى والعز يجولان في قلب المؤمن، فإذا وصلا إلى مكان فيه التوكل أوطناه " (2).

هذا إلى أننا نجد الحب عند الإمام الباقر - كما وجد عن أبيه - من قوله:

" إعلم يا جابر، أن أهل التقوى أيسر أهل الدنيا مؤونة... قطعوا محبتهم لمحبة ربهم، ووحشوا الدنيا لطاعة مليكهم " (3).

ولعل من الأهمية بمكان الإشارة إلى أن الزهاد والمتصوفة إنما قد عجبهم الأئمة الأوائل من آل بيت النبوة، فأرادوا أن يجعلوا منهم قدوة يقتدون بها، وجعلوا مبادئهم الخلقية والسياسية، الموازية لمبادئ الزهاد شيئا يهتدون به، وكانت أسس التصوف في بداية وضعها، فاستفاد الزهاد من أئمة أهل البيت إفادة ظاهرة، حتى رأيناهم في النهاية ينسبون التصوف إلى الإمام علي - رضي الله عنه، وكرم الله وجهه في الجنة - عن طريق أولاده الأئمة هؤلاء، وقد صرح " العطار " بذلك، فقال في الإمام محمد الباقر، الذي أنهى بسيرته كتابه " تذكرة الأولياء ": " ذلك حجة أهل المعاملات، ذلك برهان أرباب المشاهدات، ذلك إمام أولاد النبي (صلى الله عليه وسلم)، ذلك كريم أحفاد الإمام علي، ذلك صاحب الظاهر والباطن، أبو جعفر محمد الباقر، رضي الله عنه " (4).

7 - الإمام الباقر والصديق والفاروق:

كان الإمام الباقر يحب الصديق والفاروق، رضي الله عنهما، ويعرف لهما

____________

(1) ابن حجر الهيثمي: الصواعق المحرقة ص 304 (دار الكتب العلمية - بيروت 1983).

(2) حلية الأولياء 3 / 181.

(3) محمد بن يعقوب الكليني: أصول الكافي ص 185 (طهران 1278 هـ).

(4) الشيبي: المرجع السابق ص 176 - 177، تذكرة الأولياء 2 / 266.

الصفحة 35
فضلهما، وجهادهما في الإسلام، والمعروف أن زوج الإمام الباقر، وأم ولده - الإمام جعفر الصادق، رائد السنة والشيعة، وشيخ علماء الأمة - إنما هي السيدة " أم فروة بنت القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق).

وأخرج ابن عساكر والدارقطني عن أبي جعفر الباقر قال: من لم يعرف فضل أبي بكر وعمر، فقد جهل السنة (1).

وروى ابن سعد في طبقاته عن جابر قال: قلت: أكان منكم أهل البيت أحد يسب أبا بكر وعمر؟ قال: لا، فأحبهما وتولاهما، واستغفر لهما (2)، وعن أبي عبد الله الجعفي عن عروة عن عبد الله قال: سألت أبا جعفر محمد بن علي عن حلية السيوف؟ قال: لا بأس به، قد حلى أبو بكر الصديق، رضي الله عنه، سيفه، قال: قلت: وتقول الصديق؟ قال: فوثب وثبة، واستقبل القبلة، ثم قال: نعم الصديق، فمن لم يقل له الصديق، فلا صدق الله له قولا في الدنيا والآخرة (3).

وعن عمرو بن شمر عن جابر قال: قال لي محمد بن علي الباقر: يا جابر، بلغني أن قوما بالعراق يزعمون أنهم يحبوننا ويتناولون أبا بكر وعمر، رضي الله عنهما، ويزعمون أني أمرتهم بذلك، فأبلغهم أني إلى الله منهم برئ، والذي نفس محمد بيده، لو وليت لتقربت إلى الله تعالى بدمائهم، لا نالتني شفاعة محمد (صلى الله عليه وسلم)، إن لم أكن أستغفر لهما، وأترحم عليهما، إن أعداء الله لغافلون عنهما (4).

وعن شعبة الخياط مولى جابر الجعفي قال: قال لي أبو جعفر محمد بن

____________

(1) حلية الأولياء 3 / 158، الصواعق المحرقة ص 84.

(2) ابن سعد: الطبقات الكبرى 5 / 236.

(3) ابن كثير: البداية والنهاية 9 / 349، حلية الأولياء 3 / 185.

(4) حلية الأولياء 3 / 185.

الصفحة 36
علي، لما ودعته: أبلغ أهل الكوفة أني برئ ممن تبرأ من أبي بكر وعمر، رضي الله عنهما وأرضاهما (1).

والواقع أن قصة سب آل البيت للصديق والفاروق، رضي الله عنهما، إنما هي أكذوبة دنيئة، انتحلها أعداء آل النبي (صلى الله عليه وسلم)، فما كان أهل البيت يكرهون، بل ويسبون، من كان جدهم المصطفى (صلى الله عليه وسلم) يحبهم، وعلى وجه اليقين أن سيدنا رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، إنما كان يحب أبا بكر وعمر.

وشواهد التاريخ تدل - دونما لبس أو غموض - أن أهل بيت النبوة إنما كانوا يحبون الصديق والفاروق، رضي الله عنهما، روى الحافظ أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي بسنده عن الإمام جعفر الصادق عن أبيه الإمام محمد الباقر قال: قال رجل من قريش لعلي بن أبي طالب، رضي الله عنه: يا أمير المؤمنين نسمعك تقول في الخطبة آنفا، اللهم أصلحنا بما أصلحت به الخلفاء الراشدين المهتدين، فمن هم؟ فاغرورقت عيناه، ثم أهملهما فقال:

" هم حبيباي وعماك أبو بكر وعمر، إماما الهدى، وشيخا الإسلام، ورجلا قريش، والمقتدى بهما، بعد رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، فمن اقتدى بهما عصم، ومن اتبع آثارهما هدي إلى صراط مستقيم، ومن تمسك بهما فهو من حزب الله، وحزب الله هم المفلحون " (2).

وروى الفقيه ابن عبد ربه في عقده الفريد: لما قبض أبو بكر سجي بثوب، فارتجت المدينة من البكاء، ودهش القوم، كيوم قبض رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، وجاء علي بن أبي طالب باكيا مسرعا، مسترجعا حتى وقف بالباب، وهو يقول:

____________

(1) ابن كثير: البداية والنهاية 9 / 349، حلية الأولياء 3 / 185.

(2) أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي: تاريخ عمر بن الخطاب ص 49 (مكتبة السلام العالمية - القاهرة)، ابن حجر الهيثمي: الصواعق المحرقة ص 84 - 85.

الصفحة 37
" رحمك الله أبا بكر، كنت والله أول القوم إسلاما وأصدقهم إيمانا، وأشدهم يقينا، وأعظمهم غنى، وأحفظهم على رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، وأحد بهم على الإسلام، وأحماهم عن أهله، وأنسبهم برسول الله خلقا وفضلا، وهديا وسمتا، فجزاك الله عن الإسلام، وعن رسول الله، وعن المسلمين خيرا، صدقت رسول الله حين كذبه الناس، وواسيته حين بخلوا، وقمت معه حين قعدوا، وسماك الله في كتابه صديقا فقال: " والذي جاء بالصدق وصدق به "، يريد محمدا ويريدك، كنت والله للإسلام حسنا، وللكافرين ناكبا، لم تفلل حجتك، ولم تضعف بصيرتك، ولم تجبن نفسك، كنت كالجبل لا تحركه العواصف، ولا تزيله القواصف، كنت كما قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): ضعيفا في بدنك، قويا في دينك، متواضعا في نفسك، عظيما عند الله، جليلا في الأرض، كبيرا عند المؤمنين، لم يكن لأحد عندك مطمع ولا هوى، فالضعيف عندك قوي، والقوي عندك ضعيف، حتى تأخذ الحق من القوي، وترده للضعيف، فلا حرمك الله أجرك، ولا أضلنا بعدك " (1).

وروى ابن الأثير: أنه لما ولي الخلافة، وارتدت العرب، خرج شاهرا سيفه إلى ذي القصة، فجاء علي بن أبي طالب وأخذ بزمام راحلته وقال له: أين يا خليفة رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، أقول لك ما قال لك رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، يوم أحد: " شم سيفك، لا تفجعنا بنفسك، فوالله لئن أصبنا بك، لا يكون للإسلام نظام، فرجع وأمضى الجيش " (2).

وفي نهج البلاغة قال الإمام علي: " أما بعد، فإن الله سبحانه بعث محمدا (صلى الله عليه وسلم)، فأنقذ به من الضلالة ونعش به من الهلكة، وجمع به بعد الفرقة، ثم قبضه الله إليه، وقد أدى ما عليه، فاستخلف الناس أبا بكر، ثم استخلف أبو بكر

____________

(1) ابن عبد ربه: العقد الفريد 5 / 18 - 19.

(2) ابن الأثير: الكامل في التاريخ 2 / 422.

الصفحة 38
عمر، فأحسنا السيرة، وعدلا في الأمة، ووجدنا عليهما أن توليا الأمر دوننا، ونحن آل الرسول، وأحق بالأمر، فغفرنا ذلك لهما " (1).

وفي الصواعق المحرقة بسنده عن الحسين بن محمد الحنفية أنه قال: يا أهل الكوفة، اتقوا الله عز وجل، ولا تقولوا لأبي بكر وعمر ما ليسا له بأهل:

إن أبا بكر الصديق، رضي الله عنه، كان مع رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، في الغار ثاني اثنين، وإن عمر أعز الله به الدين (2).

وكان الإمام علي زين العابدين يثني - الثناء كل الثناء - على الخلفاء الراشدين (أبي بكر وعمر وعثمان) ويترحم عليهم، روي عنه أنه قال:

كان أبو بكر وعمر من رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، في حياته، بمنزلتهما منه بعد وفاته، وعن يحيى بن سعيد قال قال علي بن الحسين: والله ما قتل عثمان على وجه الحق (3).

وروى الحافظ ابن كثير عن الزبير بن بكار بسنده عن الإمام محمد الباقر عن أبيه الإمام علي زين العابدين قال: جلس قوم من أهل العراق، فذكروا أبا بكر وعمر، فنالوا منهما، ثم ابتدأوا في عثمان، فقال لهم: أخبروني أأنتم من المهاجرين الأولين (الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا، وينصرون الله ورسوله) (4)، قالوا: لا، قال: فأنتم من (الذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم، يحبون من هاجر إليهم) (5)، قالوا: لا، فقال لهم:

أما أنتم فقد أقررتم وشهدتم على أنفسكم أنكم لستم من هؤلاء ولا هؤلاء، وأنا

____________

(1) ابن أبي الحديد: شرح نهج البلاغة 4 / 23 - 24.

(2) ابن حجر الهيثمي: الصواعق المحرقة ص 83.

(3) عبد الحليم محمود: سيدنا زين العابدين ص 65 - 66.

(4) سورة الحشر: آية 8.

(5) سورة الحشر: آية 9.