والمأمون حين قال ذلك، وحين كتب وصيته، وحين أخذ المواثيق على أخيه المعتصم - وهو يحتضر - كان بعيدا عن تأثير " الفضل بن سهل "، بعد أن قضى الأخير نحبه منذ زمن طويل، وإن كان اعتقاده - مع ذلك - لا يخلو من تأثير قديم، صحب نشأته.
على أن هناك وجها آخر للنظر، يذهب أصحابه إلى أن التشيع إنما كان قد انتشر في عهد المأمون - فضلا عن عهد أبيه من قبله - حتى امتدت جذوره إلى البلاط الملكي، فكان الفضل بن سهل، ذو الرياستين، وزير المأمون شيعيا، وكذلك كان " طاهر بن الحسين الخزاعي " قائد المأمون، الذي فتح له بغداد، وقتل أخاه الأمين (193 - 198 هـ - / 808 - 813 م) وكثير سواهما، كانوا شيعة، حتى أن المأمون خشي عاقبة هذين الرجلين، فقتل الفضل، وولى طاهرا إمارة هرات - أي عزله عن قيادة الجيش إلى وظيفة أدنى - وكانت الطاهرية كلها تتشيع - كما قال ابن الأثير في حوادث عام 250 هـ (2).
وجاء المأمون إلى الحكم، ورأى ما رأى من كثرة الشيعة، وإقبال الناس على الإمام الرضا، ونقمتهم على أبيه، والحاكمين من أسلافه، فحاول أن يداهن، ويستميل الرأي العام، فأظهر التشيع كذبا ونفاقا، وأخذ يدافع ويناظر عن إمامة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، وأنه أحق بالخلافة من أبي بكر وعمر، وهو لا يؤمن بشئ إلا بتثبيت ملكه، وتوطيد سلطانه، والغريب أن حيل المأمون قد انطلت على كثير من الشيعة، فظنوا به خيرا.
والحقيقة أن الرشيد والمأمون قد بنيا على أساس واحد، وهو الاحتفاظ بالسلطة، وإن اختلف شكل البناء، فلقد دس الرشيد السم للإمام الكاظم، ودس
____________
(1) السيوطي: تاريخ الخلفاء ص 308.
(2) محمد الحسين المظفري: تاريخ الشيعة ص 50 (ط 1353 هـ)، محمد جواد مغنية: الشيعة والحاكمون ص 164 - 165 الشيعة في الميزان ص 165 - 166
وروي أن الخليفة المأمون اجتمع بالإمام علي الرضا، وقال له: رأيت أن أعزل نفسي عن الخلافة، وأجعلها لك.
قال الرضا: إن كانت الخلافة حقا لك، وأنت أهل لها، فلا يجوز أن تخلع نفسك منها، وإن لم يكن لك حق بها، فلا يجوز أن تعطيها لغيرك.
قال المأمون: لا بد لك من قبول هذا الأمر.
قال الرضا: إني بالعبودية (لله) أفتخر، وبالزهد في الدنيا أرجو النجاة من شر الدنيا، وبالردع عن محارم الله، أرجو الفوز بالمغانم، وبالتواضع أرجو الرفعة عند الله.
قال المأمون: إن لم تقبل الخلافة فكن ولي عهدي.
قال الرضا: لست أفعل ذلك مختارا أبدا.
قال المأمون: إنك تريد بهذا أن يقول الناس عنك، أنك زاهد في الدنيا.
قال الرضا: والله ما كذبت منذ خلقني ربي عز وجل، وما زهدت في الدنيا للدنيا، وإني لأعلم ما تريد.
قال المأمون: وما أريد، قال الرضا: تريد أن يقول الناس: إن علي بن موسى الرضا لم يزهد في الدنيا، بل زهدت الدنيا فيه، ألا ترون كيف قبل ولاية العهد، حين أتيحت له الفرصة.
فغضب المأمون، وقال: والله إن لم تقبل ضربت عنقك.
قال الرضا: إن الله سبحانه قد نهاني أن ألقي بيدي إلى التهلكة، فإن كان
وهكذا أراد المأمون أن يري الناس أن الإمام الرضا راغب في الدنيا بقبوله، ولاية العهد، فيسقط محله في قلوبهم، ولكن ما زاده ذلك إلا رفعة وعظمة عندهم، ولما أعيت المأمون الحيل في أمر الرضا اغتاله بالسم.
ومن ثم، فإن موقف المأمون من الإمام الرضا، كموقف أبيه الرشيد من الإمام الكاظم، وموقف جده " المنصور " من الإمام الصادق، وموقف معاوية بن أبي سفيان من الإمام الحسن، لقد هانت دماء الأبرياء والأولياء على حكام الجور من أجل الملك والسلطان، وهانت على المصلحين نفوسهم من أجل الحق (1).
ويروي الحافظ ابن كثير القصة كالتالي: وبايع المأمون لعلي الرضا بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي زين العابدين بن الحسين الشهيد بن علي بن أبي طالب، أن يكون ولي العهد من بعده، وسماه " الرضا من آل محمد "، وطرح لبس السواد، وأمر بلبس الخضرة، فلبسها هو وجنده، وكتب بذلك إلى الآفاق، وكانت مبايعته له يوم الثلاثاء لليلتين خلتا من شهر رمضان، سنة إحدى ومائتين، وذلك أن المأمون رأى أن عليا الرضا خير أهل البيت، وليس في بني العباس مثله في عمله ودينه، فجعله ولي عهده من بعده (2).
ويروي الإمام الطبري (3): أن علي الرضا لما قدم " مرو " أحسن المأمون وفادته، وجمع رجال دولته وأخبرهم أنه قلب نظره في أولاد العباس، وأولاد
____________
(1) الصدوق: عيون الأخبار، محمد جواد مغنية: الشيعة والحاكمون ص 167 - 168 (بيروت 1981).
(2) ابن كثير: البداية والنهاية 10 / 247 (القاهرة 1351 هـ / 1933 م).
(3) تاريخ الطبري 10 / 43، حسن إبراهيم: تاريخ الإسلام السياسي 2 / 185 - 186. القاهرة 1964).
وفي تاريخ اليعقوبي: وبايع المأمون للرضا علي بن موسى بن جعفر، بولاية العهد من بعده، وكان ذلك يوم الاثنين لسبع خلون من شهر رمضان سنة 201 هـ، وألبس الناس الأخضر مكان السواد، وكتب بذلك إلى الآفاق، وأخذ البيعة للرضا، ودعا له على المنابر، وضربت الدنانير والدراهم باسمه (1).
ويقول المسعودي (2): ووصل إلى المأمون أبو الحسن علي بن موسى الرضا، وهو بمدينة " مرو " فأنزله المأمون أحسن إنزال، وأمر المأمون بجميع خواص الأولياء، وأخبرهم أنه نظر في ولد العباس، وولد علي بن أبي طالب، رضي الله عنهم، فلم يجد في وقته أحدا أفضل، ولا أحق بالأمر من " علي بن موسى الرضا "، فبايع له بولاية العهد، وضرب اسمه على الدنانير والدراهم، وزوج محمد بن علي بن موسى الرضا بابنته " أم الفضل ". وأمر بإزالة السواد من اللباس والأعلام، وأظهر بدلا من ذلك الخضرة في اللباس والأعلام وغير ذلك، ونمى ذلك إلى من بالعراق من ولد العباس، فأعظموه، إذ علموا أن في ذلك خروج الأمر عنهم.
وحج بالناس " إبراهيم بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق " - أخو الرضا بأمر المأمون - واجتمع من في مدينة السلام (بغداد) من ولد العباس ومواليهم وشيعتهم، على خلع المأمون، ومبايعة إبراهيم بن المهدي، المعروف " بابن
____________
(1) تاريخ اليعقوبي 2 / 448 (بيروت 1980).
(2) المسعودي: مروج الذهب 2 / 417.
وفي رواية ابن خلكان: كان المأمون قد زرج علي الرضا ابنته " أم حبيبة " في سنة اثنتين ومائتين، وجعله ولي عهده، وضرب اسمه على الدينار والدرهم، وكان السبب في ذلك أنه استحضر أولاد العباس - الرجال منهم والنساء - وهو بمدينة " مرو " من بلاد خراسان، وكان عددهم ثلاثة وثلاثين ألفا، ما بين الكبار والصغار، واستدعى علي الرضا، فأنزله أحسن منزلة، وجمع خواص الأولياء وأخبرهم: أنه نظر في أولاد العباس، وأولاد علي بن أبي طالب، رضي الله عنهما، فلم يجد في وقته أحدا أفضل، ولا أحق بالأمر، من علي الرضا، فبايعه، وأمر بإزالة السواد من اللباس والأعلام، ونمى الخبر إلى من بالعراق من أولاد العباس، فعلموا أن في ذلك خروج الأمر عنهم، فخلعوا المأمون، وبايعوا إبراهيم المهدي - وهو عم المأمون - وذلك يوم الخميس لخمس خلون من المحرم سنة اثنتين ومائتين، وقيل: سنة ثلاث ومائتين (1).
على أن هناك اتجاها يذهب إلى أن " الفضل بن سهل " إنما هو الذي كان من وراء تولية المأمون للرضا ولاية العهد، ذلك أن المأمون عندما بلغه موت أبيه الرشيد، ورجوع رجاله إلى أخيه " الأمين " بالأموال والأحمال، وقد نكثوا عهده، خاف على نفسه فجمع خاصته في " مرو " وشاورهم في الأمر، وأظهر لهم ضعفه، وأنه لا يقوى على أخيه، فنشطوه ووعدوه خيرا، وقال له الفضل بن سهل: أنت نازل في أخوالك، وبيعتك في أعناقهم، اصبر، وأنا أضمن لك الخلافة، فاطمأن خاطر المأمون بهذا الوعد الصريح وقال له: صبرت: وجعلت الأمر لك، فقم به " وسماه ذا الرياستين " - أي رياسة السيف والقلم - وجهز الفضل الجيوش بقيادة " طاهر بن الحسين "، وانتهت الحرب بفتح بغداد، وقتل
____________
(1) ابن خلكان: وفيات الأعيان 3 / 269 - 270.
وبذل الفضل كل جهده في تحريض المأمون على بيعة الإمام علي الرضا بولاية العهد من بعده، وربما كانت تلك البيعة شرطا لمساعدته في استرجاع الخلافة له، وربما حسن الفضل له ذلك، وإن لم يشترطه، فأجابه المأمون إلى ذلك، إما وفاء لوعده، أو مجاراة له للمكر به، أو أنه فعله عن حسن ظن في العلويين، وقد رضع حب الشيعة منذ طفولته، وكان يظهر التشيع، فبايع لعلي الرضا سنة 201 هـ، وجعله الخليفة من بعده، ولقبه " الرضا من آل محمد "، وأمر جنده بطرح السواد، ولبس الخضرة، وكتب بذلك إلى الآفاق (1).
هذا وتذهب رواية إلى أن " الفضل بن سهل " لم يفعل ذلك حبا للإمام علي الرضا، يروي الجهشياري أن كلاما دار بين الفضل وبين " نعيم بن أبي حازم " - بحضرة المأمون - فقال له نعيم: إنك تريد أن تزيل الملك عن بني العباس إلى ولد علي، ثم تحتال لتجعل الملك كسرويا، ولولا أنك أردت ذلك، لما عدلت عن لبسه إلى علي وولده وهي البياض إلى الخضرة، وهي لباس كسرى والمجوس (2)، هذا فضلا عن الخلاف الذي حدث بين الإمام الرضا والفضل بن سهل بعد البيعة.
هذا ويذهب " ابن طباطبا " (3) إلى أن الفضل بن سهل، وزير المأمون، هو
____________
(1) جرجي زيدان: تاريخ التمدن الإسلامي 3 / 438 - 439 (بيروت 1967).
(2) الجهشياري: الوزراء والكتاب ص 312 - 313 (القاهرة 1938).
(3) ابن طباطبا: أبو محمد عبد الله بن أحمد بن علي بن الحسن بن إبراهيم طباطبا بن إسماعيل بن إبراهيم بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب، رضي الله عنهم أجمعين، الحجازي الأصل، المصري الدار والوفاة، كان طاهرا فاضلا كريما، واسع الثراء، ولد عام 286 هـ، وتوفي في الرابع من رجب عام 348 هـ، ودفن بقرافة مصر، وقبره مشهور بإجابة الدعاء، روي أن رجلا
=>
هذا وتذهب المصادر الإمامية إلى أن هناك أسبابا أخرى - فضلا عن الأسباب التي جاءت في المصادر التاريخية - دفعت المأمون إلى مبايعة الإمام الرضا بولاية العهد، فيذهب الصدوق إلى أن المأمون إنما كان يعتقد أن الإمام الرضا إنما كان يدعو إلى نفسه في السر، فأراد أن يجعله ولي عهده، وبالتالي يعترف بخلافة العباسيين وملك المأمون، وليعتقد فيه المفتونون به، أنه ليس مما ادعى من قليل ولا كثير، وإن هذا الأمر لهم دونه (أي للعباسيين) (3).
وهكذا كان الخلفاء العباسيون يعتقدون أن الأئمة إنما يدعون إلى أنفسهم، ويطلبون الخلافة، وإن لم يخرج منهم أحد، لاتخاذهم الجانب السلبي تجاه الأحداث السياسية، بعد أن رأوا أنه لا جدوى من الخروج، غير أن الواضح أن الخلفاء العباسيين إنما كانوا يخشون أتباع الأئمة الذين كانوا يعتقدون في إمامتهم، وينكرون شرعية الحكم العباسي (4).
هذا إلى أن منزلة الأئمة عند الناس، وما كانوا يتمتعون من تقدير وإجلال، إنما قد أثار خوف العباسيين، يروي الكليني عن الإمام الرضا قوله:
" والله ما زادني هذا الأمر الذي دخلت فيه من نعمة عندي شيئا، ولقد كنت بالمدينة، وكتابي ينفذ في المشرق والمغرب، ولقد كنت أركب حماري وأمر
____________
<=
حج وفاته أن يزور النبي (صلى الله عليه وسلم)، فضاق صدره لذلك، فرأى النبي (صلى الله عليه وسلم) في نومه فقال له: إذا فاتتك
الزيارة، فزر قبر عبد الله بن أحمد بن طباطبا (وفيات الأعيان 3 / 81 - 83).
(1) ابن طباطبا: الفخري في الآداب السلطانية والدول الإسلامية ص 217 (بيروت 1960).
(2) عبد العزيز الدوري: العصر العباسي الأول ص 208 (بغداد 1944).
(3) الصدوق: عيون أخبار الرضا 2 / 170.
(4) نبيلة عبد المنعم داود: المرجع السابق ص 242 - 244.
ويروي الطبرسي - عن ابن نوح قال: قلت للرضا إنا نرجو أن تكون صاحب هذا الأمر، وأن يسديه الله إليك من غير سيف، فقد بويع لك، وضربت الدراهم باسمك، فقال: ما منا أحد اختلفت إليه الكتب، وسئل عن المسائل، وأشارت إليه الأصابع، وحملت إليه الأموال، إلا أغتيل أو مات على فراشه، حتى يبعث الله عز وجل بهذا الأمر، رجلا خفي المولد والمنشأ، غير خفي في نسبه " (2).
وأما قصة اختيار الإمام الرضا وليا لعهد المأمون - عند أبي الفرج الأصفهاني (3) - فيرويها كالتالي:
" وجه المأمون إلى جماعة من آل أبي طالب، فحملوا إليه من المدينة، وفيهم علي بن موسى الرضا، فلما قدموا على المأمون، أنزلهم دارا، وأنزل علي بن موسى الرضا دارا، ووجه إلى الفضل بن سهل، فأعلمه أنه يريد العقد له، وأمره بالاجتماع مع أخيه الحسن بن سهل على ذلك، ففعل واجتمعا بحضرته، فجعل الحسن يعظم ذلك عليه ويعرفه ما فيه إخراج الأمر من أهله عليه، فقال له: إن عاهدت الله أن أخرجها إلى أفضل آل أبي طالب، إن ظفرت بالمخلوع، وما أعلم أحدا أفضل من هذا الرجل، فاجتمعا معه على ما أراد،
____________
(1) الكليني: الكافي 8 / 151.
(2) الطبرسي: إعلام الورى بأعلام الهدى ص 407 (طهران 1479 هـ).
(3) أبو الفرج الأصفهاني: هو علي بن الحسين بن محمد بن أحمد بن الهيثم بن عبد الرحمن بن مروان بن عبد الله بن مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس الأموي، صاحب " الأغاني " و " مقاتل الطالبيين " كان عالما بالأنساب والسير وأيام الناس، ولد عام 284 هـ، وتوفي يوم الأربعاء رابع عشر ذي الحجة عام 356 هـ، ببغداد (وفيات الأعيان 3 / 307 - 309، شذرات الذهب 3 / 19 - 20، ميزان الاعتدال 3 / 123، معجم الأدباء 13 / 94، تاريخ بغداد 11 / 398).
ومن الواضح من هذا النص أن المأمون كانت له رغبة حقيقية في اختيار ولي عهده من آل أبي طالب، وأن فكره قد اتجه إلى " علي الرضا " فأنزله في دار مستقلة، وأن معارضة الحسن بن سهل ربما كانت من تدبير أخيه الفضل حتى يبعدا عن نفسيهما تهمة التأثير على المأمون في هذا الأمر الخطير، وربما كانت فكرة اختيار أحد العلويين فكرتهما في الأصل، وأن اختيار الإمام الرضا إنما كان اختيار المأمون وحده، ومن المعروف أن هناك ودا غير متبادل بين الإمام الرضا وبين الفضل والحسن ابني سهل، وقد نجح الإمام الرضا في إزالة الغشاوة عن عيني المأمون من ناحيتهما، وتبصيره بما كان يحاول الفضل إخفاءه عنه من أحوال البلاد المضطربة حتى أنهم بايعوا عمه " إبراهيم بن المهدي " خليفة بدله، وبدا المأمون وكأنه يسمع ذلك لأول مرة، حتى رد على الإمام الرضا قائلا: " إنهم لم يبايعوا له بالخلافة، وإنما صيروه أميرا يقوم بأمرهم "، بل وأخبر الإمام الرضا عن الحرب التي تدور رحاها بين إبراهيم و " الحسن بن سهيل "، وأن الناس تكره مقام الفضل وأخيه من المأمون (2).
ولنقدم الآن صورة مختصرة من كتاب العهد الذي كتبه المأمون بخطه للإمام علي الرضا - كما جاء في كتاب الفصول المهمة:
" بسم الله الرحمن الرحيم، هذا كتاب كتبه عبد الله بن هارون الرشيد، لعلي بن موسى بن جعفر، ولي عهده، أما بعد، فإن الله عز وجل، اصطفى الإسلام دينا، واختار له من عباده رسلا، دالين عليه، هادين إليه، يبشر أولهم بآخرهم، ويصدق تاليهم ماضيهم، حتى انتهت نبوة الله تعالى إلى محمد (صلى الله عليه وسلم)،
____________
(1) أبو الفرج الأصفهاني: مقاتل الطالبين ص 368 - 370.
(2) محمد مصطفى هدارة: المأمون ص 75 - 76.
" ولم يزل أمير المؤمنين منذ أفضت إليه الخلافة، وحمل مشاقها، وخبر مرارة طعمها، وذاقها مسهرا لعينيه، منصبا لبدنه، مطيلا لفكره، فيما فيه عز الدين، وقمع المشركين، وصلاح الأمة، وجمع الكلمة، ونشر العدل، وإقامة الكتاب والسنة، منعه ذلك من الخفض والدعة، ومهنأ العيش، محبة أن يلقى الله سبحانه وتعالى، مناصحا له في دينه، وعباده، ومختارا لولاية عهده، ورعاية الأمة من بعده، أفضل من يقدر عليه، في دينه وورعه وعلمه، وأرجاهم للقيام في أمر الله وحقه، مناجيا لله تعالى، بالاستخارة في ذلك، ومسألته الهامة، ما فيه رضاه وطاعته، في آناء ليله ونهاره، معملا فكره ونظره في طلبه والتماسه، في أهل بيته من ولد عبد الله بن العباس، وعلي بن أبي طالب، رضي الله عنهم، مقتصرا ممن علم حاله ومذهبه منهم على علمه، وبالغا في المسألة ممن خفي عليه أمره، جهده وطاقته، حتى استقصى أمورهم معرفة، وابتلى أخبارهم مشاهدة، واستبرأ أحوالهم معاينة، وكشف ما عندهم مسألة ".
وكانت خبرته - بعد استخارة الله تعالى - وإجهاده نفسه في قضاء حقه في عباده وبلاده في الفئتين جميعا: علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، رضي الله عنهم، لما رأى من فضله البارع، وعلمه الذائع، وورعه الظاهر والشائع، وزهده الخالص النافع، وتخليه عن الدنيا، وتفرده عن الناس، وقد استبان له منذ لم تزل الأخبار عليه منطبقة، والألسنة عليه متفقة، والكلمة فيه جامعة، والأخبار واسعة، ولما لم يزل يعرف به من الفضل، يافعا وناشئا، وحدثا وكهلا، فلذلك عقد له بالعهد والخلافة من
" ودعا أمير المؤمنين ولده وأهل بيته وخاصته وقواده وخدمه، فبايعه الكل مطيعين مسارعين، عالمين بإيثار أمير المؤمنين طاعة الله على الهوى في ولده وغيره ممن هو أشبك رحما، وأقرب قرابة، وسماه " الرضا "، إذ كان مرضيا عند الله تعالى، وعند الناس، وقد آثر طاعة الله تعالى، والنظر لنفسه وللمسلمين، والحمد لله رب العالمين ".
" كتبه بيده في يوم الاثنين لسبع خلون من شهر رمضان المعظم، سنة إحدى ومائتين " (1).
ولنقدم الآن صورة ما على ظهر العهد، بخط الإمام علي بن موسى الرضا:
" بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله الفعال لما يشاء، لا معقب لحكمه، ولا راد لقضائه، يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، وصلاته على نبيه محمد (صلى الله عليه وسلم)، خاتم النبيين، وآله الطيبين الطاهرين، أقول، وأنا علي بن موسى بن جعفر، أن أمير المؤمنين، عضده الله بالسداد، ووفقه للرشاد، عرف من حقنا ما جهله غيره، فوصل أرحاما قطعت، وأمن نفوسا فزعت، بل أحياها، بعد أن كانت من الحياة أيست، فأغناها بعد فقرها، وعرفها بعد نكرها، متبعا بذلك رضا رب العالمين، لا يريد جزءا من غيره، وسيجزي الله الشاكرين، ولا يضيع أجر المحسنين ".
" وإنه جعل إلي عهده، والإمرة الكبرى، إن بقيت بعده، فمن حل عقدة
____________
(1) نور الأبصار ص 156 - 157.
" وخوفا من شتات الدين، واضطراب أمر المسلمين، وحذر فرصة تنتهز، وعلقة تبتدر، جعلت لله تعالى على نفسي عهدا، أن استرعاني أمر المسلمين، وقلدني خلافة العمل فيهم عامة، وفي بني العباس بن عبد المطلب خاصة، أن أعمل فيهم بطاعة الله، وطاعة رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، ولا أسفك دما، ولا أبيح فرجا، ولا مالا، إلا ما سفكته حدوده، وأباحته فرائضه، وأن أتحرى الكفاءة جهدي وطاقتي ".
" وجعلت بذلك على نفسي عهدا مؤكدا، يسألني الله عنه، فإنه عز وجل يقول: وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسؤولا، وإن أحدثت أو غيرت أو بدلت، كنت للعزل مستحقا، وللنكال متعرضا، وأعوذ بالله من سخطه، وإليه أرغب في التوفيق لطاعته، والحول بيني وبين معصيته في عافية، وللمسلمين، والجامعة والجفر، يدلان على ضد ذلك، وما أدري ما يفعل الله بي ولا بكم، إن الحكم إلا لله يقص الحق، وهو خير الفاصلين، لكني امتثلت أمر أمير المؤمنين، وآثرت رضاه، والله يعصمني وإياه، وأشهدت الله تعالى على نفسي بذلك، وكفى بالله شهيدا ".
" وكتبت بخطي بحضرة أمير المؤمنين، أطال الله بقاءه، والحاضرين من أولياء نعمته، وخواص دولته، هم: الفضل بن سهل، وسهل بن الفضل، والقاضي يحيى بن أكثم، وعبد الله بن طاهر، وثمامة بن الأشرس، وبشر بن المعتمر، وحماد بن النعمان، وذلك في شهر رمضان، سنة إحدى ومائتين " (1).
ثم بعد ذلك صورة لشهادة الشهود: القاضي يحيى بن أكثم وعبد الله بن طاهر وحماد بن النعمان وبشر بن المعتمر والفضل بن سهل.
____________
(1) نور الأبصار ص 175.
هذا وقد كتب الخليفة المأمون إلى " عبد الجبار بن سعد المساحقي " - عامله على المدينة - أن أخطب الناس، وأدعهم إلى بيعة " الرضا علي بن موسى " فقام خطيبا فقال:
" يا أيها الناس، هذا الأمر الذي كنتم فيه ترغبون، والعدل الذي كنتم تنتظرون، والخير الذي كنتم ترجون، هذا " علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب "، ستة آباء، هم ما هم، من خير، من يشرب صوب الغمام " (2).
6 - وفاة الرضا
هذا وقد اختلف في أمر وفاة الرضا؟ وكيف كان سببه السم الذي سقيه؟
فروي أن المأمون أمره أن يطول أظافره ففعل، ثم أخرج إليه شيئا يشبه التمر الهندي، وقال له: افركه واعجنه بيديك جميعا ففعل، ثم دخل علي الرضا، عليه السلام، فقال: ما خبرك؟ فقال: أرجو أن أكون صالحا، فقال: هل جاءك أحد من المترفقين اليوم، قال: لا، فغضب وصاح على غلمانه، وقال له: فخذ ماء الرمان فإنه مما لا يستغني عنه، ثم دعى برمان، فأعطاه عبد الله بن بشير،
____________
(1) نور الأبصار ص 157 - 158.
(2) ابن عبد ربه: العقد الفريد 5 / 359 (بيروت 1983).
وروي عن أبي الصلت الهروي، أنه دخل علي الرضا، عليه السلام، بعد ذلك، فقال له: يا أبا الصلت: قد فعلوها، أي سقوني السم.
وروي عن محمد بن الجهم: أن الرضا عليه السلام كان يعجبه العنب، فأخذ له عنب، وجعل في موضع الابر، فتركت أياما، فأكل منه في علته فقتله، وذكر أن ذلك من لطيف السموم.
ولما توفي الرضا لم يظهر المأمون موته في وقته، وتركه يوما وليلة، ثم وجه إلى محمد بن جعفر بن محمد، وجماعة من آل أبي طالب، فلما أحضرهم أراهم إياه، صحيح الجسد، لا أثر له، بكى، وقال: " عز علي يا أخي أن أراك في هذه الحالة، وقد كنت أؤمل أن أكون قبلك، فأبى الله إلا ما أراد "، وأظهر جزعا شديدا، وحزنا كثيرا، وخرج مع جنازته يحملها حتى أبى الموضع الذي هو مدفون فيه الآن، فدفنه هناك إلى جانب أبيه هارون الرشيد (1).
ويروي اليعقوبي عن أبي الحسن بن أبي عباد قال: رأيت المأمون يمشي في جنازة الرضا، حاسرا في مبطنة بيضاء، وهو بين قائمتي النعش يقول: " إلى من أروح بعدك يا أبا الحسن، وأقام عند قبره ثلاثة أيام، يؤتى في كل يوم برغيف وملح فيأكله، ثم انصرف في اليوم الرابع، وكان سن الرضا أربعا وأربعين سنة (2).
وفي رواية المسعودي: وفي خلافته (أي المأمون) قبض علي بن موسى
____________
(1) أبو الفرج الأصفهاني: مقاتل الطالبين ص 371 - 372.
(2) تاريخ اليعقوبي 2 / 453.
ولعل من الجدير بالإشارة أن الشيعة لا تجد تناقضا بين أن يجد الرضا كل هذه الحظوة لدى المأمون حين بايع له بولاية العهد، وزوجه أخته (الصحيح ابنته)، وبين أن يدس له المأمون السم في العنب، ثم يصلي عليه، ويدفنه بجوار قبر أبيه الرشيد في مشهده بطوس، فقد أصبح مقدرا على الأئمة - منذ الإمام الحسين بن علي - أن يكون قاتلوهم هم الخلفاء، أو بإيعاز منهم (2).
هذا ولما كان الإمام علي الرضا مات شهيدا، فقد أقيمت حول قبره مدينة جديدة يعيش فيها زوار قبر الإمام، والمتبركون به، سميت " المشهد الرضوي " أو " مشهد " والتي أخذت بالتدريج تأخذ مكان مدينة " طوس " القديمة، حتى قضت عليها، وغدت تمثل الآن أكبر عتبات الشيعة المقدسة - بجوار كربلاء والنجف - وهكذا يحق للشيعة أن يذكروا أن مدفن الإمام علي الرضا في طوس - والذي يعد من أكبر مزارات الشيعة بجوار مدفن هارون الرشيد - وهو من كان في عليائه وجبروته، وذيوع صيته، حتى فاقت شهرته جميع الخلفاء - يحق للشيعة أن يذكروا أن قبر الرشيد هذا، إنما قد اندرس، وأهمل شأنه، بينما ظهر قبر الإمام الرضا، يقصده زوار الشيعة، ومحبي آل بيت رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، من أطراف البلاد، وشاسع الأمصار، وهكذا يعلو شأن الأئمة الروحيين بعد مماتهم، بينما لا يعار سلاطين الأرض، أدنى اهتمام منذ اللحظة التي توارى فيها أجسادهم التراب (3).
وروى ابن خلكان (4) (608 - 681 هـ) أن بعض أصحاب أبي نواس
____________
(1) المسعودي: مروج الذهب 2 / 395.
(2) أحمد صبحي: المرجع السابق ص 378.
(3) أحمد صبحي: المرجع السابق ص 389.
(4) وفيات الأعيان 3 / 270 - 271.
وفي الإمام علي الرضا يقول أيضا:
7 - موقف المأمون من الإمام علي بن أبي طالب:
رأينا من قبل كيف أمر المأمون في عام 211 هـ، بأن ينادي: برئت الذمة من ذكر معاوية بخير، وأن أفضل الخلق - بعد النبي (صلى الله عليه وسلم) - علي بن أبي طالب (2).
ولعل رواية الفقيه ابن عبد ربه في عقده الفريد، إنما تشير بوضوح إلى عقيدة المأمون من الإمام علي بن أبي طالب - رضي الله عنه، وكرم الله وجهه في الجنة -.
روى ابن عبد ربه في العقد الفريد: " أن إسحاق بن إبراهيم بن إسماعيل
____________