ثم إن الخليفة قال: نحفر له من خلف قبر الرشيد، لننظر ما قاله لك، فكانت الأرض أصلب من الصخر الصوان، وعجزوا عن حفرها، فتعجب الحاضرون من ذلك، وتبين للمأمون صدق ما قلته له.
فقال أرني الموضع الذي أشار إليه، فجئت بهم إليه، فما كان إلا أن انكشف التراب عن وجه الأرض، فظهرت الأطباق، فرفعناها فظهر قبر معمور، فإذا في قعره ماء أبيض، وأشرف عليه المأمون وأبصره، ثم إن ذلك الماء نضب من وقته، فواريناه فيه، ورددنا الأطباق على حالها والتراب.
ولم يزل الخليفة المأمون يتعجب مما رأى ومما سمعه مني، ويتأسف عليه ويندم، وكلما خلوت معه يقول لي: يا هرثمة، كيف قال لك أبو الحسن الرضا، فأعيد عليه الحديث، فيتلهف ويتأسف، ويقول: إنا لله وإنا إليه راجعون (1).
12 - أولاد الإمام الرضا: -
روى الشيخ المفيد في " الإرشاد " و " ابن شهرآشوب " في " مناقب آل أبي طالب " و " الطبرسي " في " إعلام الورى بأعلام الهدى " أن الإمام علي الرضا، لم يترك ولدا، إلا " الإمام محمد الجواد " (2).
غير أن الخشاب، إنما يقول في كتابه " مواليد أهل البيت ": ولد الرضا خمسة بنين وابنة واحدة، وهم: محمد القانع والحسن وجعفر وإبراهيم والحسين، والبنت اسمها عائشة (3).
____________
(1) سيد الشبلنجي: نور الأبصار ص 159 - 160.
(2) فضائل الإمام علي ص 234.
(3) نور الأبصار ص 160، وفي هامش رقم 2 ص 228 من كتاب " عمدة الطالب " يقول: للإمام الرضا ثلاثة أولاد: موسى ومحمد وفاطمة.
(4) الإمام محمد الجواد
1 - نسبه ومولده: -
هو الإمام أبو جعفر محمد الجواد بن الإمام علي الرضا بن الإمام موسى الكاظم بن الإمام جعفر الصادق بن الإمام محمد الباقر بن الإمام علي زين العابدين بن الإمام الحسين بن الإمام علي بن أبي طالب، وسيدة نساء العالمين السيدة فاطمة الزهراء بنت سيدنا ومولانا وجدنا محمد رسول الله (صلى الله عليه وسلم).
هذا وقد ولد الجواد بالحديثة عام 195 هـ، وتوفي عام 220 هـ، وهو ابن 25 سنة، عاش مع أبيه الرضا 7 سنين، وبقي بعده 18 سنة، وأمه أم ولد، اسمها " سكن " (1)
وفي وفيات الأعيان، يقول ابن خلكان: وكانت ولادته يوم الثلاثاء لخمس خلون من شهر رمضان - وقيل منتصفه - سنة خمس وتسعين ومائة، وتوفي يوم الثلاثاء لخمس خلون من شهر ذي الحجة سنة عشرين ومائتين، وقيل تسع عشرة ومائتين ببغداد، ودفن عند جده الإمام موسى بن جعفر الكاظم، رضي الله عنهم أجمعين - في مقابر قريش، وصلى عليه الواثق بن المعتصم (2).
وفي مروج الذهب: وفي سنة تسع عشرة ومائتين، قبض محمد الجواد بن
____________
(1) محمد جواد مغنية: الشيعة في الميزان ص 243.
(2) ابن خلكان: وفيات الأعيان 4 / 175، وانظر الكليني الكافي 1 / 497.
وكان الإمام محمد الجواد يكنى " بأبي جعفر " - كجده الباقر - وألقابه كثيرة: الجواد والقانع والمرتضى وأشهرها الجواد، وصفته أبيض معتدل (2)، غير أن هناك من يذهب إلى أنه كان شديد الأدمة، معتدل القامة (3).
وقال صاحب كتاب " مطالب السؤول في مناقب آل الرسول ": " هذا محمد أبو جعفر الثاني، فإنه قد تقدم في آبائه أبو جعفر محمد الباقر بن علي، جاء هذا باسمه وكنيته، واسم أبيه، فعرف " بأبي جعفر الثاني "، وإو كان صغير السن، فهو كبير القدر، رفيع الذكر، ومناقبه، رضي الله عنه، كثيرة (4).
2 - الإمام محمد الجواد والإمامة:
عندما انتقل الإمام علي الرضا إلى جوار ربه - راضيا مرضيا - كان ولده محمد الجواد في التاسعة من عمره، فأنكر جمهور المسلمين على الشيعة ولاية الأئمة، والأخذ عنهم، وهم في سن الصبا، لا سيما وأن العادات العربية، تجعل للسن أهمية في ولاية الأمور، فكانت ولايته، ولم يبلغ سن الرشد، أخطر مشكلة واجهت الشيعة بالنسبة لشخص الإمام الجواد.
____________
(1) مروج الذهب 2 / 439.
(2) نور الأبصار ص 160.
(3) محمد جواد مغنية: فضائل الإمام علي ص 237.
(4) نور الأبصار ص 161.
ولقد قيل للإمام الجواد: إن الناس ينكرون عليك حداثة سنك، فقال:
وما ينكرون من ذلك، وقد قال الله تعالى لنبيه: (قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة، أنا ومن اتبعني) (3)، فوالله ما اتبعه حينئذ إلا علي، وله تسع سنين، وأنا ابن تسع سنين " (3).
والوقع أن هناك أكثر من آية للاستشهاد بها على إمامة الصبية، قال تعالى في سيدنا يحيى بن زكريا عليهما السلام (وآتيناه الحكم صبيا) (4)، ثم معجزة المسيح ابن مريم، عليه السلام، حين نطق في المهد قائلا: (إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيا) (5).
ولما كانت الإمامة تجري مجرى النبوة، فليس منكرا إذن أن تكون إمامة الإمام الجواد قبل أن يبلغ الرشد، إذ يجوز للإمام أن يؤتى الحكم صبيا، ويؤتاه
____________
(1) النوبختي: فرق الشيعة.
(2) سورة يوسف: آية 108.
(3) الكليني: الكافي ص 93، أحمد صبحي: المرجع السابق ص 390.
(4) سورة مريم: آية 12.
(5) سورة مريم: آية 30.
على أن العلماء مختلفون في معنى " الحكم " هنا في قول الله تعالى:
(وآتيناه الحكم صبيا) وغيرها، فمن قائل إنها بمعنى الحكمة، وهي الفهم في التوراة والفقه في الدين، قال الإمام الطبري في التفسير: المعنى أعطيناه الفهم لكتاب الله في حال صباه، قبل بلوغه أسنان الرجال، ومن قائل إنها بمعنى العقل والفراسة الصادقة، ومن قائل: إنها النبوة، وعليه كثير، قالوا: أوتيها وهو ابن ثلاثين، وقيل وهو ابن سبع سنين، أو ابن اثنتين، ولم يتنبأ أكثر الأنبياء عليهم السلام، قبل الأربعين، وإن رأى البعض أن الحكم هنا، ليس بمعنى النبوة، فهي على سن الأربعين، وإنما المراد الفهم والفقه في الدين، وهو غير الحكمة المفسرة بالنبوة، كما في آية البقرة، التي جاءت في حق داود عليه السلام (4)، يقول الله تعالى: (وآتاه الله الملك والحكمة وعلمه مما يشاء) (5).
هذا ويرجح الإمام الفخر الرازي في التفسير الكبير، أنها النبوة، ذلك لأن الله تعالى قد أحكم عقله (أي سيدنا يحيى عليه السلام) في صباه، وأوحى إليه، وذلك لأن الله تعالى بعث يحيى وعيسى، عليهما السلام، وهما صبيان، - لا كما بعث موسى ومحمدا عليهما السلام، وقد بلغا الأشد - والأقرب حمل الحكم على النبوة لوجهين:
____________
(1) المسعودي: إثبات الوصية ص 211، أحمد صبحي: المرجع السابق ص 391.
(2) سورة يوسف: آية 22.
(3) سورة القصص: آية 14.
(4) تفسير الطبري 16 / 54 - 55، تفسير النسفي 3 / 30، تفسير ابن كثير 3 / 183، تفسير روح المعاني 16 / 72، تفسير الكشاف 2 / 504، صفوة التفاسير 2 / 213.
(5) سورة البقرة: آية 251، وانظر عن قصة داود عليه السلام (محمد بيومي مهران: دراسات تاريخية من القرآن الكريم - الجزء الثالث ص 9 - 87 - بيروت 1988 م)
والثاني: أن الحكم: هو ما يصلح لأن يحكم به على غيره ولغيره على الإطلاق، وذلك لا يكون إلا " بالنبوة "، فإن قيل كيف يعقل حصول العقل والفطنة والنبوة حال الصبا؟
قلنا هذا السائل: إما أن يمنع من خرق العادة أو لا يمنع، فإن منع منه فقد سد باب النبوات، لأن النبوة بناء الأمر فيها على المعجزات، ولا معنى لها إلا خرق العادات، وإن لم يمنع فقد زال هذا الاستبعاد، فإنه ليس استبعاد صيرورة الصبي عاقلا، أشد من استبعاد انشقاق القمر، وانفلاق البحر (1).
وأما بالنسبة لصغر سن الإمام الجواد: فيروي الكليني بسنده عن محمد بن خلاد قال: سمعت الرضا يقول: ما حاجتكم إلى ذلك، هذا أبو جعفر (الجواد) قد أجلسته مجلسي، وصيرته مكاني، وقال: إنا أهل بيت يتوارث أصاغرنا عن أكابرنا، القذة بالقذة.
وروى الكليني بسنده عن ابن قياما الواسطي قال: دخلت على علي بن موسى (الرضا) فقلت له: أيكون إمامان؟ فقال: لا، إلا وأحدهما صامت، فقلت له: هو ذا أنت ليس لك صامت - ولم يكن ولد أبو جعفر (الجواد) بعد - فقال لي: والله ليجعلن الله مني ما يثبت به الحق وأهله، ويمحق به الباطل وأهله، فولد له بعد سنة أبو جعفر، وكان " ابن قياما " واقفيا.
وعن صفوان بن يحيى قال: قلت للرضا: قد كنا نسألك قبل أن يهب لك
____________
(1) تفسير الفخر الرازي (21 / 191 - 192. وانظر (محمد بيومي مهران: دراسات تاريخية من القرآن الكريم - الجزء الثالث ص 260 - 262 - بيروت 1988 م).
وعن معمر بن خلاد قال: سمعت إسماعيل بن إبراهيم يقول للرضا: إن ابني في لسانه ثقل، فإما أبعث به إليك غدا فتمسح على رأسه، وتدعو له، فإنه مولاك، فقال: هو مولى أبي جعفر، فابعث به غدا إليه.
وعن الحسين بن محمد عن الخيراني عن أبيه قال: كنت واقفا بين يدي أبي الحسن الرضا بخراسان، فقال له قائل: يا سيدي، إن كان كون، فإلى من؟
قال: إلى أبي جعفر (الجواد) ابني، فكأن القائل قد استصغر سن أبي جعفر، فقال له أبو الحسن الرضا: إن الله تبارك وتعالى بعث عيسى ابن مريم رسولا نبيا، صاحب شريعة مبتدأه، في أصغر من السن الذي فيه أبو جعفر (1).
وروى المسعودي في إمامة الجواد، عن الحميري عن حنان بن سدير، قال: قلت للرضا، يكون إمام ليس له عقب؟ فقال لي: أما أنه لا يولد لي إلا واحدا، ولكن الله ينشئ منه ذرية كثيرة، ولم يزل أبو جعفر محمد بن علي - مع حداثته وصباه - يدير أمر الرضا بالمدينة، ويأمر الموالي وينهاهم، ولا يخالف عليه أحد منهم.
ويروي المسعودي كذلك أن الناس - بعد وفاة الرضا - احتاروا فيمن يقصدون للسؤال بعده، فاجتمعوا إليه، وسألوه عدة أسئلة، فأجابهم بإجابات والده، فاعترفوا له بالإمامة (2).
ويقول: المفيد في إمامة الجواد: وكان الإمام بعد الرضا ابنه محمد،
____________
(1) الكليني: الكافي 1 / 320 - 321.
(2) المسعودي: إثبات الوصية ص 179 - 181.
ويقول ابن شهرآشوب (2): " والدليل على إمامته، القطع على العصمة، ووجوب كونه أعلم الخلق بالشريعة، واعتبار القول بإمامة الاثني عشر، وتواتر الشيعة.
وعلى أية حال، فإن الشيعة إنما تؤيد استدلالها على إمامة محمد الجواد بمناظرات وقعت في مجلس الخليفة المأمون بين الإمام الجواد والعلماء الذين تشككوا في إمامته، فضلا عن بعض بني العباس، الذين أنكروا على المأمون تزويج الإمام الجواد من " أم الفضل " ابنة الخليفة المأمون، وكيف أفحم الإمام الجواد جميع الحاضرين بإجابته المسكتة في الفقه وشتى علوم الدين.
ومع ذلك، فإن الشيعة الاثني عشرية - وهم لا يجدون حرجا في إمامته - قد اختلفوا في الالتزامات المنوطة به، وبمقتضى الإمامة، فجعله فريق الأئمة من قبله، منذ وفاة أبيه (3).
على أن فريقا آخر إنما ذهب إلى أنه " إمام " بمعنى أن الأمر فيه، وله، دون الناس، على أنه لم يجتمع فيه ما اجتمع في غيره من الأئمة المتقدمين، فلا يجوز له أن يؤمهم، وإنما يتولى الصلاة، وينفذ الأحكام غيره من أهل الفقه والدين والصلاح، إلى أن يبلغ المبلغ الذي يصلح هذا فيه (4).
هذا وقد اختلفت الشيعة كذلك في مصدر علمه، فقالت طائفة: إن الله علمه ذلك عند البلوغ بضروب تدل على جهات علم الإمام، كالإلهام، والنكت
____________
(1) المفيد: الإرشاد ص 316 - 317.
(2) ابن شهرآشوب: مناقب آل أبي طالب 4 / 380، وانظر نبيلة عبد المنعم: المرجع السابق ص 280 - 283.
(3) أحمد صبحي: المرجع السابق ص 391.
(4) الأشعري: مقالات الإسلاميين 1 / 102 (القاهرة 1373 هـ).
على أن طائفة أخرى إنما قد أنكرت هذه المصادر للمعرفة، ذلك لأن الوحي إنما قد انقطع بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم والإلهام إنما يلحق عند المناظرة، والفكر أن تعرف شيئا كانت قد تقدمت معرفتك به في الأمور النافعة فتذكره، وأحكام الشرع - على كثرة اختلافها وعللها - لا تعرف بالفكر، ذلك لأن أصح الناس فكرا، وأوضحهم عقلا وخاطرا، وأحضرهم ذهنا، لو فكر - وهو لم يسمع أن الظهر أربع ركعات، والمغرب ثلاث - ما استخرج ذلك بفكره، ولا عرفه بنظره، ولا استدل عليه بكمال عقله، ولا أدركه بحضور ذهنه، لأنه من المعقول أن لا يعرف ذلك إلا بالتعليم، فوجوه علم الإمام، من كتب أبيه، وما ورثه من العلم فيها، وما رسم له فيها من الأصول والفروع (2).
على أن طائفة ثالثة، إنما قد أعطت الإمام القداسة العظمى، التي تشيع في فكر الإمامية عامة، وهي أن الإمام إمام - سواء أكان بالغا أو غير بالغ - لأنه حجة الله على الأرض، وقد يجوز أن يعلم، وإن كان صبيا، ويجوز عليه الإلهام والنكت والرؤيا والملك المحدث، كل ذلك يجوز عليه - كما جاز على أسلافه الماضين، حجج الله في الأرض، وقد حدث هذا ل " يحيى بن زكريا "
____________
(1) النوبختي: فرق الشيعة ص 89، أبو خلف القمي: كتاب المقالات ص 97، علي سامي النشار:
نشأة الفكر الإسلامي في الإسلام - الجزء الثاني - نشأة التشيع وتطوره ص 283 (دار المعارف - 1969).
(2) النوبختي: فرق الشيعة ص 77، أحمد محمود صبحي: نظرية الإمامة لدى الشيعة الاثني عشرية - ص 391 - 392 دار المعارف - 1969).
3 - الإمام محمد الجواد والمأمون:
قال الشيخ المفيد في " الإرشاد ": كان الخليفة المأمون قد شغف بالإمام محمد الجواد، لما رأى من فضله، مع صغر سنه، وبلوغه في العلم والحكمة، والأدب وكمال العقل، ما لم يساوه فيه أحد من أهل زمانه، فزوجه ابنته " أم الفضل " وحملها معه إلى المدينة، وكان متوفرا على إكرامه وتعظيمه، وإجلال قدره. وأنكر العباسيون على المأمون عزمه على تزويج الإمام الجواد من ابنته، وقالوا له: ننشدك الله أن لا تقيم على هذا الأمر، الذي عزمت عليه، فنحن نخشى أن يخرج منا أمر قد ملكناه، وقد عرفت ما بيننا وبين آل أبي طالب.
فقال المأمون: أما الذي بينكم وبينهم، فأنتم السبب فيه، ولو أنصفتم القوم لكانوا أولى منكم، وقد اخترت محمد بن علي (محمد الجواد بن علي الرضا) لتفوقه على كافة أهل الفضل والعلم، مع صغر سنه، وسيظهر لكم، وتعلموا أن الرأي ما رأيت.
قالوا: إنه صغير السن، ولا معرفة له، ولا فقه.
قال المأمون: ويحكم أنا أعرف به منكم، إنه من أهل بيت علمهم من الله، ولم يزل آباؤه أغنياء في علم الدين والأدب على الرعايا، وإن شئتم فامتحنوه، حتى يتبين لكم ذلك.
قالوا: قد رضينا.
واجتمع رأيهم أن يقابلوا الإمام الجواد بقاضي القضاة " يحيى بن أكثم "، فأتوا به إلى مجلس المأمون، ومعه الإمام الجواد والناس من حولهم.
____________
(1) علي سامي النشار: المرجع السابق 284.
فقال الإمام الجواد: هل قتله في حل أو حرم؟ عالما كان أو جاهلا؟ عمدا أو خطأ؟ حرا كان المحرم أو عبدا؟ صغيرا كان أو كبيرا؟ مبتديا بالقتل أو معيدا؟ من ذوات الطير كان الصيد أو من غيرها؟ ومن صغار الطير أو من كباره؟
مصرا على ما فعل أو نادما؟ في الليل كان قتل الصيد أو في النهار؟ وفي عمرة كان ذلك أو حج؟
فتحير ابن أكثم، وبان عليه العجز والانقطاع، حتى عرف أهل المجلس أمره.
فقال المأمون: الحمد لله على هذه النعمة والتوفيق، ثم التفت إلى أقربائه من بني العباس، وقال لهم: أعرفتم الآن ما كنتم تنكرون؟
فقالوا: أنت أعلم بما رأيت.
قال: إن أهل هذا البيت خصوا - من دون الخلق - بما ترون من الفضل، وإن صغر السن فيهم، لا يمنعهم من الكمال، فقد دعا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) عليا إلى الإسلام، وهو ابن عشر سنين، وقبله منه، ولم يدع أحدا في هذه السن - كما دعا عليا - وبايع الحسن والحسين - وهما دون ست سنين، ولم يبايع صبيا غيرهما، أفلا تعلمون أن الله قد خص هؤلاء القوم، وأنهم ذرية بعضهم من بعض، يجري لآخرهم، ما يجري لأولهم، قالوا: صدقت (1).
وفي نور الأبصار، وفي الصواعق المحرقة: أن المأمون قدم بغداد، بعد وفاة الإمام الرضا بسنة، فخرج يوما للصيد، فوجد الإمام الجواد واقفا، والصبيان يلعبون في أزقة بغداد، وكان عمر الإمام الجواد تسع سنين، فألقى الله
____________
(1) محمد جواد مغنية: الشيعة في الميزان ص 243 - 244 (دار التعارف للمطبوعات - بيروت).
فقال الإمام الجواد: يا أمير المؤمنين لم يكن الطريق ضيقا فأوسعه لك، وليس لي جرم فأخشاك، والظن بك حسن، أنك لا تضر من لا ذنب له.
فأعجبه كلامه وحسن صورته، فقال له: ما اسمك واسم أبيك؟
فقال الإمام: محمد بن علي الرضا، فترحم على أبيه، وساق جواده.
وكان مع المأمون بزاة للصيد، فلما بعد عن العمار، أرسل بازا على دراجة، فغاب عنه، ثم عاد من الجو وفي منقاره سمكة صغيرة، وبها بقاء الحياة، فتعجب من ذلك غاية العجب.
ورأى الصبيان على حالهم - ومحمد عندهم، ففروا إلا محمدا - فدنا منه، وقال له: ما في يدي؟
فقال: يا أمير المؤمنين، إن الله خلق في بحر قدرته سمكا صغارا، يصيدها بازات الملوك والخلفاء، فيختبروا بها سلالة أهل بيت المصطفى، صلى الله عليه وسلم وآله.
فقال له: أنت ابن الرضا حقا، وأخذه معه، وأحسن إليه، وبالغ في إكرامه، فلم يزل مشغوفا به، لما ظهر له بعد ذلك، من فضله وعلمه، وكمال عظمته، وظهور برهانه، مع صغر سنه.
وعزم على تزويجه بابنته " أم الفضل " وصمم على ذلك، ومنعه العباسيون من ذلك خوفا من أن يعهد إليه - كما عهد إلى أبيه من قبل - فلما ذكر لهم أنه إنما اختاره لتميزه على كافة أهل الفضل - علما ومعرفة وحكما، مع صغر سنه - فنازعوا في اتصاف الإمام محمد الجواد بذلك، ثم تواعدوا على أن يرسلوا إليه
فأمر المأمون بفرش حسن للإمام " محمد الجواد " فجلس عليه، فسأله " يحيى بن أكثم " مسائل أجاب عنها بأحسن جواب وأوضحه، فقال له المأمون:
أحسنت أبا جعفر، فإن أردت أن تسأل يحيى، ولو مسألة واحدة، فافعل.
قال الإمام الجواد ليحيى: ما تقول في رجل نظر إلى امرأة أول النهار حراما، ثم حلت له عند ارتفاعه، ثم حرمت عليه عند الظهر، ثم حلت له عند العصر، ثم حرمت عليه المغرب، ثم حلت له العشاء، ثم حرمت عليه نصف الليل، ثم حلت له الفجر؟
فقال يحيى بن أكثم: لا أدري.
فقال الإمام محمد الجواد: هي أمة نظرها أجنبي بشهوة، وهي حرام، ثم اشتراها ارتفاع النهار، فأعتقها الظهر، وتزوجها العصر، وظاهر منها المغرب، وكفر العشاء، وطلقها رجعيا نصف الليل، وراجعها الفجر.
فقال المأمون للعباسيين: قد عرفتم ما كنتم تنكرون، ثم زوجه في ذلك المجلس بنته " أم الفضل " ثم توجه بها إلى المدينة، فأرسلت تشتكي منه لأبيها، أنه تسرى عليها، فأرسل إليها أبوها: إنا لم نزوجك له، لنحرم عليه حلالا، فلا تعودي لمثله، ثم قدم بها بطلب من المعتصم لليلتين بقيتا من المحرم سنة عشرين ومائتين، وتوفي فيها في آخر ذي القعدة، ودفن في مقابر قريش في ظهر جده الإمام موسى الكاظم، وعمره خمس وعشرون سنة - ويقال إنه سم أيضا - عن ذكرين وبنتين (1).
____________
(1) ابن حجر الهيثمي: الصواعق المحرقة ص 311 - 312، الشبلنجي: نور الأبصار ص 161.
4 - الإمام الجواد والمعتصم:
مات الخليفة المأمون (198 - 218 هـ / 813 - 833 م)، وبويع بالخلافة لأخيه " المعتصم " (218 - 227 هـ / 833 - 842 م) فطلب الإمام الجواد، وأحضره إلى بغداد، وقيل: إنه أخذ يعمل الحيلة في قتله، حتى دس له السم، فانتقل إلى جوار ربه، ودفن بالكاظمية مع جده الإمام الكاظم (1).
5 - من مرويات الإمام الجواد:
روى الإمام محمد الجواد الحديث عن أبيه وغيره، وروى عنه جماعة، منهم المأمون وأبو السلط الهروي، وأبو عثمان المازني النحوي (2).
وفي وفيات الأعيان: وكان يروي مسندا عن آبائه إلى علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، أنه قال: " بعثني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى اليمن، فقال لي - وهو يوصيني، يا علي، ما خاب من استخار، ولا ندم من استشار، يا علي: عليك بالدلجة، فإن الأرض تطوي بالليل، ما لا تطوي بالنهار، يا علي: أغد باسم الله، فإن الله بارك لأمتي في بكورها ".
وقال جعفر بن محمد بن مزيد: كنت ببغداد، فقال محمد بن منده بن مهر يزد: هل لك أن أدخلك على محمد بن علي الرضا؟ فقلت: نعم، قال:
فأدخلي عليه، فسلمنا وجلسنا، فقلت له: حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن فاطمة رضي الله عنها، أحصنت فرجها، فحرم الله ذريتها على النار، قال: ذلك خاص بالحسن والحسين، رضي الله عنهما (3).
____________
(1) الشيعة في الميزان ص 245.
(2) ابن كثير: البداية والنهاية 10 / 250.
(3) ابن خلكان: وفيات الأعيان 4 / 175.
6 - من أقوال الإمام محمد الجواد:
قال الإمام: من استفاد أخا في الله، فقد استفاد بيتا في الجنة (1).
وقال: أوحى الله، إلى بعض أنبيائه: أما زهدك في الدنيا، فيجعل لك الراحة، وأما انقطاعك إلي فيعززك بي، ولكن: هل عاديت لي عدوا، أو واليت لي واليا.
وقال: من انقاد إلى الطمأنينة قبل الخبرة، فقد عرض نفسه للهلكة.
وقال: كفى بالمرء خيانة، أن يكون أمينا للخونة.
وقال: نعمة لا تشكر، كسيئة لا تغفر.
وقال: لا يضرك سخط، من رضاه الجور.
وقال: من عمل على غير علم، كان ما يفسد أكثر مما يصلح.
وقال: القصد إلى الله بالقلوب، أبلغ من إتعاب الجوارح بالأعمال.
وقال: من أطاع هواه، أعطى عدوه مناه.
وقال: من لم يعرف الموارد، أعيته المصادر (2).
وقال: إن لله عبادا يخصهم بدوام النعم، فلا تزال فيهم ما بذلوها، فإن منعوها، نزعها الله منهم، وحولها إلى غيرهم.
وقال: ما عظمت نعمة الله على أحد، إلا عظمت عليه حوائج الناس، فمن لم يتحمل تلك المؤنة عرض تلك النعم للزوال.
وقال: أهل المعروف إلى اصطناعه أحوج، من أهل الحاجة إليه، لأن لهم أجره وفخره وذكره، فمهما اصطنع الرجل من معروف، فإنما يبتدئ فيه بنفسه.
وقال: من أجل شيئا هابه، ومن جهل شيئا عابه، والفرصة خلسة، ومن كثر همه سقم جسمه، وعنوان صحيفة المسلم حسن خلقه.
____________
(1) وفيات الأعيان 4 / 175.
(2) فضائل الإمام علي ص 237 - 238.
وقال: من استغنى بالله، افتقر الناس إليه، ومن اتقى الله أحبه الناس.
وقال: الجمال في اللسان، والكمال في العقل.
وقال: العفاف زينة الفقر، والشكر زينة البلاء، والتواضع زينة الحسب، والفصاحة زينة الكلام، والحفظ زينة الرواية، وخفض الجناح زينة العلم، وحسن الأدب زينة الورع، وبسط الوجه زينة القناعة، وترك ما لا يعني زينة الورع.
وقال: حسب المرء من كمال المروءة أن لا يلقى أحدا بما يكره، ومن حسن خلق الرجل كفه أذاه، ومن سخائه بره بمن يجب حقه عليه، ومن كرمه إيثاره على نفسه، ومن إنصافه قبوله الحق، إذا بان، ومن نصحه نهيه عما لا يرضاه لنفسه، ومن حفظه لجوارحك تركه توبيخك عند ذنب أصابك، مع علمه بعيوبك، ومن رفقه تركه عذلك بحضرة من تركه.
ومن حسن صحبته لك إسقاطه عنك مؤنة التحفظ ومن علامة صداقته كثرة موافقته، وقلة مخالفته، ومن شكره معرفة من أحسن إليه، ومن تواضعه معرفته بقدره، ومن سلامته قلة حفظه لعيوب غيره، وغنائه بصلاح عيوبه.
وقال العالم بالظلم، والمعين عليه، والراضي به، شركاء.
وقال: من أخطأ وجوه المطالب، خذلته الحيل، ومن طلب البقاء، فليعد للمصائب قلبا صبورا.
وقال: العلماء غرباء، لكثرة الجهال بينهم.
وقال: الصبر على المصيبة، مصيبة على الشامت.
وقال: ثلاث يبلغن بالعبد رضوان الله: كثرة الاستغفار، ولين الجانب، وكثرة الصدقة. وثلاث من كن فيه لم يندم: ترك العجلة، والمشورة، والتوكل على الله عند العزم.
وقال: ثلاث خصال تجتلب بهن المودة: الإنصاف في المعاشرة، والمواساة في الشدة، والانطواء على قلب سليم.
وقال: الناس أشكال، وكل يعمل على شاكلته، والناس إخوان، فمن كانت أخوته في غير ذات الله، فإنها تعود عداوة، قال تعالى: (الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو، إلا المتقين).
وقال: من استحسن قبيحا، كان شريكا فيه.
وقال: كفر النعمة داعية المقت، ومن جازاك بالشكر، فقد أعطاك أكثر مما أخذ منك.
وقال: لا تفسد الظن على صديق، قد أصلحك اليقين له، ومن وعظ أخاه سرا، فقد زانه، ومن وعظه علانية فقد شأنه.
وقال: لا يزال العقل والحمق يتغالبان على الرجل، إلى أن يبلغ ثماني عشرة، فإذا بلغها غلب عليه أكثرهما فيه، وما أنعم الله عز وجل على عبد نعمة، فعلم أنها من الله، إلا كتب على اسمه شكرها له، قبل أن يحمده عليها، ولا أذنب عبد ذنبا، فعلم أن الله مطلع عليه، وأنه إن شاء عذبه، وإن شاء غفر له، إلا غفر له قبل أن يستغفره.
وقال: الشريف كل الشريف، من شرفه علمه، والسؤدد كل السؤدد، لمن اتقى الله ربه.
وقال: لا تعاجلوا الأمر قبل وقوعه فتندموا، ولا يطولن عليكم الأمل، فتقسوا قلوبكم...
وقال: من أمل فاجرا، كان أدنى عقوبته الحرمان.
وقال: موت الإنسان بالذنوب، أكبر من موته بالأجل، وحياته بالبركة أكبر من حياته بالعمر.