تتمة في عصمة فاطمة الزهراء عليها السلام
إنّ الفارق بين عالم الدنيا وعالم الآخرة، وفق كلّ دقائق التعابير التي أطلقها أعيان المتألهين، والحكماء المدققين، والفقهاء الراسخين هو انّ هذا العالم تغلب فيه الصورة على السيرة، فمن الممكن ان يكون أحدٌ ما ذئباً في باطنه، ولكنّ صورته هي صورة انسان سويّ، فلا تختلف الصور هنا أصلاً.ولكنّ الوضع سينقلب في الآخرة، فبعض يقول عنهم الباري عزّ وجلّ: (ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم) وبعضٌ يقول فيهم: (وجوهٌ يومئذٍ ناضرة إلى ربّها ناظرة) .
وهكذا سيظهر وجه من قال: (إنّما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاءً ولا شكوراً) عند الحشر بصورة (وجوهٌ يومئذٍ ناضرة...) فـ (ذلك اليوم الحقّ..) و (المُلك يومئذٍ لله...) .
عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «تُحشر ابنتي فاطمة وعليها حلّة الكرامة قد عجنت بماء الحيوان، فينظر اليها الخلائق فيتعجبون منها، ثم تكسى أيضاً من حلل الجنة ألف حُلّة، مكتوب على كلِّ حلّة بخط أخضر: أدخِلوا بنت محمد الجنّة على أحسن
من المستحيل ان يتخلّف قانون نظام العدالة في الوجود، ذلك اليوم، ولا يمكن ان تكون الصورة التي تعطى للبشر إلاّ انعكاساً لسيرهم في الدنيا، فيحظى بالصورة الاَجمل والاَكمل والاَمثل من جاء بالسيرة الاَجمل والاَكمل والاَمثل، فان لم يكن المرء على الصعيد العلمي أفضل العلماء، وعلى الصعيد الخُلقي أفضل المتخلقين، وعلى الصعيد العملي أفضل العبّاد، فمن المستحيل ان يرد يوم القيامة على أحسن صورة..
وليس هذا بكثير على من قال فيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «فاطمة بضعة منّي»(2) «فاطمة روحي التي بين جنبيّ»(3) .
وحتى عائشة قد التفتت إلى هذا التشابه العجيب بين حبيب الله صلى الله عليه وآله وسلم وبضعته الزهراء عليها السلام، إذ قالت: (ما رأيت أحداً كان أشبه سمتاً، وهدياً ودلاً.. وحديثاً وكلاماً برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من فاطمة كرّم الله وجهها)(4) .
والتفتت إلى كرامتها عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، إذ روت: (كانت إذا دخلت عليه قام إليها، فأخذ بيدها، وقبّلها، وأجلسها في مجلسه...)(5) .
____________
(1) تاريخ دمشق|ابن عساكر 12: 86. مقتل الحسين|والخوارزمي 1: 52.
(2) مسند أحمد بن حنبل 4: 5 و 323 و 328. وصحيح البخاري 5: 92 و 150. وصحيح مسلم 4: 1902. وسنن الترمذي 5: 698. والمستدرك 3: 154 و 158.
(3) بحار الاَنوار 27: 63|21 كتاب الاِمامة و 28: 38|1 كتاب الفتن والمحن.
(4) البخاري 5: 26، 7: 47. ومسلم 7: 141. ومسند أحمد 4: 323، 328، 332.
(5) سنن الترمذي 5: 700. والمستدرك 3: 160.
وثمّة أدلة اُخرى تهتدي بها إلى مثل هذه النتيجة، منها:
1 ـ دلالة آية التطهير
قال تعالى: (إنّما يريد اللهُ ليذهِبَ عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً) .
وقد تقدم البرهان على أنّها تدلّ على عصمة من تشير إليه، وقد اتّفق المؤرِّخون والرواة انّ من جملة أهل البيت الزهراء فاطمة عليها السلام بل كان يؤكد ذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وبظرف ستة أشهر محتوى هذه الآية المباركة عند مروره للمسجد للصلاة.
2 ـ دلالة حديث الثقلين
فكما دلّت الآية المباركة السابقة على دخولها في جملة أهل البيت عليهم السلام نستدلّ بذلك على دخولها في هذه الرواية المباركة وقد تقدم البرهان في دلالتها على العصمة، فتكون مشمولة بالدليل.
3 ـ «إنّ الله ليغضب لغضبك، ويرضى لرضاك» (1) .
____________
(1) الشافي|السيد المرتضى: 235 الطبعة الحجرية. وتلخيص الشافي|الشيخ الطوسي 3: 122 ط
النجف الاشرف. وأمالي الشيخ الصدوق|الشيخ الصدوق: 230 أول المجلس الحادي والستين.
ومعاني الاخبار|باب معنى الشجنة باسناده عن ابن عباس. ومجالس الشيخ المفيد| الشيخ المفيد
=>
فتعليق غضب الله على غضبها، والله هو الحق يقتضي ان يكون غضبها حقّاً، دائماً وكذلك نقول في الرضا فيقتضي ذلك عصمتها.
وقد يرد في الاَذهان السؤال: إنّ الله يرضى لرضا المؤمن ويغضب لغضبه فهذه خصوصية ليست متعلقة بالزهراء عليها السلام فقط، فإذن لا تكون دليلاً على العصمة.
ولكن هذا الاشكال يرتفع من أساسه بالتمعن في الحديثين، لان الغضب الالهي والرضا الالهي متعلّقان بنفس الزهراء بما هي، أي بذاتها، لو رضيت على أي حال سيرضى الله، ولو غضبت غضب، فبذا يكون غضبها ورضاها مطلقاً صرف الحق.
أما في حديث المؤمن فرضا الباري عزّ وجل متعلِّق برضاه ما دام مؤمناً، وغضبه متعلّق بغضبه كذلك، لاَنّ المؤمن بما هو مؤمن لا يرضى ولا يغضب إلاّ لله وما هو حق، فلذا تعلّق غضب الباري ورضاه بغضبه ورضاه، وأمّا هو ذاتاً فليس كذلك. أي لا يقتضي الاطلاق بالنسبة إلى
____________
<=
(1) صحيح البخاري|كتاب بدء الخلق، باب منقبة فاطمة أورده في محلين كتاب النكاح، باب ذب الرجل عن ابنته. وصحيح مسلم|كتاب فضائل الصحابة، باب فضائل فاطمة مسند أحمد 4: 328. وكتاب الترمذي|الجامع الصحيح 5: 698 كتاب المناقب فضل فاطمة بنت محمد.
وهذا فرقٌ جوهري، فما كان ذاتاً لا يرتفع إلاّ بانعدام الذات، وأمّا ماكان متعلّقاً بشيء عارض فيمكن ان يرتفع المتعلق لارتفاع العارض.
وهذا واضحٌ بحمد الله تعالى.
وختاماً نقول: إنّ للعصمة ادلّتها المفصَّلة، بحيث لا يستطيع الاِنسان أن يرفع يده عنها، مهما أُوتي من جُرأةٍ على مخالفة العقل والكتاب والنّقل، لوجود اخبار آحادٍ قد لا تفيد ذلك لعلل كثيرة، أو لاستبعاد العقول القاصرة التي تقيس كلَّ شيء، على ما يحيطها، وعلى من هي موجودة فيه.
إذ ليس هذا الاستبعاد إلاّ ظنٌ، والظن لا يُغني من الحق شيئاً. والظن لايقابل الحُجة الدامغة مهما أوتي من قوّةٍ. فحينئذ يجب ان نرفع اليد عن هذه الظهورات، ونُسلِّم بما منح الله تعالى قوماً مخصوصين، لطفاً لهم ولنا، وتفضيلاً وتفضّلاً، وكرامة لهم ومزيدا.