تصدير
بقلم الدكتور عاطف سلام
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم الأنبياء والمرسلين، وعلى آله الأطهار الطيبين، وصحابته المنتجبين.
أما بعد فإن الكتاب الذي بين أيدينا يتناول تلك الحقبة التاريخية التي تلت وفاة الرسول (صلى الله عليه وسلم) وامتدت بعد ذلك إلى عدة عقود، وعلى الرغم من الأهمية البالغة التي تتميز بها تلك الحقبة الحساسة، حيث قد تشكلت فيها الجذور السياسية والاجتماعية والثقافية للمسلمين إلا أنها لم تحظ بالاهتمام المرجو من قبل الباحثين والمفكرين، وأصبح الكثير من المثقفين لا يعرف سوى النزر اليسير عنها، وبالنسبة لبعض الدراسات القليلة المتناثرة التي دارت حولها فإن أساليب تناول تلك الحقبة قد تعددت واختلفت على نحو لا يروي ظمأ طلاب العلم والحقيقة، ولا يعينهم على استيعابها وإدراك أثارها، فهناك الاتجاه الأدبي الذي تناول تلك الحقبة بشكل ضيق محدود، وسار على منهج مميع لا يفضي إلى نتائج محددة أو مفاهيم واضحة عنها، وكان يفتقر إلى ميزان ثابت منبثق عن الدعوة الإسلامية ذاتها يمكن أن يقاس عليه وقائع تلك الحقبة، ولعل هذا الاتجاه كان
إن تناول تلك الحقبة بالبحث والدراسة يقودنا - لا محالة - إلى طرح التساؤل الآتي: هل كان الرسول (صلى الله عليه وسلم) يفكر جديا بمستقبل الأمة من بعده، وما الإجراءات التي اتخذها في هذه السبيل؟
إن الرسول (صلى الله عليه وسلم) كان يمثل القلب النابض والعقل المفكر لتلك الدولة الناهضة، فهل أعد منهجا واضحا لتشكيل القيادة من بعده، بحيث يكفل ذلك الاستمرارية والاستقرار على النحو الذي ينشده للمسيرة التي بدأها؟
وعلى فرض وجود منهج واضح حول القيادة قد حدده الرسول (صلى الله عليه وسلم) فهل قام بتوعية الأمة به؟
وعلى فرض قيامه بذلك، فهل خرج هذا المنهج من بعده إلى حيز التنفيذ بشكل كامل، أم خرج بشكل جزئي، أم لم يخرج قط نتيجة الظروف والمتغيرات التي طرأت على واقع الأمة إبان وفاته؟
من ناحية أخرى فإن أهمية البحث في تلك الجذور التاريخية وفحص وقائعها البارزة تمكن في انعكاسها بشكل أو بآخر على الواقع السياسي والاجتماعي والثقافي الذي امتد من خلالها عبر القرون التالية إلى اليوم.
إننا بحاجة ماسة إلى إلقاء الضوء على تلك الجذور التاريخية من أجل التوصل إلى فهم سليم وموضوعي مبني على أساس علمي لها، واستخلاص العبر والدروس منها، وتحديد نقاط الضعف والقوة فيها بالقدر الذي يعيننا على فهم الحاضر المحيط بنا، ويجعلنا قادرين على رؤية المستقبل بوعي وواقعية، وتحديد ملامحه بعين باصرة غير قاصرة.
إن الكتاب الذي بين أيدينا هو محاولة جادة من المؤلف لتسليط الضوء على تلك الحقبة التاريخية الهامة، ملتزما بقواعد البحث العلمي المتفق عليها، ومتوخيا ذات المقاصد التي أومأنا إليها آنفا، والذي لفت نظري في منهجه أنه اعتمد في دراسته على مصادر الحديث والتاريخ والتراجم المعتبرة التي تحظى بثقة أهل العلم والمعرفة قاطبة، كما أنه قام بالربط بين الأحاديث النبوية من جهة والأحداث التاريخية من جهة أخرى، بحيث يصدق بعضها بعضا، وكأن الكتاب قد جاء يحمل بين دفتيه تفسيرا نبويا للتاريخ، ولا جرم أن الرسول الأعظم (صلى الله عليه وسلم) قد تركنا على المحجة البيضاء التي ليلها كنهارها، والتي لا يضل عنها إلا هالك، وفي اعتقادي أن ذلك لا يتحقق بوجه كامل إلا من خلال الأحاديث التي تكشف المستقبل، وترصد حركته بعين الوحي فضلا عن الوعي.
ومما يستلفت النظر - أيضا - قيام المؤلف بالفصل بين " تاريخ الإسلام " و " تاريخ المسلمين "، حيث يرى أن " تاريخ الإسلام " هو تاريخ الفطرة الأزلية التي تمثل إرادة الله في الكون، وبالنسبة للبشر فقد بدأ مطلعه بقوله تعالى: (وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا..).
وفوق الأرض قام بصنعه الأنبياء والمرسلون من لدن آدم إلى الخاتم،
أما بالنسبة ل " تاريخ المسلمين " فهو تدوين لمجموعة الأقوال والأفعال والمواقف والأحداث التي قام بصنعها أولئك الأفراد والتجمعات التي أعلنت انتماءها لهذا الدين تعبيرا عن أنفسهم وواقع حالهم فحسب، ولا يمكن أن تحسب على الإسلام ذاته كمقياس له.
هذه رؤية المؤلف، وهي وجهة نظر جديرة بالبحث والملاحظة، وتدعونا إلى التأمل وإعادة النظر في مدلول كلمة " التاريخ " الذي بين أيدينا، فهل هو " تاريخ إسلامي " يعبر عن واقع الإسلام وحقيقته وأهدافه، أم هو " تاريخ المسلمين " الذي يمثل نوازعهم الذاتية ومواقفهم وأهدافهم الخاصة بهم؟
هذا وبالله التوفيق.
د. عاطف سلام
الاهداء
.. إلى مصابيح الهدى الذين يقودون الناس إلى صراط العزيز الحميد
إلى الذين صبروا صبر الأحرار وينتظرون يوم العدل على الظالم
إلى هؤلاء أهدي هذا الكتاب
.... أيوب
المقدمة
الحمد لله رب العالمين. والصلاة والسلام على النبي الأكرم المبعوث بالشريعة الخاتمة وعلى آله ومن تبع هداه إلى يوم الدين وبعد:
على امتداد المسيرة البشرية دار الصراع بين الخير الذي تمثله أعلام ومشاعل المثل الأعلى المرتفع وبين الشر الذي يمثله الدخان الكثيف للمثل الأعلى المنخفض. وعلى امتداد هذه المسيرة كانت أعلام الأنبياء والرسل عليهم السلام تقيم الحجة على الجميع، وتدون تاريخ الإسلام الذي لم يحمل هزيمة واحدة منذ ذرأ الله ذرية آدم عليه السلام. وكان هذه التاريخ زاد للفطرة في كل زمان ومكان ففيه ترى العلم والهدى والرحمة والسعادة وبه تعبر الحياة الدنيا بسلام إلى الآخرة فتاريخ الإسلام هو تاريخ الحجة ودعوة الناس إلى صراط العزيز الحميد. وهذا التاريخ يمكن أن نرصد بدايته عندما أخذ الله الميثاق من ذرية آدم وأشهدهم على أنفسهم * (ألست بربكم قالوا بلى) * ويمكن أن نرى امتداده وشواهده من خلال مسيرة الأنبياء.
وعلى امتداد المسيرة البشرية أيضا كان الناس يدونون تاريخهم، وهذا التاريخ يمكن أن ترى امتداده وشواهده من خلال حركة الناس على امتداد تاريخهم. فمن توافقت حركته مع حركة الوجود فهو عضو في تاريخ الإسلام الذي تمثله أعلام المثل الأعلى المرتفع. أما من توافقت حركته مع حركة فقه الاغواء والتزيين والاحتناك والفحشاء والمنكر إلى آخر هذا الشوط الذي تأنف منه الفطرة فلا يمكن بحال أن يكون عضوا في تاريخ الإسلام وإنما هو عضو في تاريخ الناس
وعلى هذا فالحجة والدعوة أعلام ظاهرة في تاريخ الإسلام، والتدمير أثر ظاهر في تاريخ الناس، وفي هذا وذاك زاد للفطرة على امتداد المسيرة. فأصحاب الفطرة السليمة إذا نظروا إلى حركة المسيرة البشرية وشاهدوا علامات التاريخ المهزوم كانت هذه المشاهدة حجة بذاتها ودعوة في الوقت نفسه إلى ترتيب الأوراق في اتجاه تاريخ السلام الذي تظهر عليه معالم الطهر والنقاء، وهذه المعالم حجة بذاتها على كل إنسان. وسيتبين كل إنسان حقيقة هذا عندما يقف عاري المشاعر وعاري التاريخ أمام الله الواحد الحق يوم القيامة.
وعلى امتداد التاريخ الإنساني عمل الشيطان من أجل أن يعلم الخلق أن تاريخ الإسلام وتاريخ الناس تاريخ واحد. لأنه تحت هذا القالب تختلط الأمور وعلى امتداده يحقق الشيطان أهداف خطته لإضلال أكثر الناس. وما فقه الاغواء والتزيين إلا خلط على امتداده يكون الضلال والارتياب والحيرة.
وفي عصرنا الحديث تعالت الأصوات التي ترفع إعلام " لا سياسة في الدين ولا دين في السياسة " وقامت أجهزة ومؤسسات الصد عن سبيل الله بترقيع التاريخ ليعطي في النهاية صورة أن الناس أدرى بمصالحهم. وهذا القول في حد ذاته مصادرة لتاريخ الإسلام لحساب تاريخ الناس.
وفي عصرنا الحديث أيضا تعالت أصوات ناس من المسلمين وقالوا: إن الدين منفصل عن الدولة بالفعل على امتداد التاريخ السلامي.
وهنا خلط واضح وتحميل تاريخ السلام ما ليس منه. وتعاليت أصواتهم أكثر فأكثر وقالوا: إن الخلافة على امتداد التاريخ الإسلامي لم تكن أصلا إسلاميا.
وهذا أيضا خلط يهدف إلى إعلاء كلمة المثل الأعلى المنخفض. والذي يدقق النظر في تاريخ السلام عند اللبنة الأولى يرى أن الخالفة أصل أصيل في البناء الفطري، قال تعالى: * (وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة) * (1).
وعلى امتداد تاريخ الإسلام خاطب الله تعالى أنبياءه ورسله فقال لإبراهيم عليه السلام: * (إني جاعلك للناس إماما) * (2).
بل إن نظام الخلافة يرى أيضا على المساحات الواسعة، يرى على وجه الماضي والحاضر. قال تعالى: * (واذكروا إ ذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح) * (3).
وقال: * (وجعلناهم خلائف وأغرقنا الذين كذبوا بآياتنا) * (4).
وقال * (هو الذي جعلكم خلائف في الأرض فمن كفر فعليه كفره) * (5).
فالخلافة في البناء الفطري ترى عند القمة وعند القاعدة. وعلى هذا فإن القول بأن الخلافة ليست أصلا إسلاميا قول فيه نظر. وهذا القول روج له أعداء الفطرة في عصرنا الحديث عندما بدأت الروح الإسلامية تدب وترج أجساد وعقول المسلمين وتدعوهم إلى أعلام المثل الأعلى المرتفع. وأشعل أعداء الفطرة النار في كل طيب، وزينوا كل خبيث ليصدوا عن سبيل الله. وتوج الوغد الهندي سلمان رشدي وغيره هذه الأعمال بروايات وأقوال الهدف منها النيل من أعلام تاريخ الإسلام لحساب الأطروحة الغربية التي تعمل من أجل توثيق الفطرة.
____________
(1) سورة البقرة: الآية 30.
(2) سورة البقرة: الآية 124.
(3) سورة الأعراف: الآية 69.
(4) سورة يونس: الآية 73.
(5) سورة فاطر: الآية 39.
وسنبين مدى ملائمة ذلك مع أطروحات الرسول صلى الله عليه وسلم التي تمثل المنهج الإسلامي الأصيل. وسنقيم تلك التجربة التي تحرك فيها لا مسلمون بشكل موضوعي للخروج منا بالعبر والدروس التي تعيننا على تمييز الحق من الباطل والعودة تارة أخرى إلى ذات المنهج الإسلامي الذي رسمه النبي الخاتم صلى الله عليه وسلم.
ومنهجنا في البحث يقوم على تحديد المشكلات واستبعاد الزائف منها بعد قراءة نقدية ومتفحصة وتقييمية. مع الوضع في الاعتبار أن جانب كبير من التراث صنعه أفراد، وهذا الجانب تداخل مع تاريخ السلام كما ذكرنا. وعلى هذا فتاريخ المسلمين عندي قابل للنقد كما أنه معرض أحيانا للرفض إذا تعارض مع القرآن والسنة الصحيحة. وقراءتي للأحداث كان الهدف منها تقديم تاريخ شامل. بمعنى تاريخ تجتمع فيه جميع الخيوط، وهذه القراءة التي تمارس النقد وفقا للكتاب والسنة تنظر إلى التراث على أنه نقطة بداية. فالبدايات دائما ترى عليه وجه النهايات. وعلى هذا فإن الأمور إذا اشتبهت اعتبر بآخرها أولها. أي يقاس آخرها على أولها فحسب البدايات تكون النهايات. هذا ولقد آثرت في هذا البحث الطريقة السردية التي تعتمد على آيات القرآن الكريم والحديث الشريف والرواية التاريخية. هذا وبالله التوفيق.
النور الذي أضاء
أولا - نور في أعماق الوجود
1 - المنابع:
إن جميع موجودات العالم ما نر وما لا نرى ما نعلم وما لا نعلم، تنتهي في وجودها وآثارها إلى الله الواحد الأحد عز وجل، ولأنها منها وإليه، فلا يمكن لأي موجود في الوجود من الفراد من ملكه جل أنه، ولأن جميع الموجودات في هذا العالم حياتها وقدرتها وعلمها متصل بالله تعالى، فلا يمكن لموجود مهما كان قدره وعلمه من الفرار من الله الذي يملك كل شئ، فقد خلق سبحان الخلق لهدف من ورائه حكمة، وأوجب سبحانه على نفسه فتح الطريق لعبادة وهداية عباده إليه قبل أن يخطوا فيه خطوة واحدة.
فكما أن حبة القمح توضع في الأرض فتنشق للنمو قاصدة في نموها اتجاها واحدة لتكون شجرة كاملة عليها سنابلها، وكما أن نطفة الحيوان تعرف طريقها فتتوجه إلى اتجاه واحد ينتهي بها إلى إيجاد النوع، فكذلك الإنسان من أول بداية التكوين يتجه في طريق نحو غاية واحدة على امتدادها يكدح حتى يلاقي ربه، والعبودية هي الغرض الإلهي من خلق الإنسان، وحقيقة العبادة أن يضع الإنسان نفسه في مقام الذلة والعبودية، ويوجه وجهه إلى مقام ربه، طاهر النفس عن الكفر بمراتبه، وعن الاتصاف بالفسق كما قال تعالى: (ولا يرضى لعباده الكفر) (1).
وقوله تعالى: (فإن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين) (2).
____________
(1) سورة الزمر: الآية 7.
(2) سورة التوبة: الآية 98.
وطريق العبودية فتحه الله وهدى عباده إليه، واللبنة الأولى في هذا الطريق هي الفطرة، أودع فيها سبحانه ميثاق الربوبية الذي شهد به الإنسان عند العتبة الأولى في طريق العبودية، قال تعالى: (وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين) (1).
لقد أخذ جل شأنه الميثاق - ف موطن قبل الدنيا - من عباده في عالم الذر (ألست بربكم؟) خطاب حقيقي وتكليم إلهي، (قالوا بلى شهدنا) إنهم يفهمون مما يشاهدون، إن الله سبحانه يريد منهم الاعتراف وإعطاء الموثق، فشهد كل إنسان على نفسه، ولم يعد لأحد منهم حجة على الله يوم القيامة، ليقول أنه كان غافلا في الدنيا عن ربوبيته تعالى، ولا تكليف على غافل ولا مؤاخذة.
وكما هدى الفطرة إلى معرفته تعالى، ألهم النفس الإنسانية التجنب عن الفجور والورع عن محارم الله، فجعل نهيه سبحانه عن فعل حجاب مضروب، فإذا اقترب الإنسان المنهي عنه يكون قد شق الستر المضروب وخرق الحجاب. قال تعالى: (ونفس وما سواها * فألهمها فجورها وتقواها * قد أفلح من زكاها * وقد خاب من دساها) (2).
إن النفس ملهمة كي تميز بين الفجور والتقوى. ووضع لبنة التقوى فيها. تزكية وإنماء وتزويد لها بما يمدها في بقائها على طريق غايتها، قال تعالى (وتزودوا فإن خير الزاد التقوى واتقون يا
____________
(1) سورة الأعراف: الآية 172.
(2) سورة الشمس: الآية 7 - 10.
وكما أقام سبحانه الحجة على الإنسان في عجينته الداخلية أقام عليه الحجة في عالم الحياة الدنيا، عالم المشاهدة المنظور، فجهز بدن الإنسان بما يبصر به، وما يستعين به على الكلام. فإذا نظر، أو تكلم واستقام نظره وكلامه مع المخزون الفطري، ومخزون التقوى، تقدم في طريق الخير. قال تعالى: (ألم نجعل له عينين * ولسانا وشفتين * وهديناه النجدين) (2).
والمراد بالنجدين طريقا الخير والشر. أي علمناه طريق الخير وطريق الشر بإلهام منا. فهو يعرف الخير من الشر. والإنسان مخير في أي الطريقين يسلك. قال تعالى: (إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا * إنا أعتدنا للكافرين سلاسل وأغلالا وسعيرا) (3).
لقد زود تعالى الإنسان داخليا وخارجيا بالوقود الذي يؤدي إلى الفوز. وأراه السبيل المؤدي إلى الغاية المطلوبة. وعلمه بواسطة الأنبياء والرسل عليهم السلام أن سلوك هذا السبيل ينتهي بالإنسان إلى سعادته في الدنيا والآخرة. وأخيره أن الشكر لهذه الهداية الإلهية إنما يكون بوضع النعمة في محلها، واستعمال هذه النعمة على أساس أنها من المنعم الحق.
لقد أقام سبحانه الحجة على جميع خلقه، وقد قضى الله أن الإنسان راجع إليه. وسيسأل الإنسان عن عمله، أشكر النعمة أم كفر بها؟
والنعم تبدأ من الفطرة ولا تنتهي لأنها لا تحصى ولا تعد.
وأمام الله قاصم الجبارين سيق الإنسان عاريا من كل شئ. عاري النفس، عاري المشاعر، عاري التاريخ (وأن ليس للإنسان إلا ما سعى * وأن سعيه
____________
(1) سورة البقرة: الآية 197.
(2) سورة البلد: الآية 8 - 10.
(3) سورة الإنسان: الآية 3 - 4.
إن ينبوع دين الله فطرة الإنسان نفسه. والفطرة تصرح أن الإنسان لم يكن له إلا أن يخضع لله تعالى خضوع عبادة، خضوع الضعيف للقوي، ومطاوعة العاجز للقادر، وتسليم الصغير الحقير للعظيم الكبير الذي لا يماثله شئ في وجوده، العزيز الذي لا يغلبه شئ وغيره ذليل.
2 - نظرات على طريق الابتلاء:
إن عبور الحياة الدنيا إلى الآخرة تعلو جسوره مظلات الابتلاء والفتن.
فالامتحان ناموس إلهي على امتداد هذه الجسور، وهذا الامتحان لا يستثني منه المؤمن والكافر والمحسن والمسئ. وامتحان الله يكون لإظهار صلاحية الإنسان الباطنية من حيث استحقاق الثواب والعقاب. ويكشف به تعالى للمؤمنين حال المنافقين وهم يعبرون جسر الحياة إلى الآخرة. كما إنه يقوي الإنسان المؤمن لاجتياز هذا الجسر. وكما يمتحن الله الفرد يمتحن سبحانه الأمة قال تعالى (ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم في ما آتاكم) (3).
إن الله لو شاء لجعل الناس أمة واحدة لها شريعة واحدة. ولكنه تعالى جعل للناس شرائع مختلفة، ليمتحنهم فيما آتاه من النعم المختلفة التي لا تحصى ولا تعد. فاختلاف النعم يستدعي اختلاف الامتحان (4). وعلى امتداد هذا الامتحان الذي هو في الوقت نفسه امتداد الحياة الدنيا، يموت الفرد ويأتي الآخر، وتموت
____________
(1) سورة النجم: الآية 39 و 40.
(2) سورة فصلت: الآية 21.
(3) سورة المائدة: الآية 48.
ب (4) الميزان: 353 / 5.
إن الأجل في هذه الآية أضيف إلى الأمة، إلى الوجود المجموعي للناس، لا إلى هذا الفرد بالذات. إن هناك أجل آخر وميقات آخر للوجود الاجتماعي لهؤلاء الأفراد، للأمة بوصفها مجتمعا ينشئ ما بين أفراده العلاقات والصلات القائمة على أساس مجموعة من الأفكار والمبادئ. هذا المجتمع الذي يعبر عنه القرآن بالأمة له أجل، وله موت، له حياة، له حركة، وكما أن الفرد يتحرك فيكون حيا ثم يموت، كذلك الأمة تكون حية ثم تموت. وكما أن موت الفرد يخضع لأجل ولقانون ولناموس كذلك الأمم أيضا، لها آجالها المضبوطة (2) (وما أهلكنا من قرية إلا ولها كتاب معلوم * ما تسبق من أمة أجلها وما يستأخرون) (3).
إن الأمم تموت، وتأتي أمم أخرى. أعلام تسقط وأعلام ترفع. وعلى امتداد الرحلة يكون في السلف عبرة للخلف، ويكون في الماضي زاد للحاضر يبصر به الطريق الواضح إلى المستقبل. والقرآن الكريم حث الإنسان كي ينظر إلى الخلف حيث ساحة الاعتبار. ليكون الاعتبار له زاد، قال تعالى: (ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن مكناهم في الأرض ما لم نمكن لكم وأرسلنا السماء عليهم مدرارا وجعلنا الأنهار تجري من تحتهم فأهلكناهم بذنوبهم وأنشأنا من بعدهم قرنا آخرين) * (4).
لقد أهلكوا وسبب الهلاك الذنوب، وفي هذا دلالة على أن للسيئات والذنوب دخلا في البلايا والمحن العامة، كما أن الحسنات والطاعات لها دخل في إفاضة النعم ونزول البركات. وقال تعالى: (وكم أهلكنا من قرية بطرت
____________
(1) سورة يونس: الآية 49.
(2) المدرسة القرآنية / باقر الصدر: 56.
(3) سورة الحجر: الآية 4 - 5.
(4) سورة الأنعام: الآية 6.
إن الماضي حجة على الحاضر والحاضر حجة على المستقبل. ولا يسمع الصم الدعاء. إن الأمة تأتي لينظر إليهم كيف يعملون. ورسل الله عليهم السلام حثوا أقوامهم وذكروهم بمن سبق كي يبصروا وقع أقدامهم وهم يعبرون الجسر إلى الآخرة.
فهذا هود عليه السلام يقول لقومه: (واذكروا إذا جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح) (3).
وهذا صالح عليه السلام يقول لقومه: (واذكروا إذا جعلكم خلفاء من بعد عاد) (4).
والنظر إلى الخلف لا يعني التغني بوثنية من سبقونا، إنما البحث في عوامل انهيارهم كي يتجنب الحاضر ما وقع فيه الماضي. فلعل الماضي يكون قد أركس في فتنة. فإذ لم يتبين الحاضر خيوطها وسار على منوالهم، كان في حقيقة الأمر امتدادا للفتنة وإن لم يشارك فيها. وكما أن في الماضي زادا للحاضر يعبر به جسور الحياة. فإن الحاضر وهو تحت الامتحان عبرة للمستقبل. فهذا موسى عليه السلام يقول لقومه: (عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون) (5). لقد ذهبت أمة، وجاءت أخرى ليجري عليها الاختبار الذي يكون زادا للمستقبل. وأمة محمد صلى الله عليه وسلم آخر الأمم. يخاطبها سبحانه فيقول: (ولقد أهلكنا القرون من قبلكم لما ظلموا وجاءت رسلهم بالبينات وما كانوا ليؤمنوا كذلك نجزي القوم المجرمين * ثم جعلناكم خلائف في الأرض من
____________
(1) سورة القصص: الآية 58.
(2) سورة القصص: الآية 59.
(3) سورة الأعراف: الآية 69.
(4) سورة الأعراف: الآية 74.
(5) سورة الأعراف: الآية 129.
إن المسيرة سائرة، تدثرها الحجة من كل مكان. وكل خطوة وكل همسة محسوبة ومكتوبة. يقول تعالى: (إنا نحن نحيي الموتى ونكتب ما قدموا وآثارهم وكل شئ أحصيناه في إمام مبين) (2).
3 - برنامج الشيطان:
ذكرنا أن الامتحان سنة إلهي. ولقد سمى الله تعالى هذا الامتحان في كتابه:
بلاء وابتلاء وفتنة. فقال جل شأنه: (إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا) (3)، وقال: (ونبلوكم بالشر والخير فتنة) (4)، وقال:
(ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلو أخباركم) (5)، وقال:
(أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين) (6). إن الأرض مساحة للامتحان. والإنسان عليها يمتحن بكل جزء من أجزاء العالم، وكل حالة من حالاته التي لها صلة به.
والشيطان الرجيم، لما لعنه الله وطرده نظير معصيته. أخذ على عاتقه إغواء أكثر الناس، فتسلل بإغوائه إلى كل مجال يختبر فيه الإنسان من الله، فإذا كان سبحانه قد جعل ما على الأرض زينة، فإن الشيطان التف حول هذه الزينة بزينة أخرى كاذبة. وإذا كان الله تعالى قد ابتلى عباده بالشر والخير، فإن الشيطان التف حول الشر ليزينه، وحول الخير ليزهد الناس فيه، وإذا كان مجال الاختبار ليعلم سبحانه المجاهدين والصابرين، تسلل الشيطان إلى هذه المساحة، ليكون أكثر
____________
(1) سورة يونس: الآية 13 - 14.
(2) سورة ياسين: الآية 12.
(3) سورة الكهف: الآية 7.
(4) سورة الأنبياء: الآية 35.
(5) سورة محمد: الآية 31.
(6) سورة آل عمران: الآية 142.
خلق الله تعالى آدم عليه السلام، وأمر بالسجود له، فسجد الملائكة، وكان إبليس من الجن وداخل فيهم، فأبى أن يسجد فخاطبه تعالى: (قال يا إبليس ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي استكبرت أم كنت من العالين) (1) فجاء الرد الذي تحتوي كلماته على منهج الشيطان الكامل (قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين) (2)، لقد أكله الحسد وهو الذي شاهد المقدمة حيث التراب والطين والصلصال. وعندما عاين العلم والحركة والحياة كنتيجة للمقدمة، دفعه الحسد إلى المقدمة حيث الحمأ المسنون متعاميا عن النتيجة استكبارا عليها. إنه الصغار والجمود بعينه، ودعوة أولى لرفض النظر في آيات الله. وفي اعتراض الشيطان تلويح، بأن الأمر الإلهي إنما يطاع إذا كان حقا والأمر بالسجود لآدم ليس حقا.
والمتدبر في آيات الله، يجد أن الشيطان قبل رفضه السجود لآدم، كانت حجة الله قد دثرته. وهذه الحجة أن الله تعالى أمره فيمن أمر بالسجود، فالأمر حجة بذاته. وخروج الشيطان عنه هو خروج باختيار وليس عن جبر. كما يجد المتدبر أيضا أن في ردود الشيطان على الله تعالى، لم تكن ردودا جوفاء، وإنما تحمل منهجا كاملا في الضلال وهذا المنهج له مهمة واحدة، هي الصد عن العبادة الحق.
ومن أجل هذا اعتمد المنهج على عمود يفصل أنبياء الله ورسله عليهم السلام عن أبناء آدم فلا يصل إليهم الهدى. وعمود يعمل على الصراط المستقيم من أجل إعاقة الطريق أمام الفطرة حتى لا تصل إلى غايتها الحق. وعمود يعمل على إرساء قواعد الشذوذ ومهمته تصفية كل ما هو طاهر على امتداد المسيرة البشرية بعد رحيل
____________
(1) سورة ص: الآية 75.
(2) سورة ص: الآية 76.
باختصار يعتبر برنامج الشيطان قاعدة أساسية ينطلق منها قطاع الطرق على امتداد التاريخ.
أولا - قطع الطريق على الأنبياء والرسل عليهم السلام:
أخبر الله تعالى بأنه عندما أمر الملائكة بالسجود قال إبليس (أنا خير منه) (1) وقال (لم أكن لأسجد لبشر خلقته من صلصال..) (2) فالرفض يحمل في أعماقه الحسد والكبر. وفي نفس الوقت يحتوي على أطروحة كاملة لتحقير الجنس البشري. وهذا الرفض وهذه الأطروحة، شكلا في الحقيقة فقها كاملا للشيطان نسميه " فقه التحقير " وهذا الفقه مارس عمله ضد الأنبياء والرسل من آدم إلى محمد عليهما السلام. وإذا كان مؤسس الفقه، رفض أمر الله بالسجود لآدم في بداية الخلق، فإنه على امتداد المسيرة البشرية وضع العقبات أمام أمر الله الذي يحمله الأنبياء والرسل للسجود لله تعالى. والعقبات التي وضعها الشيطان من أجل الوصول إلى هدفه، كان عمودها الفقري تحقير الأنبياء والرسل، على اعتبار أنهم بشر وليسوا ملائكة. وإذا كان الشيطان في البداية قد قال: (لم أكن لأسجد لبشر خلقته من صلصال) (3) فإن حملة فقهه على امتداد التاريخ الإنساني وقفوا من دعوة الأنبياء في خنادق الحسد والكبر، رافعين راية التحقير للبشر الذي خلقه الله من طين، نسوا الله فأنساهم أنفسهم. * (قالت لهم رسلهم إن نحن إلا بشر مثلكم ولكن الله يمن على من يشاء من عباده) * (4). فماذا كان رد جحافل الظلام على امتداد التاريخ الإنساني. يقول تعالى: * (وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شئ) * (5) وقال تعالى: (قالوا ما أنتم إلا بشر مثلنا وما أنزل الرحمن
____________
(1) سورة الأعراف: الآية 12.
(2) سورة الحجر: الآية 33.
(3) سورة الحجر: الآية 33.
(4) سورة إبراهيم: الآية 11.
(5) سورة الأنعام: 91.
ثانيا - قطع الطريق على الفطرة:
عندما قال الشيطان أنا خير منه، شمله عقاب الله تعالى: قال تعالى: * (فاهبط منها فما يكون لك أن تتكبر فيها فاخرج إنك من الصاغرين) * (7). لقد نزل إلى منزلة
____________
(1) سورة يس: الآية 15.
(2) سورة التغابن: الآية 6.
(3) سورة المؤمنون: الآية 34.
(4) سورة فصلت: الآية 14.
(5) سورة الأنعام: الآية 8.
(6) سورة الإسراء: الآية 94.
(7) سورة الأعراف: الآية 13.
وفي منزلة الهبوط صاغ الشيطان فقه الاغواء والتزيين، الذي به يخترق الكيان الإنساني وعليه تتعدد الأهواء * (قال رب بما أغويتني لأزينن لهم في الأرض ولأغوينهم أجمعين. * إلا عبادك منهم المخلصين) (4)، لقد اختار مساحة الزينة والزينة الحق جعلها الله لعباده كي يسوقهم التفكير فيها إلى العبادة الحق. قال تعالى: * (إنا زينا السماء الدنيا بزينة الكواكب) * (5)، فأقام الشيطان له خيمة في اتجاه هذه الزينة، وهذه الخيمة بثت ثقافة ألوهية الكواكب والنجوم. تلك الألوهية التي اعترض عليها هد هد كان يحتفظ بفطرته التي فطره الله عليها. فعند ما ذهب هذا الطائر إلى مملكة سبأ، وجدهم يعبدون الشمس من دون الله، فعلم وهو الطائر أن هناك زينة أخرى غريبة، قد أدخلت على الزينة الحق التي تدعو إلى العبادة الحق.
فقال سليمان عليه السلام وهو يتحدث عن ملكة سبأ * (وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون الله وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل فهم لا يهتدون) (6) لقد وقعوا على الزينة المحرمة، وهم المجهزون بالفطرة، والفطرة نعمة والاختيار الخطأ يترتب على امتداده كفران النعمة. والسنة الإلهية عند كفران النعمة، تسلب نعمة الهداية. وفي عالم اللاهداية تعشق الأسماع والأبصار
____________
(1) سورة الحجر: الآية 36.
(2) سورة الأعراف: الآية 15.
(3) أخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم. بظهور المهدي ونزول عيسى عليهما السلام.
وبخروج الدجال والسفياني آخر الزمان ومن أراد المزيد فعليه ببحوثنا في المسيح الدجال.
(4) سورة الحجر: الآية 39 - 40.
(5) سورة الصافات: الآية 6.
(6) سورة النمل: الآية 24.
وفي الزينة الحق قال تعالى: * (المال والبنون زينة الحياة الدنيا والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير أملا) * (1). قال المفسرون: إن المال والبنين وإن تعلقت بها القلوب، وتاقت إليها النفوس تتوقع منها الانتفاع وتحق بها الآمال. إلا أنها زينة سريعة الزوال، لا تنفع الإنسان في كل ما أراده وما يأمله وما يتمناه منها. ولأنها كذلك فلا بد للتعامل معها وفقا لما شرعه الله تعالى، وإذا كانت هذه الزينة زائلة، فإن الأعمال الصالحة هي الباقية. وهي عند الله خيرا ثوابا، لأن الله يجازي الإنسان الذي جاء بها خير الجزاء، وخيرا أملا. لأن ما يؤمل بها من رحمة الله وكرامته ميسور للإنسان، فهي أصدق أملا من زينات الدنيا وزخارفها التي لا تفي للإنسان في أكثر ما تعده.
وكما أقام الشيطان له خيمة في اتجاه زينة الكواكب، أقام خيمة في اتجاه زينة الأموال والأولاد، وعلى هذه الزينة قسمت القلوب ووجه أصحابها سهامهم في اتجاه طائفة الأعمال الصالحة التي تدعو إلى الخير والثواب. وجاء طابور طويل يصد بالمال عن سبيل الله كما فعل قارون * (فخرج على قومه في زينته قال الذين يريدون الحياة الدنيا يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون إنه لذو حظ عظيم) * (2)، واستمر هذا الطابور يتدفق على صفحة الوجه الإنساني آخذا صورا عديدة في عالم الرشوة وبيوت المال للصد عن سبيل الله. وفي عالم زينة الأولاد قالوا فيما أخبر سبحانه * (وقالوا نحن أكثر أموالا وأولادا وما نحن بمعذبين) * (3). وعلى قاعدة الأبناء، جاء الآباء بالأبناء ليركبوا على رقبة الشعوب، ليصبح بذلك المستقبل ابنا لشذوذ
____________
(1) سورة الكهف: الآية 46.
(2) سورة القصص: الآية 79.
(3) سورة سبأ: الآية 35.
إن زينة المال والأولاد التي أضفى عليها الشيطان زخرفه ليتلقفه الغاوون، هذه الزينة المزخرفة أقامت جدرا من الأموال واللحوم للصد عن سبيل الله. وهذا الانحراف وغيره، ما زال حجر عثرة على طريق الدعوة الحق. فالفطرة التي تحمل كليات الدين، زخرف لصاحبها طريق الانجراف، وزين لهم الباطل والمعاصي، فنسوا الله. ومن ينسى الله ينسيه الله نفسه وتنتهي به خطاه إلى الهلاك. إن حامل الفطرة هداه الله إلى السبيل الحق، وعرفه طريق الحق وطريق الباطل، وله أن يختار. فمن اختار طريق الباطل، أضله الله. ومعنى إضلال الله له، إن الله يقطع عنه الرحمة لانحرافه في الاختيار. ولا يدخل في الرحمة إلا إذا أخذ الخطوة الأولى في اتجاه الاختيار الحق. وجحافل فقه الشيطان، لا ييأسوا من طرح ثقافات وعقائد من شأنها أن تفسد الدين الفطري، لأنه على فساد الدين الفطري يترتب عليه فساد القوة الحسية الداخلية للإنسان، ولا تتعادل فيما بينها. وعلى فساد القوى الحسية، يكون الإنسان مستعدا لتلقي أي إغواء أو تزيين، يشبع أي ملكة من ملكات النفس الجائعة. وعلى أعتاب الكثرة من الذئاب الآدمية، يأتي طغيان هذه الكثرة التي لا تتعظ بموقف، ولا تتفاعل مع وجدان. ويترتب على طغيانهم ضعف القوة المخالفة، لذلك كان طريق الدعوة طريقا شاقا على امتداد المسيرة البشرية.
____________
(1) سورة البقرة: الآية 170.
(2) سورة المائدة: الآية 104.
(3) سورة يونس: الآية 78.
(4) سورة الزخرف: الآية 22.
ثالثا - قطع الطريق على الدعوة:
بعد أن مارس قطاع الطرق عملهم للصد عن سبيل الله. انقطع الطريق على الرسل والأنبياء والفطرة وفقا لمنهج الشيطان. نرى أن هذا المنهج قد قطع الطريق على الدعوة، بمعنى إنه استعمل أدوات يستطيع أن يعرقل بها الطريق أمام السائرين في اتجاه العبادة الحق إلى يوم الوقت المعلوم. وأدوات الشيطان التي استعملها في هذا المجال قام بها المنافقون والذين في قلوبهم مرض وغيرهم من الذين يلبسون ملابس الأديان. أي أنه عمل على ضرب الدعوة من داخلها حتى تسير في اتجاه غير اتجاه العبادة الحق. وهذا المخطط أخبرنا الله تعالى به، فبعد أن أنظره الله ليوم يبعثون قال لله جل شأنه * (فبما أغويتني لأقعدن لهم صراطك المستقيم * ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ولا تجد أكثرهم شاكرين) * (1)، قال المفسرون: لما أنظر إبليس واستوثق بذلك أخذ في المعاندة والتمرد. قال: لأقعدن لعبادك الذين تخلفهم من ذرية هذا على طريق الحق وسبيل النجاة ولأضلنهم عنها لئلا يعبدون ولا يوحدوك (2) وقعود الشيطان على الصراط المستقيم، كناية عن التزامه والترصد لعابريه ليخرجهم منه.
والجلوس على الصراط المستقيم لا يتحقق الغرض منه إلا برمز من رموز هذا الصراط، بمعنى أنه لكي يصد عن سبيل الله فلا بد من ثقافة يصيد بها الذين يسيرون على الصراط المستقيم.
وهذه الثقافة لكي يتحقق الغرض منها لا بد أن يحملها طائفة من السائرين على الصراط المستقيم، فمعهم يكون الضلال أشد. ويسيرون في الحياة وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا، بينما هم في الواقع يغوصون في أوحال الذين من قبلهم من الذين غضب الله عليهم ولعنهم. إن قطع الطريق على الدعوة، يتحقق إذا حملها أصحاب اللادعوة واللاهدف، بشرط أن يكون على أصحاب اللادعوة
____________
(1) سورة الأعراف: الآية 16 - 17.