الصفحة 196
ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون) (1).

وأقام عليهم موسى وهارون الحجة تلو الحجة، وجاء من بعدهما أنبياء لبني إسرائيل فكذبوا من كذبوا وقتلوا من قتلوا. في نهاية المطاف فاز من بني إسرائيل من فاز ولعن من لعن. والحجة على رأس الجميع يوم القيامة. والأمة الخاتمة، يقول الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم: (ولقد أهلكنا القرون من قبلكم لما ظلموا وجاءتهم رسلهم بالبينات وما كانوا ليؤمنوا، كذلك نجزي القوم المجرمين * ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم لننظر كيف تعملون) (2).

ولما كان الاستخلاف يخضع لسنة الامتحان الإلهي، فما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم من شئ إلا وحدد جانب الهدى فيه، وهو يخبر عن ربه جل وعلا. فإذا كان الله هو الذي يجري الامتحان على عباده، فهو الذي يبين النجاة من كل شئ إلى عباده. قال تعالى لرسوله: (ليس لك من الأمر شئ) (3).

فالضعف والقوة والإخزاء والإغاظة وغير ذلك ليس للنبي فيه ضلع، والأمر فيه لله.

وقال تعالى لرسوله: (واستقم كما أمرت ولا تتبع أهواءهم) (4).

ومن العجيب أن يقول القوم أن الأمر لهم في تنصيب ما يشاؤون، ومع اختيارهم، ولأن الأمر لهم ركب على أعناق الأمة أغيلمة قريش الذين مهدوا للسفهاء وأولاد الزنا أصحاب أطروحات الاغواء والتزيين والاحتناك.

ومن الأعجب، إن الله تعالى يقول لرسوله: (استقم كما أمرت)، وهم لا

____________

(1) سورة الأعراف: الآية 129.

(2) سورة يونس: الآية 13 و 14.

(3) سورة آل عمران: الآية 128.

(4) سورة الشورى: الآية 15.

الصفحة 197
يطيقون أن يقال لهم اتقوا الله. وجمعوا فريقا من الناس وقالوا: هؤلاء رمزا للاستقامة والعدالة، وإذا أخطأ فله أجر وإذا أصاب فله أجران، وإذا قتل فهو والقتيل تحت عنوان: سيدنا قتل سيدنا من أجل سيدنا رضي الله عنهم أجمعين.

وهذا الخلط أخبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقيم الحجة بعد أن أقام القرآن حجته على أن الجميع - سيدنا وغير سيدنا - يخضع للسنة الإلهية للابتلاء والامتحان، وتحت هذه السنة لا ينبغي للناس أن يزكوا أنفسهم لأن الله أعلم بالمتقين.

1 - النبي يحذر من أصول الفتن:

في غدير خم وعلى امتداد الرحلة أقام النبي صلى الله عليه وسلم الحجة على قريش ومن والاهم وعلى سكان العاصمة الإسلامية أن القيادة محصورة في دائرة لا تأكل الصدقة. ولهذه الدائرة ذروة كما لكل شئ ذروة، وعندما يحث النبي على شئ ويبالغ في الحث عليه إشارة إلى أن المحذر منه سيقع. والنبي كان يعلم من ربه أن الأمة مختلفة من بعده ولأن الاختلاف واقع لا محالة فبث الحجة بطرق مختلفة ضرورة والله لا يظلم الناس.

في البداية خلق سبحانه آدم للخلافة في الأرض، وقبل أن يخلقه قال لملائكته: (إني جاعل في الأرض خليفة) (1).

لم يقل في الجنة وإنما في الأرض، وبعد خلق آدم نهاه الله عن شجرة وحذره من شيطان. وانطلق آدم وزوجه عليهما السلام في الجنة باختيارهما. لم يدفعا للهبوط إلى الأرض لممارسة واجب الخلافة. لأن الله لا يظلم أحدا. وهو سبحانه قادر على خلقهما ودفعهما نحو الأرض. ولكن لكل شئ هدف ومن وراء الهدف حكمة. فلو حدث هذا ما ظهر النفاق الشيطاني وبرنامجه، وما ظهرت دائرة العزم والاختيار عند الإنسان. وآدم وزوجه عليهما السلام كانا منذ

____________

(1) سورة البقرة: الآية 30.

الصفحة 198
البداية من المخلصين الذين لا يقدر عليهم الشيطان بشرك أو نحوه. ولم يجد الشيطان منفذا يؤكد من التزيين لهما سوى أن يقسم بالله أنه لهما من الناصحين (وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين) (1).

وما كان آدم يظن أن هناك من يقسم بالله كذبا في هذا العالم الطاهر التقي.

وحدث ما حدث. وخرجا من الجنة وفقا لعزمهما واختيارهما ليمارسا واجب الخلافة في الأرض التي من أجلها خلقا.

والله تعالى قبل خلق آدم علم بعلمه المطلق أن خلقه سيسلكون هنا ويتركون هناك، ولو شاء سبحانه ما فعلوا هذا أو ذاك. لأن كل شئ تحت سلطانه ولا يستطيع أحد من خلقه أن يلفظ من قول إلا بإذنه، وعلى الأرض تاب الله على آدم وزوجه واصطفاه وبعث إلى ذريته الأنبياء والرسل. وفي بحور البشرية لبس القسم ألف وجه. وكان مادة أساسية لعرقلة الطريق أمام الذين عطلوا ملكة البصيرة والتفكر في ملك الله الواسع العريض. والأمة الخاتمة جزء من المسيرة البشرية. عرضة لعواصف القسم والدجل. لهذا بث النبي الحجة حتى لا يكون للناس على الله حجة. واختلاف الأمة ورد في آيات كثيرة من القرآن وروي عن علي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " آتاني جبريل فقال: يا محمد إن أمتك مختلفة من بعدك " (2).

ودائرة الاختلاف لن تكون على مائدة طعام وإنما على الرأس. لأن من ملك الرأس وضع يده على كل بساط. فعن خالد بن عرفطة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إنكم ستبتلون في أهل بيتي من بعدي " (3).

فالاختبار هنا وليس في مكان غير هذا. والاختبار هنا لأن الكتاب هنا.

والله لا يختبر إلا فيما أمر ونهى. وما ربك بظلام للعبيد. ولما كان علي بن أبي طالب هو رأس أهل البيت فإنه ضمن المادة التي تختبر الأمة فيها. فعنه أنه قال:

____________

(1) سورة الأعراف: الآية 21.

(2) رواه أحمد (الفتح الرباني 186 / 1).

(3) رواه الطبراني (كنز العمال 124 / 11).

الصفحة 199
إن مما عهد إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الأمة ستغدر بك بعدي " (1).

والنبي الأكرم صلى الله عليه وسلم، سأل ربه أن لا يفرق أمته، وأن لا يجعل بأسهم فيما بينهم. ولكن الله الذي يعلم ما تحتويه طينة كل إنسان من خلقه أبى عليه. روي عن سعد بن أبي وقاص قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " سألت ربي ثلاثا، فأعطاني ثنتين ومنعني واحدة. سألت ربي أن لا يهلك أمتي بسنة فأعطانيها. وسألته أن لا يهلك أمتي بالغرور فأعطانيها. وسألته أن لا يجعل بأسهم بينهم فمنعنيها - وفي رواية - وسألته أن لا يلبسهم شيئا فأبى علي " (2).

فالباب الذي منعه الله غمرته الحجج من كل مكان، والآيات القرآنية والأحاديث الشريفة التي تحذر من الاختلاف والافتراق والبغي والاستكبار والإنكار وغير ذلك وتحث على الطاعة والوحدة والأخلاق والاستقامة وغير ذلك لا يخلو منها مصدر إسلامي. ونحن هنا لا نسلط ضوء الحجة إلا على دائرة الجيل الأول في القرن الهجري الأول. لأن على حركة هذا الجيل دارت العجلة آخذة من ورائها في كل زمان الماضي والحاضر وهي تتقدم نحو المستقبل.

ولأن الجيل الأول هو العجينة التي سيأكل من خبزها الجميع ما ترك النبي بابا إلا وتكلم فيه، عن أبو زيد قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الفجر وصعد المنبر فخطبنا حتى حضرت الظهر، فنزل فصلى ثم صعد المنبر فخطبنا حتى حضرت العصر، ثم نزل فصلى ثم صعد المنبر فخطبنا حتى غربت الشمس، فأخبرنا بما كان وبما هو كائن، فأعلمنا

____________

(1) رواه البيهقي وقال ابن كثير ابن كثير سنده صحيح (البداية 218 / 6) ورواه البزار بسند صحيح والحاكم وقال حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه (المستدرك 140 / 3).

(2) رواه مسلم ك الفتن (الصحيح 14 / 18) وأحمد (الفتح 215 / 23) وأحمد وابن ماجة بسند صحيح (كنز 121 / 11) والترمذي والنسائي وابن حبان والضياء عن خباب (كنز 122 / 11).

الصفحة 200
أحفظنا " (1).

كان النبي يعلم من ربه أن الفتنة إذا انطلقت فلن تنطلق إلا من عند الذين سمعوا منه وشاهدوه. وإنها ستسير بوقودهم على امتداد التاريخ، ولهذا كان يشير ويحذر. فعن أسامة قال: أشرف النبي صلى الله عليه وسلم على أطم (2) من أطام المدينة ثم قال: هل ترون ما أرى؟ إني لأرى مواقع الفتن خلال بيوتكم كمواقع القطر " (3).

والتشبيه بمواقع القطر أي أنها كثيرة وتعم الناس. وقال النووي: وهذا إشارة إلى الحروب الجارية بينهم... وفيه معجزة ظاهرة له صلى الله عليه وسلم (4) لأن ما أخبر به وقع.

وإذا كان النبي قد أشار إلى مواقع الفتن على ساحة المدينة الواسعة فإنه صلى الله عليه وسلم أشار إليها في ساحة أضيق. فعن أم سلمة قالت: استيقظ رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة وهو يقول: لا إله إلا الله ما فتح الليلة من الخزائن؟ لا إلا إلا الله ما أنزل الليلة من الفتن؟ من يوقظ صواحب الحجر، يريد به أزواجه... يا رب كاسية في الدنيا عارية في الآخرة " (5).

وقيل في المعنى: كاسية من نعم الله، عارية من الشكر الذي تظهر ثمرته في الآخرة (6)، ومن ساحة بيوت النبي حيث المساحة الضيقة، أشار عليه الصلاة والسلام إلى ساحة أضيق، روى البخاري عن عبد الله قال: قام النبي صلى الله عليه وسلم خطيبا فأشار نحو مسكن عائشة فقال: ها هنا الفتنة، ها هنا

____________

(1) رواه مسلم ك الفتن (الصحيح 16 / 18) وأحمد (الفتح 272 / 21).

(2) الأطم / القصر أو الحصن.

(3) رواه البخاري ك الحج (الصحيح 322 / 1)، ومسلم (الصحيح 7 / 18).

(4) شرح مسلم 7 / 18.

(5) البخاري ك اللباس (الصحيح 33 / 4) والترمذي وصححه (الجامع 488 / 4) وأحمد الفتح 34 / 23).

(6) فتح الباري 23 / 60.

الصفحة 201
الفتنة، ها هنا الفتنة. من حيث يطلع قرن الشيطان " (1).

2 - الرسول ونظرات على واقع بعيد:

لم يكن النبي يحذر من الفتن فقط، وإنما كان يبين لمن حوله أن الفتنة إذا هبت انطلق دخانها في سماء العصور والدهور. وعلى امتداد هذه المسيرة يدون لها ثقافات وقوانين لا تخدم إلا أنصار الشذوذ الذين لا هم لهم إلا التعتيم على نور الفطرة والصد عن السبيل. وفي نهاية المطاف يستخدم المسيح الدجال هذه الأوراق لصالحه.

والدجال أعظم فتنة منذ ذرأ الله ذرية آدم وما من نبي إلا وحذر قومه الدجال، ولقد حذر نوح قومه منه ليس على أساس أنه خارج فيهم. لأن نوح كان يعلم من ربه أنه يخرج في الأمة الخاتمة. وإنما حذرهم من نسيج الشذوذ.

لأن كل نسيح من هذا يتلقفه الشيطان ويلقيه على رأس البشرية من جيل إلى جيل، حتى يستقر عند الدجال آخر الزمان، والنبي حذر أصحابه على هذا النحو، لأن الدجال خارج في الأمة الخاتمة لا محالة. فعن حذيفة قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: " لأنا لفتنة بعضكم بعضا أخوف عندي من فتنة الدجال. ولن ينجو أحد مما قبلها إلا نجا منها، وما صنعت فتنة منذ كانت الدنيا صغيرة ولا كبيرة إلا لفتنة الدجال " (2).

فالشذوذ حلقات، وحلقات الشذوذ يصنعها أصحاب القسم الزائف، أي الأئمة المضلين، فعن أبي ذر قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول:

" غير الدجال أخوف على أمتي؟) ".

قلت: يا رسول الله أي شئ أخوف على أمتك من الدجال؟

____________

(1) رواه البخاري (فتح الباري شرح صحيح البخاري حديث رقم 3104 ص 243 / 6 ط دار الريان).

(2) رواه أحمد والبزار وقال الهيثمي رجاله رجال الصحيح (الزوائد 335 / 7).

الصفحة 202
قال: " الأئمة المضلين " (1).

فهؤلاء الباب الذي يدون عنده القانون ذو الغلاف المزخرف، الخارج عنه في عرفهم خارج عن الدين، ولأن الدين غلافه في عالمهم. يكون القابض على دينه كالقابض على الجمر.

والنبي صلى الله عليه وسلم حدد ثلاث فتن: الأولى فيها موت والثانية فيها قتل والثالثة فيها الدجال، ومن نجا عند الباب نجا عند الدجال. عن عقبة بن عامر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ثلاثة من نجا منها فقد نجا.

من نجا عند موتي فقد نجا، ومن نجا عند قتل خليفة يقتل مظلوما وهو مصطبر يعطي الحق من نفسه فقد نجا. ومن نجا من فتنة الدجال فقد نجا " (2).

فعند موته صلى الله عليه وسلم تحدث أحداث من نجا منها فقد نجا، فهذه الأحداث باب وهذا الباب يوصل إلى الحلقة الثانية. حيث الخليفة المظلوم. فمن وقف في دائرة المظلوم الذي يعطي الحق ثم يأتيه القتل وهو مظلوم فقد نجا، وكم من خليفة قتل على امتداد التاريخ الإسلامي. وكل حزب وكل قبيلة تقسم أن خليفتها قتل مظلوما. ولكي لا تضيع الحقيقة لصالح الدجال فلا بد لتحديد الخليفة أن يقال: خليفة من؟ فإن قيل: خليفة لله، قلنا: ما البرهان؟ إذا نسب أي شئ إلى الله لا بد أن يكون عليه دليل.

ألم تر أن المشركين كانوا إذا فعلوا فاحشة قالوا أن الله أمرهم بهذا. ألم تر أنهم عبدوا من دون الله ما لا ينفع ولا يضر وقالوا لو شاء الله ما أشركنا ولم يكن معهم دليل على هذا وذاك.

ألم ترى أن عبادة الأصنام دخلت من باب التقرب إلى الله والله برئ من المشركين.

____________

(1) رواه أحمد وقال في الفتح الرباني إسناده حسن (الفتح 26 / 23).

(2) رواه الطبراني والخطيب وأحمد والضياء بسند صحيح عن عبد الله بن حوالة (كنز 180 / 11) والحاكم وصححه (المستدرك 101 / 3).

الصفحة 203
ألم تر أن دأب القرآن التمييز بين الحق والباطل والعلم والجهل والجهاد والقعود وغير هذا حتى يكون لكل شئ معالمه ولا تختلط الأوراق. حتى النبوة لا بد أن يكون عليها من الله برهان، والإمامة قال تعالى فيها لإبراهيم عليه السلام: (لا ينال عهدي الظالمين) (1). وعلى هذا لا بد أن يحدد للناس من العادل ويكون عدله حجة بذاتها على الظالمين.

وكذلك الخلافة. فالخلافة عنه تعالى منزلة. وما دامت عنه تعالى فهو سبحانه الذي يحدد دائرتها. فكم من دائرة إنسانية مهمتها الصد عن السبيل وكل دائرة لها أسماؤها الرنانة. وإذا كان الشيطان قد زخرف قاموس الأسماء وخرج من أتباعه من يدعي الألوهية والنبوة ومراتب الصلاح فلا بد أن يقابل هذا الدوائر الحق التي تشير للناس نحو دوائر الزيف وتسوقهم إلى الصراط المستقيم.

والقرآن أشار إلى دائرة الخلافة وكيف نسبها الله إلى نفسه. فداوود عليه السلام كان رسولا. وبمنزلة الرسالة كان يحق له أن يدخل أي دائرة من دوائر الهدى ولكنه لم يدخل إلا بإذنه، قال تعالى: (يا داوود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق) (2).

فالخلافة ليست وجاهة، لا بد للخليفة أن يتخلق بأخلاق الله. ويريد ويفعل ما يريده الله. ويحكم ويقضي بما يقضي به الله. والله يقضي بالحق وأن يسلك سبيل الله ويسوق الناس إليه ولا يتعداه. ولا يتبع في قضائه الهوى هوى النفس لأنه يضل عن الحق. ولهذا وصف النبي الخليفة المظلوم الذي يقتل فقال: " خليفة يقتل مظلوما وهو مصطبر يعطي الحق من نفسه ".

ودائرة الخلافة لا يجب أن تفترق عن القرآن ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: " إني تارك فيكم خليفتين كتاب الله حبل ممدود ما بين السماء والأرض وعترتي أهل بيتي وإنهما لن يتفرقا حتى يردا علي

____________

(1) سورة البقرة: الآية 124.

(2) سورة ص: الآية 26.

الصفحة 204
الحوض " (1).

والدائرة الثانية في الحديث دائرة الخليفة الذي يقتل مظلوما، تمهد للدائرة الثالثة التي يتربع فيها الدجال. والطريق بين الدائرتين يجلس فيه القاتل. أي قاتل الخليفة المظلوم. فمن تبين هذه الحقيقة بعد قتل الخليفة. فقد نجا مثل الذين نصروا الخليفة المظلوم في حياته. فعن عبد الله بن مسعود. قال جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله. كيف تقول في الرجل أحب قوما ولم يلحق بهم؟ فقال النبي: المرء مع من أحب (2)، أما من وضع على عينيه الغمامة ومر على الخطيئة مر الكرام. فيجيبه أبو العرس بن عميرة. قال:

قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إذا عملت الخطيئة في الأرض كان من شهدها فكرهها كمن غاب عنها. ومن غاب عنها فرضيها كان كمن شهدها (3)، فمن غاب عنها ورضي وشارك الذي شهدها ورضي وإن بعدت المسافة وبعد الزمان بينهما.

والفتنة في كل حلقة لا بد من أن تترك أثرا لها على القلوب. فمن أنكر لا يتعكر قلبه. ومن رضي تعكر قلبه ودخل على فتنة الدجال وهو يهلل للدجال مغديا له بالروح والدم والمال. وعن أثر الفتن على القلوب. يقول حذيفة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " تعرض الفتن على القلوب. فأي قلب أنكرها. نكتت في قلبه نكتة بيضاء. وأي قلب لم ينكرها نكتت في قلبه نكتة سوداء. حتى يصير القلب أبيض مثل الصفا. لا تضره فتنة ما دامت السماوات والأرض. والآخر أسود مربدا كالكوز مجفيا. لا يعرف معروفا ولا ينكر منكرا.

إلا ما شرب من هواه " (4)، ومن أجل هذا لا بد من البحث عن الحقيقة. لأن الحلقة القادمة هي حلقة الدجال. ومن دخل عليها وهو عارف بحقيقتها فقد

____________

(1) رواه أحمد وقال الهيثمي إسناده جيد (الزوائد 193 / 9).

(2) رواه البخاري ك الآداب (الصحيح 77 / 4).

(3) رواه أبو داود حديث 4345.

(4) رواه أحمد (كنز العمال 119 / 11) والحاكم وصححه (المستدرك 468 / 4).

الصفحة 205
نجا. أما الذي يدخلها ليبحث عن الحقيقة بداخلها، فلن ينفعه إيمانه لأن لله آيات لا ينفع فيها إيمان نفس لم تكن آمنت من قبل. قال تعالى: (يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسا أيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا قل انتظروا إنا منتظرون) (1)، وهذه الآيات حددها البني صلى الله عليه وسلم فقال: " ثلاث إذا خرجن لا ينفع نفسا أيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في أيمانها خيرا. الدجال والدابة. وطلوع الشمس من المغرب "، رواه الترمذي وغيره (2).

فالنبي صلى الله عليه وسلم حذر من أصول الفتن وهو يشير إلى بيوت أصحابه. وحذر من فتنة قومه وفتنة قتل الخليفة القائم بالحق. وبين أن الفتن كبيرها وصغيرها يقود إلى الدجال. كان يحذر وفي التحذير حجة كي لا يفتح فاتح الباب.

3 - النبي يحذر من رموز الفتن:

بعد أن بين النبي المكان والزمان الذي تهب منه الفتن، وبعد أن بين إلى أين تتجه الفتن. خوفهم من رموز الفتن. كي ترعد أيديهم إذا حاولوا فتح الباب.

وأخبرهم بأنهم (بعده) سيختلفون بعد أن جاءهم العلم وإنهم سيحرصون على الإمارة (3)، وإن حرصهم عليها سيقودهم إلى سنن الذين من قبلهم. وإن الطريق سينتهي بهم إلى حيث لا قيادة وإن كانت هناك قيادة. فلن يدري القاتل في أي شئ قتل. ولن يدري المقتول في أي شئ قتل (4). ونحن هنا سنقدم نخبة من الأحاديث التي فيها كلمة (بعدي) فلعلها تفيد الباحث عن الحقيقة. وقبل ذلك نقدم هذه النخبة لتكون فاتحة عن عمران بن حصين قال: قال النبي صلى الله عليه

____________

(1) سورة الأنعام: الآية 158.

(2) راجع كتابنا عقيدة المسيح الدجال.

(3) رواه البخاري ك الفتن (الصحيح 235 / 4).

(4) رواه مسلم ك الفتن (الصحيح 34 / 18).

الصفحة 206
وسلم: " أكثر ما أتخوف على أمتي من بعدي رجل يتأول القرآن. يضعه على غير مواضعه. ورجل يرى أنه أحق بهذا الأمر من غيره " (1)، ومن العجيب أنهم يقولون. أن الرسول ترك الأمر هكذا في الرياح. كيف وهو كان يخاف أن يأتي من يرى أن أحق بهذا الأمر من غيره؟ هل يترك القرآن ليتلعب به الناس؟ هل يترك الأمر حتى يناله سفهاء قريش ويتسموا بأمراء المؤمنين وهم في بطون أمهاتهم؟ كيف؟ وهو الذي بلغ الرسالة ونصح الأمة وتركها على المحجة البيضاء نهارها وليلها سواء.

وإذا كان الأمر هكذا فكيف يترك النبي هؤلاء يزحفون إلى النار وهو المبعوث رحمة للعالمين. لا بد أن يقيم عليهم الحجة أولا ثم ليزحفوا وقتما شاؤوا. ويوم القيامة لا يفيد الندم ولا يكون لهم على الله حجة. وهذه الحقيقة ترى في حديث أبي هريرة. قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: يوشك رجل أن يتمنى أنه خر من الثرايا ولم يل من أمر الناس شيئا " (2)، ومن دائرة الرجل ينتقل التحذير إلى دائرة أوسع. فعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ليتمنين أقوام ولوا هذا لأمر أنهم خروا من الثرايا وأنهم لم يولوا شيئا " (3)، وينتقل التحذير إلى دائرة المرتزقة الذين يجيدون الأكل والهتاف على موائد الرجال وأقوامهم. فعن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ويل للأمراء وويل للعرفاء وويل للأمناء. ليتمنين أقوام يوم القيامة. أن نواصيهم معلقة بالثريا فيجلجلون بين السماء والأرض وأنهم لن يلوا عملا " (4).

وإذا كان النبي يحذر الناس من القيادة ويحذر الأمراء والعرفاء والأمناء.

فهل المقصود من هذا أن الدولة لا تعرف النظام. وأن الدولة ينبغي أن تكون بلا

____________

(1) رواه الطبراني في الأوسط (كنز 200 / 10).

(2) رواه الحاكم وأقره الذهبي (كنز العمال 17 / 6).

(3) رواه أحمد وقال الهيثمي رجاله ثقات (الفتح الرباني 29 / 23).

(4) رواه أحمد وقال الهيثمي رجاله ثقات (الفتح الرباني 23 / 23).

الصفحة 207
رأس. كيف، وهل أمة بلا رأس تكون جديرة بقيادة العالم. كيف وكان النبي يبعث الأمراء والأمناء والعرفاء في أعمال الدولة. أن العديد فهم من الحديث إنه دعوة للتورع. وكثير منهم تورع حتى لا يتمنى يوما أن يتجلجل بين السماء والأرض وأنه لم يلي عملا. والحديث له أهداف أوسع. فالرسول صلى الله عليه وآله وسلم يذهب أهل الجيل الأول في أمر ليس من حقهم. وحذر من حذى حذوهم. فعن المقدام بن معد يكرب. أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ضرب على منكبه. ثم قال له: " أفلحت يا قديم إن مت ولم تكن أميرا ولا كاتبا ولا عريفا " (1)، فإذا كان الصحابة كلهم عدول ثقات. فمن أولى منهم بالقيادة، ولماذا يحذرهم النبي ومما كان يخاف عليهم؟ لقد كان النبي يحث أصحابه على أن لا ينازعوا الأمر أهله. فعن عبادة بن الصامت قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. " عليك بالسمع والطاعة في عسرك ويسرك ومنشطك ومكرهك.

وأثره عليك. وأن لا تنازع الأمر أهله " (2)، فإذا كنا قد علمنا أن الأمر كله لله.

فعلينا أن نعلم أن أهل الأمر لا يحددهم غير الله. ولذلك كان أبو أيوب الأنصاري يبكي أيام بني أمية. وكان رضي الله عنه قد شهد المشاهد مع علي بن أبي طالب. وعندما سئل عن بكائه. قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لا تبكوا على الذين إذا وليه أهله. ولكن ابكوا عليه إذا وليه غير أهله " (3)، ثم إذا كان أحد أحياء قريش من الذين لم يشر إليهم النبي بولاية الأمر. هم أهل الدين. فلماذا طالب النبي الأمة باعتزالهم. روى الشيخان عن أبي هريرة قال النبي صلى الله عليه وآله: " يهلك أمتي هذا الحي من قريش "، قالوا: فما تأمرنا يا رسول الله؟ قال: لو أن الناس اعتزلوهم " (4)، لو

____________

(1) رواه أبو داود الحديث 2933.

(2) رواه ابن أبي عاصم وقال الألباني إسناده حسن ورجال ثقات (كتاب السنة 493 / 2).

(3) رواه أحمد (الفتح 32 / 23) والحاكم وأقره الذهبي (المستدرك 515 / 4)، والطبراني (الزوائد 245 / 5) (4) رواه البخاري ك بدء الخلقة (الصحيح 280 / 2) ومسلم ك الفتن (الصحيح 41 / 18) وأحمد (الفتح 39 / 23).

الصفحة 208
كانوا أهل الدين فهل يجوز اعتزال الدين؟

إن النبي كان يخوفهم من فتح الباب. لأن الله أبي عليه أن لا يلبسهم شيعا ويذيقهم بأس بعضهم بعضا. وكان عليه الصلاة والسلام يعلم أن الحق سيكون غريبا، فعن قيس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا قيس عسى إن مد بك الدهر. أن يليك بعدي ولاة لا تستطيع أن تقول بحق معهم " (1)، وعن معقل بن يسار قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا يلبث الجور بعدي إلا قليلا. فكلما طلع من الجور شئ ذهب من العدل مثله. حتى يولد في الجور من لا يعرف غيره. ثم يأتي الله تبارك وتعالى بالعدل فكلما جاء من العدل شئ ذهب من الجور مثله. حتى يولد في العدل من لا يعرف غيره "، وقوله:

" ثم يأتي الله تبارك وتعالى بالعدل فكلما جاء من العدل شئ ذهب من الجور مثله. حتى يولد في العدل من لا يعرف غيره " (2)، وقوله: " ثم يأتي الله تبارك وتعالى بالعدل "، لا بد أن يكون عليه دليل على أنه من الله. ومهمته يجب أن تكون محصورة في إقامة مؤسسات القسط والعدل بدلا من مؤسسات الظلم والجور. وقد ورد هذا عن النبي صلى الله عليه وسلم. بأن القادم. هو المهدي. من عترته. من ولد فاطمة رضي الله عنها ومهمته يملأ الأرض قسطا وعدلا كما ملئت ظلما وجورا (3)، وأوصافه في كتب الحديث فمن أرادها فليراجعها (4)، هناك فدائرة الظلم زوالها على يدي المهدي الذي من عترة الرسول. والمهدي سيقاتل الدجال آخر الزمان. وزاد المهدي من زاد علي بن أبي طالب. فمن تزود نجا من فتنة الدجال.

وبعد أن بين النبي لأصحابه أن الجور لا يلبث بعده إلا قليلا وكلما طلع برأسه. توارى العدل إلى الظلال. أخبرهم بدائهم العضال فعن أبي هريرة قال.

____________

(1) رواه الطبراني عن قيس بن خوشة (كنز العمال 190 / 11).

(2) رواه أحمد (الفتح 32 / 23) وقال الهيثي فيه خالد بن طهمان وثقه أبو حاتم وبقية رجاله ثقات (الزوائد 196 / 5).

(3) أبو داود 117 / 4، وابن ماجة 2 / 1368، الحاكم 4 / 557.

(4) راجع كتابنا عقيدة المسيح الدجال.

الصفحة 209
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إنكم ستحرضون على الإمارة.

وستكون ندامة يوم القيامة. فنعم المرضعة وبئست الفاطمة " (1)، قال بعضهم:

نعم المرضعة. لما فيها من حصول الجاه والمال ونفاذ الكلمة وتحصيل اللذة الحسية. وبئست الفاطمة. عند الانفصال عنها وما يترتب عليها من التبعات في الآخرة (2)، والحرص على الإمارة سيجعل للحريص أنياب ومخالب. فيزرع الجلادين في كل مكان. وسيأتي بالفقهاء علماء اللسان فيفصلون له الفتوى التي تحقق له الأمن والقداسة. ولهذا كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول لأصحابه فيما رواه مسلم: " يكون بعدي أئمة لا يهتدون بهداي ولا يستنون بسنتي.

وسيقوم فيها رجال قلوبهم قلوب شياطين في جثمان أنس " (3)، هؤلاء الرجال.

من أي دائرة جاءوا؟ على أي حال ما دامت قلوبهم قلوب شياطين فلا علاقة لهم بالذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا. وعن حذيفة قال. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " سيكون بعدي عليكم أمراء يأمرونكم بما لا يفعلون.

فمن صدقهم بكذبهم وأعانهم على ظلمهم فليس مني ولست منه ولن يرد علي الحوض " (4)، من صدقهم وأعانهم لن يرد على الحوض. فإذا سألنا. من الذي يرد علي الحوض؟ فإن الإجابة تكشف لك حقيقة هؤلاء الأمراء الكذبة. وعن كعب بن عجرة قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:

اسمعوا. هل سمعتم؟ أنه سيكون بعدي أمراء. فعن دخل عليهم فصدقهم بكذبهم وأعانهم على ظلمهم فليس مني ولست منه وليس بوارد على الحوض.

ومن لم يدخل عليهم ولم يعنهم على ظلمهم ولم يصدقهم بكذبهم فهو مني وأنا منه. وهو وارد على الحوض " (5)، إسمعوا، إسمعوا. من الذي يرد علي

____________

(1) البخاري ك الأحكام (الصحيح 225 / 4).

(2) فتح الباري (22 / 32).

(3) مسلم (الصحيح 6 / 20) ط اسطنبول.

(4) رواه أحمد وقال الهيثمي رواه أحمد والبزار وفيه إبراهيم بن قيس وثقه ابن حبان وبقية رجاله رجال الصحيح (الزوائد 247 / 5).

(5) رواه الترمذي وصححه (الجامع 525 / 4) ورواه أحمد عن خباب (الفتح الرباني =

الصفحة 210
الحوض، قال النبي صلى الله عليه وسلم: " إني تارك فيكم خليفتين - وفي رواية ثقلين - أحدهما أكبر من الآخر. كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض وعترتي أهل بيتي وإنهما لن يتفرقا حتى يردا علي الحوض " (1).

وعن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إنه سيلي أمركم من بعدي رجال يطفئون السنة ويحدثون بدعة. ويؤخرون الصلاة عن مواقيتها "، قال ابن مسعود: كيف بي إذا أدركتهم؟ قال: يا ابن أم عبد. لا طاعة لمن عصى الله (قالها ثلاث مرات) (2)، يطفئون السنة، والإطفاء إما عدم تدوينها. أو تدوينها وعدم معرفة مراميها أو ترجيح الرأي عليها. فعلى كل هذا وغيره يترتب الاطفاء.

وإذا كان هذا الحديث قد أخبر عن أمراء يؤخرون الصلاة فعند البخاري حديث لضياع الصلاة في عهد بني أمية، أحد عهود القرن الأول (3). وإذا كان النبي قد قال عند تأخير الصلاة لا طاعة لمن عصى الله. فإنه صلى الله عليه وسلم قد قال في عهد ضياع الصلاة. اعتزلوهم. ولكل مرحلة فقه وعلم.

وأخيرا نأتي إلى حديث حذيفة. كان يسأل النبي عن الشر مخافة الوقوع فيه. قال للنبي فيما رواه البخاري وغيره: " يا رسول الله، إنا كنا في جاهلية وشر. فجاء الله بهذا الخير. فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال: نعم (4)، فهذا الحديث سجل وقوع الشر، حلقة وراء حلقة. ويسأل حنيفة عن هذا الشر. ما هو؟ قال النبي: فتن كقطع الليل المظلم يتبع بعضها بعضا. تأتيكم مشتبهة كوجوه البقر لا تدرون أيا من أي " (5)، فهل يصح أن يترك الرسول أمته دون أن

____________

= 30 / 23) وابن أبي عاصم وقال الألباني رجاله ثقات وأخرجه أحمد وابن حبان (كتاب السنة 352 / 2).

(1) تم تخريج الحديث فيما سبق ورواه أحمد والترمذي وحسنه والطبراني وقال المناوي رجاله موثقون (الفتح الرباني 186 / 1).

(2) رواه أحمد وقال في الفتح الرباني حديث صحيح (الفتح 29 / 23).

(3) سيأتي الحديث عنه في حينه.

(4) البخاري (الصحيح 280 / 2) ك بدء الخلق ب علامات النبوة.

(5) رواه أحمد (الفتح الرباني 38 / 23).

الصفحة 211
يبين لهم النجاة من هذه الفتن التي تعصف أول ما تعصف بحبل الصحابة. والله تعالى أوجب على نفسه فتح الطريق لعباده وهدايتهم إليه، (ما كان الله ليضل قوما بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون) (1)، وحذيفة لم يسأل النبي عن الشر مرة واحدة. وإنما كان يحب أن يسأل عنه على فترات كما تدل رواياته.

وفي هذه الروايات يقول النبي عن دعاة الشر " دعاة على أبواب جهنم من أجابهم قذفوه فيها " فيقول حذيفة: يا رسول الله صفهم لنا؟ قال: " هم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا " (2)، ويسأل حذيفة: وما العصمة من ذلك؟ قال: السيف.

فقلت يا رسول الله: ثم ماذا يكون؟ قال: إن كان لله خليفة في الأرض فضرب ظهرك وأخذ مالك فأطعه. وإلا فمت وأنت عاص بجذل شجرة. قال حذيفة: ثم ماذا؟ قال النبي: ثم يخرج الدجال (3)، فهذه الرواية. قال له: " إن كان لله خليفة في الأرض " وفيه أن البحث فريضة. فقد يكون خليفة الله كهارون في عالم السامري ". فعالم السامري كان عالم واسع عريض. ولا يضر هارون أنه يقف على الأرضية الأضيق في أعين الناس. والأرضية الضيقة لها علم وفقه. وقد يكون الصمت فيها دواء. وقد يكون آخر الدواء الكي وهذا أمر يحدده خليفة الله.

إن لكي شئ علم. ألم تر أن الله رفع نبيه عيسى عليه السلام. وكان في الإمكان خسف الأرض. بمن أرادوا قتله. ولكن هذا تم لهدف ومن وراء الهدف حكمة.

منها امتحان الذين آمنوا بعيسى عليه السلام. فعيسى أخبر وصيه وتلاميذه بأنه سيرفع وأخبر القاعدة العريضة أيضا بذلك وقال لهم: إنه حيث يكون فلن يستطيعوا الوصول إليه. ومن المعلوم أن أعداءه لا يستطيعون الوصول إلى السماء. وبعد الرفع جاء الامتحان. كانت الحجة كلمة وصرخة تلميذ. أن الذي على الصليب ليس عيسى. فمن استمع نجا، ومن صدق ما يشاهده هلك. وهنا تبرز قيمة الوصية والأوصياء. وكلمة الوصي أصدق مما تراه العيون. ولكن الجماهير تركت الوصي والتلاميذ. وانساقوا وراء من يظنون أنه المسيح. ولم

____________

(1) سورة التوبة: الآية 115.

(2) رواه البخاري (الصحيح 280 / 2) ك بدء الخلق.

(3) رواه أبو داود حديث 4244.

الصفحة 212
يلبث الجور بعد المسيح إلا قليلا. فكلما طلع من الجور شئ ذهب من العدل مثله. حتى ولد في الجور من لا يعرف غيره. وشاء الله أن يجتمع عيسى بن مريم والمهدي المنتظر في عصر واحد. ليخوضا ملاحم الدجال (1).

لقد أمر النبي حذيفة أن يبحث عن الإمام الحق ثم قال: " وإلا فمت وأنت عاص بجذل شجرة. قال: ثم ماذا؟ قال النبي: ثم يخرج الدجال "، فهل بشجرة هنا رمزا لمبايعة حق وخصوصا أن الدجال على الأبواب. ولكن أي شجرة هذه التي يتم مبايعتها وما الناس والكلام إلا شجر. وورد عند البخاري بعد أن قال النبي لحذيفة بأن يلزم جماعة المسلمين وإمامهم، قال حذيفة: فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام. قال النبي. فاعتزل تلك الفرق كلها. ولو أن تعص بأصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك " (2)، وعدم وجود الجماعة والإمام وارد. فنحن في زماننا نرى ما نرى. فكل شئ غائب عنا. وغدا يأتي الله بأمره فهل هذه الرواية تختص بزماننا هذا. وكما ذكرنا أن أسئلة حذيفة للنبي كانت بين الحين والحين ولم تكن واحدة. إن الفرق كلها أمر النبي باعتزالها. ولكن الاعتزال والوقوف في العراء يكون قريبا من دائرة الموتة الجاهلية لحديث البخاري وغيره " من فارق الجماعة شبرا فمات إلا مات ميتة جاهلية " (3)، فما بالك بعدم وجود جماعة أصلا والحديث أشار بهذا والنبي لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يدفع إنسان إلى العراء أو يجعله قريبا من الموتة الجاهلية. لذا نجده في حديث حذيفة يقول بعد أن أمر باعتزال الفرق: " ولو أن تعص بأصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك " فعند الشجرة يمكن أن يأتي الموت ولكن ليس موتا جاهليا. وعلى هذا والله أعلم أن الشجرة رمزا للجماعة، من فارقها في العصر الذي يقصده الحديث تكون ميتته ميتة الجاهلية. وبين الإمام والجماعة في الحديث خط مستقيم يصل إلى الشجرة. والبحث في أصول الشجرة، يقتضي منا

____________

(1) راجع كتابنا عقيدة المسيح الدجال.

(2) رواه البخاري (الصحيح 280 / 2) ك بدء الخلق.

(3) رواه البخاري (الصحيح 222 / 4) ك الفتن.

الصفحة 213
أن نضع هنا قول النبي صلى الله عليه وسلم " علي أصلي... " (1)، وقوله: " إن الناس اليوم كشجرة ذات جنى. ويوشك أن يعودوا كشجرة ذات أشواك " (2)، وكل إنسان يبحث عن شجرة.

وكما علمنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قد حذر من أصول الفتن. فأخبر أن الفتن من بعده ستكون كثيرة وستنتهي إلى الدجال وأن السلطة ستكون كخيمة على بركة من الدماء. الجميع يتصارع من أجل الوصول إليه. ولذا حذر صلى الله عليه وسلم أصحابه حتى لا ينازعوا الأمر أهله. لأن المنازعة ستفتح الأبواب لما هو أشد وافتك. إذا كنا قد علمنا ذلك. فيجب أن نعلم هنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قد حدد تيارا بعينه وهو تيار بني أمية. وحذر منه أشد التحذير.

وأخبر أن هذا التيار سيصل إلى السلطة. والوصول إلى السلطة لا يأتي في يوم وليلة. فإذا كان سيصل مثلا في مرحلة منتصف الطريق. فلا بد أن تكون مرحلة أول الطريق قد مهدت له ووضعت له الركائز التي يرتكز عليها دينيا. ثم يقوم هو بدوره فيضع الركائز ويمهد لمن يأتي في نهاية الطريق.

وتحذير النبي لأصحابه من الفتن حتى لا يفتحوا الباب لهذا التيار. تعدى مرحلة التحذير بالقول إلى مرحلة التحذير بالفعل حيث قام النبي صلى الله عليه وسلم بنفي الحكم بن العاص الذي تعتبر ذريته آخر حكام بني أمية وظل الحكم بن العاص في المنفى. حتى رده عثمان بن عفان سليل بني أمية في خلافته. ونفى النبي للحكم كان من باب الأخذ بالأسباب وإقامة الحجة، وبمعنى أن النبي علم من ربه أن الحكم باب من أبواب الفتن وأن في صلبه من سيركب على رقبة الأمة. وأن الأمة ستكون لأبنائه شيعة. فأخذ النبي بالأسباب وأزال أصل العقبة من البداية وهو يعلم أن الأمة ستأتي به وستقيم عليه فسطاطا. وإذا كان الحكم بن العاص حلقة أخيرة في الفتنة. فإن النبي لم يكتف بالتحذير من الحلقة الأخيرة فقط. وإنما حذر من الحلقة الأولى لبني أمية التي عليها سيأتي

____________

(1) رواه الطبراني والضياء بسند صحيح (كنز 602 / 11).

(2) رواه ابن عساكر وفيه ضعف (كنز 149 / 11).

الصفحة 214
أبناء الحكم. باختصار حذر من الشجرة الأموية كلها. وقد أراه الله تعالى من أخبار هذه الشجرة الشئ الكثير الأمر الذي جعله صلى الله عليه وسلم لم ير ضاحكا حتى مات صلى الله عليه وسلم.

ففي سورة الإسراء. وبعد أن تحدث سبحانه عن الآيات التي يرسلها إلى عباده. وعن ناقة ثمود التي قتلها الجاحدون وبعد أن أخبر سبحانه أنه يرسل بالآيات للتخويف والإنذار. قال تعالى: (وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس والشجرة الملعونة في القرآن ونخوفهم فما يزيدهم إلا طغيانا كبيرا) (1).

ولا ندري ما هذه الشجرة الملعونة في القرآن التي جعلها فتنة للناس. ولا يوجد في القرآن شجرة يذكرها الله ثم يلعنها. قالوا: إنها شجرة الزقوم! التي جاء ذكرها في قوله تعالى: (أم الشجرة الزقوم إنا جعلناها فتنة للظالمين) (2)، فالشجرة في الآية وصفت بأنها فتنة. أي عقاب للظالمين. فكيف يقال أن العقاب ملعون والله تعالى لم يلعن الشجرة فلو كانت الشجرة ملعونة لكونها تخرج في أصل الجحيم وسببا من أسباب عذاب الظالمين. لكانت النار، وكل ما أعد الله فيها للعذاب ملعونة، وهذا لا يصح لأن الله أعد لها ملائكة للعذاب فقال تعالى:

(وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة) (3)، وقد أثنى الله تعالى على ملائكة النار، فقال تعالى: (عليها ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون) (4).

وبما أن الشجرة جاء ذكرها بين الآيات التي يخوف بها الله عباده. ومنها آية الناقة. فإن الرؤيا والشجرة المشار إليهما في الآية أمران سيظهران على الناس.

أو هما ظاهران. يفتتن بهما الناس فيشيع بهما فيهم الفساد. ويتعرف فيهم الطغيان والاستكبار. وذيل الآية: (ونخوفهم مما يزيدهم إلا طغيانا كبيرا)،

____________

(1) سورة الإسراء: الآية 60.

(2) سورة الصافات: الآية 62 - 63.

(3) سورة المدثر: الآية 31.

(4) سورة التحريم: الآية 6.

الصفحة 215
يشير إلى ذلك ويؤيده. بل وصدر الآية أيضا يؤيده قال تعالى: (وإذ قلنا لك إن ربك أحاط بالناس وما جعلنا الرؤيا...)، والمعنى: واذكر التثبت فيما ذكرنا لك في هذه الآيات أن شيمة الناس والاستمرار في الفساد والفسوق. واقتداء أخلافهم بأسلافهم في الإعراض عن ذكر الله وعدم الاعتناء بآيات الله. وقد قلنا لك أن ربك أحاط بالناس علما. وعلم أن هذه السنة ستجري بينهم كما كانت تجرى ولم نجعل الشجرة الملعونة في القرآن التي تعرفها بتعريفنا. وما أريناك في المنام من أمرهم. إلا فتنة للناس، وقد أحطنا بالناس. (ونخوفهم فما يزيدهم إلا طغيانا كبيرا)، أي تخوف الناس فما يزيدهم التخويف إلا طغيانا ولا أي طغيان كان. بل طغيانا كبيرا. أي إنهم لا يخافون من تخويفنا حتى ينتهوا عما هم عليه بل يجيبوننا بالطغيان الكبير. فهم يبالغون في طغيانهم ويفرطون في عنادهم مع الحق.

وذكر غير واحد من المفسرين أن الله تعالى في هذه الآية يعزي نبيه صلى الله عليه وسلم. بأن الذي أراه من الأمر وعرفه من الفتن. قد جرت عليه سنة الله فهو سبحانه يمتحن عباده بالمحن والفتن. ويؤيد هذا ما ورد من أحاديث بأن المراد بالرؤيا في الآية. هي رؤيا رآها النبي صلى الله عليه وسلم في بني أمية. والشجرة شجرتهم. أما القول بأن الشجرة الملعونة هي شجرة الزقوم. فلا معنى له. لأنه لا ذنب للشجرة. وهل وجودها في أصل الجحيم عقابا للظالمين يستحق اللعن. كيف؟ والذي سيسوق الظالمين إليها ملائكة لا يعصون الله. ويفعلون ما أمرهم به الله. أما الرؤيا التي أراها الله لرسوله فعن الحسن قال: فرأى رسول الله صلى الله عليه وسلم بني أمية يخطبون على منبره رجلا رجلا فساءه ذلك... " (1)، وروى أبو بكر ابن خيثمة عن سعيد بن المسيب في قوله: " وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس "، قال:

____________

(1) رواه الحاكم وأقره الذهبي (المستدرك 171 / 3) وقال ابن كثير رواه الترمذي عن القاسم بن الفضل وقد وثقه يحيى بن سعيد وغيره، ورواه ابن جرير والحاكم والبيهقي (البداية 243 / 6).