الصفحة 319
وسلم وهو الذي أنزل عليه قوله تعالى: (كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف حقا على المتقين) (1)، وقوله: (يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين)، إلى قوله تعالى:

(تلك حدود الله ومن يطع الله ورسوله يدخله جنا تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك الفوز العظيم * ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا خالدا فيها وله عذاب مهين) (2)، والآيات هنا عامة يدخل فيها النبي صلى الله عليه وسلم وغيره. بدليل أن الآية لم تستثن أحدا. كيف نسلم بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكتب وصيته ويقول فيها: " لا نورث ". وكيف يبين النبي صلى الله عليه وسلم هذا الحكم لغير الأقربين ويكتمه عن الأقربين وهم ورثته.

وكيف يظل علي والعباس وفاطمة على كلمة واحدة يكذبون رواية نحن معاشر الأنبياء لا نورث، ويقولون أنها مختلفة. بينما يزعم عمرو وأبو بكر أن عليا والعباس في قصة الميراث زعما هما كاذبين ظالمين فاجرين. وما رأينا عليا والعباس اعتذرا ولا تنصلا ولا رأينا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أنكروا عليه ما حكاه عمر عنهما ونسبه إليهما (3). إن هذا التضارب فتح الأبواب للقيل والقال. ومما قيل: قيل لرجل من قرية تسمى الحلة بين الكوفة والبصرة:

ما تظن قصد أبي بكر وعمر بمنع فاطمة فدك؟ ما قصدا؟ قال: أرادا ألا يظهرا لعلي - بعد السقيفة - رقة ولينا وخذلانا ولا يرى عندهما خورا. فأتبعاه القرح بالقرح. وقيل لآخر من بلدة تسمى بليدة في سواد الكوفة: وهل كانت فدك إلا نخيلا يسيرا وعقارا ليس بذلك الخطير؟ فقال: ليس الأمر كذلك بل كانت جليلة جدا وكان فيها من النخل ما بالكوفة الآن من النخل. وما قصد أبو بكر وعمر

____________

(1) قال في تحفة الأحوازي: وحتى الاستشكال أن أصل القصة صريح في أن العباس وعليا قد علما بأنه صلى الله عليه وآله قال: لا نورث. فإن كان سمعاه من النبي فكيف يطلبانه من أبي بكر أو في زمنه فكيف يطلبانه بعد ذلك من عمر (تحفة الأحوازي 235 / 5).

(2) سورة النساء 11 - 14.

(3) قال السندي في شرح البخاري: كي يجئ منهما تكذيب أبي بكر فيما روي عن النبي أنه صديق هذه الأمة (البخاري شرح السندي 16 / 3).

الصفحة 320
بمنع فاطمة عنها إلا ألا يتقوى علي بن أبي طالب بحاصلها وغلتها على المنازعة في الخلافة. ولهذا اتبعا ذلك بمنع فاطمة وسائر بني هاشم وبني المطلب حقهم في الخمس. فإن الفقير الذي لا مال له تضعف همته ويتصاغر عند نفسه. ويكون مشغولا بالاحتراف والاكتساب عن طلب الملك والرياسة. وهكذا ضاعت فدك.

وضاع سهم ذي القربى الذي نص عليه كتاب الله روى أبو داوود أن نجدة الحروري حين حج في أيام ابن الزبير. أرسل إلى ابن عباس يسأله عن سهم ذي القربى ويقول لمن تراه؟ قال ابن عباس: لقربى رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وقد كان عمر عرض علينا من ذلك عرضا رأيناه دون حقنا فرددناه عليه وأبينا أن نقلبه (1).

وترتب على ذلك فيما بعد اختلاف العلماء في الغنائم وكيف توزع (2)، واختلفوا في الفئ والخمس (3) إلى غير ذلك وجميع هذه الاختلافات أصلها مصادرة الدولة لنحلة الرسول وإرثة وسهم ذي القربى، وهذه الاختلافات ولدت فيما بعد الاختلاف الأعظم في معرفة أهل البيت. وخصوصا عندما أمر عمر بن الخطاب بعدم رواية الحديث. فعندئذ اختلف عامة المسلمين في أهل البيت.

فمن عاكف عليهم هائم بهم ومن معرض عنهم لا يعبأ بأمرهم ومكانتهم من علم القرآن. أو مبغض شانئ لهم. وقد وصاهم النبي صلى الله عليه وسلم بما لا يرتاب في صحته ودلالته مسلم أن يتعلموا منهم ولا يعلموهم وهم أعلم منهم بكتاب الله. وذكر لهم أنهم لن يغلطوا في تفسيره ولن يخطئوا في فهمه - ولكن الوصايا لم تذاع وفقا للمصلحة العامة. حيث كان العديد من الدوائر يتربص بالإسلام والمسلمين.

وإن أردت العجب فلك أن تعجب إذا علمت أن مصير فدك بعد سنوات قليلة من منعها عن ريحانة رسول الله صلى الله عليه وسلم فاطمة الزهراء - قد

____________

(1) سنن أبو داوود، حديث رقم 2982.

(2) تحفة الأحوازي 223 / 5.

(3) تحفة الأحوازي 383 / 5.

الصفحة 321
أصبح في جعبة مروان بن الحكم الذي لعن الرسول أباه وهو في صلبه. قال في الفتح الرباني: فلما كان عهد عثمان. تصرف في فدك بحسب ما رأى فأقطعها لمروان. لأنه تأول أن الذي يختص به النبي صلى الله عليه وسلم يكون للخليفة بعده فوصل بها بعض أقاربه (1)، إنها التركة التي لغير وارث ومن العجيب أن الحكام فيما بعد كانوا يعتبرون التركة من غير وارث ليستولوا عليها. روي أنه في القرن الثالث الهجري انشئ ديوان خاص يسمى ديوان المواريث وذلك في عهد الخليفة المعتمد (256 - 279 ه‍)، وكان هذا الديوان مجالا واسعا لظلم الناس والإعنات في مواريثهم وأخذ ما لم تجز به السنة (2). يقول ابن المعتز قرب أواخر القرن الثالث يشكو ما يجري على أصحاب المواريث.

وويل لمن مات أبوه موسرا * أليس هذا محكما شهرا
وطال في دار البلاء سجنه * وقيل من يدري بأنك ابنه
فقال: جيراني ومن يعرفني * فنتفوا سباله حتى فنى
واسرفوا في لكمه ودفعه * وانطلقت أكفهم في صفعه
ولم يزل في ضيق الحبوس * حتى رمى لهم بالكيس (3)

وكان سيف الدولة يأخذ المواريث أخذا رسميا ففي عام (333 ه‍) عين ابن عبد الملك الرقي قاضيا على حلب فكان هذا القاضي يصادر التركات ويقول:

التركة لسيف الدولة. وليس لي إلا أخذ الجعالة وكان كثير من الحكام يحاولون أن يعتبروا التركة من غير وارث ليستولوا عليها (4)، ونعود إلى حيث ابتدأنا فنقول: إن فاطمة الزهراء كانت مصيبة فيما ادعته. ولم تكن فاطمة في حاجة إلى شهادة وبينة. لأنها بنص الآية: (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا)، معصومة. والآية تناولت جماعة منهم فاطمة بما تواترت الأخبار في ذلك. وهي أيضا بنص الحديث " فاطمة بضعة مني من آذاها فقد

____________

(1) الفتح الرباني 263 / 21.

(2) الحضارة الإسلامية / آدم متز 217 / 1.

(3) المصدر السابق 217 / 1.

(4) المصدر السابق 218 / 1.

الصفحة 322
آذاني ومن آذاني فقد آذى الله عز وجل " معصومة. لأنها لو كانت ممن تقارف الذنوب لم يكن من يؤذيها مؤذيا له على كل حال. بل إن إقامة الحد عليها إن كان صدر منها فعل يقتضي ذلك أيكون سارا له ومطيعا. ولأنها بعيدة عن كل هذا كان من آذاها فقد آذاه ولا خلاف بين المسلمين في صدقها فيما ادعته. لأن أحدا لا يشك أنها تدعي ما ادعته كاذبة، وليس بعد: لا تكون كاذبة إلا أن تكون صادقة. ولقد قال البعض عن الفعل الأصح الذي كان يجب أن يكون: قد كان الأجمل أن يمنعهم التكرم مما ارتكبا منها فضلا عن الدين وقال ابن أبي الحديد في تعليقه على هذا القول المفيد: وهذا الكلام لا جواب عنه. ولقد كان التكرم ورعاية حق رسول الله صلى الله عليه وسلم وحفظ عهده يقتضي أن تعوض ابنته بشئ يرضيها. إن لم يستنزل المسلمون عن فدك وتسلم إليها تطييبا لقلبها. وقد يسوغ للإمام أن يفعل ذلك من غير مشاورة المسلمين إذا رأى المصلحة فيه. وقد بعد العهد الآن بيننا وبينهم ولا نعلم حقيقة ما كان وإلى الله ترجع الأمور.

3 - تساؤلات على الطريق:

إذا تحدثنا عن الزهراء نجد أنفسنا أمام أسئلة حائرة تبحث لها عن أجوبة.

من هذه الأسئلة: هل بايعت فاطمة الزهراء أبا بكر؟ والإجابة التي نجدها في البخاري وغيره من حديث عائشة عندما أبى أبو بكر أن يعطي فاطمة ما سألت:

أن فاطمة غضبت وهجرت أبا بكر فلم تول مهاجرته حتى توفيت. وعند البخاري: أن عليا دفنها ولم يخبر أبو بكر بموتها (1). وعلى هذه الإجابة نقول:

كيف يستقيم موقف الزهراء مع الحديث الصحيح: " من فارق الجماعة شبرا فمات إلا مات ميتة جاهلية " (2)، وحديث: " من خرج من السلطان شبرا مات

____________

(1) البخاري (الصحيح 56 / 3) ك المغازي.

(2) صحيح البخاري (الصحيح 222 / 4) ك الفتن.

الصفحة 323
ميتة جاهلية " (1)، هل كانت الزهراء مفارقة للجماعة؟ كيف؟

وبخصوص علي بن أبي طالب. فلقد روى البخاري ومسلم " كان لعلي بن الناس وجهه حياة فاطمة. فلما توفيت استنكر على وجوه الناس فالتمس مصالحة أبي بكر ومبايعته ولم يكن بايع تلك الأشهر فأرسل إلى أبي بكر أن ائتنا ولا يأتنا معك أحد كراهية محضر عمر بن الخطاب. فقال عمر لأبي بكر: والله لا تدخل عليهم وحدك! فقال أبو بكر، وما عساهم أن يفعلوا بي وإني والله لآتينهم فدخل عليهم أبو بكر " (2)، قال المفسرون: إنه كان لعلي من الناس وجه حياة فاطمة.

أي وجه وإقبال في مدة حياتها. وقيل: وجه من الناس حياة فاطمة أي جاه وعز فقدهما بعدها. وبعد وفاة فاطمة استنكر على وجوه الناس أي لم يعجبه نظرهم إليه. فأرسل إلى أبي بكر أن ائتنا ولا يأتنا معك أحد قال المفسرون: أي لئلا يحضر معه من يكره حضوره وهو عمر بن الخطاب لما علم من شدته وصدعه بما يظهر له فخاف هو ومن معه ممن تخلف عن البيعة أن ينتصر عمر لأبي بكر فيصدر عنه ما يوحش صدورهم على أبي بكر بعد أن طابت وانشرحت له. أما قول عمر: لا تدخل عليهم وحدك فمن خوفه أن يغلظوا على أبي بكر في العتاب ويحملهم على الاكثار من ذلك. لين عريكة أبي بكر وصبره عن الجواب.

وبين استنكار وجوه الناس وبين الخوف من غلظة عمر كما قال المفسرون روى البخاري ومسلم: " فقال علي لأبي بكر موعدك العشية للبيعة " (3)، ويبقى السؤال: هل يوجد دليل واحد يقول بأن عليا يستمد الجاه والعز من وجوه الناس وهو الذي أطاح برقاب الجبابرة على امتداد حياته. وعاش مظلوما ومات مظلوما. وما هو وزن بيعة مدخلها إرضاء الناس. ثم إذا كان الناس قد انفضوا من حول علي فلماذا خاف عمر على أبي بكر أن يدخل عليهم وحده. وأي عتاب

____________

(1) صحيح البخاري (الصحيح 222 / 4) ك الفتن.

(2) صحيح مسلم (154 / 5 باب قول النبي لا نورث)، البخاري (الصحيح 55 / 3) ك المغازي.

(3) صحيح مسلم (154 / 5 ط دار التحرير)، البخاري (الصحيح 55 / 3) ك المغازي.

الصفحة 324
هذا الذي كان الفاروق يخشاه على أبي بكر؟

ثم نعود إلى حديث من فارق الجماعة شبرا فمات إلا مات ميتة جاهلية فنقول. ألم يعلم علي بهذا الحديث؟ فإذا كان قد بايع بعد وفاة الزهراء. فهل كان علي يعلم أنه سيعيش إلى ما بعد أبي بكر فتأخر عن بيعته تلك الشهور الستة، ولقد لعن النبي صلى الله عليه وسلم والمسوفون الذين يقولون سوف أعمل غدا كذا وكذا ثم يأتيهم الموت على شر ولم يعملوا شيئا. إن هذه أسئلة. ولقد بعد العهد الآن بيننا وبينهم ولا نعلم حقيقة ما كان وإلى الله ترجع الأمور.


الصفحة 325

ثالثا - التعتيم والظهور

لا جدال في أن الفاروق رضي الله عنه هو الذي وضع الأعمدة الأساسية للمجتمع المدني بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، وعمر بن الخطاب هو صاحب أروع منهج لفهم النصوص الدينية فهما يساير الواقع ويحقق مصلحة المسلمين العامة. وما قدمه الفاروق بجميع المقاييس عملا جريئا للغاية لا يقدر عليه سوى رجل من طراز عمر وقليل ما تجد. ونحن هنا سنسلط الأضواء على بعض هذه الأعمال الأساسية. ولكن في البداية نلقي نظرة على كيفية تولية عمر بن الخطاب الخلافة:

روى الطبري: دعا أبو بكر عثمان خاليا فقال له: اكتب بسم الله الرحمن الرحيم. هذا ما عهد أبو بكر بن أبي قحافة إلى المسلمين. أما بعد: ثم أغمي عليه. فذهب عنه فكتب عثمان. أما بعد: فإني قد استخلفت عليكم عمر بن الخطاب ولم ألكم خيرا. ثم أفاق أبو بكر. فقال: إقرأ علي فقرأ عليه. فكبر أبو بكر وقال: أراك خفت أن يختلف الناس إن افتلتت نفسي في عشيتي. قال:

نعم، قال: جزاك الله خيرا عن الإسلام وأهله. وأقرها رضي الله عنه من هذا

الصفحة 326
الموضع (1).

وفي رواية: إن أبا بكر أخذ رأي عثمان وعبد الرحمن بن عوف في عمر وكان رأيه من رأيهما أن عمرا خير من يصلح لهذا الأمر. وفي رواية: أن أبا بكر بعد أن استقر على عمر أعلن للناس أن يسمعوا له ويطيعوا.

وقبل أن يعلن أبو بكر اسم الخليفة من بعده، روى الطبري عن قيس قال:

رأيت عمر بن الخطاب وهو يجلس والناس معه وبيده جريدة وهو يقول: أيها الناس اسمعوا وأطيعوا قول خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال قيس:

ومعه مولى لأبي بكر يقال له شديد معه الصحيفة التي فيها استخلاف عمر (2)، ويا ليت الفاروق قال ذلك يوم أن أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يأتوه بصحيفة ليكتب لهم كتابا لا يضلوا بعده أبدا. ورحل أبو بكر رضي الله عنه وجاء عمر وكان قبل الخلافة على القضاء أيام خلافة أبي بكر كلها (3)، وعلى امتداد هذه المسيرة والشئ الذي يدعو للدهشة أن ظروف المجتمع التي حتمت إلغاء سهم ذي القربى على مراحل. ضيقت في الوقت نفسه على رواية الحديث ليتم إلغائها أيضا على مراحل. ومما يدعو للإعجاب بشكل مساو للدهشة أن سهم المؤلفة قلوبهم الذي جعله الله تعالى علامة يتميز بها ضعاف الإيمان والذين في قلوبهم مرض. ثم تخفيف القبضة عنه ليتم إلغائه أيضا على مراحل. والشئ الذي يدعو للدهشة والإعجاب معا أن هذه الأمور سارت جنبا إلى جنب. الجميع نالوا جرعة واحدة لم يتميز طريق على طريق. وفي النهاية خرجت شجرة كل فرع فيها يداعبه النسيم ليخرج صوتا موسيقيا وفي النهاية تستمع إلى سمفونية يسري صداها في عالم الفتن.

1 - التضيق على رواية الحديث الشريف:

لا غنى للكتاب عن السنة. فلولا السنة ما عرفنا مجملات القرآن. والقرآن

____________

(1) الطبري 52 / 4.

(2) رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح (الزوائد 184 / 5) ورواه الطبري (52 / 4).

(3) الطبري 377 / 3.

الصفحة 327
الكريم يتعرض بمنطقة في سنته المشروعة لجميع شؤون الحياة الإنسانية من غير أن يتقيد بقيد أو يشترط بشرط، ما يحكم على الإنسان منفردا أو مجتمعا، صغيرا أو كبيرا، ذكرا أو أنثى، على الأبيض والأسود، والعربي والعجمي، والحاضر والبادي، والعالم والجاهل، والشاهد والغائب، في أي زمان كان وفي أي مكان كان، ويداخل كل شأن من شئونه من اعتقاد أو خلق أو عمل من غير شك.

فللقرآن اصطكاك من جميع العلوم والصناعات المتعلقة بأطراف الحياة الإنسانية، ومن الواضح اللائح من خلال آياته النادبة إلى التدبر والتفكر والتذكر والتعقل أنه يحث حثا بالغا على تعاطي العلم ورفض الجهل في جميع ما يتعلق بالسماويات والأرضيات والنبات والحيوان والإنسان من أجزاء عالمنا وما وراءه من الملائكة والشياطين واللوح والقلم وغير ذلك ليكون ذريعة إلى معرفة الله سبحانه، وما يتعلق نحوا من التعلق بسعادة الحياة الإنسانية الاجتماعية من الأخلاق والشرائع والحقوق وأحكام الاجتماع. والقرآن اعتبر في بيان مقاصده السنة النبوية. وعين للمسلمين الأسوة في رسول الله صلى الله عليه وسلم. فكان المسلمون يحفظون عنه ويقلدون مشيته العلمية تقليد المتعلم معلمه في السلوك العلمي (1).

فلولا السنة ما عرفنا مجملات القرآن ولا اكتشفنا الكثير من أسراره وغوامضه. هذا بالإضافة إلى الكثير من الحوادث التي لم ينص عليها القرآن باسمها ووصفها وتركها للرسول صلى الله عليه وسلم الذي ائتمنه على وحيه وحمله مسؤولية الأداء والتبليغ والتفسير وبيان ما اشتبه حكمه وخفي على المسلمين وجهه فقال تعالى: (وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم) (2)، وقال: (وما أنزلنا عليك الكتاب إلا لتبين لهم الذي اختلفوا فيه) (3)، وأوجب القرآن على المسلمين النزول على حكمه صلى الله عليه وسلم

____________

(1) الميزان 271 / 5.

(2) سورة النحل: الآية 44.

(3) سورة النحل: الآية 64.

الصفحة 328
في كل خلاف يحدث بينهم قال تعالى: (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما) (1)، وأكد عليهم أن يرجعوا إلى النبي في أمور دينهم وحثهم على الاستجابة لما يدعوهم فقال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم).

فمما سبق نعلم أنه لا غنى للكتاب عن السنة ولا وجه للسنة إلا الكتاب.

وكان النبي صلى الله عليه وسلم يحث على تبليغ حديثه ويحذر من الكذب عليه.

قال صلى الله عليه وسلم: " ليبلغ الشاهد الغائب فإن الشاهد عسى أن يبلغ من هو أوعى له منه " (2)، قال النووي: فيه تصريح بوجوب نقل العلم وإشاعة السنن والأحكام. وقال المهلب: فيه أنه سيأتي في آخر الزمان من يكون له من الفهم في العلم ما ليس لمن تقدم، وقال ابن سيرين: وقد كان ذلك. قد كان بعض من بلغه أوعى له من بعض من سمعه (3)، والعلم ما بلغ أهله وأصحابه إلا من بعد عصر التدوين. أما قبل ذلك فكان للناس مع الحديث شؤون. ولقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن هذه الفترة من الزمان وهو يخبر بالغيب عن ربه فقال:

" ألا أني أوتيت القرآن ومثله معه ألا يوشك رجل شبعان على أريكته يقول:

عليكم بهذا القرآن. فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه وما وجدتم فيه من حرام فحرموه " (4).

والرجل الشبعان على أريكته الذي جاء ذكره في الحديث هو من استوى قاعدا على وطاء متمكنا. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: " لألفين

____________

(1) سورة النساء: الآية 65.

(2) رواه البخاري كتاب العلم (الصحيح 23 / 1) وأحمد ورجاله ثقات (الفتح الرباني 276 / 21) وقال النبي هذا في حجة الوداع.

(3) (الفتح الرباني 276 / 11).

(4) رواه أحمد وإسناده جيد وقال في نيل الأوطار حديث صحيح ورواه أبو داود عن المقدام بن معد يكرب (الفتح الرباني 191 / 1) (كنز العمال 174 / 1) أبو داود حديث رقم 4604.

الصفحة 329
أحدكم متكئا على أريكته يأتيه الأمر من أمري مما أمرت به أو نهيت عنه فيقول:

لا أدري ما وجدناه في كتاب الله اتبعناه (1)، وقال لهم: " يوشك أحدكم أن يكذبني وهو متكئ على أريكته. يحدث بحديث من حديثي فيقول. بيننا وبينكم كتاب الله. فما وجدنا فيه من حلال استحللناه وما وجدنا فيه من حرام حرمناه ألا وإن ما حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل ما حرم الله (2).

وفي مرحلة من مراحل الدعوة كان بعض الصحابة يحرصون على حفظ الحديث ونقله. وهذا الحرص منعهم عن تمحيصه والتدبر في معناه وخاصة في عرضه على كتاب الله وهو الأصل الذي تبنى عليه بنية الدين وتستمد منه فروعه.

فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بعدم الرواية عنه والرجوع إليه في أمور دينهم وفي حجة الوداع وبعد أن اكتمل البناء بحمل أهل البيت لسنته صلى الله عليه وسلم. أمر عليه الصلاة والسلام بأن يروي الناس عنه. وأشار إلى أن يتعلم المسلمون من أهل البيت ولا يعلموهم لأنهم أعلم منهم بكتاب الله وذكر أنهم لن يغلطوا في تفسيره ولن يخطئوا في فهمه وإنهم والكتاب لن يفترقا حتى يردا على الحوض.

وبعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم وجد أبو بكر رضي الله عنه أن العديد من الصحابة يبالغ في رواية الحديث فضيق الحلقة على الرواية. وعندما تولى عمر رضي الله عنه الخلافة روى مالك: أن عمر أراد أن يكتب الأحاديث. أو كتبها. ثم قال: لا كتاب مع كتاب الله (3)، ثم ضيق على الرواية فعن قرظة بن كعب قال، قال عمر: أقلوا الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا

____________

(1) رواه أحمد والترمذي وأبي داود وابن ماجة والحاكم عن أبي رافع وقال الترمذي حديث صحيح (الجامع 37 / 5)، (كنز العمال 174 / 1).

(2) رواه أحمد والترمذي وحسنه والحاكم (الجامع 38 / 5) (الفتح الرباني 191 / 1).

(3) ابن عبد البر (كنز العمال 292 / 10).

الصفحة 330
شريككم (1)، وقال ابن كثير: إن عمر كان يقول اشتغلوا بالقرآن فإن القرآن كلام الله ولهذا لما بعث أبا موسى إلى العراق قال له: إنك تأتي قوما لهم في مساجدهم دوي بالقرآن كدوي النحل فدعهم على ما هم عليه ولا تشغلهم بالأحاديث. وأنا شريكك في ذلك. وقال ابن كثير: هذا معروف عن عمر رضي الله عنه (2).

ثم بدأ عمر يضيق الدائرة حتى أنه كان يحبس من يروي. فعن سعد بن إبراهيم عن أبيه أن عمر بن الخطاب قال لابن مسعود ولأبي الدرداء ولأبي ذر ما هذا الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأحسبه حبسهم حتى أصيب (3)، وعن السائب بن يزيد قال: سمعت عمر يقول لأبي هريرة: لتتركن الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أو لألحقنك بأرض دوس (4)، وروي عن عبد الرحمن بن عوف قال: والله ما مات عمر حتى بعث إلى أصحاب محمد صلى الله عليه وآله فجمعهم من الآفاق: عبد الله بن حذافة، وأبا الدرداء، وأبا ذر، وعقبة بن عامر، فقال: ما هذه الأحاديث التي أفشيتم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الآفاق: قالوا: أتنهانا. قال: لا. أقيموا عندي. لا والله لا تفارقوني ما عشت (5)، وروى ابن عبد البر: كتب عمر في الأمصار من كان عنده شئ من ذلك فليمحه (6).

____________

(1) رواه الحاكم وقال حديث صحيح (المستدرك 102 / 1) الطبري 19 / 5.

(2) ابن كثير في البداية والنهاية 107 / 8، وقال بن حبان في المجروحين رواه ابن ماجة والحاكم وله طرق (المجروحين 36 / 1).

(3) رواه الحاكم وقال صحيح على شرط الشيخين وإنكار عمر على الصحابة كثرة الرواية فيه سنة ولم يخرجاه (المستدرك 110 / 1) ورواه ابن سعد في الطبقات (336 / 2) وابن حبان في كتابه المجروحين (35 / 1).

(4) رواه ابن عساكر (كنز العمال 291 / 10).

(5) رواه ابن عساكر (كنز العمال 293 / 10) وابن حبان في كتابه المجروحين (35 / 1).

(6) رواه ابن عبد البر وأبو خيثمة معا في العلم (كنز العمال 292 / 10).

الصفحة 331
وترتب على ما سبق خوف الصحابة من الرواية كان أبو هريرة يقول: إني لأحدث أحاديث لو تكلمت بها في زمان عمر أو عند عمر لشج رأسي (1)، وقال: أفكنت محدثكم بهذه الأحاديث وعمر حي. أما والله إذا لأيقنت أن المحففة ستباشر ظهري (2)، وقال: " ما كنا نستطيع أن نقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قبض عمر (3).

وقيل إن عدم الرواية كان حفظا للقرآن وخوفا من أن يتداخل الحديث مع القرآن، ولا يخفى ما في هذا القول من تساهل كبير. لأن القرآن إعجاز لو اجتمعت الإنس والجن كي يضعوا فيه ما ليس منه ما استطاعوا. ولا يصدق عاقل أن يقرأ إنسان نصف آية ثم يكملها بحديث أو نصف حديث. ويقول هذا من كتاب الله. فقول مثل هذا لا يلتفت إليه. لقد وضع عمر مبدأ عدم الرواية. ولكن نشأ عنه آثار جانبية مثل التي تنشأ عن الدواء الذي يستخدم في علاج داء معين ومن جملة تلك الآثار الجانبية تمسك بعض من الصحابة بمبدأ عمر في وقت كانت الرواية فيه بمثابة عودة الروح للجسد، ومن الأمثلة على ذلك. عن محمود بن لبيد قال: سمعت عثمان بن عفان على المنبر يقول: لا يحل لأحد يروي حديثا لم يسمع به في عهد أبي بكر ولا عهد عمر (4)، ثم جاء معاوية بن أبي سفيان فقال: أيها الناس أقلوا الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وآله وإن كنتم تحدثون فحدثوا بما كان يتحدث به في عهد عمر (5)، ثم جاء عمر بن العاص ليشهد ويقسم. فقال: أشهد لسمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: ما أقرأكم عمر فاقرؤا وما أمركم به فائتمروا (6)، ولا يخفى أن المسافة من عثمان إلى معاوية كنت في حاجة إلى أحاديث وأحاديث.

____________

(1) ابن كثير في البداية (107 / 8).

(2) ابن كثير في البداية (107 / 8).

(3) ابن كثير في البداية (107 / 8).

(4) ابن سعد (الطبقات 336 / 2) ابن عساكر (كنز العمال 295 / 10).

(5) ابن عساكر (كنز العمال 291 / 10).

(6) ابن عساكر (كنز 593 / 12).

الصفحة 332
ومن الآثار الجانبية لمبدأ عدم الرواية. أن هناك أنماطا بشرية لعنهم رسول الله وحذر منهم وطرد بعضهم فهؤلاء ضاع من عليهم التحذير. ومع مرور الأيام نسي الناس ما روي فيهم. فتقلدوا مراكز الصدارة في فترة من الفترات.

ولقد حاول هؤلاء التعتيم على الرواية في العهد النبوي ولكن الرسول أمر بالرواية ورد كيدهم في نحورهم، فعن عبد الله بن عمرو قال: قالت لي قريش تكتب عن رسول الله صلى الله عليه وآله!! وإنما هو بشر يغضب كما يغضب البشر.

فأتيت رسول الله صلى الله عليه وآله فقلت: إن قريشا تقول تكتب عن رسول الله وإنما هو بشر يغضب كما يغضب البشر. قال: فأومأ لي النبي صلى الله عليه وآله وسلم شفتيه. وقال: والذي نفسي بيده ما يخرج ما بينهما إلا حق فاكتب " (1)، وقولهم: يغضب كما يغضب البشر فيه أنهم كانوا يعنون أحاديث بعينها. وعلى هذا لا يستغرب أن يصر عثمان ومعاوية وعمرو على رواية أحاديث خضعت لفقه عدم الرواية.

ومن الآثار الجانبية أن عدم الرواية أدى إلى نسيان الصحابة وتركهم رواية الحديث، فعن ابن أبي أوفى قال: كنا إذا آتينا زيد بن أرقم فنقول حدثنا عن رسول الله صلى الله عليه وآله قال: كبرنا ونسينا (2)، وروي عن ابن عباس قال: كنا نحدث عن رسول الله صلى الله عليه وآله إذا لم يكذب عليه فلما ركب الناس الصعب والذلول تركنا الحديث عنه (3).

ومن آثاره إفساح المجال للقص في المساجد ثم دخول الأحاديث الموضوعة بعد ذلك. ومن آثاره التعتيم على أهل البيت في مرحلة. وقتلهم في مرحلة وتشويههم في مرحلة. وفيما نظن أن الفاروق لو كان يعلم أن مبدأه

____________

(1) رواه الحاكم وقال حديث صحيح الإسناد أصل في نسخ الحديث عن رسول الله ولم يخرجاه (المستدرك 105 / 1) ورواه أبو داود حديث 3646.

(2) ابن عساكر (كنز العمال 194 / 10).

(3) رواه ابن حبان في كتابه المجروحين (38 / 1).

الصفحة 333
سيترتب عليه آثار جانبية. لعدل عنه وجمع العديد من الصحابة العدول الثقاة وأمرهم بكتابة الأحاديث الصحيحة لتكون منارا لمن يأتي بعدهم ولقطع بذلك الطريق على الوضاعين والذين فرقوا الأمة شيعا وأحزابا. ولسد المنافذ على الذين التمسوا لمبدأه الأعذار وقالوا: إن منع الرواية كان من أجل أن لا يزاحم الحديث القرآن لأن في هذا القول من التشكيك ما لا يخفى.

2 - من آثار عدم رواية الحديث:

كان عدد من أهل الكتاب قد دخلوا في الإسلام وأخذ عنهم المحدثون فيما بعد شيئا كثيرا من أخبار كتبهم وقصص أنبيائهم وأممهم فخلطوها بما كان عندهم من الأحاديث المحفوظة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأخذ الوضع والدس يدوران في الأحاديث. ويوجد اليوم في الأحاديث المقطوعة المنقولة من الصحابة ورواتهم في الصدر الأول شئ كثير من ذلك يدفعه القرآن بظاهر لفظه:

وإذا أردنا أن نضع أيدينا على البداية. فلا بد من البحث في مساحة عدم الرواية لنرى أين الوتر الذي تعود إليه وإلى طابوره الأحاديث الموضوعة في صفات الله وأسمائه وأفعاله والزلات المنسوبة إلى الأنبياء الكرام والمساوئ المشوهة المنسوبة إلى النبي صلى الله عليه وسلم والخرافات في الخلق والإيجاد وقصص الأمم الماضية. والوتد الأساسي الذي نعتقد أنه الأساس في هذا البلاء هو القص وعليه نسلط الضوء.

أ - القص في المساجد:

القاص أو القصاص (والجمع قصاص) هو الرجل الذي كان يجمع الناس حوله في الطرقات أو في المساجد. فيعظهم حينا بذكر الأحاديث والأخبار ويسليهم بالقصص والحكايات حينا آخر. وهؤلاء كانوا مقربين من الخلفاء وكانوا يقومون مقام الصحف في أيامنا هذه لذا كان الإمام علي بن أبي طالب يقول

الصفحة 334
للقاص: أنت أبو اعرفوني (1).

وأقدم خبر للقص في صدر الإسلام ما رواه البخاري أن سعيد بن جبير قال لابن عباس: بالكوفة رجل قاص يقال له نوف البكالي يزعم أن موسى الذي اجتمع مع العبد الصالح بمجمع البحرين ليس بموسى بني إسرائيل. فقال ابن عباس: كذب عدو الله (2).

وبعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم وتضييق الرواية كانت الساحة مستعدة لاستقبال هؤلاء ليقوموا بالواجب الذي تقوم به صحافة أيامنا هذه.

وروى الإمام أحمد: كان أول من قص تميم الداري استأذن عمر بن الخطاب أن يقص على الناس قائما فأذن له " (3)، وعن السائب بن يزيد قال: إنه لم يكن يقص على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولا أبي بكر وكان أول من قص تميم الداري استأذن عمر أن يقص فأذن له " (4)، وتميم كان راهبا نصرانيا وأسلم في عهد النبي صلى الله عليه وسلم. ولم يعترض أحدا على القص أو لم يجتمعوا لترتيب أوراقهم بعد أن حذرهم النبي من أن القص علامة على طريق طويل. وذلك فيما رواه الطبراني: " إن بني إسرائيل لما هلكوا قصوا " (5)، ولكن الساحة رضيت بهذه الظاهرة التي يتثقف بها العامة. ثم جاءت نقطة التحول بدخول كعب الأحبار ساحة القص. وكعب كان على دين اليهود فأسلم في عهد عمر بن الخطاب وكان من المقربين إليه. قال ابن حبان مات كعب سنة أربع وثلاثين وقد بلغ مائة سنة وأربع سنين (6).

وكان أستاذ كعب الأحبار قد أسلم في عهد أبي بكر. وكان يدعى

____________

(1) رواه الدارمي والبيهقي والعسكري (كنز العمال 775 / 12).

(2) رواه البخاري ك التفسير (الصحيح 155 / 3).

(3) أحمد (الفتح الرباني 145 / 20).

(4) العسكري (كنز العمال 280 / 10).

(5) الفتح الرباني (194 / 1).

(6) راجع ترجمته بالإصابة 315، 316، 317 / 3، الطبقات الكبرى 445 / 7.

الصفحة 335
المسؤول فكناه أبو بكر أبا مسلم وروى عن معاوية (1). وكعب الأحبار نفسه عمل مستشارا لمعاوية وهو أمير على الشام. وذلك بعد أن ترك المدينة وتوجه إلى الشام وسكن حمص. وكعب هو الذي ألقى حب الخلافة في قلب معاوية في أثناء الثورة على عثمان بن عفان (2). وكان معاوية يقول: إن كعب الأحبار أحد العلماء (3)، وبدخول كعب إلى الساحة ظهر طابور طويل لم يكن قصدهم الدين بل تسلية العامة باختراع الأحاديث ونشرها بينهم. وتشويه القصص الدينية ووضعها في مربع الخرافات. وكانت الإسرائيليات وما يتصل بها مادة لقصصهم، وقد عملوا على نشرها. وكانوا لا يترددون عن الإجابة عن كل سؤال يوجه إليهم. لأن اعترافهم بالجهل كان من شأنه أن يزعزع ثقة العامة بهم. وبدأ كعب الأحبار يمارس عمل كعمل الصحافة في أيامنا هذه. وعلى سبيل المثال عن محمد بن سيرين أن كعب الأحبار قال لعمر بن الخطاب: يا أمير المؤمنين هل ترى في منامك شيئا؟! فانتهره. فقال: إنا نجد رجلا يرى أمر الأمة في منامه " (4)، وعن شداد بن أوس قال. قال كعب الأحبار: " كان في بني إسرائيل ملك إذا ذكرناه ذكرنا عمر وإذا ذكرنا عمر ذكرناه " (5)، وعن سالم بن عبد الله أن كعب الأحبار قال لعمر: إنا لنجد ويل لملك من ملك السماء فقال عمر: إلا من حاسب نفسه فقال كعب: والذي نفسي بيده إنها في التوراة لتابعتها (6).

ويبدو أن الساحة في هذه الآونة كانت على خلاف في تعريف من هو الخليفة ومن هو الملك. وكان هذا الأمر يشغل الفاروق، فعن سفيان بن أبي العوجاء قال: قال عمر: والله ما أدري أخليفة أنا أم ملك؟!، فإن كنت ملكا فهذا أمر عظيم. فقال قائل: يا أمير المؤمنين إن بينهما فرقا. قال: ما هو؟ قال:

____________

(1) الجرح والتعديل / الرازي 436 / 9.

(2) راجع البداية والنهاية 827 / 8، الكامل 79 / 3 وسيأتي ذلك في حينه.

(3) الإصابة 316 / 3.

(4) ابن المبارك وابن عساكر (كنز العمال 562 / 12).

(5) سدد وإسناده صحيح (كنز العمال 282 / 1).

(6) الدارمي والبيهقي والعسكري (كنز العمال 775 / 12).

الصفحة 336
الخليفة لا يأخذ إلا حقا ولا يضعه إلا في حق. فأنت بحمد الله كذلك. والملك يعسف الناس فيأخذ من هذا ويعطي هذا. فسكت عمر (1)، ويبدو أن سكون الفاروق يعبر على أن الإجابة ليست كاملة. لهذا سأل سلمان الفارسي: أملك أنا أم خليفة؟ فقال سلمان: إن أنت جبيت من أرض المسلمين درهما أو أقل أو أكثر. ثم وضعته في غير حقه فأنت ملك غير خليفة (2)، ويبدو أن هذه الإجابة تشير إلى الفئ وتقسيمه من طرف خفي. ثم طرح السؤال بعد ذلك على كعب الأحبار الذي نعتبره الجريدة الرسمية في هذه الآونة. فسأل عمر كعبا: أنشدك الله أتجدني خليفة أم ملك؟ قال: بل خليفة. فاستحلفه عمر. فقال: خليفة والله من خير الخلفاء وزمانك خير زمان (3).

وروى أن بعد فتح بيت المقدس كان كعب يرافق عمر. وعندما أراد عمر الصلاة قال لكعب: أين ترى أن أصلي؟ قال: إن أخذت عني! صليت خلف الصخرة فكانت القدس كلها بين يدك (4)، لقد كان كعب يريد من وراء ذلك أن تزاحم قبلة اليهود قبلة المسلمين. ولكن عمر تنبه إلى هذا فيما رواه الهيثم بن عمار قال: قال عمر لكعب حين أراد أن يبني المسجد: أين ترى أن نجعل المسجد؟ قال: اجعله خلف الصخرة فتجمع بين القبلتين قبلة موسى وقبلة محمد. فقال عمر، ضاهيت اليهودية والله يا أبا إسحاق. خير المساجد مقدمها فبناه في مقدم المسجد (5).

وفي ساحة حظرت الرواية لا يستغرب أن يسأل عمر كعب الأحبار: أخبرنا عن فضائل رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل مولده " (6)، وقوله: حدثني

____________

(1) ابن سعد (كنز العمال 567 / 12).

(2) ابن سعد (كنز العمال 567 / 12)، الطبري (تاريخ الأمم 34 / 5).

(3) نعيم ابن حماد في الفتن (كنز العمال 574 / 12).

(4) أحمد والضياء بسند صحيح (كنز العمال 143 / 14).

(5) ابن عساكر (كنز العمال 148 / 14).

(6) ابن عساكر (كنز العمال 364 / 12).

الصفحة 337
يا كعب عن جنات عدن (1)، إن فتح الباب أمام كعب ليدخل إلى السيرة النبوية وإلى الغيبيات يترتب عليه أمور وأمور. ومن فضل الله تعالى أنه جعل في الساحة من يتصدى لكعب. فعن عوف بن مالك أنه دخل المسجد يتوكأ على ذي الكلاع وكعب يقص على الناس فقال عوف لذي الكلاع: ألا تنهي ابن أخيك هذا عما يفعل (2)، وبلغ حذيفة أن كعبا يقول: إن السماء تدور على قطر كالرحا فقال:

كذب كعب (3).

وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يحب البحث عن نفسه في كتب أهل الكتاب. فعن الأقرع مؤذن عمر بن الخطاب قال: بعثني عمر إلى الأسقف فدعوته فقال له: هل تجدني في الكتاب؟! قال: نعم، قال: كيف تجدني؟ قال:

أجدك قرنا. فرفع عمر عليه الدرة وقال: قرن مه؟ قال الأسقف: قرن حديد أمين شديد (4)، وروى أن عبد الله بن سلام - كان يهوديا. أسلم في عهد النبوة - وكان عمر قد ذهب إليه ليسأله في معنى قفل جهنم. أن قال: يا أمير المؤمنين أخبرني أبي عن آبائه عن موسى بن عمران عن جبريل أنه قال: يكون في أمة محمد رجل يقال له عمر بن الخطاب. أحسن الناس دينا وأحسنهم يقينا ما دام بينهم الدين عال والدين فاش فجهنم مقفلة... إلخ " (5).

وإذا أردنا أن تزن ما سبق ونسأل هل أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذه الأحداث التي تعصف بالساحة؟ نقول: ربما تكون هناك إشارة في حديث رواه ابن عباس، قال: إن عمر بن الخطاب أتى النبي صلى الله عليه وسلم بكتاب أصابه من بعض أهل الكتاب. فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: " أمتهوكون (6) فيها يا ابن الخطاب. والذي نفسي بيده لقد جئتكم

____________

(1) ابن المبارك وأبو ذر الهواري في الجامع (كنز 561 / 12).

(2) الإصابة / ابن حجر (315 / 3).

(3) الإصابة (316 / 3).

(4) أبو داوود حديث رقم 4656، ابن أبي شيبة ونعيم ابن حماد (كنز العمال 559 / 3).

(5) ابن عساكر (كنز العمال 586 / 12).

(6) أي: أمتحيرون أنتم في الإسلام. وقيل: أترددون ساقطون لسان العرب ص 4722.

الصفحة 338
بها بيضاء نقية. لا تسألوهم عن شئ فيخبرونكم بحق فتكذبونه وبباطل فتصدقونه. والذي نفسي بيده لو أن موسى كان حيا ما وسعه إلا أن يتبعني " (1)، إن دخول معترك أهل الكتاب يكون بمعرفة مادتهم أولا ثم وزنها بميزان الإسلام ثم طرحها عليهم لتدمغهم الحجة. ولذلك نرى أن النبي صلى الله عليه وسلم. أمر زيد بن ثابت بأن يتعلم له كتب اليهود أولا ليكتب له ويقرأ له إذا كتب إليه. وغضب النبي صلى الله عليه وسلم عندما جاء عمر بكتاب أهل الكتاب. فيه إشارة خاصة ليتذكرها الذهن وتقوم بها الحجة. ولأنه صلى الله عليه وآله وسلم يعلم أن هذا سيقع لا محالة قال: " لتهوكون كما تهوكت اليهود والنصارى. لقد جئتكم بها بيضاء نقية لو كان موسى حيا ما وسعه إلا اتباعي " (2).

ومعالم التهوك يمكن أن يرصدها الباحث بسهولة، فالقصص يعتبر أكبر عقبة في سبيل التقدم. لأنه يصرف الناس عن الاشتغال بالعلوم الدينية وما يحقق سعادتهم في الدنيا والآخرة. وذلك لما له من تأثير قوي في الجماهير. وفي عصر بني أمية راج القص. فمعاوية أمر كعب الأحبار بأن يقص بالشام (3) وبعد كعب جاء وهب بن منبه. قال الذهبي عنه: أبو عبد الله اليماني صاحب القصص... ولد في آخر خلافة عثمان... كثير النقل من كتب الإسرائيليات.

كان يقول: قرأت بضعة وسبعين كتابا من كتب الأنبياء (4)، ولوهب أيضا تلاميذ.

وظل يتجول في بلاد المسلمين يبث فيها خرافاته وأساطيره إلى السنة التي مات فيها وهي سنة 114 ه‍ على أصح الأقوال (5). والحزب الأموي اعتنى بالقص كي يرفعهم القصاصون في عيون المسلمين نظرا لعدم وجود فضل لهم يرفعهم

____________

(1) رواه أحمد وابن ماجة (كنز 200 / 1) وابن أبي عاصم وحسنه الألباني وقال له طرق (كتاب السنة 27 / 1).

(2) رواه ابن حبان في صحيحه (كنز العمال 201 / 11).

(3) رواه الطبراني (الإصابة 316 / 3).

(4) ميزان الاعتدال 352 / 4.

(5) تاريخ الأدب العربي / بروكلمان 251 / 1.

الصفحة 339
على عهد النبي صلى الله عليه وسلم. وفي عهد بني أمية كان القصاصون يذكرون عليا وولده بما يطفئ نورهم ويكتم فضلهم. وذلك كله لحساب الحزب الحاكم. وروى عن غضيف بن الحرث قال: بعث إلي عبد الملك بن مروان فقال: قد جمعنا الناس على أمرين. قلت: وما هما؟ قال: رفع الأيدي على المنابر يوم الجمعة والقص بعد الصبح والعصر (1).

وعلى هذا الدرب اخترعت أحاديث. وتم الخلط بين الحقيقة والخيال.

روى ابن عساكر عن يزيد بن هارون قال: سمعت شعبة يقول: أبو هريرة كان يدلس. أي يروي ما سمعه من كعب وما سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يميز هذا من هذا (2)، ولم يقف الأمر عند أبي هريرة. بل تعداه إلى من سمع منه، روى الإمام مسلم عن بشر بن سعيد أنه قال: لقد رأيتنا نجالس أبا هريرة فيحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ويحدثنا عن كعب الأحبار ثم يقول. فاسمع بعضه من كان معنا يجعل حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كعب وحديث كعب عن رسول الله - وفي رواية - يجعل ما قاله كعب.

عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كعب (3). وسواء كان التدليس من أبي هريرة أم من الذين سمعوا منه. فإن كعب الأحبار هو محور الارتكاز.

إن طريق التهوك بعد أن فتح الباب أمام النص واضح ولا غبار عليه. ولقد ذم غير واحد من العلماء أثر القص على الحديث. قال ابن الجوزي: إن بعض البلاء يجري من القصاصين. قيل لواحد منهم: من أين حفظت هذه الأحاديث؟

قال: والله ما حفظتها ولا أعرفها بل في وقتي قلتها (4) وقال أبو حاتم: كان القصاصون يضعون الحديث في قصصهم ويرونها عن الثقات (5)، ولم يقف الأمر

____________

(1) رواه أحمد والبزار والطبراني وقال في الفتح الرباني إسناده جيد (الفتح 194 / 1).

(2) ابن عساكر (البداية والنهاية 409 / 8).

(3) مسلم (البداية والنهاية 109 / 8).

(4) الموضوعات / ابن الجوزي 44 / 1.

(5) المجروحين / ابن حبان (85 / 1).