الصفحة 421
ينبغي أن تكون له خائنة الأعين (1). وفي عهد عمر بن الخطاب ولاه عمر على صعيد مصر وفي عهد عثمان ضمت إليه مصر كلها بعد أن عزل عمرو بن العاص عنها. وأمره عثمان أن يغزو بلاد إفريقيا، فإن فتحها فله خمس الخمس من الغنيمة، فسار إليها في عشرة آلاف فافتتحها وقتل خلقا كثيرا من أهلها (2).

وعلى الرغم من أن خمس الخمس قد دخل جيبه إلا أنه فرض الضرائب على مصر حتى اشتكى أهلها. أما في الكوفة فقد اجتمع الناس وتذاكروا أعمال عثمان وما صنع، واجتمع رأيهم على أن يبعثوا إليه رجلا يكلمه، فأرسلوا إليه عامر بن قيس. فلما دخل عليه قال: إن ناسا من المسلمين اجتمعوا فنظروا في أعمالك فوجدوك قد ركبت أمورا عظاما، فاتق الله عز وجل وتب إليه. فقال عثمان: أنظر إلى هذا!! تكلمني في المحقرات، فوالله ما تدري أين الله. فقال عامر: بلى والله إني لأدري إن الله بالمرصاد لك (3). وعقب هذا اللقاء أرسل عثمان إلى معاوية بن أبي سفيان وإلي عبد الله بن أبي السرح وإلى سعيد بن العباس وإلى عمرو بن العاص وإلى عبد الله بن عامر، فجمعهم ليشاورهم. فلما اجتمعوا عنده قال لهم: إن لكل امرئ وزراء ونصحاء، وإنكم وزرائي ونصحائي وأهل ثقتي، وقد صنع الناس ما قد رأيتم، وطلبوا إلي أن أعزل عمالي، وأن أرجع عن جميع ما يكرهون إلى ما يحبون، فاجتهدوا رأيكم وأشيروا علي (4).

فماذا قال الذين تطالب الشعوب بعزلهم؟ قال عبد الله بن عامر: رأيي لك أن تأمرهم بجهاد يشغلهم عنك وأن تجمرهم في المغازي حتى يذلوا لك، فلا يكون همة أحدهم إلا نفسه... (5). فهذا الرأي جعل الجهاد سقفا له، وفي الميدان إما بقتل. وإما التصفية الجسدية، وأما الابقاء في ثغور العدو، أو

____________

(1) راجع أبو داود حديث 2666، أسد الغابة 259 / 3، البداية والنهاية 152 / 7، الإصابة 317 / 2، الإستيعاب 376 / 2.

(2) البداية والنهاية 152 / 7.

(3) الطبري 94 / 5، مروج الذهب 372 / 2.

(4) الطبري 94 / 5، مروج الذهب 372 / 2.

(5) الطبري 94 / 5، مروج الذهب 372 / 2.

الصفحة 422
الحبس في أرض العدو. وهذه أمور نهى عنها الشرع (1). أما سعيد بن العاص فقال: إن لكل قوم قادة متى تهلك يتفرقوا ولا يجتمع لهم أمر. فقال عثمان: إن هذا الرأي! لولا ما فيه (2)! أما معاوية فقال: الرأي أن تأمر أمراء أجنادك فيكفيك كل رجل منهم ما قبله وأكفيك أنا أهل الشام (3). لقد أراد معاوية أن تجري في الأمصار بحور الدماء، ولم لا وهم في أيديهم المال والسلاح والجند.

أما عبد الله ابن أبي السرح فقال: إن الناس أهل طمع فأعطهم من هذا المال تعطف عليك قلوبهم (4). وهذا الرأي يعني التلويح بالرغيف والزخرف لشراء الدين والنفوس. أما عمرو بن العاص فقال: إنك قد ركبت الناس بما يكرهون، فاعتزم أن تعتدل، فإن أبيت فاعتزم أن تعتزل، فإن أبيت فاعتزم عزما وامضي قدما. فقال عثمان: ما لك قمل فروك. أهذا الجد منك. فسكت عمرو. وعندما تفرق القوم قال: يا أمير المؤمنين قد علمت أنه سيبلغ الناس قول كل رجل منا، فأردت أن يبلغهم قولي فيثقوا بي فأقود إليك خيرا أو أدفع عنك شرا (5).

إن هذا الاجتماع الذي رواه غير واحد من أصحاب التاريخ. هو المقدمة الأولى التي قامت على عثمان فقرارات غرفة المشورة هذه أشعلت النيران لحسابها الخاص، وذلك بعد أن تمكن المال من نفوسهم، قال النبي صلى الله عليه وسلم: " لا تزال أمتي على الفطرة ما لم يتخذوا الأمانة مغنما والزكاة مغرما " (6). فأصحاب المشورة الذين شاورهم عثمان هم المقدمة الأولى لقيادة فاسدة الفطرة، لأن المال والجاه والترف هو رأس الزاوية لتحركاتهم. وروي أن عثمان بعد هذا الاجتماع قرر أن يضيق الأمراء على من قبلهم، وأن يجمروا الناس في البعوث، وعزم على تحريم أعطياتهم ليطيعوه ويحتاجوا

____________

(1) لسان العرب مادة حجر.

(2) الطبري 94، 95 / 5، مروج الذهب 372 / 2.

(3) الطبري 94، 95 / 5، مروج الذهب 372 / 2.

(4) الطبري 94، 95 / 5، مروج الذهب 372 / 2.

(5) الطبري 94، 95 / 5، مروج الذهب 372 / 2.

(6) رواه الضياء (كنز العمال 62 / 3).

الصفحة 423
إليه (1). ولم يمض عام 34 ه‍ حتى كتب أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعضهم إلى بعض: أن اقدموا فإن كنتم تريدون الجهاد فعندنا الجهاد، وكثر الناس على عثمان ونالوا منه أقبح ما نيل من أحد (2). وأمام هذه التحولات خطب عثمان في الناس: فقد والله عبتم علي بما أقررتم لابن الخطاب بمثله، ولكنه وطئكم برجله وضربكم بيده وقمعكم بلسانه، فدنتم له ما أحببتم أو كرهتم، ولنت لكم وأوطأت لكم كتفي ولقفت يدي ولساني عنكم فاجترأتم علي، أما والله لأنا أعز نفرا وأقرب ناصرا وأكثر عددا وأمن إن قلت هلم أتى إلي، ولقد أعددت لكم أقرانكم وأفضلت عليكم فضولا وكشرت لكم عن نابي، فكفوا عليكم وطعنكم وعيبكم على ولاتكم، فإني قد كففت عنكم من لو كان هو الذي يكلمكم لرضيتم منه بدون منطقي هذا إلا فما تفقدون من حقكم والله ما قصرت في بلوغ ما كان يبلغ من كان قبلي، ومن لم تكونوا تختلفون عليه (3).

فأمام الزحف الساخط على الأمراء، كشر عثمان عن نابه وأمر بالكف عن الطعن على الولاة، وأخبر أن عمر بن الخطاب كان يطؤهم برجله ويضربهم بيده ويقرعهم بلسانه، وعثمان لا يختلف عن عمر لأن عثمان يمسك بذيل عمر في كيفية تولية الأمراء وتوزيع المال. وإذا كانت الثورة قد جاءت لأن عثمان قد لان لهم وكف يده عنهم، فلا، لأنه أعز نفرا وأقرب ناصرا وأكثر عددا. فهذا مجمل خطاب عثمان أثناء العاصفة. وترتب على ذلك أن أهل الكوفة خرجوا على أميرهم سعيد بن العاص بالسلاح وردوه إلى عثمان وقالوا: لا والله لا يلي علينا حكما ما حملنا سيوفنا (4). ولم تجدي أنياب الدولة أمام هذا الموقف شيئا، وبعث عثمان بأبي موسى أميرا عليهم فأقروه (5).

____________

(1) الطبري 95 / 5.

(2) الطبري 96 / 5.

(3) الطبري 97 / 5، البداية والنهاية 169 / 7.

(4) الطبري 95، 96 / 5.

(5) الطبري 95، 96 / 5.

الصفحة 424

7 - العاصفة والبحث عن الذات:

وجاء عام 35 ه‍، وهو العام الذي سقط في سلته ما ترتب على قرارات صدرت خلال ما يقرب من ربع قرن بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم.

وأقصد بذلك قرار إبعاد علي بن أبي طالب عن مركز القيادة، وقرار التضييق على رواية الحديث ثم منعها بعد ذلك، وقرار القص في المساجد، وقرار إلغاء سهم المؤلفة قلوبهم، وقرار إنشاء الخراج الذي استفاد منه طبقة على حساب الذين فتحوا الأرض عنوة، وقرار تعيين المنافقين. وجميع هذه القرارات وردت فيها أحاديث صحيحة، ورواها أصحاب التاريخ وتقبلها العلماء وأرسلوها إرسال المسلمات، ولا يمكن الطعن فيها بأي حال من الأحوال.

وذلك لأن الحديث وحركة التاريخ فضلا عن آيات القرآن الكريم، جميع ذلك لا يلتفت إلى أي اعتراض لأنه سيكون اعتراض قوائمه في ديار الأهواء، والذي دفعني لكي أقول ذلك أنه خلال عام 35 ه‍ ظهر عند بعض أصحاب التواريخ شخصية اعتبروا أنها السبب الرئيسي في البلاء الذي حط على رحلة المسلمين، وهذه الشخصية هي " عبد الله بن سبأ " أو " ابن السوداء "، وأغلب الظن أن الذين اخترعوا هذه الشخصية أرادوا بها قطع طريق البحث العلمي حتى لا يصل إلى الأسباب الحقيقية التي دفعت بالأمة إلى عالم الاختلاف والافتراق واتباع سنن الذين من قبلهم. والذي ساعد على دق عمود هذه الشخصية في تاريخ المسلمين هو القص الذي اتبع سياسة بث الإسرائيليات والخرافات، في وقت كان العديد يتقبل هذه الإذاعات بالتسليم التام، نظرا لعدم وجود سياسة لرواية الحديث عن رسول الله.

ومن العجيب أن القاص، وهو يعرض شخصية عبد الله بن سبأ، أخبر بأنه لم يستطع أن يمزق وحدة المسلمين في الشام!! ولازم ذلك أن الشام عليها أمير فقيه في دين الله مهتم بأمة محمد ووحدتها. ومن الثابت والذي لا خلاف عليه أن القص كان وجبة أساسية على امتداد العهد الأموي، وتحت ظلاله سبوا أمير المؤمنين علي. في البيوت والحارات والبارات وفي المساجد. وعدم اختراق ابن سبأ للشام جاء عند الطبري على النحو التالي: كان عبد الله بن سبأ يهوديا من

الصفحة 425
أهل صنعاء أمه سوداء، فأسلم زمان عثمان ثم تنقل في بلدان المسلمين يحاول ضلالتهم، فبدأ بالحجاز ثم الكوفة ثم الشام، فلم يقدر على ما يريد أحد من أهل الشام، فأخرجوه حتى أتى مصر فاعتمر فيهم (1).

ولا ندري إذا كان ابن سبأ معروف لأهل الشام حتى أنهم أخرجوه. فلماذا لم يقتله معاوية وهو الذي قتل حجر بن عدي بعد ذلك تحت دعوى أنه خطر على النظام. أو لماذا لم يسيره إلى عثمان وهو الذي كتب إليه من قبل أن أهل الكوفة يتحدثون بألسنة الشياطين وأنه غير أمن إن قاموا وسط أهل الشام أن يغروهم بسحرهم وفجورهم؟! وإذا فرضنا أنه لم يستطع القبض عليه لهروبه، فلماذا لم يقبض عليه أي أمير من أمراء الدولة، وهم أصحاب العيون المفتوحة على كل ما يهدد أمنهم؟ ولماذا لم يظهر ابن سبأ يوم قتل عثمان ضمن المجموعة التي اغتالته. وإذا كان كارها لعثمان لماذا لم نسمع له اسما في معارك علي بن أبي طالب كلها. ثم لماذا لم يبحث عنه معاوية يوم أن جلس على رقبة الأمة، وهو الذي كان يبحث عن المعارضين تحت كل حجر، وأتى بعمرو بن الحمق وقطع رأسه وأهداها إلى زوجة عمرو، فكان أول رأس أهدي في الإسلام؟

ونحن إذا نظرنا في العمود الفقري للدعوة التي قام بها عبد الله بن سبأ نرى العجب، جاء في تاريخ الطبري: قال ابن سبأ لهم: إنه كان ألف نبي، ولكل نبي وصي، وكان علي وصي محمد. وقال: محمد خاتم النبيين، وعلي خاتم الأوصياء. وقال: من أظلم ممن لم يجز وصية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ووثب على وصي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتناول أمر الأمة. وقال: إن عثمان أخذها بغير حق وهذا وصي رسول الله، فانهضوا في هذا الأمر فحركوه وأبدوا الطعن على أمرائكم وأظهروا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر " (2). هذه دعوة الشخصية الخرافية المنبوذة جعلوها على لسانه لتكون دعوة خرافية منبوذة، أو في عالمهم وعصرهم أوهموا الناس وقفا لسياسة

____________

(1) الطبري 98 / 5.

(2) الطبري 98 / 5.

الصفحة 426
النص. أن ابن سبأ شخصية حقيقية، ثم على لسانه وضعوا ما يعتبرونه شذوذا كي يرفضه الناس، وفي صلب الدعوة نجد أنهم وضعوا وتدا مهما هو أن الطعن على الأمراء جريمة من فعلها يكون قد اقتفى أثر ابن سبأ اليهودي، وليس من الصدقة أن نرى هذا الكم من الأحاديث الموضوعة التي تحض على طاعة الأمراء. ثم نجد وتدا لا يستحق النقاش هو أنهم جعلوا موقع علي بن أبي طالب من الرسول صلى الله عليه وسلم في دائرة الشذوذ، ليفسحوا الطريق أمام أمرائهم.

ويكفي في هذا المقام أن نقول بأن الله خيب سعيهم، لأن وضع الحقيقة في دائرة الخرافة على عهدهم دليل على أن لله طائفة لا يضرهم من خالفهم أو ناوأهم أو خذلهم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك " (1).

وفي رواية: " لا تزال طائفة من أمتي قائمة بأمر الله لا يضرهم من خذلهم أو خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون على الناس " (2). وفي رواية: " لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على من ناوأهم حتى يأتي أمر الله تبارك وتعالى وينزل عيسى ابن مريم " (3). وعلى ذلك فإنهم ما وضعوا الحقيقة في دائرة الخرافة إلا عندما أحسوا بوقع أقدام هذه الطائفة فأرادوا أن يعزلوها عن الناس بفعلهم هذا.

إن طائفة الحق ظاهرة في عالم اللارواية، ولن يعتم عليها القص، لأن الله قضى ذلك، وطائفة الحق ظاهرة مهما كانت قوة من ناوأهم أو خذلهم أو خالفهم. قد تكون الطائفة على الأرض تحت الظلال وقد يكون من ناوأهم فوق السحاب وتحت الشمس، ولكن الظهور لها لأن الله أراد ذلك. وليس معنى أن الطائفة ليس لها مكان على الأرض إنها غير موجودة. فعيسى بن مريم لم يمتلك شبرا واحدا من الأرض ولكن وجوده على الأرض أظهر، وهكذا شاء الله. والخلاصة:

أن ابن سبأ شخصية يسأل عنها القائمين على سياسة القص، فهو شخصية خرافية، جعلوا على لسانه حقائق وخرافات أراد إعلام النبلاء أن يبثها على

____________

(1) رواه الإمام مسلم (الصحيح 65 / 13) ك الجهاد.

(2) رواه مسلم (الصحيح 67 / 13) ك الجهاد.

(3) رواه أحمد والحاكم وأبو داوود (الفتح الرباني 210 / 23).

الصفحة 427
الأسماع، رغبة منه في إيجاد رأي عام يؤيد ما تراه السياسة حقيقة أو خرافة.

ولقد قال غير واحد من الباحثين إن شخصية ابن سبأ لا وجود لها في التاريخ (1). ولم يذكر ابن سبأ في العديد من الكتب التي سبقت تاريخ الطبري ومنها كتاب مروج الذهب للمسعودي.

ومما سبق نعلم أن الساحة كان بها أكثر من تيار ضد عثمان. فتيار كان يعمل من أجل تغيير الأمراء في الأمصار، وتيار كان يرى أن عثمان مسؤول مسؤولية مباشرة عن سياسة الأمراء، ونقموا منها أشياء منها: إرجاعه للحكم بن أبي العاص الذي لعنه رسول الله ونفاه وغير ذلك، وهذا التيار كان يريد خلع عثمان ليتولى السلطة أحد غيره. وكان هناك تيار يريد أن يعود إلى الأمر الأول الذي في دائرته علي بن أبي طالب، وذلك بعد أن فشلت أطروحة الاجتهاد والرأي في قيادة الأمة، وخلفت وراءها أمراء النفاق والفتن وطبقات من النبلاء، وأخرى من المحرومين، ومدونات من الشعر والقص. وهذا التيار حكمنا بوجوده وفقا لأطروحة ابن سبأ فلو لم يكن له وجود ما اخترعوا له شخصية ابن سبأ، وبالأخص أننا لم نقرأ نصا واحدا ينادي بعلي بن أبي طالب حول بيت عثمان يوم حصاره. والذي قرأناه أن هناك من كان ينادي بطلحة، وليس معنى عدم وجود أصوات لعلي ومؤيدين له يصرخون ويولولون حول بيت عثمان أن عليا كان وحده، ويكفي علي أن يكون معه عمار، وأبو أيوب الأنصاري، وحذيفة، وأبو قتادة، وبريدة، وزيد بن أرقم، وعمران بن حصين، والبراء بن عازب، وزيد بن صوحان، وغير هؤلاء رضي الله عنهم أجمعين، وروي أن الصحابة أشاروا على عثمان بأن يرسل من يثور به إلى الأمصار كي يتبين حقيقة الأمور، فأخذ عثمان بهذه المشورة وبعث برجال إلى الأمصار كي يقفوا على حقيقة الإذاعة ضده وموقف الأمراء من الرعية. وعندما عادوا أخبروه بعدم وجود إذاعة ضده إلا أن الأمراء يظلمون الناس، فبعث عثمان إلى عمال الأمصار، معاوية، وابن عامر، وابن أبي السرح، وأدخل معهم في المشورة سعيدا،

____________

(1) راجع كتاب عبد الله ابن سبأ / للعلامة مرتضى العسكري.

الصفحة 428
وعمرا، وعندما قدموا عليه قال: ويحكم ما هذه الشكاية وما هذه الإذاعة، إني والله لخائف أن تكونوا مصدوقا عليكم وما يعصب هذا إلا بي (1).

ومن العجيب أنهم أصروا على وجود إذاعة ضده، على الرغم من أن الذين بعث بهم عثمان إلى الأمصار نفوا ذلك. وعندما أخبرهم عثمان بما انتهى إليه قالوا: لا والله ما صدقوا ولا بروا، وإن ما نقل إليك لا يحل الأخذ به ولا الانتهاء إليه، ثم أكدوا الإذاعة ضده. فقال سعيد بن العاص: هذا أمر مصنوع يصنع في السر فيلقى به غير ذي معرفة، فيخبر به فيتحدث به في مجالسهم. قال عثمان: فما دواء ذلك؟ قال: طلب هؤلاء القوم ثم قتل هؤلاء الذين يخرجه هذا من عندهم (2). لقد أراد أن يلقي بمزيد من الزيت على النار، وأشار كل واحد منهم بمشورة لا تستقيم مع كون الأمة أمة واحدة، وقال عثمان: كل ما أشرتم به علي قد سمعت ولكل أمر باب يؤتى منه (3). وبعد هذا اللقاء حدث أمر هام يلقي بظلاله على المسيرة بعد ذلك، فلقد روي أن عثمان بعد هذا اللقاء خرج وكان يسير خلفه كعب الأحبار، ولا ندري ما هو دور كعب في هذا اللقاء الذي كان قريبا منه، ولكن الذي نعلمه أن كعبا كان بعد فتح بيت المقدس يقيم بالشام عند معاوية، وكان كثير الانتقال بين الشام وبين المدينة، وأن معاوية أمره بالقص في المساجد بالشام، ثم اتخذه مستشارا له وكان يعده من العلماء، روي بعد خروج عثمان رجز الحادي:

قد علمت ضوامر المطي * وضمرات عوج القسي
أن الأمير بعده علي * وفي الزبير خلف رضي

فقال كعب وهو يسير خلف عثمان. الأمير والله بعده صاحب البلغة وأشار إلى معاوية، وروي أن كعبا قال عندما سمع الشعر: كذبت صاحب الشهباء بعده - يعني معاوية - وعندما أخبر معاوية بما قاله كعب سأله، فقال كعب: نعم

____________

(1) الطبري 99 / 5.

(2) الطبري 99 / 5.

(3) الطبري 100 / 5.

الصفحة 429
أنت الأمير بعده، ولكنها لا تصل إليك حتى تكذب بحديثي هذا، فوقعت في نفس معاوية. وفي رواية: ما زال معاوية يطمع فيها بعد مقدمة على عثمان حين جمعهم ثم ارتحل فحدا به الراجز:

أيها الأمير بعده علي * وفي الزبير خلف رضي (1)

ماذا يستفاد من ذلك؟ لقد قال كعب لعمر من قبل أن أوصافه مذكورة في التوراة، فهل أخبر معاوية بأن له أوصاف ظاهرة في كتب الأولين؟ وأن أهم هذه الأوصاف أنه سيلي أمر هذه الأمة، ولن يلي هذا الأمر حتى يكذب بهذا الخبر، نظرا لتواضعه وحياؤه وملكات نفسه التي شبعت من غذاء الروح، فهي لا تجوع أبدا ولا تطلب شبعا من قيادة أو غيرها! وهل أراد كعب أن يخرج معاوية بأقصى سرعة من دائرة التكذيب بحديثه إلى دائرة الاصرار إلى نيل الخلافة؟ لقد قال معاوية للوفد الذي سبره عثمان إليه حين طالبوه باعتزال السلطة: والله إن لي في الإسلام قدما، ولغيري كان أحسن قدما مني، ولكنه ليس في زماني أحد أقوى على ما أنا فيه مني (2). أليس في هذا ما أراد كعب؟ ففي فترة ما كان معاوية أن يعتقد أن هناك من أحسن منه، وهذا الاعتقاد جعله لا يسرع في الأمر لأنه لو أسرع لكذبته نفسه في بلوغ الهدف، ثم جاءت مرحلة الاصرار حيث ليس في زمامه أحد أقوى على ما هو فيه منه.

ثم يحق للباحث أن يتساءل، لقد كان كعب الأحبار قريبا من عمر. وروي أن عمر قال لأصحاب الشورى: إن اختلفتم دخل عليكم معاوية بن أبي سفيان من الشام (3). فهل كان في هذا إغراء لمعاوية بالخلافة يكون مدخلا لما قاله كعب بعد ذلك؟ ثم لقد روي أن عمر قال: " يا أهل الشام استعدوا لأهل العراق " (4) فهل في هذا إغراء آخر ازداد بريقه في عهد عثمان حيث كانت

____________

(1) الطبري 100 / 5.

(2) الطبري 109 / 5.

(3) الطبقات الكبرى 735 / 5.

(4) ابن سعد في الدلائل (كنز العمال 354 / 12).

الصفحة 430
المعارضة في العراق قد بلغت الذروة؟ والباحث يمكن أن يرى بسهولة أن الاغراء قد تمكن من نفس معاوية، وذلك من خلال أقواله وأفعاله بعد أن أخبره كعب الأحبار بأن الأمر إليه بعد عثمان، فقبل أن يتوجه معاوية إلى الشام، خرج من عند عثمان وعليه ثياب السفر متقلدا سيفه متنكبا قوسه، فإذا هن بنفر من المهاجرين فيهم طلحة والزبير وعلي، وهم الذين جاء ذكرهم في رجز الحادي بخصوص الخلافة بعد عثمان، فقام معاوية عليهم فتوكأ على قوسه بعدما سلم عليهم ثم قال: إنكم قد علمتم أن هذا الأمر كان إذا الناس يتغالبون إلى رجال، فلم يكن منكم أحد إلا وفي فصيلته من يرأسه ويستبد عليه ويقطع الأمر دونه ولا يشهده ولا يؤامره، حتى بعث الله نبيه، فكانوا يرأسون من جاء من بعده وأمرهم شورى بينهم يتفاضلون بالسابقة والقدمة والاجتهاد. فإن أخذوا بذلك وقاموا عليه كان الأمر أمرهم والناس تبع لهم، وإن أصغوا إلى الدنيا وطلبوها بالتغالب سلبوا ذلك ورده الله إلى ما كان يرأسهم، وإلا فليحذروا الغير فإن الله على البدل قادر وله المشيئة في ملكه وأمره، إني خلفت فيكم شيخا فاستوصوا به خيرا وكانفوه تكونوا أسعد منه حالا ". ثم ودعهم فقال علي: ما كنت أرى في هذا خيرا (1).

أهم أعمدة هذا الخطاب أراد معاوية أن يذكرهم بأنه قبل الإسلام كانت القيادة في قريش إلى رجال (2)، وأنهم كانوا يرجعون أمورهم إلى هؤلاء الرجال الذين كانوا يستبدون عليهم ويقطعون الأمور، دون أن يشاوروا غيرهم. وعندما جاء الإسلام جعل الأمر شورى والتفاضل بالسابقة والاجتهاد، فإن أخذوا بذلك كان الأمر لهم والناس تبع لهم، وأن أبوا خلاف ذلك رد الله القيادة إلى من كان يرأسهم قبل الإسلام. ثم حذرهم الغير هذا، لأن الله على البدل قادر، فالبدل إذا جاء جاء بأمر الله، فسبحانه له المشيئة في ملكه وأمره. ولم ينس معاوية أن يضع بينه وبينهم شيخا، ثم أوصاهم به، لأن هذا الشيخ ربما يكون طريقا إلى البدل إذا حدث له أي مكروه.

____________

(1) الطبري 101 / 5.

(2) ومنهم أبو سفيان وكان معاوية قد قال للوفد الذي سيره إليه عثمان، وقد عرفت قريش أن أبا سفيان كان أكرمها وابن أكرمها (الطبري 89 / 5).

الصفحة 431
هكذا تحدث معاوية بعد إذاعة كعب، ولذا قال الإمام علي: ما كنت أرى أن في هذا خيرا. وروي أن معاوية قال لعثمان: انطلق معي إلى الشام قبل أن يهجم عليك من لا قبل لك به، فإن أهل الشام على الأمر لم يزالوا (1). ومعنى هذا أن يكون اسم الخلافة بالشام فتكون من معاوية ومعاوية منها. ولكن عثمان لم يوافق على ذلك فقال معاوية: والله يا أمير المؤمنين لتغتالن أو لتغرين (2).

وانطلق معاوية إلى الشام وهو يبحث عن ذاته وسط العاصفة، مسترجعا وصية أمه له حين ولاه عمر.

8 - من الذي قتل عثمان؟

إن عثمان قتل في نهاية طريق. كانت بدايته ربما بلا عواصف وغالبا لا يرى الإنسان إلا بداية الطريق أو وسطه أما نهاية الطريق فلا ترى إلا بعد أن يجئ. وفي نهاية الطريق كانت هناك عواصف عاتبة. لقد فتحت الدولة أبوابها للمنافقين أصحاب السواعد القوية. ومن نفس الباب جاء عثمان بعبد الله بن أبي السرح الذي أهدر النبي صلى الله عليه وسلم دمه. ليجعله واليا على مصر بعد أن جعله عمر أميرا على الصعيد. كما جاء عثمان بالوليد بن عقبة وجعله واليا على الكوفة بعد أن جعله عمر أميرا على بني تغلب. ثم أحضر الحكم بن أبي العاص طريد رسول الله وأعطاه من غنائم المسلمين. واتخذ مروان ابنه مستشارا له ومروان في البداية هو مفتاح قتل عثمان وفي النهاية هو الذي شق عصا المسلمين بلا شبهة. ولم يكتف عثمان بذلك قبل فتح أبواب بيت المال لنبلاء بني أمية والطبقة المميزة من قريش. وعندما قامت عليه الثورة وجد أمامه وحده كل هذه الأخطاء وطالبوه وحده بالتوبة، وروى الطبري أن المصريين عندما قدموا عليه قالوا له: أدع بالمصحف؟ فدعا بالمصحف فقالوا له: إفتح السورة السابعة وكانوا يسمون سورة يونس السابعة. ثم أمروه أن يقرأ. حتى أتى على

____________

(1) الطبري 101 / 5، البداية والنهاية 169 / 5.

(2) الطبري 101 / 5، البداية والنهاية 169 / 5.

الصفحة 432
قوله تعالى: (قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراما وحلالا قل الله أذن لكم أم على الله تفترون) (1) فقالوا له: قف. أرأيت ما حميت من الحمى الله أذن لك أم على الله تفتري؟ قال: وأما الحمى فإن عمر حمى الحمى قبلي لا بل الصدقة. فلما وليت زادت إبل الصدقة فزدت في الحمى لما ناد في إبل الصدقة... ثم أخذوه بأشياء لم يكن عنده منها مخرج فعرفها فقال: أستغفر الله وأتوب إليه ما تريدون؟ قالوا: نريد ألا يأخذ أهل المدينة عطاء. فإنما هذا المال لمن قاتل عليه ولهؤلاء الشيوخ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.

فرضي عثمان بذلك وأخذ عليهم ألا يشقوا عصا ولا يفرقوا جماعة ما قام لهم بشروطهم (2).

ويا ليت الأمر سار على هذا. ولكن بني أمية مكروا مكرهم روى الطبري: لما قدمت إبل الصدقة على عثمان بعد ذلك وهبها لبعض بني الحكم بن أبي العاص.

فبلغ ذلك عبد الرحمن بن عوف فأخذها وقسمها في الناس وعثمان في الدار (3).

والأكبر من ذلك أن المصريين عندما تصالحوا مع عثمان على أن لا يشقوا عصا ما قام بشروطهم. فوجئوا في طريقهم بأبي الأعور السلمي الذي لعنه رسول الله يحمل رسالة إلى ابن أبي السرح الذي أهدر النبي دمه. وفيها يأمره عثمان بصلبهم أو قتلهم أو قطع أيديهم وأرجلهم من خلاف. وعلى الرسالة خاتم عثمان: ولقد أنكر عثمان ذلك ومن سير الأحداث تبين أن الذي وراء هذه الرسالة هو مروان بن الحكم بن أبي العاص الذي لعنه النبي صلى الله عليه وسلم وهو في صلب أبيه.

إن الذي قتل عثمان سياسة سهرت عليها بطانة سوء من أمثال معاوية وعمرو مروان وابن أبي السرح وغيرهم، وما تصدى لعثمان إلا الصحابة وأبناء الصحابة، وليس من الحقيقة في شئ أن يقال: إن الذين ألبوا وساعدوا وقتلوا

____________

(1) سورة يونس: الآية 59.

(2) الطبري 107 / 5.

(3) الطبري 114 / 5.

الصفحة 433
عثمان هم مجموعة من أتباع عبد الله بن سبأ أشهر شخصية خرافية في تاريخ المسلمين، أو إنهم مجموعة من الرعاع والدهماء والعامة، فالذين قاموا بهذا مجموعة من الصحابة منهم على سبيل المثال:

  • معاوية بن أبي سفيان: لقد كان له حلمه الخاص. وعندما واجهت عثمان المخاطر. كتب إلى معاوية: أما بعد، فإن أهل المدينة قد كفروا وأخلفوا الطاعة ونكثوا البيعة فابعث إلي من قبلك من مقاتلة أهل الشام على كل صعب وذلول. وعندما جاء معاوية الكتاب وعلم اجتماع الصحابة على عثمان!

    تباطئ (1)، وعندما علم عثمان إبطاء معاوية. تعداه وكتب إلى أهل الشام يستنفرهم ويعظم حقه عليهم. وقال لهم: فإن كان عندكم غياث فالعجل العجل فإن القوم معاجلي. فلما قرئ كتابه عليهم قام يزيد بن أسد القسري وحضهم على نصره وأمرهم بالمسير إليه حتى إذا كانوا بوادي القرى بلغهم قتل عثمان فرجعوا (2) ولقد جرى كل هذا ومعاوية بعيد كل البعد ولا يشغله إلا ما أخبره به كعب.

  • ومنهم السيدة عائشة أم المؤمنين. لقد كانت رضي الله عنها أول من كفر عثمان. وذلك حين علمت أن الوقت ليس في صالحه وأن الثورات التي تتوالى عليه ستهلكه لا محالة. روي أنها قالت عندما عطل عثمان الحد عن الوليد بن عقبة وضرب الشهود الذين شهدوا عليه بأنه ينادم أبا زبيد ويشرب معه الخمر قالت: " اقتلوا نعثلا فقد كفر " (2)، قال في لسان العرب: النعثل الشيخ الأحمق وكان أعداء عثمان يسمونه نعثلا. وفي حديث عائشة: " اقتلوا نعثلا.

    قتل الله نعثلا... " تعني عثمان وكان هذا منها لما غاضبته وذهبت إلى مكة (4) أي: قولها الذي ذكره صاحب لسان العرب كان عند الثورة الأخيرة عليه. وما

    ____________

    (1) الطبري 115 / 5.

    (2) الطبري 116 / 5.

    (3) النهاية لابن الأثير 5 / 80، تاريخ أعثم ص 155، شرح النهج 77 / 4.

    (4) لسان العرب مادة نعثل ص 4470.

    الصفحة 434
    ذكرناه نحن كان في الثورة الأولى عليه يوم الوليد بن عقبة. وروي أن مروان بن الحكم وزيد بن ثابت قدما إلى أم المؤمنين وهي تريد الحج وعثمان محصور فقالا لها: يا أم المؤمنين. لو أقمت فإن أمير المؤمنين على ما ترين محصور ومقامك مما يدفع الله به عنه. فقالت: قد حلبت ظهري وعريت غرائزي ولست أقدر على المقام فقال مروان:

    وحرق قيس على البلاد * حتى إذا استعرت أجذاما

    فقالت: أيها المتمثل علي بالأشعار. وددت والله أنك وصاحبك هذا الذي يعنيك أمره. في رجل كل واحد منكما رحا وإنكما في البحر. وخرجت أم المؤمنين إلى مكة (1).

  • ومنهم: طلحة بن عبيد الله. روى الإمام أحمد عن زيد بن أسلم عن أبيه قال: شهدت عثمان يوم حوصر. فرأيت عثمان أشرق من الخوخة فقال: أيها الناس أفيكم طلحة. فسكتوا - فكررها ثلاثا - فقام طلحة. فقال له عثمان: ألا أراك هنا، ما كنت أرى أن تكون في جماعة تسمع ندائي آخر ثلاث مرات ثم لا تجيبني (2)، وفي رواية: قال طلحة: نعم؟ فقال عثمان: فإنا لله وإنا إليه راجعون، أسلم على قوم أنت فيهم فلا تردن. فقال: قد رددت قال: ما هكذا الرد أسمعك ولا تسمعني يا طلحة (3) وكان عثمان يقول: اللهم اكفني طلحة فإنه حمل علي هؤلاء (4). وروى ابن أبي الحديث: أن طلحة كان يوم قتل عثمان مقنعا بثوب استتر به عن أعين الناس وكان يرمي الدار بالسهام (5). وروى الطبري: أنهم عندما قتلوا عثمان خرج سودان بن حمران يقول: أين طلحة بن

    ____________

    (1) الطبقات الكبرى 37 / 5.

    (2) رواه أحمد وروى النسائي بعضه (الفتح 112 / 23).

    (3) رواه أحمد ورجاله ثقات (الفتح 112 / 23).

    (4) الطبري 122 / 5.

    (5) ابن أبي الحديد 404 / 2.

    الصفحة 435
    عبيد الله قد قتلنا ابن عفان (1). ومن العجب العجاب أن أم المؤمنين عائشة وطلحة ومن معهما خرجوا على إمام المتقين علي بن أبي طالب يطالبون بالثأر لعثمان. وروى الحاكم عن علقمة بن وقاص قال: رأيت طلحة وأحب المجالس إليه أخلاها وهو ضارب بلحيته على زوره فقلت له: يا أبا محمد إني أراك وأحب المجالس إليك أخلاها وأنت ضارب بلحيتك على زورك إن كنت تكره هذا الأمر فدعه. فليس يكرهك عليه أحد فقال: يا علقمة بن وقاس. لا تلمني كنا أمس يدا واحدة على من سوانا فأصبحنا اليوم جبلين من حديد يزحف أحدنا على صاحبه ولكنه كان مني في أمر عثمان ما لا أرى كفارته إلا أن يسفك دمي في طلبه " (2)، وكان بنو أمية يعلمون أن طلحة له نصيب كبير في قتل عثمان.

    لذا نجد مروان يجد في قتل طلحة يوم الجمل. وعندما ظفر به وقتله قال: والله لا أطلب قاتل عثمان بعدك (3) وكان عبد الملك بن مروان يقول: أخبرني أمير المؤمنين مروان أنه هو الذي قتل طلحة. ولولا ذلك ما تركت من ولد طلحة أحدا إلا قتلته بعثمان (4).

  • ومنهم عمرو بن العاص. كان مستشارا لعثمان وعندما عزله عثمان عن مصر انقلب على عثمان. وظلت مصر هي شاغلة الأول والأخير على امتداد حياته. قال في أسد الغابة: لما استعمل عثمان عبد الله بن أبي السرح على مصر وعزل عنها عمرو بن العاص. جعل عمرو يطعن على عثمان ويؤلب عليه ويسعى في إفساد أمره (5) وانتقل عمرو إلى المدينة وفي نفسه من عثمان أمر عظيم وشر كبير فكلمه فيما كان من أمره. وتقاولا في ذلك وافتخر عمرو بأبيه على عثمان وأنه كان أعز منه، وجعل عمرو يؤلب الناس على عثمان (6)، وروى الطبري:

    لما قدم عمرو المدينة جعل يطعن على عثمان. فأرسل إليه عثمان وقال له: يا ابن

    ____________

    (1) الطبري 123 / 5.

    (2) الحاكم (المستدرك 118، 372 / 3).

    (3) الطبقات الكبرى 223 / 3، أسد الغابة 88 / 3.

    (4) الطبقات الكبرى 223 / 3.

    (5) أسد الغابة 260 / 3.

    (6) الطبري 108 / 5، البداية والنهاية 170 / 8.

    الصفحة 436
    النابغة ما أسرع ما قمل جربان جبتك إنما عهدك بالعمل عاما أول. أتطعن علي وتأتيني بوجه وتذهب عني بآخر والله لولا أكلة ما فعلت ذلك... لقد استعملتك على ظلعك وكثرة القالة فيك. فقال عمرو: قد كنت عاملا لعمر بن الخطاب ففارقني وهو عني راض (1)، وعندما اجتمع الناس على عثمان ناداه عمرو بن العاص من ناحية المسجد: اتق الله يا عثمان فإنك قد ركبت نهاييرا وركبناها معك فتب إلى الله نتب. فناداه عثمان: وإنك هناك يا ابن النابغة تملت جبتك منذ تركتك من العمل. فناداه الناس من ناحية أخرى: يا عثمان تب إلى الله وأظهر التوبة يكف الناس عنك (2) وروى الطبري: أن عمروا كان يعترض الحاج فيخبرهم بما أحدث عثمان (3)، وعندما خرج عمرو إلى منزله بفلسطين مر به راكب فناداه عمرو وقال: ما فعل الرجل؟ يعني عثمان. قال: قتل، فقال عمرو:

    أنا أبو عبد الله إذا حككت قرحة نكأنها إن كنت لاحرصن عليه حتى أني لأحرصن عليه الراعي في غنمه في رأس الجبل (4)، ومن العجب العجاب أن ابن النابغة بعد ذلك يهرول في إتجاه معاوية ويبكي عثمان المظلوم ويشارك معاوية في قتال إمام المتقين علي بن أبي طالب نظير أن يعطيه معاوية مصر طعمة.

  • ومنهم مروان بن الحكم. طريد رسول الله صلى الله عليه وسلم. لقد كانت مهمة مروان تصعيد العنف على عثمان، وعندما قتل عثمان تاجر مروان بدم عثمان شأنه في ذلك كشأن جميع أصحاب المصالح من النبلاء وتجار الأديان.

    روي أن عثمان عندما تصالح من الثوار أول مرة ورجع الثوار إلى مصرهم. خرج وخطب في الناس فرق الناس له يومئذ وبكى من بكى. وعندما عاد إلى منزله وجد مروان وسعيد بن العاص ونفرا من بني أمية فقال مروان: تكلم وأعلم الناس أن أهل مصر قد رجعوا وأن ما بلغهم عن إمامهم كان باطلا. فإن خطبتك تسير في البلاد قبل أن يتحلب الناس عليك من أمصارهم فيأتيك من

    ____________

    (1) الطبري 108 / 5.

    (2) الطبري 111 / 5.

    (3) الطبري 108 / 5.

    (4) الطبري 109 / 5، الكامل 82 / 3.

    الصفحة 437
    لا تستطيع دفعه. ولم يزل به مروان حتى خرج وقال بما أشار به مروان (1).

    فهاج الناس عليه. وعندما تدخل علي بن أبي طالب لتهدئة الناس استمع الناس إليه. ليتكرر المشهد مرة أخرى مع ثوار آخرين. وعندما اجتمع الناس على باب عثمان قال عثمان لمروان: اخرج إليهم فكلمهم. فخرج مروان إلى الباب والناس يركب بعضهم بعضا فقال: ما شأنكم قد اجتمعتم كأنكم قد جئتم لنهب. شاهت الوجوه كل إنسان أخذ بأذن صاحبه إلا من أريد. جئتم تريدون أن تنزعوا ملكنا من أيدينا. أخرجوا عنا. أما والله لئن رمتمونا ليمرن عليكم منا أمر لا يسركم ولا تحمدوا. غب رأيكم ارجعوا إلى منازكم فإنا والله ما نحن مغلوبين على ما في أيدينا، وعندما سمعت نائلة امرأة عثمان ذلك قالت لعثمان: إنك إن أطعت مروان قتلك (2). وعندما توجه وجوه الناس إلى دار عثمان لتهدئة الخواطر خرج مروان وقال: شاهت الوجوه إلا من أريد. ارجعوا إلى منازلكم فإن يكن لأمير المؤمنين حاجة بأحد منكم يرسل إليه. وإلا قر في بيته (3) وسمع علي بما قاله مروان وعندما جاءه رسول عثمان يبلغه أن يأتي عثمان. قال علي بصوت مرتفع عال مغضب: قل له ما أنا بداخل عليك ولا عائذ (4). وكان علي يقول لعثمان قبل ذلك: إني قد كنت كلمتك مرة بعد مرة. فكل ذلك نخرج فتكلم ونقول وتقول. وذلك كله فعل مروان بن الحكم وسعيد بن العاص وابن عامر ومعاوية.

    أطعتهم وعصيتني (5)، لقد كان الإمام يعلم إلى أين ستنتهي الأحداث وفقا لما أخبره به النبي صلى الله عليه وسلم فكان يحذر ويراقب من بعيد ليقيم الحجة على من شهد أنه ما قتل وما أمر بقتل. وكان صوته بعيدا عن دائرة القاتل. وكان صوته حجة في دائرة المقتول. كان يفعل ذلك لعلمه بأنهم سيخلطون بين الدائرتين من أجل إنتاج دائرة جديدة يكونون فيها أصحاب جور.

    ____________

    (1) الطبري 110 / 5.

    (2) الطبري 112 / 5، البداية والنهاية 173 / 7.

    (3) الطبري 112 / 5، البداية والنهاية 172 / 7.

    (4) الطبري 113 / 5، البداية والنهاية 173 / 7.

    (5) الطبري 109 / 5.

    الصفحة 438
    وفي دائرة الإمام كان يقف معه الحسن والحسين. فالحسنان كانا يدفعان العدوان عن عثمان. لكي يفهم أصحاب العقول أن الذي يدافع عن شئ لا يمكن أن يهجم عليه. وكم في عالم الحجة من حكمة بالغة.

    فهؤلاء الذين ذكرنا كانوا من المحرضين والمساعدين على قتل عثمان ثم تاجروا بدمه بعد ذلك. ويبقى قسم آخر وقفوا في دائرة الثوار فأغلظوا لعثمان ورفضوا الوقوف بجانبه من هؤلاء:

  • عمار بن ياسر: الذي قال عنه النبي صلى الله عليه وسلم: " من عادى عمارا عاداه الله ومن أبغض عمارا أبغضه الله " (1). وقال عن عمار: " ما خير بين أمرين إلا اختار أرشدهما " (2)، وقال: " إذا اختلف الناس كان ابن سمية مع الحق " (3)، إلى غير ذلك من الأحاديث التي تبين مناقبه التي أودعها الله فيه لحكمة بالغة. ولقد ذكر ابن كثير أن عثمان ضرب عمار بن ياسر (4) ولكن اختلفوا في سبب ضربه وذكر المسعودي: أن القبائل اعترضت على ضرب عمار بن ياسر وعبد الله بن مسعود (5)، وروى ابن كثير والطبري: أن القوم طلبوا من عمار أن يرد الثوار فقال عمار: والله لا أردهم عنه أبدا (6)، وقال ابن كثير:

    كان عمار يحرض الناس على عثمان ولم يقلع ولم يرجع ولم ينزع (7)، وكان عمار له موقف ثابت من بني أمية. كما أنه كان يعلم أسماء المنافقين الاثنى عشر الذين أرادوا قتل النبي صلى الله عليه وسلم عند عودته من تبوك.

    ____________

    (1) رواه أحمد وقال الهيثمي رواه أحمد والطبراني ورجاله رجال الصحيح (الزوائد 293 / 9) (الفتح 329 / 22).

    (2) رواه الحاكم وأقره الذهبي ورواه أحمد (الفتح الرباني 330 / 22)، (المستدرك 388 / 3) ورواه الترمذي وحسنه (الجامع 668 / 5).

    (3) رواه الطبراني (كنز العمال 721 / 11).

    (4) البداية والنهاية 171 / 7.

    (5) مروج الذهب 373 / 2.

    (6) الطبري 110 / 5، البداية 171 / 7.

    (7) البداية 171 / 7.

    الصفحة 439

  • ومنهم زيد بن صوحان. زيد وما زيد! ولقد تحدثنا عنه من قبل. وهو الذي سيره عثمان من الكوفة إلى الشام، ثم من الكوفة إلى حمص. وقد خرج ثوار الكوفة إلى المدينة في أربع رايات، كان بينهم زيد ومالك الأشتر، وقال في الإصابة: كان زيد فاضلا دينا سيدا في قومه (1) وقال: كان زيد يحب سلمان الفارسي ومن شدة حبه له اكتنى أبا سلمان (2).

  • ومنهم: عبد الرحمن بن عديس. خرج ثوار مصر إلى المدينة في أربع رايات كان عبد الرحمن فيهم ومعه كنانة بن بشر الليثي فأما ابن عديس فكان ممن بايع تحت الشجرة (3) وأما كنانة فكان من الصحابة الذين أدركوا النبوة (4).

  • ومنهم: جبلة بن عمر الساعدي. قال في الإستبصار: كان من فضلاء الصحابة (5) شهد أحدا (6) قال ابن كثير والطبري: مر عثمان على قوم فيهم جبلة. فسلم فرد القوم، فقال جبلة: لم تردون عليه. ثم أقبل على عثمان فقال:

    والله لأطرحن هذه الجامعة. وكانت في يده جامعة - أو لتتركن بطانتك هذه. قال عثمان: أي بطانة فوالله لأتخير الناس. فقال جبلة: مروان تخيرته! ومعاوية تخيرته! وعبد الله بن عامر تخيرته! وابن السرح تخيرته! منهم من نزل القرآن بذمه وأباح رسول الله صلى الله عليه وسلم دمه (7)، وروى أن عثمان مر بجبلة وهو بفناء داره فقال: يا نعثل والله لأقتلنك ولأحملنك على قلوص جرباء ولأخرجنك إلى حرة النار. ثم جاء جبلة مرة أخرى وعثمان على المنبر فأنزل عنه (8).

    ____________

    (1) الإصابة 45 / 3.

    (2) الإصابة 46 / 3.

    (3) الإصابة 171 / 4.

    (4) الإصابة 325 / 5.

    (5) الإستبصار 136.

    (6) الإصابة 233 / 1.

    (7) البداية 136 / 7، الطبري 114 / 5.

    (8) البداية 176 / 7، الطبري 114 / 5.

    الصفحة 440

  • ومنهم: جهجاه الغفاري قال في الإصابة: شهد بيعة الرضوان روى له الشيخان (1) وقال الطبري: كان عثمان يخطب على عصا النبي صلى الله عليه وسلم التي كان يخطب عليها وأبو بكر وعمر. فقال له جهجاه: قم يا نعثل فانزل عن هذا المنبر وأخذ العصا فكسرها (2).

  • ومنهم: أعين بن ضبيعة. روى الإمام أحمد أن عثمان قال: إنا والله قد صحبنا رسول الله. وكان يعود مرضانا ويغدوا معنا ويواسينا بالقليل والكثير. وإن ناسا يعلموني به عسى أن لا يكون أحدهم قد رآه قط، فقال له أعين بن امرأة الفرزدق: يا نعثل إنك قد بدلت (3).

  • ومنهم جرول بن مالك وعمرو بن بديل وعمرو بن حزم الأنصاري وهؤلاء جميعا من الصحابة. وكان منهم أبناء الصحابة من أمثال محمد بن أبي بكر ومحمد بن أبي حذيفة، ولقد اعترضنا على عثمان لمخالفاته الكثيرة وعابا عليه استعماله بدين أبي السرح لأنه ارتد وكفر بالقرآن وأباح الرسول صلى الله عليه وسلم دمه (4). وعندما اقتحم الثوار دار عثمان قال له محمد بن أبي بكر: ما أغنى عنك معاوية! ما أغنى عنك ابن عامر (5). وبالجملة كانت الثورة ثورة الصحابة يقول الطبري: لما أرى الناس ما صنع عثمان. كتب من بالمدينة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى من بالآفاق منهم. وكانوا تفرقوا في الثغور وإنكم إنما خرجتم أن تجاهدوا في سبيل الله عز وجل تطلبون دين محمد صلى الله عليه وسلم. فإن دين محمد قد أفسد من خلفكم وترك. فهلموا فأقيموا دين محمد صلى الله عليه وسلم فأقبلوا من كل أفق

    ____________

    (1) الإصابة 265 / 1.

    (2) الطبري 514 / 5.

    (3) رواه أحمد ورواته ثقات (الزوائد 228 / 7).

    (4) البداية والنهاية 158 / 7.

    (5) الطبري 118 / 5.