الصفحة 520
ويدعونه إلى النار. باختصار كان عمار حجة على البغاة. حجة على أول طريقهم وحجة على نهاية طريقهم. وليس معنى أنه قتل في آخر الطريق أنه لم يكن له وجود في أول الطريق. لأن عمارا بمثابة مشعل على طريق طويل. وهذا المشعل وقوده عند علي بن أبي طالب. قال النبي صلى الله عليه وسلم لعمار: " يا عمار إن رأيت عليا قد سلك واديا. وسلك الناس واديا غيره. فاسلك مع علي ودع الناس. إنه لن يدلك على ردى ولن يخرجك من الهدى " (1)، لهذا كان حذيفة يقول بعد مقتل عثمان: " آمركم أن تلزموا عمارا. قالوا: إن عمارا لا يفارق عليا. قال: إن الحسد هو أهلك الجسد. وإنما ينفركم من عمار قربه من علي. فوالله لعلي أفضل من عمار أبعد ما بين التراب والسحاب. وإن عمارا لمن الأحباب " (2)، وإذا كان طريق علي بن أبي طالب واضحا وضوح الشمس في كبد السماء فإن طريق عمار واضح أيضا فهو ما عرض عليه أمران قط إلا اختار الأرشد منهما (3) وهو على الفطرة (4)، وأجاره الله من الشيطان على لسان نبيه (5)، ومن عاداه عاداه الله ومن أبغضه أبغضه الله (6). باختصار كان عمار يحمل مؤهلات طريق علي بن أبي طالب. وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قد قال لعلي: " يا علي ستقاتلك الفئة الباغية وأنت على الحق فمن لم ينصرك يومئذ فليس مني " (7)، فإنه قال لعمار الذي يحمل معالم الجندية على طريق علي:

" ستقتلك الفئة الباغية وأنت على الحق. فمن لم ينصرك يومئذ فليس مني " (8).

وطريق علي بن أبي طالب يبدأ من أول خطوة رفع فيها علي سيفه.

____________

(1) رواه الديلمي (كنز العمال 614 / 11).

(2) رواه الطبراني وقال الهيثمي رجاله ثقات (الزوائد 243 / 7).

(3) رواه أحمد (الفتح 330 / 22) والحاكم وصححه (المستدرك 388 / 3)، والترمذي وصححه (الجامع 668 / 5).

(4) رواه البزار والطبراني ورجالهما ثقات (الزوائد 295 / 9).

(5) رواه البخاري في مناقب عمار (الصحيح 305 / 2).

(6) رواه أحمد وقال الهيثمي رجاله رجال الصحيح (الزوائد 293 / 9).

(7) رواه ابن عساكر (كنز العمال 613 / 11).

(8) رواه ابن عساكر (كنز العمال 351 / 11).

الصفحة 521
ولخطورة ضربات سيف علي وما سيترتب عليها حمل عمار أقوى تحذير على الاطلاق: " تقتله الفئة الباغية. يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار " وهذا في حد ذاته دعوة للتفكير. فأي قوات ستجابه جيشا فيه عمار. لا يمكن أن تقطع بأن عمارا سيخرج من المعركة سالما وأنه لن يصيبه ما يؤدي إلى قتله. وعلى هذا فمن الواجب أن تعيد هذه القوات ترتيب أوراقها في اتجاه التوبة. وإذا كان هذا التحذير يحيط بعمار. فإن هناك تحذيرا آخر حملته الصحابة منهم أبو رافع.

قال النبي صلى الله عليه وسلم: " يا أبا رافع سيكون بعدي قوم يقاتلون عليا.

حق على الله جهادهم. فمن لم يستطع جهادهم بيده فبلسانه. ومن لم يستطع بلسانه فبقلبه. ليس وراء ذلك شئ " (1)، وذلك حتى لا يدق في أرضية الصحابة أوتاد يأتي عليها الشارد والوارد والسابق واللاحق. وما هي إلا أوتاد فتن لا تصيب الذين ظلموا خاصة بل تتعداهم إلى غيرهم.

ولقد فطن عبد الله بن عباس للتحذير الذي حول عمار. فأراد أن يسمعه الناس بعد بيعة علي بن أبي طالب. حتى يكونوا على بينة من أمرهم قبل أن يفتح طريق البغي. فعن عكرمة أن ابن عباس قال له ولابنه علي: انطلقا إلى أبي سعيد الخدري فاسمعا من حديثه. قال: فانطلقنا فإذا هو في حائط له. فلما رآنا أخذ رداءه فجاءنا. فقعد. فأنشأ يحدثنا. حتى أتى على ذكر بناء المسجد قال: كنا نحمل لبنة وعمار بن ياسر يحمل لبنتين. فرآه رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعل ينفض التراب عنه ويقول: يا عمار ألا تحمل لبنة كما يحمل أصحابك.

قال: إني أريد الأجر من الله. فجعل ينفض التراب عنه ويقول: ويح عمار تقتله الفئة الباغية يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار " (2)، والدعوة إلى النار لها أصول تحدث عنها حذيفة من قبل وذلك عندما قال للنبي صلى الله عليه وآله وسلم: " فهل بعد ذلك الخير من شر؟ قال: نعم دعاة إلى أبواب جهنم من

____________

(1) رواه الطبراني وقال الهيثمي فيه يحيى ابن الحسين لم أعرفه وبقية رجاله ثقات (الزوائد 134 / 9).

(2) رواه أحمد والبخاري (الفتح الرباني 331 / 22).

الصفحة 522
أجابهم قذفوه فيها. قال: يا رسول الله صفهم لنا، فقال: هم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا " (1)، فاختيار ابن عباس لأبي سعيد الخدري من أجل أن يسمع منه عكرمة وابنه علي. هذا الحديث في عمار كان لحكمة ومن وراء الحكمة هدف.

5 - أصداء يوم غدير خم:

كان لتحرك أم المؤمنين عائشة أثر عظيم على العديد من الأمصار. وذلك لأن العامة يعلمون أن السيدة عائشة عندما تتكلم فإنها تقف على أرضية ليست بعيدة عن النبي كما أنها قريبة من أرضية الخلافة بعد النبي، والخلفاء يعرف الناس عنهم الكثير، بينما لا يعرفون شيئا عن علي بن أبي طالب. الذي تتحرك مناقبه تحرك النجوم وراء السحب بعد عودة الرواية. وكان لإذاعة أم المؤمنين الأثر الأعظم. وذلك لوفرة المال الذي حمله يعلى بن أمية وعبد الله بن عامر من اليمن والبصرة فضلا عن الدعم القوي من الشام. وكما قال الإمام علي: الناس أعداء ما جهلوا.... فلأن الناس كانوا يجهلون حقيقة الأمور فإن الأرضية التي وقفت عليها أم المؤمنين كانت تكسب كل يوم جديدا. فمكة لم يخرج منها احتجاج واحد. وفي الكوفة يقف في موسى في مربع السيدة عائشة فضلا على أن الكوفة فيها شيعة لطلحة والبصرة لها هوى في الزبير. ومعاوية يراقب من الشام وعمرو بن العاص يتابع من فلسطين... فكل ذلك كان له تأثير على من في المدينة وأصبحت عملية حشد القوات عملية تواجهها صعوبات. والحشد بالمال ليس من سياسة أمير المؤمنين. فهو حجة ويعرف أنه مقتول في نهاية الطريق والحجة المقتول لا وقود له يحركه إلا الدين فالإمام كان يريد الجندي الرسالي الذي ينطلق من الدين وينتهي إلى الدين. لذا سنراه يبكي في آخر الرحلة وهو يتذكر أصحابه الذين قتلوا في المعارك. والجندي الرسالي لا بد له من نصوص لتأتي به إلى دائرة أمير المؤمنين. وبما أن الإمام إذا تحدث عن نفسه

____________

(1) رواه أحمد (الفتح الرباني 31 / 23) والبخاري (الصحيح 280 / 2).

الصفحة 523
هذا الوقت ربما شكك أعداؤه فيما تفاخر به. وبالذات بعد خروج السيدة عائشة.

فهذا الخروج أوجد التباسا شديدا في تحديد من هم أهل البيت. وهذا التحديد وإن كان عتم عليه في عالم اللارواية. إلا أنه بعد خروج السيدة عائشة زاد التعتم وأضيف إليه الالتباس. فإذا ادعى علي أنه من أهل البيت. جاءه صوت من دائرة الجمل يقول إنه ليس وحده من أهل البيت. بل إنه إذا كان من أهل البيت فإن يده ملطخة بدم عثمان ومن كان كذلك سقطت عنه دعوى أن الله أذهب عنه الرجس وطهره تطهيرا. ومن دخل في هذه الدائرة فليس له حق في قيادة المسلمين. وللمسلمين أن يختاروا وأصحاب السوابق كثير. منهم طلحة والزبير ومعاوية الذي يراقب وغير هؤلاء كثير.. لهذا كله كان الحديث عن المناقب على لسان أمير المؤمنين تواجهه عقبات ستدخل المسلمين في جدل طويل. وهناك من يضع البصرة كهدف هجوم لعملياته الحربية. وكان لا بد أن تأتي المناقب من روايات الساحة ليشهد الإمام لها ويشهد الناس عليها. ولقد رأينا فيما سبق كيف أن ابن عباس جاء بالتحذير الذي حول عمار من داخل الساحة ولم يتحدث هو به. ربما لقربه من الإمام.

وشاء الله تعالى أن تكون البداية من داخل الساحة كي تقام الحجة بلا شبهة. لقد جاءت الرواية ليقف أمير المؤمنين منها موقف الذي يستفسر أولا ثم يقيم الحجة ثانيا. عن رياح بن الحرث قال: جاء رهط إلى علي بالرحبة (1).

فقالوا: السلام عليك يا مولانا. قال: كيف أكون مولاكم وأنتم قوم عرب، فقالوا: سمعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول يوم غدير خم: " من كنت مولاه فإن هذا مولاه " قال رياح: فلما مضوا تبعتهم فسألت من هؤلاء، قالوا: نفر من الأنصار فيهم أبو أيوب الأنصاري " (2).

____________

(1) الرحبة / فضاء وفسحة ورحبة المسجد ساحته.

(2) أخرجه أحمد وقال الهيثمي رواه أحمد والطبراني ورجال أحمد ثقات (الفتح الرباني 126 / 23)، (مجمع الزوائد 104 / 9) وقال الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة رجاله ثقات وأورده ابن كثير في البداية (البداية 512 / 5).

الصفحة 524
ومن عالم الغربة الذي استفسر فيه الإمام علي عن شئ يعرفه انتقل الحديث عن هذا إلى مكان أوسع. فعن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: شهدت عليا في الرحبة ينشد الناس: أنشد الله من سمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول يوم غدير خم: من كنت مولاه لما قام فشهد. قال عبد الرحمن:

فقام اثنا عشر بدريا كأني أنظر إلى أحدهم عليه سراويل. فقالوا: نشهد أنا سمعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول يوم غدير خم: ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم. وأزواجي أمهاتهم (1). فقلنا: بلى يا رسول الله. قال: فمن كنت مولاه فعلي مولاه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه " (2)، وفي رواية عن زيد بن يثبع قال: أليس الله أولى بالمؤمنين. قالوا: بلى، قال: اللهم من كنت مولاه فعلي مولاه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه (3)، وعن أبي الطفيل قال:

جمع علي الناس في الرحبة، ثم قال لهم: أنشد الله كل امرئ مسلم سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول يوم غدير خم ما قال لما قام (4)، فقام إليه ثلاثون من الناس. وقال أبو نعيم: فقام إليه ناس كثير فشهدوا حين أخذ بيده وقال: أتعلمون أني أولى بالمؤمنين من أنفسهم. قالوا: بلى يا رسول الله. قال:

من كنت مولاه فهذا مولاه، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه. قال أبو نعيم:

فخرجت كأن في نفسي شيئا. فلقيت زيد بن أرقم فقلت له: إني سمعت عليا يقول كذا وكذا. قال زيد: فما تنكر؟ قد سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول ذلك " (5).

____________

(1) تحريم زوجات النبي في هذا المقام يعادل تحريم الولاية على غير أصحابها.

(2) رواه أحمد وقال في الفتح أورده الهيثمي وقال: رواه أبو يعلى ورجاله وثقوا (الفتح الرباني 126 / 23).

(3) رواه عبد الله بن أحمد والبزار وقال الهيثمي إسنادهما حسن (الفتح الرباني 127 / 23) وأورده ابن كثير في البداية (211 / 5)، ورواه البزار (كشف الأستار 3 / 190) والطبراني (المعجم الكبير 5 / 175).

(4) يلاحظ أن الإمام لم يقل متن الحديث وإنما استشهدهم أن يقولوا بما سمعوا. إمعانا في الحجة.

(5) قال الهيثمي رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح غير فطر بن خليفة وهو ثقة (الزوائد

الصفحة 525
وعن عمرو ذي مر وسعيد بن وهب وزيد بن يثبع قالوا: سمعنا عليا يقول:

نشدت الله رجلا سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول يوم غدير خم ما قال لما قام. فقام ثلاثة عشر رجلا. فشهدوا أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟ قالوا: بلى يا رسول الله. فأخذ بيد علي وقال: من كنت مولاه فعلي مولاه. اللهم وال من والاه وعاد من عاداه وأحب من أحبه وأبغض من أبغضه وانصر من نصره وأخذل من خذله " (1). وفي رواية عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: فقام بضعة عشر رجلا فشهدوا. وكتم قوم فما فنوا من الدنيا إلا عموا وبرصوا " (2)، وأحاديث الرحبة رواها غير واحد (3)، وبعد أن أخذ علي من الناس شهادتهم قال: إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم حضر الشجرة بخم ثم خرج آخذا بيدي فقال: " أيها الناس ألستم تشهدون أن الله ربكم؟ قالوا: بلى، قال: ألستم تشهدون أن الله ورسوله أولى بكم من أنفسكم وأن الله ورسوله مولاكم، قالوا: بلى، قال: فمن كان الله ورسوله مولاه فإن هذا مولاه. وقد تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلوا بعده، كتاب الله سببه بيده وسببه بأيديكم أهل بيتي " (4).

وكان تعريف أهل البيت فيه التباس شديد فمن هم أهل البيت؟ وهل أزواج النبي منهم أم أنهم يساكنونه ويعولهم ولهم احترامهم وإكرامهم؟ وهذا

____________

104 / 9) وقال ابن كثير رواه النسائي إسناده جيد (البداية 210 / 5).

(1) رواه البرار وابن جرير وقال الهيثمي رجال إسناده ثقات (كنز العمال 158 / 13) وقال الألباني إسناده جيد (الصحيحة 343 / 5).

(2) رواه الخطيب في الأفراد (كنز العمال 131 / 13) وابن كثير في البداية (البداية 211 / 5).

(3) رماه البزار ورجاله رجال الصحيح وأبو يعلى ورجاله وثقوا و عبد الله بن أحمد (الزوائد 105 / 9)، وقال ابن كثير في أحاديث الرحبة، روي من طرف متعددة عن علي بن أبي طالب وله طرق متعددة عن زيد بن أرقم وقال سعيد بن جبير: وأنا سمعته من ابن عباس (البداية 349 / 7).

(4) رواه ابن جرير وابن أبي عاصم وابن راهويه والمحاملي بسند صحيح (كنز العمال 140 / 13).

الصفحة 526
الالتباس كان سببا في ذهاب بعض الناس إلى زيد بن أرقم للوقوف على حقيقة هذا الأمر. وقد يكون ذهابهم إلى زيد قبل خروج أم المؤمنين عائشة وقد يكون بعد ذلك، ولكن الأمر المؤكد أن خروج أم المؤمنين هو الذي أوجد السؤال.

روى الإمام مسلم عن زيد بن حيان قال: انطلقت أنا وحصين بن سبرة وعمر بن مسلم إلى زيد بن أرقم، فلما جلسنا إليه قال له حصين: لقد لقيت يا زيد خيرا كثيرا. رأيت رسول الله وسمعت حديثه وغزوت معه وصليت خلفه. لقد لقيت يا زيد خيرا كثيرا. حدثنا يا زيد ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم.

فقال زيد: يا ابن أخي والله لقد كبر سني وقدم عهدي ونسيت بعض الذي كنت أعي من رسول الله صلى الله عليه وسلم. فما حدثتكم فأقبلوا. وما لا فلا تكلفونيه. ثم قال: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فينا خطيبا بماء يدعى خما بين مكة والمدينة. فحمد الله وأثنى عليه ووعظ وذكر. ثم قال: أما بعد ألا أيها الناس. فإنما أنا بشر يوشك أن يأتي رسول فأجيب. وأنا تارك فيكم الثقلين. أولهما كتاب الله فيه الهدى والنور. فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به فحث على كتاب الله ورغب فيه. ثم قال: وأهل بيتي. أذكركم الله في أهل بيتي.

أذكركم الله أهل بيتي. أذكركم الله في أهل بيتي. فقال له حصين: ومن أهل بيته يا زيد. أليس نساؤه من أهل بيته؟ قال: نساؤه من أهل بيته!! ولكن أهل بيته من حرم الصدقة بعده. قال: ومن هم؟ قال: هم آل علي وآل عقيل وآل جعفر وآل عباس، قال: كل هؤلاء حرم الصدقة؟ قال: نعم " (1)، نقول:

وهذه الرواية توسعت في تحديد من هم أهل البيت. وقد روي أن " لكل شئ ذروة "، وآل علي في حديث مسلم في المقدمة. وفي رواية عند مسلم أيضا عندما سألوا زيدا: أليس نساؤه من أهل بيته؟ قال: لا. وأيم الله إن المرأة تكون مع الرجل العصر من الدهر. ثم يطلقها فترجع إلى أبيها وقومها. أهل بيته أصله وعصبته الذين حرموا الصدقة بعده " (2)، فإذا كان أهل بيته أصله فإنه في حديث

____________

(1) رواه مسلم في فضائل علي (الصحيح 179 / 15) وأحمد والحاكم (الفتح الرباني 104 / 22).

(2) رواه مسلم (الصحيح 181 / 15) في فضائل علي.

الصفحة 527
صحيح يقول النبي صلى الله عليه وسلم: " علي أصلي... " (1)، ويقول النووي في شرحه لحديث مسلم: والمعروف في معظم الروايات في غير مسلم أنه قال:

نساؤه لسن من أهل بيته " (2).

كانت هذه رواية مسلم وظهر فيها سؤال يبدو أنه شغل الجميع في وقته.

ولقد رأينا إجابات زيد بن أرقم. وفي روايات أخرى لم ينقطع العديد من الناس عن سؤال زيد. ولقد سئل أن يحدثهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:

لما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من حجة الوداع فنزل غدير خم أمر بدوحات فقممن، ثم قام فقال: كأني قد دعيت فأجبت. إني قد تركت فيكم الثقلين أحدهما أكبر من الآخر كتاب الله حبل ممدود من السماء والأرض.

وعترتي أهل بيتي. فانظروا كيف تخلفوني فيهما. فإنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض. ثم قال: إن الله مولاي وأنا مولى كل مؤمن. ثم أخذ بيد علي فقال:

من كنت مولاه فعلي وليه. اللهم وال من والاه وعاد من عاداه. فقيل لزيد: أنت سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم!! فقال: ما كان في الدوحات أحد إلا قد رآه بعينه وسمعه بأذنه " (3).

لقد شهد زيد على عهد عاد رجاله مع النبي صلى الله عليه وسلم من حجة الوداع. وكما شهد زيد شهد أبو هريرة. روى أنه دخل المسجد فاجتمع إليه الناس فقام إليه شاب فقال: أنشدك بالله سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من كنت مولاه فعلي مولاه. اللهم وال من والاه وعاد من عاداه، فقال: إني أشهد أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من كنت مولاه فعلي مولاه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه " (4). وإذا كان الصحابة قد

____________

(1) رواه الطبراني في الكبير والضياء بسند صحيح (كنز العمال 602 / 13).

(2) مسلم شرح النووي 181 / 15.

(3) رواه ابن جرير عن زيد وعن أبي سعيد (كنز العمال 104 / 131).

(4) رواه أبو يعلى والبزار والطبراني ورجال أبي يعلى والطبراني ثقات (الزوائد 106 / 9).

وذكر ابن كثير في البداية (213 / 5).

الصفحة 528
شهدوا أمام الأجيال بحديث الولاية. فإنهم أيضا شهدوا بحديث المنزلة. روى الإمام مسلم عن سعيد بن المسيب عن عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه قال:

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي: أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي. قال سعيد بن المسيب: فأحببت أن أشافه بها سعدا. فلقيت سعدا فحدثته بما حدثني عامر. فقال سعد: أنا سمعته فقلت: أنت سمعته!

فوضع أصبعيه على أذنه وقال: نعم وإلا فأسكتا (أي صمتا) " (1)، وإذا كان الصحابة قد شهدوا على حديث المنزلة. فإن أم المساور كانت لها شهادة أخرى.

فعن المساور الحميري عن أمه قالت: دخلت على أم المؤمنين أم سلمة فسمعتها تقول: كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: لا يحب عليا منافق ولا يبغضه مؤمن " (2)، وهكذا اكتملت الدائرة وجاءت المناقب كالنجوم عندما تظهر من وراء السحاب ليلتقي ضوؤها مع ضوء القمر. وكفى بالمناقب الثلاث لتقوم الحجة على أجيال الجمل وصفين والنهروان. وأجيال أخرى عاشت عصورا حق لها أن تبكي بلا احتجاز.

6 - على هامش أصداء يوم خم:

لقد ذكرنا فيما سبق بعض الأحاديث الواردة في حق أمير المؤمنين. ولقد وجدت أن ذكر بعضها هنا مرة أخرى يلقي الضوء على الأحداث فيمكن فهمها بسهولة. فأمير المؤمنين بعد أن ضجت الساحة بالأحداث. وبعد أن واجه الصحابة بيوم خم. لم تقف المعارضة له موقف المستسلم. ولقد واجهت المعارضة جميع رسل الله عليهم السلام في وقت كانت الحجج الدامغة فوق رؤوسهم. وأمام صد المعارضة بدأ الإمام علي يكشف عن نفسه وفقا لما يقتضيه الموقف. ومن المعلوم أن أمير المؤمنين كان مخصوصا من دون الصحابة رضوان الله عليهم بخلوات كان يخلو بها مع رسول الله صلى الله عليه

____________

(1) رواه مسلم (الصحيح 174 / 15) في فضائل علي.

(2) رواه الترمذي وحسنه (الجامع 635 / 5) ورواه أحمد (الفتح الرباني 121 / 23).

الصفحة 529
وآله وسلم. لا يطلع أحد من الناس على ما يدور بينهما، وكان كثير السؤال للنبي صلى الله عليه وآله عن معاني القرآن وعن معاني كلامه صلى الله عليه وسلم. وإذا لم يسأل ابتدأه النبي صلى الله عليه وسلم بالتعليم والتثقيف. ولم يكن أحد من الصحابة كذلك. بل كانوا أقساما: فمنهم من يهابه أن يسأل، وهم الذين يحبون أن يجئ الأعرابي أو الطارق فيسأله وهم يسمعون. ومنهم من كان بعيد الفهم قليل الهمة في النظر والبحث. ومنهم من كان مشغولا عن طلب العلم وفهم المعاني. إما بعبادة أو دنيا. ومنهم المقلد الذي يرى أن فرضه هو السكوت وترك السؤال. ومنهم المبغض الشانئ الذي ليس للدين عنده من الموقع ما يضيع وقته وزمانه بالسؤال عن دقائقه وغوامضه. أما علي رضي الله عنه يضاف إلى الأمر الخاص به ذكاؤه وفطنته. وطهارة طينته. وإشراق نفسه وضوؤها... فلذلك كان علي كما قال الحسن البصري رباني هذه الأمة وذا فضلها " (1)، وقيل للحسن البصري: ما تقول في علي بن أبي طالب؟ فاحمرت وجنتا الحسن وقال: رحم الله عليا. إن عليا كان سهما صائبا في أعدائه. وكان في محلة العلم أشرقها وأقربها إلى رسول الله صلى الله عليه وآله. وكان رهباني هذه الأمة. لم يكن لمال الله بالسروقة. ولا في أمر الله بالنومة. أعطى القرآن عزائمه وعمله وعلمه. فكان منه في رياض مونقة وأعلام بينة) (2).

وعندما بدأ أمير المؤمنين يكشف عن نفسه في عالم الرواية بعد اندثار عالم اللارواية روي عنه أنه قال: " اللهم لا أعرف أن عبدا لك من هذه الأمة عبدك قبلي غير نبيك - قالها ثلاث مرات - لقد صليت قبل أن يصلي الناس سبعا " (3)، وقال: " أنا أول من صلى مع رسول الله " (4)، وقال: " كنت إذا سألت الله

____________

(1) ابن أبي الحديد 598 / 3.

(2) البداية والنهاية 5 / 8.

(3) رواه أحمد وقال في الفتح: وقال الهيثمي: رواه أحمد وأبو يعلى والبزار والطبراني وإسناده حسن (الفتح الرباني 36 / 23)، (كنز العمال 126 / 13)، (تحفة الأحوازي 234 / 10).

(4) رواه أحمد وقال الهيثمي رجاله ثقات (الزوائد 103 / 9) ورواه الطبراني وابن أبي شيبة

الصفحة 530
صلى الله عليه وسلم أعطاني وإذا سكت ابتدأني " (1)، وقال: " كان لي من رسول الله صلى الله عليه وسلم مدخلان. مدخل بالليل ومدخل بالنهار " (2)، وقال: لما نزلت هذه الآية " (وأنذر عشيرتك الأقربين) جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل بيته وقال: من يبايعني على أن يكون أخي وصاحبي ووليكم من بعدي، فمددت. وقلت: أنا أبايعك وأنا يومئذ أصغر القوم فبايعني على ذلك " (3)، وقال: " إنه دخل على النبي صلى الله عليه وسلم وقد بسط شملة (كساء يتغطى ويتلفف به) فجلس عليها هو وعلي وفاطمة والحسن والحسين. ثم أخذ البني صلى الله عليه وسلم بمجامعه فعقد عليهم ثم قال: اللهم ارض عنهم كما أنا عنهم راض (4) - وفي رواية - ثم تلا هذه الآية: (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا)، وقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: " إن الله يغضب لغضبك ويرضى لرضاك " (5)، وقال: " والذي فلق الحبة وبرأ النسمة إنه لعهد النبي الأمي صلى الله عليه وآله إلي، أن لا يحبني إلا مؤمن ولا يبغضني إلا منافق " (6)، وقال: " جاء النبي صلى الله عليه وسلم أناس من قريش. فقالوا: يا محمد. إنا جيرانك وحلفاؤك. وإن ناسا من عبيدنا قد أتوك. ليس بهم رغبة في الدين ولا رغبة في الفقه. إنما فروا من ضياعنا وأموالنا. فأرددهم إلينا. فقال لأبي بكر: ما تقول. قال: صدقوا إنهم لجيرانك وأحلافك. فتغير وجه

____________

وابن سعد (كنز العمال 124 / 13).

(1) رواه الترمذي وحسنه (الجامع 637 / 5)، (تحفة الأحوازي 225 / 10) رواه النسائي وابن خزيمة في صحيحه، والحاكم وأبو نعيم وسعيد بن منصور (كنز العمال 120 / 13).

(2) رواه النسائي 2 / 12.

(3) رواه أحمد وابن حرير والضياء بسند صحيح (كنز العمال 129، 133، 175 / 13)، (الفتح الرباني 122 / 23).

(4) رواه الطبراني في الأوسط وقال الهيثمي رجاله ثقات (الزوائد 169 / 9) وحديث الكساء روي عن عدد من الصحابة وقد خرجناه من قبل.

(5) رواه الطبراني وقال الهيثمي إسناده حسن (الزوائد 203 / 9).

(6) رواه مسلم (الصحيح 2164)،، حب علي من الإيمان.

الصفحة 531
رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال لعمر: ما تقول، قال: صدقوا إنهم لجيرانك وحلفاؤك. فتغير وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا معشر قريش والله ليبعثن الله عليكم رجلا قد امتحن الله قلبه بالإيمان، فيضربكم على الدين!! أو يضرب بعضكم!! فقال أبو بكر: أنا يا رسول الله، قال: لا، قال عمر: أنا يا رسول الله. قال: لا. ولكنه الذي يخصف النعل - وكان أعطى عليا نعلا يخصفها " (1)، وفي رواية قال راوي الحديث عن علي: ثم التفت إلينا علي فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار " (2).

وقال علي: والله ما قوتل أهل هذه الآية منذ نزلت: (وإن نكثوا إيمانهم من بعد عهدهم وطعنوا في دينكم فقاتلوا أئمة الكفر إنهم لا إيمان لهم) (3)، وقال: " عهد إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم في قتال الناكثين والقاسطين والمارقين " (4)، وقال: ولقد علم المستحفظون من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أني لم أرد على الله ولا على رسوله ساعة قط. ولقد واسيته بنفسي من المواطن التي تنكص فيها الأبطال وتتأخر الأقدام. نجدة أكرمني الله بها. ولقد قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم. وإن رأسه لعلى صدري. ولقد سألت نفسه في كفي. فأمررتها على وجهي، ولقد وليت غسله صلى الله

____________

(1) رواه أحمد وابن جرير وصححه وسعيد بن منصور والضياء بسند صحيح (كنز العمال 127، 173 / 13).

(2) رواه الترمذي وحسنه (الجامع 634 / 5) والخطيب وابن جرير والضياء بسند صحيح (كنز العمال 115، 193 / 13).

(3) رواه ابن مردويه (كنز العمال 425 / 2)، (الدر المنثور 215 / 3)، وروي أيضا عن ابن عباس وحذيفة وأخرجه ابن أبي شيبة وابن أبي حاتم عن ابن عمر (كنز العمال 417، 426 / 1)، وروي أن حذيفة قال: ما بقي من أصحاب هذه الآية إلا ثلاثة ولا من المنافقين إلا أربعة. وأخرجه ابن أبي شيبة والبخاري في تاريخه وابن مردويه (الدر المنثور 214 / 3).

(4) رواه ابن عساكر وابن عدي والطبراني (كنز العمال 292 / 11)، وقال ابن كثير روي من طرق عديدة (البداية 334 / 7).

الصفحة 532
عليه وسلم والملائكة أعواني. فضجت الدار والأفنية: ملا يهبط، وملأ يعرج.

وما فارقت سمعي هينمة منهم. يصلون عليه، حتى واريناه في ضريحه. فمن ذا أحق به مني حيا وميتا. فانفذوا على بصائركم. ولتصدق نياتكم في جهاد عدوكم. فوالذي لا إله إلا هو إني لعلى جادة الحق. وإنهم لعلى مزلة الباطل.

أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم " (1).

لقد أخبرهم أن العلماء والأمناء من الصحابة يعلمون أنه لم يرد على الله ورسوله ساعة قط. ويعلمون أنه ثبت معه يوم أحد وفر الناس. وثبت معه يوم حنين وفر الناس. وثبت تحت رايته يوم خيبر حتى فتحها. وكل ذلك نجدة من الله أكرمه بها. وأخبرهم بحقيقة الأمر يوم وفاة النبي صلى الله عليه وسلم. والحقيقة أن النبي صلى الله عليه وسلم قبض و إن رأسه لعلى صدر علي وليست على صدر أحد غيره. وأخبرهم أن الملائكة النازلين في الدار ارتفع ضجيجهم. وأنه سمع ذلك ولم يسمعه غيره من أهل الدار، وقال ابن أبي الحديد: حديث سماع الصوت رواه خلق كثير عن علي. وروي أن عليا عصب عيني الفضل بن العباس حين صب عليه الماء. وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أوصاه بذلك. وقال: إنه لا يبصر عورتي أحد غيرك إلا عمي " (2)، ثم قال الإمام بعد ذلك: أي شخص أحق برسول الله صلى الله عليه وسلم حال حياته وحال وفاته مني. قال ابن أبي الحديد: ومراده من هذا الكلام. أنه أحق بالخلافة بعده. وأحق الناس بالمنزلة منه. حيث كان بتلك المنزلة منه في الدنيا (3)، ثم أمرهم فقال: فانفذوا إلى بصائركم. أي أسرعوا إلى الجهاد على عقائدكم التي أنتم عليها. ولا يدخلن الشك والريب في قلوبكم. ثم بشرهم فقال: إني لعلى جادة الحق. وإنهم لعلى منزلة الباطل، قال ابن أبي الحديد:

كلام عجيب على قاعدة الصناعة المعنوية لأنه لا يحسن أن يقول: وإنهم لعلى

____________

(1) ابن أبي الحديد 493 / 3.

(2) المصدر السابق، 497 / 3.

(3) المصدر السابق، 498 / 3.

الصفحة 533
جادة الباطل. لأن الباطل لا يوصف بالجادة " (1).

وهكذا دارت الأحداث بعد مقتل عثمان. فلقد بايع الناس الإمام عليا وعقب المبايعة بدأت الإصلاحات العلوية التي بدأت بقرار عزل الأمراء ثم بدأت حركة الاصلاح تتسع فقام الإمام بالتسوية بين الناس في الأموال وتعديل نظام الخراج فأعاد الحقوق للمقاتلة ثم بدأت الرواية عن النبي صلى الله عليه وسلم تتسع وبدأ القص والقصاصون في ركوب دوابهم للاتجاه نحو عالم النسيان، وبينما كانت حركة الاصطلاح تسير قطع الناكثون الفارون من بني أمية والمرتزقة عليها الطريق. وكانت حركة المعارضة عليها تحذير من النبي صلى الله عليه وسلم لعلهم يرجعون ولكن الكلاب نبحت وما رجعوا. وكانت حركة الاصلاح عليها تبشير من النبي صلى الله عليه وسلم وفيها علامات واضحة. وكان حتما أن يواجه الناكثون خاصف النعل في ميدان القتال. وكانت المعارك أيضا عليها علامات من رسول الله صلى الله عليه وسلم.

____________

(1) المصدر السابق 498 / 3.