فتقدم أبو موسى ليتكلم فقال له ابن عباس: ويحك والله إني لأظنه قد خدعك. إن كنتما قد اتفقتما على أمر فقدمه فليتكلم بذلك الأمر قبلك. ثم تكلم أنت بعده فإن عمرا رجل غادر ولا آمن أن يكون قد أعطاك الرضا فيما بينك وبينه. فإذا قمت في الناس خالفك. وكان أبو موسى مغفلا فقال: إنا قد اتفقنا.
فتقدم أبو موسى ثم قال: أيها الناس إنا قد نظرنا في أمر هذه الأمة. فلو نر أصلح لأمرها. ولا ألم لشعثها من أمر قد أجمع رأيي ورأي عمرو عليه وهو أن تخلع عليا ومعاوية وتستقبل هذه الأمة هذا الأمر فيولوا منهم من أحبوا عليهم وإني قد خلعت عليا ومعاوية... وأقبل عمرو بن العاص فقام مقامه وقال: إن هذا قد قال ما سمعتم وخلع صاحبه وأنا أخلع صاحبه كما خلعه وأثبت صاحبي معاوية. فإنه ولي عثمان بن عفان، والطالب بدمه وأحق الناس بمقامه (1) - وفي رواية - وأن أبا موسى قد كتب في الصحيفة أن عثمان قتل مظلوما وأن لوليه سلطانا أن يطلب بدمه حيث كان. وقد صحب معاوية رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه. وصحب أبوه النبي صلى الله عليه وسلم. وأن معاوية هو الخليفة علينا. وله طاعتنا وبيعتنا على الطلب بدم عثمان.
فقال أبو موسى: كذب عمرو. لم نستخلف معاوية. ولكنا خلعنا معاوية وعليا معا، وقال عمرو: بل كذب عبد الله بن قيس، قد خلع عليا ولم أخلع معاوية (2). فقال أبو موسى: ما لك لا وفقك الله غدرت وفجرت إنما مثلك (كمثل الحمار يحمل أسفارا) (3)، فقال له عمرو: بل إياك يلعن الله. كذبت وغدرت. إنما مثلك مثل (الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث) (4)، ثم
____________
(1) الطبري 40 / 6، مروج الذهب 442 / 2، الكامل 168 / 3، البداية 248 / 7، ابن أبي الحديد 451 / 1.
(2) مروج الذهب 442 / 2.
(3) سورة الجمعة: الآية 5.
(4) سورة الأعراف: الآية 176.
وهكذا انتهى التحكيم بين المسلمين. لقد اشترط أمير المؤمنين علي بن أبي طالب على الحكمين أن يحكما بكتاب الله ولا يتبعان الهوى ولا يداهنان.
فلم يأخذا من كتاب الله إلا مثلين ضربهما الله. مثل الحمار ومثل الكلب، وضرب كل واحد منهما صاحبه بمثل. ومن أجمل ما قرأت في هذا المقام. قول الأستاذ العقاد وهو يعلق على التحكيم قال: كلب وحمار فيما حكم به على نفسيهما غاضبين. وهما يقضيان على العالم بأسره ليرضى بما قضياه. وانتهت المأساة بهذه المهزلة. أو انتهت المهزلة بهذه المأساة (3).
ومن أطرف الآراء التي قرأتها عن التحكيم ورأي ابن كثير، فلقد قال:
فقال عمرو: إن هذا قد قال ما سمعتم وأنه قد خلع صاحبه، وإني قد خلعته كما خلعه وأثبت صاحبي معاوية، فإنه ولي عثمان وهو أحق الناس بمقامه. ثم يعلق ابن كثير على ما فعله ابن العاص فيقول: وكأن عمرو رأى أن ترك الناس بلا إمام والحالة هذه يؤدي إلى مفسدة طويلة عريضة أربى مما الناس فيه من الاختلاف.
فأقر معاوية لما رأى ذلك من المصلحة. والاجتهاد يخطئ ويصيب (4)، فيا ترى هل في هذا إقرار لفقه الكيد والمكر تحت عنوان: إن ابن العاص خاف على الأمة أن تنام ليلة واحدة بدون إمام؟ لأن من مات في هذه الليلة فستكون ميتته ميتة جاهلية. فلهذا أسرع بتنصيب إمام الزمان معاوية. وهو من هو وأسرته لها فضل عظيم على الإسلام والمسلمين. وإذا كان ابن كثير يرى أن ابن العاص لو لم يفعل ذلك لوصل الأمر إلى مفسدة طويلة. فابن كثير كواحد من كتاب التاريخ يعلم قبل غيره، أن الاختلاف والافتراق على امتداد التاريخ بعد صفين يعود أصله
____________
(1) الطبري 40 / 6، مروج الذهب 443 / 2، الكامل 168 / 3، البداية 248 / 7، ابن أبي الحديد 451 / 1.
(2) الطبري 40 / 6.
(3) عبقرية الإمام / العقاد ص 85.
(4) البداية 284 / 7.
الذي يعده ابن كثير من الخلفاء الراشدين. ولا ندري كيف لا يقبل خليفة راشد التحكيم ثم تقبله أمه ملتمسة العذر لابن العاص، على اعتبار أنه متأول مجتهد له أجر على اجتهاده!! أي أجر والله ذم الاختلاف وابن العاص له عمود كبير في دائرة الاختلاف.
ومن أنصف ما قرأت في هذا المقام. ما ذكره الدميري في حياة الحيوان.
روي أن معاوية عندما صار خليفة قال لأبي الأسود الدؤلي: ما كنت تصنع لو جعلك أبو تراب حكما؟ فقال: كنت أجمع ألف رجل من المهاجرين وأولادهم، وألفا من الأنصار وأولادهم. ثم أقول: يا معشر الحاضرين، أيما أحق بالخلافة رجل من المهاجرين أم رجل من الطلقاء؟ فلما سمع منه معاوية لعنه وطرده من مجلسه.
صحيح أن هذا الرأي أغضب الحاكم. لكنه فيه إنصاف، وإدخال المهاجرين والأنصار طرفا في القضية فيه روح الشورى وبعد النظر، أما أن تترك الساحة للثعالب ويلتمس لهم الأعذار فيما بعد. فهذا - في رأينا - لا يجانبه الصواب.
وقبل أن نلقي الضوء على أحداث ما بعد التحكيم، علينا أن ننظر في الأحداث منذ أن رفعت المصاحف لنرى كيف كانت حركة أمير المؤمنين. ولقد ذكرنا أن الإمام كان يعلم أنه مقتول وأن معاوية سيمتلك ما تحت قدمه من تراب. وعلى الرغم من هذا فإن الإمام ومن معه كانوا يأخذون بأسباب الحياة الكريمة، وكانوا يواجهون الانحراف الذي أخبر به النبي صلى الله عليه وآله وسلم، من أجل أن يتنفس المستقبل الحرية الحقيقية وهو يخطو في اتجاه أهدافه. وحركة أمير المؤمنين في مواجهة هذه الأحداث. كانت حركة الحجة على جيل الصحابة الأوائل. لأن الشذوذ إذا تسرب من أرضية الصحابة إلى المستقبل فلن يكون في هذه الحالة شذوذا، وإنما سيكتسب الشذوذ رداء القداسة وعلى هذا لا يمكن نقده. ثم تعبر الفتن على هذه القواعد في هدوء وسكينة
وبعد التحكيم الذي كان الإمام يعلم نتيجته، وذلك وفقا لإخبار النبي صلى الله عليه وسلم. بدأ الإمام يحث الناس على القتال. لم يحثهم على قتال الحكمين، وإنما على قتال البغاة، فالحكمين سقط حكمهما عند الإمام بمجرد إعلانه لأنه اشترط. إذا لم يحكما بكتاب الله فلا حكومة. لقد حث الجميع على قتال القاسطين بعد أن تمت مهمته في إقامة حجته على أفراد بعينهم وأقوام بعينهم. كان له رغبة في أن يلتقي بهم أمام الله وحده. وعندما ساق الله إليه الأحداث والتقى بهم، وضعهم في دائرة القرآن وحده هو الحكم فيها. ثم جلس بعد ذلك ينادي معسكره كي يأخذ بالأسباب كما أخذ بها عمار وابن صوحان وابن بديل وابن عامر القرني وغيرهم. وكان يحذر إلا أن أخوف الفتن عليكم فتنة بني أمية. كان يريد منهم أن يطفئوا بريقها، ولكن تقاعس منهم من
2 - قتال المارقين:
روي أنه لما بلغ عليا ما كان من أمر أبي موسى وعمرو قال: إني كنت تقدمت إليكم في هذا الحكومة ونهيتكم عنها، فأبيتم إلا عصياني، فكيف رأيتم عاقبة أمركم إذ أبيتم علي؟ والله إني لأعرف من حملكم على خلافي، والترك لأمري، ولو أشاء أخذه لفعلت، ولكن الله من ورائه (1)، وكنت فيما أمرت به كما قال أخو بني جشم (2).
من دعا إلى هذه الحكومة فاقتلوه قتله الله، ولو كان تحت عمامتي هذه.
إلا أن هذين الرجلين الخاطئين اللذين اخترتموهما حكمين قد تركا حكم الله، وحكما بهوى أنفسهما بغير حجة ولا حق معروف، فأماتا ما أحيا القرآن وأحيا ما أماته، واختلف في حكمهما كلامهما، ولم يرشدهما الله ولم يوفقهما، فبرئ الله منهما ورسوله وصالح المؤمنين. فتأهبوا للجهاد، واستعدوا للمسير، وأصبحوا في عساكركم إن شاء الله تعالى (4).
ثم كتب أمير المؤمنين إلى الخوارج الذين اعتزلوه: من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى زيد بن حصين وعبد الله بن وهب ومن معهما من الناس، أما بعد:
فإن هذين الرجلين اللذين ارتغبنا حكمهما قد خالفا كتاب الله واتبعا أهواءهما بغير هدى من الله، فلم يعملا بالسنة ولم ينفذا للقرآن حكما، فبرئ الله ورسوله منهما والمؤمنون، فإذا بلغكم كتابي هذا، فاقبلوا فإنا سائرون إلى عدونا
____________
(1) قال المسعودي: يريد بذلك الأشعث بن قيس والله أعلم.
(2) عند أبي الحديد، " أخو هوزان " 411 / 1.
(3) اللوى / ما النوى من الرمل.
(4) مروج الذهب 446 / 2، ورواه باختصار: الكامل 171 / 3، البداية والنهاية 287 / 7، ابن أبي الحديد 454 / 1، الطبري 43 / 6، الأغاني 9 / 5.
فكتبوا إليه: أما بعد فإنك لم تغضب لربك، إنما غضبت لنفسك، فإن شهدت على نفسك بالكفر واستقبلت التوبة نظرنا فيما بيننا وبينك، وإلا فقد نابذناك على سواء، إن الله لا يحب الخائنين (2)، وهكذا خاطب أتباع الشيطان أمير المؤمنين. لقد رموا إمام المتقين (3) بالكفر. وهذا إن دل على شئ فإنما يدل على أنهم لا يعلمون من الإسلام إلا اسمه، وتحت هذا الاسم ساروا وراء أمير المؤمنين، ليأكلوا باسم الشعار، وعندما رفع أهل الشام المصاحف وجدوا أنفسهم في الشعار وليس في الشعور، وطالبوا الإمام بوقف القتال. وعندما انتهى القتال بطلب التحكيم راح الذين يقرؤون القرآن ولا يجاوز تراقيهم يوزعون الأخطاء. وها هم يرمون أمير المؤمنين بالكفر، وعندما نقول بأنهم أتباع الشيطان فإن هذا القول حق، لأن أمير عسكرهم كان عبد الله بن وهب الراسبي، وهو المعروف لهم اسما ونسبا، أما الأستاذ الذي يغذيهم بالعلوم فهو شيطان الردهة.
وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم في حياته بقتله عندما شاهده أبو بكر، وقد ذهب كل من أبي بكر وعمر ليقتلاه ولكن خشوعه غرهما فلم يقتلاه، فأمر النبي صلى الله عليه وآله عليا أن يقتله وعندما ذهب علي لم يجد هذا الشيطان. وأخبر النبي صلى الله عليه وآله عليا بأنه سيقتله عند قتال المارقين. ولقد تحدثنا عن ذو الثدية وأمر النبي بقتله من قبل.
وأمير المؤمنين حاول بكل جهده أن يفصل الاتباع عن سيدهم، فكاتبهم وبعث إليهم بعبد الله بن عباس ثم ذهب إليهم بنفسه كي يعودوا إلى الحق، ولكنهم أبوا إلا الركون لما تلقيه الشياطين. وبعد أن يأس منهم تركهم، وكتب إلى أمراء الأنصار بالاستعداد لقتال أهل الشام. ومما جاء في كتابه إليهم: أما بعد، فإن من ترك الجهاد في الله وأدهن في أمره، كان على شفا هلكة إلا أن
____________
(1) الطبري 44 / 6، الكامل 171 / 3.
(2) الطبري 44 / 6، الكامل 171 / 3، البداية والنهاية 287 / 7.
(3) الطبري 48 / 6، الكامل 171 / 3.
قاتلوا الخاطئين الضالين القاسطين المجرمين، الذين ليسوا بقراء للقرآن، ولا فقهاء في الدين، ولا علماء في التأويل، ولا لهذا الأمر بأهل في سابقة الإسلام، والله لو ولوا عليكم لعملوا فيكم بأعمال كسرى وهرقل، تيسروا وتهيئوا للمسير إلى عدوكم (1).
وما أن بدأ الحشد لمواجهة أهل الشام، حتى بدأت قوات الخوارج تتحرك في الداخل وتثير المتاعب في العديد من المناطق. وكأن بينهم وبين أهل الشام عقد غير منظور يقضي بتشتيت قوات أمير المؤمنين. وهناك أدلة على ذلك تستشف من سير الحوادث، ونتيجة للعمليات التخريبية للخوارج قال الناس في معسكر أمير المؤمنين: لو سار بنا أمير المؤمنين إلى هذه الحرورية فبدأنا بهم ثم نسير بعد ذلك إلى الشام. وعندما علم أمير المؤمنين بما يقوله الناس خطب وحرضهم على الجهاد وقال: سيروا إلى قتلة المهاجرين والأنصار قدما، فإنهم سعوا في إطفاء نور الله، وحرضوا على قتال رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه. ألا إن رسول الله أمرني بقتال القاسطين، وهم هؤلاء الذين سرنا إليهم، والناكثين وهم هؤلاء الذين فرغنا منهم، والمارقين ولم نلقهم بعد.
فسيروا إلى القاسطين، فهم أهم علينا من الخوارج. سيروا إلى قوم يقاتلونكم كيما يكونوا جبارين يتخذهم الناس أربابا، ويتخذون عباد الله خولا ومالهم دولا (2).
وفي الوقت الذي يحرض فيه أمير المؤمنين أتباعه على القتال، كان الخوارج قد اجتمعوا في أربعة آلاف وبايعوا عبد الله بن وهب الراسبي، وتحركوا حتى نزلوا المدائن، وجاؤوا بعبد الله بن خباب صاحب رسول الله صلى الله عليه وعامل علي عليها، وضربوا عنقه وبقروا بطن امرأته وكانت حاملا. وقتلوا
____________
(1) الطبري 44 / 6.
(2) مروج الذهب 449 / 2، الكامل 174 / 3.
سر بنا إلى القوم فإذا فرغنا مما بيننا وبينهم سرنا إلى عدونا من أهل الشام (2).
ونادى مناد أمير المؤمنين بالذهاب إلى قتال الخوارج.
ويبدو أن هناك إذاعة أخذت على عاتقها زعزعت النفوس من قتال الخوارج، على اعتبار أنهم قراء ويصلون ويصومون. وهذه الإذاعة وصلت حتى المدينة المنورة فعن أبي سعيد الرقاشي قال: دخلت على عائشة فقالت: ما بال أبي الحسن يقتل أصحابه القراء (3)، وعن أبي كثير قال: كنت مع سيدي علي بن أبي طالب حتى قتل أهل النهروان. فكأن الناس وجدوا في أنفسهم من قتلهم (4).
فهذا وغيره يدل على أن هناك إذاعة كانت تخذل الناس عن قتال الخوارج. وبعد القتال وعندما أعلنت إذاعة أمير المؤمنين أن عليا قتل ذو الثدية أو شيطان الردهة. بدأت أم المؤمنين عائشة تحدث بأحاديث النبي صلى الله عليه وآله فيما يختص بفضل العصابة التي تقتل شيطان الردهة. كما بدأ الذين وجدوا في أنفسهم من قتلهم يستبشروا ويذهب عنهم ما كانوا يجدون.
وروي أن أمير المؤمنين علي عندما تحرك بقواته في اتجاه الخوارج كان يسير بجانبه جندب الأزدي فقال أمير المؤمنين: يا جندب. أترى تلك الرابية؟
قال: نعم يا أمير المؤمنين، فقال: فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبرني أنهم يقتلون عندها (5)، وكان طليق بن علي اليمامي يقول: قال النبي
____________
(1) الطبري 46 / 6، مروج الذهب 449 / 2، الكامل 174 / 3.
(2) الطبري 47 / 2، الكامل 174 / 3.
(3) رواه ابن أبي عاصم (كتاب السنة 599 / 2).
(4) رواه الإمام أحمد والحميدي والعدني (كنز العمال 229 / 11).
(5) رواه ابن عساكر (كنز العمال 302 / 11).
وهكذا أخبر النبي صلى الله عليه وآله بهذه الأنماط البشرية. أخبر بمجيئهم وقتالهم بين الأنهار في وقت لم يكن هناك وجود للأنهار، ثم دل علي بن أبي طالب على رابية في هذه الأرض وأخبره بأنهم عندها يقتلون. إنه الإخبار بالغيب عن الله، الإخبار بخطوات الشيطان قبل أن تظهر آثارها على الأرض. إن الإخبار بالغيب حصار للشيطان وانتصار للإنسان، ولكن أكثر الناس لا يعقلون. وروي أن أمير المؤمنين عندما أتى أهل النهروان وقف عليهم فقال: أيتها العصابة التي أخرجها عداوة المراء واللجاجة، وصدها عن الحق والهوى، وطمح بها النزق، وأصبحت في اللبس والخطب العظيم. إني نذير لكم أن تصبحوا تلفيكم الأمة غدا صرعى بأثناء هذا النهر، وبأهضام هذا الغائط، بغير بنية من ربكم ولا برهان بين. ألم تعلموا أني نهيتكم عن الحكومة، وأخبرتكم أن طلب القوم إياها منكم دهن ومكيدة لكم، ونبأتكم أن القوم ليسوا بأصحاب دين ولا قرآن، وإني أعرف بهم منكم، عرفتهم أطفالا ورجالا، فهم أهل المكر والغدر، وإنكم إن فارقتم رأيي جانبتم الحزم فعصيتموني حتى إذا أقررت بأن حكمت، فلما فعلت شرطت واستوثقت فأخذت على الحكمين إن يحييا ما أحيا القرآن وأن يميتا ما أمات القرآن، فاختلفا وخالفا حكم الكتاب والسنة. فنبذنا أمرهما ونحن على أمرنا الأول. فما الذي بكم ومن أين أتيتم؟ قالوا: إننا حكمنا فلما حكمنا أثمنا وكنا بذلك كافرين، وقد تبنا فإن تبت كما تبنا فنحن معك. وإن أبيت فاعتزلنا فإنا منابذوك على سواء إن الله لا يحب الخائنين.
فقال أمير المؤمنين: أصابكم حاصب ولا بقي منكم وابر. أبعد إيماني برسول الله صلى الله عليه وسلم وهجرتي معه وجهادي في سبيل الله. أشهد
____________
(1) رواه الطبراني (كنز العمال 208 / 11).
واصطف الفريقان، ورفع أبو أيوب الأنصاري راية الأمان ونادى: من جاء هذه الراية منكم ممن لم يقتل ولم يستعرض فهو آمن. ومن انصرف منكم إلى الكوفة أو إلى المدائن وخرج من هذه الجماعة فهو آمن. وعندما سمعوا النداء انصرف بعضهم إلى الكوفة والبعض الآخر إلى الدسكرة وخرج منهم إلى علي نحو من مائة (2). وأمر علي بأن يكفوا عنهم حتى يبدؤهم (3)، ورمى الخوارج بالسهم الأول ونادوا الرواح الرواح إلى الجنة وشدوا على الناس والخيل (4).
وبدأ الخوارج يتساقطون حول الرابية التي أخبر النبي صلى الله عليه وآله بأنهم يقتلون عندها، وقتل قادتهم وعلى رأسهم عبد الله بن وهب الراسبي (5)، وفي نهاية المعركة خرج علي بن أبي طالب يطلب من أصحابه أن يبحثوا له عن ذي الثدية بين القتلى ووصفه لهم. فقال بعضهم: ما نجده. فقال أمير المؤمنين:
والله ما كذبت ولا كذبت اذهبوا فابحثوا عنه، فوجدوه على الوصف الذي وصفه علي (6)، في حفرة على شاطئ النهر في أربعين أو خمسين قتيلا، فلما استخرج نظر إلى عضده فإذا لحم مجتمع على منكبه كثدي المرأة. له حلمة عليها شعيرات سود، فإذا مدت امتدت حتى تحاذي طول يده الأخرى، ثم تترك فتعود إلى منكبه كثدي المرأة. فلما استخرج قال علي: الله أكبر والله ما كذبت ولا كذبت، أما والله لولا أن تنكلوا عن العمل. لأخبرتكم بما قضى الله على لسان نبيه صلى الله عليه وآله لمن قاتلهم مستبصرا في قتالهم. عارفا للحق الذي نحن
____________
(1) الطبري 48 / 6.
(2) الطبري 49 / 6.
(3) الطبري 49 / 6.
(4) الطبري 49 / 6.
(5) الطبري 49 / 6.
(6) روى مسلم عن أبي سعيد قال: أشهد أن عليا قاتلهم وأنا معه، فأمر بذلك الرجل فالتمس فوجد فأتى به حتى نظرت إليه على نعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الذي نعت (صحيح مسلم 167 / 7).
فجعل الناس يقولون بعد أن اختاروا في اسم أبيه ولم يعرفه أحد منهم: هذا ملك! هذا ملك، فقال علي: ابن من هو؟ فلم يجيبوه، فقال: أما إن خليلي صلى الله عليه وآله أخبرني بثلاثة إخوة من الجن هذا أكبرهم، والثاني له جمع كثير، والثالث فيه ضعف (2). وفي رواية - قال علي: أيكم يعرف هذا، فقال رجل من القوم هذا حرقوص. أمه ههنا. فأرسل إلى أمه وقال لها: ممن هذا؟
قالت: ما أدري إني كنت في الجاهلية أرعى غنما لي بالربذة، فغشيني شئ كهيئة الظلمة فحملت سنة فولدت هذا (3).
وعندما طار الخبر إلى الآفاق، قال سعد بن أبي وقاص: قتل علي بن أبي طالب شيطان الرهة (4). وعن أبي سعيد الرقاشي قال: دخلت على عائشة فقالت: ما بال أبي الحسن يقتل أصحابه القراء. قال قلت: يا أم المؤمنين إنا وجدنا في القتلى ذا الثدية. فشهقت أو تنفست ثم قالت: كاتم الشهادة مع شاهد الزور. سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: يقتل هذه العصابة خير أمتي (5) - وفي رواية - هم شرار أمتي يقتلهم خيار أمتي (6) - وفي رواية - هم شر الخلق والخليقة يقتلهم خير الخلق والخليقة (7).
من هذا كله رأينا أن اتباع الشعار الذي لا شعور فيه، الذين يأكلون الدين
____________
(1) الطبري 50 / 6، مروج الذهب 452 / 2.
(2) رواه الإمام أحمد وقال الهيثمي رجاله ثقات (الفتح الرباني 156 / 23).
(3) أخرجه أبو يعلى (الخصائص الكبرى 250 / 2).
(4) البداية والنهاية 298 / 7.
(5) رواه ابن أبي عاصم (كتاب السنة 599 / 2.
(6) رواه البزار (فتح الباري 286 / 12).
(7) رواه الطبراني (فتح الباري 286 / 12).
فهؤلاء اصطفوا وراء شيطان من شياطين الجن. وأنفس أمارة بالسوء تمنطق أصحابها بجلود آدمية. ولقد روى الإمام مسلم: إن الشيطان ليتمثل في صورة الرجل فيأتي القوم فيحدثهم بالحديث من الكذب فيتفرقون، فيقول الرجل منهم:
سمعت رجلا أعرف وجهه ولا أدري ما اسمه يحدث (1). وروى ابن عساكر:
سيكون بعدي أئمة لا يهتدون بهديي ولا يستنون بسنتي، وسيقوم رجال قلوبهم قلوب شياطين في جثمان إنس " (2).
إن أتباع اللاشعور واللادعوة عبدوا كل شئ حتى ذواتهم. فاهتموا بصورهم واشتغلوا بها ولم يفقهوا قول النبي صلى الله عليه وآله: " إن الله لا ينظر إلى أجسامكم ولا إلى صوركم ولكن ينظر إلى قلوبكم " (3). ولقد استهدف الشيطان قلوبهم حتى أنهم لم يجدوا حرجا في تكفير أمير المؤمنين الذي هو من النبي بمنزلة هارون من موسى إلى النبوة، ولم يترك الشيطان لهم إلا ما على جلودهم وهي المساحة التي لا ينظر الله إليها.
وهذا الصنف من الناس لم يستأصل في موقعة النهروان، وإنما توجد لهم بصمات على امتداد التاريخ روي أنه لما قتل الخوارج قيل لأمير المؤمنين: هلك القوم بأجمعهم، فقال: كلا والله إنهم نطف في أصلاب الرجال وقرارات النساء، كلما نجم منهم قرن قطع، حتى يكون آخرهم لصوصا سلابين. وروي عن النبي صلى الله عليه وآله قال: " لا يزالوا يخرجون حتى يخرج آخرهم من الدجال " (4)، وهكذا استقر بهم المطاف. لقد التقطهم الدجال أعظم الفتن منذ ذرأ الله ذرية آدم، وهذا عدل الله. إنهم رفضوا أمير المؤمنين عند المقدمة. فرفضهم الطهر عند الخاتمة. لأنهم رجس لا ينبغي أن يناموا إلا عند دجال ليزيدهم الله رجسا
____________
(1) رواه مسلم (صحيح 9 / 1).
(2) رواه ابن عساكر (كنز العمال 223 / 11).
(3) رواه مسلم (كشف الخفاء 282 / 1).
(4) رواه أحمد ورجاله ثقات (الزوائد 299 / 6).
وبعد أن فرغ أمير المؤمنين من قتال الخوارج، خطب في الناس وحثهم على العمل ليلتحم الشعار بالشعور. وروي أنه صعد المنبر بعد فراغه من النهروان، فحمد الله، وخنقته العبرة فبكى حتى اخضلت لحيته بدموعه وجرت، ثم نفض لحيته فوغ رشاشها على ناس من أناس، فكانوا يقولون: إن من أصابه من دموعه فقد حرمه الله النار، ثم قال: يا أيها الناس. لا تكونوا ممن يرجوا الآخرة بغير عمل، ويؤخر التوبة بطول أمل، يقول في الدنيا قول الزاهدين، ويعمل فيها عمل الراغبين، إن أعطي منها لم يشبع، وإن منع منها لم يقنع، يعجز عن شكر ما أوتي، ويبتغي الزيادة فيما بقي، ويأمر ولا يأتي، وينهى ولا ينتهي، ويحب الصالحين ولا يعمل بأعمالهم، ويبغض الظالمين وهو منهم.
تغلبه نفسه على ما يظن، ولا يغلبها على ما يستيقن، إن استغنى فتن، وإن مرض حزن، وإن افتقر قنط ودهن، فهو بين الذنب والنعمة يرتع، يعافى فلا يشكر، ويبتلي فلا يصبر. كأن المحذر من الموت سواه، وكأن من وعد وزجر غيره يا أغراض المنايا، يا رهائن الموت، يا وعاء الأسقام، يا نهبة الأيام، ويا ثقل الدهر، ويا فاكهة الزمان، ويا نور الحدثان، ويا خرس عند الحجج، ويا من غمرته الفتن وحيل بينه وبين معرفة العبر بحق، أقول: ما نجا من نجا إلا بمعرفة نفسه، وما هلك من هلك إلا من تحت يده. قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا) جعلنا الله وإياكم ممن سمع الوعظ فقبل، ودعى إلى العمل فعمل (1).
3 - التخاذل:
بعد فراغ أمير المؤمنين من أهل النهروان كانت قواته متماسكة، حيث إنه لم يقتل من أصحابه إلا سبعة، وكان النبي صلى الله عليه وآله قد أخبره بعدد القتلى من قواته وقوات أهل النهروان. وقد أخبر أمير المؤمنين قواته بهذا قبل
____________
(1) ابن النجار (كنز العمال 206 / 16).
فسمع أمير المؤمنين منهم وأقبل حتى نزل النخيلة، ثم أمر الناس أن يلزموا عسكرهم، ويوطنوا على الجهاد أنفسهم، وأن يقلوا زيارة نسائهم وأبنائهم حتى يسيروا إلى عدوهم. فأقام الناس في معسكرهم أياما، وكان أمير المؤمنين يجهز للمعركة في هذه الأيام، ولكن الحال لم يدم على هذا طويلا، فالناس بدؤوا يتسللون من معسكرهم حتى خلا المعسكر. وعندما رأى أمير المؤمنين ذلك، دخل الكوفة وانكسر عليه رأيه في المسير (2). وخطب في الناس تلك الخطبة التي بكر فيها وهو يحثهم على العمل ليلتقي الشعار بالشعور، ثم خطب فيهم مرة أخرى فقال: أيها الناس استعدوا للمسير إلى عدو في جهاده القربة إلى الله ودرك الوسيلة عنده، حيارى في الحق جفاة عن الكتاب، نكب عن الدين يعمهون في الطغيان، ويعكسون في غمرة الضلال، فأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل، وتوكلوا على الله وكفى بالله وكيلا، وكفى بالله نصيرا (3).
ولكن القوم لم ينفروا فتركهم أمير المؤمنين أياما، حتى إذا آيس من أن يفعلوا دعا رؤساءهم ليسألهم عن رأيهم. فقام فيهم خطيبا فقال: عباد الله ما لكم إذا أمرتكم أن تنفروا اثاقلتم إلى الأرض، أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة، وبالذل والهوان من العز، أو كلما ندبتكم إلى الجهاد دارت أعينكم كأنكم من
____________
(1) الطبري 51 / 6.
(2) الطبري 51 / 6.
(3) الطبري 52 / 6.
إن الخذلان شذوذ قديم ضرب بجذوره في أعماق الأرض، والشيطان في حركته لا يحب شيئا متماسكا. فإذا كان لا بد من التماسك فيجب أن يكون وفقا لبرنامجه. والشيطان عندما يقوم بتفكيك جسد ما فإن أدواته لا بد وأن تكون من صنع البيئة التي يريد أن يفكك جسدها. وأمير المؤمنين وجه إليهم الدعوة، كي يواجهوا حركات التفتيت والتفكيك التي يذيع دعاتها أنهم على قلب رجل واحد ويتوجهون نحو هدف واحد، ولكن القوم تلقوا دعوة الإمام، وهم بين المعتل أو المكره، وقيل منهم من نشط، وفيما بعد جاء التثاقل إلى الأرض بجميع أمراضه، لأن التثاقل فراش ممهد تتحرك فيه أجهزة ومؤسسات الصد بكل سهولة ويسر، فالمتثاقل لا يرد إلا الحياة الدنيا، والشيطان له أساليبه في مخاطبته في هذا الباب. وشاء الله تعالى أن من يتثاقل عن نصرة الحق، خوفا من الموت أو غيره أو طمعا في مال أو غيره، أن يجعله ينفر ويهب عند سماعه بوقا للشيطان، فينتظم في جيشه، ويصطف في خيله ورجله، ويزين له الشيطان هناك أن قتاله
____________
(1) الطبري 52 / 6.
لقد كان الإمام يحذر من التثاقل إلى الأرض، ويدعو الناس كي يأخذوا بالأسباب نحو الحياة الكريمة، وهو خير دليل على ذلك. فهو قد أخبركم بأنه مقتول، والمقتول هو الذي يدعو للقتال. ولكن ذهب نداء الإمام في عالم.
وكأنه عالم السكون، حيث لا ومض ولا نبض ولا صوت إلا من رحم الله، ويقابل هذا العالم عالم آخر يتحرك بالذهب والفضة والتمر، إنه عالم معاوية.
ومعاوية لم يكن بعيدا عن الساحة بعد التحكيم، فلقد أصبح له حضور بعد أن سلم عليه ابن العاص بالخلافة. كانت له عيون في كل مكان، وكان يتابع حركة جيش العراق قبل النهروان وبعدها، لأنه كان على يقين أن عليا لن يتركه وسيأخذ بجميع الأسباب لكي يدمر قشرته. وتدمير القشرة يعني أن الأيام به لن تطول، وهو يريد المزيد والمزيد، لهذا تحرك معاوية في جميع الجبهات، وكانت مقدمته في كل جبهة الذهب والفضة.
وروي أن قوما من المدينة لحقوا بمعاوية. فكتب سهل بن حنيف الأنصاري (1) إلى أمير المؤمنين بذلك، فرد عليه أمير المؤمنين بخطاب جاء فيه: أما بعد. فقد بلغني أن رجالا ممن قبلك يتسللون إلى معاوية، فلا تأسف (2) على ما يفوتك من عددهم، ويذهب عنك من مددهم. فكفى لهم غيا (3) ولك منهم شافيا (4) فرارهم من الهدى والحق،
____________
(1) كان عاملا لعلي على المدينة.
(2) أي لا تحزن.
(3) الغي / الضلال.
(4) أي يكفيك في الانتقام منهم وشفاء النفس من عقوبتهم أنهم يتسللون إلى معاوية.
وروي أنه لما رأت طائفة من أصحابه ما يفعله معاوية من بذل الأموال لأصحابه والمنقطعين إليه، وتفضيل بعضهم على بعض في العطاء قالوا: يا أمير المؤمنين. إن عامة الناس أصحاب دنيا لها يسعون وفيها يكدحون، فلو أعطيت من هذا المال، وفضلت الأشراف من العرب وقريشا على الموالي، ومن تخاف خلافه وفراقه، حتى إذا استتب لك ما تريد عدت إلى أحسن ما كنت عليه من العدل في الرعية والقسم بالسوية. فقال الإمام: أتأمروني أن أطلب النصر بالجور فيمن وليت عليه؟ والله لا اطور به (6) ما سمر سمير (7)، وما أم نجم في السماء نجما (8). ولو كان المال لي لسويت بينهم، فكيف وإنما لمال مال الله؟ ثم. قال:
ألا وإن إعطاء المال في غير حقه تبذير وإسراف. وهو يرفع صاحبه في الدنيا، ويضعه في الآخرة، ويكرمه في الناس، ويهينه عند الله... " (9).
إن المقتول لا يجامل أحدا، المقتول حجة ومهمته هي مهمة الحجة، قال فيه النبي صلى الله عليه وآله: " من أحب عليا فقد أحبني. ومن أحبني فقد
____________
(1) الايضاع / الاسراع.
(2) مهطعون / مسرعون أيضا.
(3) الآثرة / الاستئثار.
(4) فبعدا وسحقا / دعاء عليهم بالبعد والهلاك.
(5) ابن أبي الحديد 234 / 5.
(6) ولا أطور به / لا أقربه.
(7) ما سمر سمير / أي ما أقام الدهر وما بقي.
(8) ما أم نجم في السما نجم / أي قصد وتقدم لأن النجوم تتبع بعضها بعضا.
(9) ابن أبي الحديد 3 / 3.
فهذه الأحاديث الصحيحة وغيرها، تبين أن الإمام له مهمة واحدة، هي سوق الناس إلى صراط الله وفقا لمنهج الفطرة الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم. وهذه المهمة لا يشوبها تخاذل الناس عنه، فمن أراد أن يصطف وراء يعسوب المؤمنين فليصطف ومن أراد أن يبحث عن مكان له وراء يعسوب المال فليذهب. وكل طريق له أسبابه. والموعد الذي سيلتقي فيه الجميع (يوم يقوم الروح والملائكة صفا لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صوابا * ذلك اليوم الحق، فمن شاء اتخذ إلى ربه مآبا) (5).
ولم يترك الإمام بابا يحث الناس فيه على القتال إلا طرقه وحدثهم منه، لقد خوفهم من فتنة بني أمية. فقال: ألا وإن أخوف الفتن عندي عليكم فتنة بني أمية، فإنها عمياء مظلمة، عمت خطتها، وخصت بليتها. وأصاب البلاء من أبصر فيها، وأخطأ البلاء من عمي عنها. وأيم الله لتجدن بني أمية لكم أرباب سوء بعدي كالناب الضروس، تعدم بغيها. وتخبط بيدها، وتزين برجلها، وتمنع درها، لا يزالون بكم حتى لا يتركوا منكم إلا نافعا لهم، أو غير ضار بهم، ولا يزال بلاؤهم عنكم حتى لا يكون انتصار أحدكم منهم إلا كانتصار العبد من ربه،
____________
(1) رواه الطبراني وقال الهيثمي إسناده حسن (الزوائد 132 / 9) وذكره الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة، وقال حديث صحيح (الصحيحة 298 / 5).
(2) رواه البزار (كشف الأستار 201 / 3) وقال الهيثمي رجاله ثقات (الزوائد 135 / 9) ورواه الحاكم وصححه (المستدرك 121 / 3).
(3) رواه الطبراني وقال الهيثمي إسناده حسن (الزوائد 203 / 9).
(4) رواه أحمد وقال الهيثمي رجال أحمد ثقات (الزوائد 129 / 9) ورواه الحاكم وصححه (المستدرك 122 / 3) ورواه البزار بسند صحيح (كشف الأستار 200 / 3).
(5) سورة النبأ: الآية 38 / 39.
ليس فيها منار هدى، ولا علم يرى، نحن أهل البيت منها بمنجاة، ولسنا فيها بدعاة. ثم يفرجها الله عنكم كتفريج الأديم، بمن يسومهم خسفا، ويسوقهم عنفا. ويسقيهم بكأس مصبرة لا يعطيهم إلا السيف. ولا يحلسهم إلا الخوف (1).
لقد خوفهم من مساحة مظلمة وبين لهم أن على رأس هذه المساحة رجل واسع البلعوم. فقال: أما إنه سيظهر عليكم بعدي (2) رجل رحب البلعوم (3)، مندحق البطن (4)، يأكل ما يجد، ويطلب ما لا يجد، فاقتلوه. ولن تقتلوه (5)، إلا وإنه سيأمركم بسبي والبراءة مني، فأما السب فسبوني فإنه لي زكاة ولكم نجاة، وأما البراءة فلا تتبرأوا مني، فإني ولدت على الفطرة، وسبقت إلى الإيمان والهجرة.
لقد أخبرتكم بصاحب البطن التي لا تشبع، وأنه سيظهر عليكم لأن أتباعه يسيرون نحو غاية واحدة هي المال وهم لا يختلفون عليها. وأمرهم أن يقتلوه ولن يقتلوه. قال ابن أبي الحديد: إنه لا ينافي بين الأمر بالشئ والإخبار عن أنه لا يقع. كما أخبر الحكيم سبحانه عن أن أبا لهب لا يؤمن وأمره بالإيمان. وكما قال تعالى: (فتمنوا الموت إن كنتم صادقين) (6)، ثم قال: (ولا يتمنونه أبدا) (7). وأكثر التكليفات على هذا المنهج (8). ولقد تحدثنا على امتداد هذا البحث أن الله سبحانه يهدي إلى صراط مستقيم. ويبين العقبات التي عليها
____________
(1) ابن أبي الحديد 605 / 2.
(2) سيظهر / سيغلب.
(3) رحب البلعوم / واسعه.
(4) مندحق البطن / بارزها.
(5) ابن أبي الحديد 776 / 1.
(6) سورة البقرة: الآية 94.
(7) سورة الجمعة: الآية 7.
(8) ابن أبي الحديد 777 / 1.
وأخبرهم أنه واسع البلعوم سيدعو إلى سبه والبراءة منه، فأباح أمير المؤمنين لهم سبه، لأن الله تعالى قد أباح عند الاكراه التلفظ بكلمة الكفر. أما البراءة فأخبرهم بأنه لا يجوز التبري منه، لأنه منذ ولد لم يواقع قبيحا، ولا كان كافرا طرفة عين قط. ولا مخطئا ولا غالطا في شئ من الأشياء المتعلقة بالدين.
ولقد ثبت أن الذي وجد الدعوة لسب أمير المؤمنين والبراءة منه هو معاوية ابن أبي سفيان، وثبت أيضا أنه المقصود بواسع البلعوم. وذلك لما رواه الإمام مسلم عن ابن عباس. قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: اذهب فادع معاوية. فلما ذهبت فدعوته له فقيل: إنه يأكل، فأخبرته، فقال في الثالثة: " لا أشبع الله بطنه " قال: فما شبع بعدها (1). وروى ابن أبي الحديد عن جلام قال:
كنت أحب أن أرى أبا ذر، لأنه رجل من قومي. فالتفت إليه فإذا رجل أسمر ضرب (2) من الرجال، خفيف العارضين في ظهره خبأ (3). فأقبل على معاوية وقال: ما أنا بعدو الله ولا لرسوله (4)، بل أنت وأبوك عدوان لله ولرسوله، أظهرتما الإسلام وأبطنتما الكفر، ولقد لعنك رسول الله صلى الله عليه وآله، ودعا عليك مرات ألا تشبع. سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: " إذا ولي الأمة الواسع البلعوم، الذي يأكل ولا يشبع فلتأخذ الأمة حذرها منه "، فقال معاوية: ما أنا ذاك الرجل. قال أبو ذر: بل أنت ذلك الرجل. بل أنت ذلك الرجل، أخبرني رسول الله صلى الله عليه وآله، وسمعته يقول وقد مررت به:
" اللهم العنه ولا تشبعه إلا بالتراب " فكتب معاوية إلى عثمان فيه (5).
____________
(1) رواه مسلم وذكره ابن كثير في البداية 119 / 8.
(2) الضرب / الخفيف اللحم.
(3) خبأ / أي أشرف كاهله على ظهره حدبا.
(4) في سياق الأحداث كان معاوية قد اتهمه بذلك (5) ابن أبي الحديد 94 / 3.
ومن أطرف ما قرأت في تفسير، " لا أشبع الله بطنه " ما قاله ابن كثير. قال:
وقد انتفع معاوية بهذه الدعوة في دنياه وأخراه، أما في دنياه فإنه لما صار إلى الشام أميرا، كان يأكل في اليوم سبع مرات، يجاء بقصعة فيها لحم كثير وبصل فيأكل فيها، ومن الحلوى والفاكهة شيئا كثيرا. ويقول: الله ما أشبع. وهذه نعمة ومعدة يرغب فيها كل الملوك!! أما في الآخرة فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: اللهم إنا بشر فأيما عبد سببته أو جلدته أو دعوت عليه وليس لذلك أهلا فاجعل ذلك كفارة وقربة تقربه بها عندك يوم القيامة (5)، ولست أدري إذا كان ابن كثير قد اعتبر أن هذا الدعاء: " لا أشبع الله له بطنا "، اعتبره من النعم في الدنيا. فلماذا جعله في الآخرة من السب الذي طلب النبي من ربه أن يجعله كفارة وقربة؟!.
ثم نعود إلى ما كنا نحدث فيه، لقد أخبرهم أمير المؤمنين بمساحة فيها فتن مظلمة، وعلى رأس هذه المساحة رجل واسع البلعوم. وهم كانوا يعرفون وقتئذ من هو، نظرا لأن أبي ذر كان قد كشف غطاءه. فضلا على أن أمير المؤمنين قد أخبرهم في أكثر من موطن بأن معاوية وأهل الشام سيظهرون عليهم، وأن عليهم أن يأخذوا بالأسباب لينظر الله كيف يعملون، ولا يشغلوا أنفسهم بالنتائج لأن لله في خلقه شئون. وعندما لم يجد الإمام منهم الاستجابة
____________
(1) البخاري (الصحيح 293 / 3).
(2) أي اغتصاب.
(3) أي سرقه.
(4) رواه أحمد (الفتح الرباني 232 / 19).
(5) البداية والنهاية 120 / 8.
لله أنتم، أما دين يجمعكم، ولا حمية (5) تشحذكم، أوليس عجبا أن معاوية يدعو الجفاة الطغام فيتبعونه على غير معونة ولا عطاء (6). وأنا أدعوكم - وأنتم تريكة الإسلام وبقية الناس - إلى المعونة أو طائفة من العطاء (7)، فتتفرقون عني، وتختلفون علي. إنه لا يخرج إليكم من أمري رضا فترضون، ولا سخط فتجتمعون عليه (8). وإن أحب ما أنا لاق إلى الموت. قد دارستكم الكتاب (9)، وفاتحتكم الحجاج (10)، وعرفتكم ما أنكرتم (11)، وسوغتكم ما حججتم (12)، لو كان الأعمى يلحظ، أو النائم
____________
(1) أهملتم / خليتم وتركم.
(2) خرتم / ضعفتم.
(3) نكصتم / أحجمتم.
(4) الموت أو الذل لكم / دعاء عليهم بأن يصيبهم أحد الأمرين.
(5) الحمية / الآنفة.
(6) معاوية لم يكن يعطي جنده على وجه المعونة والعطاء وإنما كان يعطي روؤساء الناس ليستعبدهم بها، ويدعو أولئك السادة أتباعهم فيطيعونهم. فمنهم من يطيعونهم حمية.
ولم يكن يصل إلى هؤلاء الأتباع من أموال معاوية قليل أو كثير.
(7) أمير المؤمنين كان يقسم بين الرؤساء والأتباع على وجه العطاء والرزق.
(8) والمعنى: أنكم لا تقبلون مما أقول لكم شيئا. سواء كان مما يرضيكم أو مما يسخطكم. بل لا بد لكم من المخالفة والافتراق عنه.
(9) دراستكم الكتاب / أي درسته عليكم.
(10) وفاتحتكم الحجاج / أي حاكمتكم بالمحاجة والمجادلة.
(11) وعرفتكم ما أنكرتم / بصرنكم ما عمى عنكم.