لا يبغي على الناس إلا ولد بغي أو فيه شئ منه " (9)، وقال: " لكل غادر لواء يوم القيامة يرفع له بقدر غدره، ألا ولا غادر أعظم غدرا من أمير عامة " (10)،
____________
(1) رواه ابن عساكر والحارث (كنز العمال 350 / 11).
(2) رواه ابن عساكر (كنز العمال 356 / 11).
(3) رواه ابن عساكر (كنز العمال 720 / 11).
(4) رواه الحاكم وأقره الذهبي (المستدرك 392 / 3).
(5) رواه الطبراني والضياء بسند صحيح (كنز العمال 19 / 15).
(6) رواه الترمذي (الجامع 11 / 4).
(7) رواه ابن أبي الدنيا وابن النجار (كنز العمال 308 / 3) وابن عدي (كنز 446 / 3).
(8) (كنز العمال 446 / 3).
(9) رواه ابن عساكر (كنز العمال 19 / 11) والطبراني (كنز 446 / 3).
(10) رواه مسلم (كنز العمال 518 / 3) وأحاديث لواء الغدر رواه البخاري (الصحيح 78 / 4) والترمذي (الجامع 144 / 4).
فإذا كان حزب الله وحزب الشيطان لهما معالمهما في أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم. فلا تسوية بين هذا وذاك لقول النبي صلى الله عليه وسلم أيضا: " علي بن أبي طالب باب حطة، من دخل فيه كان مؤمنا ومن خرج منه كان كافرا " (1)، قال في فيض القدير: والمعنى أن عليا طريق حط الخطايا (2)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " فلو أن رجلا صفن (3) بين الركن والمقام وصلى وصام ثم مات وهو مبغض لآل محمد صلى الله عليه وسلم دخل النار " (4)، وقال: " والذي نفسي بيده لا يبغضنا أهل البيت أحد إلا أدخله الله النار " (5)، وقال: " النجوم أمان لأهل الأرض من الغرق، وأهل بيتي أمان لأمتي من الاختلاف. فإذا خالفتها قبيلة من العرب، اختلفوا فصاروا حزب إبليس " (6)، والتسوية لا تستقيم أيضا، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر بأن طريق البغاة سيكون فيه مال الله دولا، ودين الله دخلا وعباد الله خولا. وعلى امتداد هذا الطريق تنبت الأشجار التي حذر منها النبي، أشجار الفتن التي يجلس في ظلها الدجال وأتباعه آخر الزمان. ودائرة الدجال التي عليها رجس لا تستقيم مع دائرة المهدي الذي فيها من الله طهر. وكما حذر النبي من الدجال في أحاديث، بشر أيضا بالمهدي في أحاديث. ومن عدل الله أنه قابل الشر المخبوء بعدل مخبوء، وكما أن للشر أعلام كذلك للعدل أعلام.
____________
(1) رواه الدارقطني في الأفراد (كنز 100 / 5).
(2) فيض القدير 4 / 356.
(3) أي وقف.
(4) رواه الطبراني. وقال الهيثمي روى هذا الحديث عن سفيان الثوري وبقية رجاله رجال الصحيح (الزوائد 171 / 9)، ورواه الحاكم وقال حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه وواقعة الذهبي (المستدرك 149 / 3).
(5) رواه الحاكم وقال حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه (المستدرك 150 / 3).
(6) رواه الحاكم وقال هذا حديث صحيح الإسناد (المستدرك 149 / 3).
وبعد النبي صلى الله عليه وسلم اجتهد بني أمية، فكان العقد فيما بينهم، حتى أن أبي بن كعب كان يقول في عهد عمر: " هلك أهل العقد ورب الكعبة، هلك أهل العقد ورب الكعبة، والله ما آسي عليهم إنما آسي على من أهلكوا من المسلمين (1). ولقد ذكرنا فيما سبق أن أبي بن كعب عندما وعد الناس بأنه سيتكلم يوم الجمعة. ما جاء يوم الجمعة إلا وأبي بن كعب في عالم ما بعد الحياة الدنيا. ولا ندري أهي مصادفة أن يموت أبو بكر مسموما، وعمر مقتولا، ثم يأتي عثمان يضعه بني أمية على طريق القتل، ثم يأتي أمير المؤمنين علي فيقاتله معاوية، ثم يقتل أمير المؤمنين. ولقد اتهم أبو الأسود الدؤلي معاوية بهذا القتل عندما قال:
____________
(1) رواه الحاكم وأقره الذهبي (المستدرك 527 / 4).
وكان الإمام علي يضع قريش في دائرة الساعين لقتله وكان كثيرا ما يقول:
فبني أمية لم تكن بعيدة عن دم الإمام، ثم جاء دور الحسن بن علي وروي أن معاوية أوصى بنت الأشعث لتسمه، وقتل الحسن مسموما. ثم جاء الدور على الحسين قتيل الدولة الأموية. فهل جاء كل هذا مصادفة ليجلس بني أمية على رؤوس الأمة؟ إن الذي قطف الثمرة لا بد أنه يراقب الشجرة زمنا طويلا، وهذه المراقبة لا بد وأن تستقيم مع أحاديث اللعن التي لعن فيها النبي تيارات الهدم. بمعنى أنهم وهم يراقبون الأحداث كانوا على دراية بأن هذه الأحداث ستصب في وعائهم في نهاية المطاف، لأن وقودهم هو الذي يدفعها ويسيرها.
إن قيادة بني أمية للبغض لم تأت بعد عهد الإمام علي، وإنما بدأت بعد نزول الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا نراه في حديث: " أبغض الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: بنو أمية وثقيف وبنو حنيفة " (3)، وقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: " أشد قومنا لنا بغضا بنو أمية وبنو المغيرة وبنو مخزوم " (4)، إن البغض لطريق الهداية كان منذ زمن الرسول، وهذا البغض ارتدى رداء الفتن البراقة بعد عهد علي بن أبي طالب. ولقد كان في بني أمية رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه، وهؤلاء كان يعرفهم الإمام علي، وكان فيهم أيضا رجال يتسلقون ويشترون الذمم للصد عن سبيل الله وهؤلاء أيضا كان يعرفهم الإمام علي، ويرى بصماتهم من اشتغل برصد التاريخ وأحداثه. فهم هناك عند دائرة الكبر، التي قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم: " الكبر بطر الحق
____________
(1) مروج الذهب 463 / 2.
(2) مروج الذهب 464 / 2.
(3) رواه البيهقي ورجاله ثقات (البداية والنهاية 268 / 6).
(4) رواه نعيم بن حماد والحاكم (كنز العمال (169 / 11).
إن الإمام علي قتله الذين يبغضونه، قتله تيار المسجد الضرار، وتيار العقبة الذين أرادوا يوما أن يغتالوا النبي عند عودته من تبوك. والتاريخ لا يحاكم الناس، وإنما الذي يحاكمهم الله وحده. وروي أن الإمام علي قال: لا تأمنن على خير هذه الأمة عذاب الله لقوله تعالى: " فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرين) (4).
ولا تيأس لشر هذه الأمة من روح الله لقوله تعالى: (إنه لا يبأس من روح الله إلا القوم الكافرون) (5).
إن التاريخ لا يحاكم أحدا، إنما الذي يحاكم الناس هو الله وحده. ولقد رحل الإمام، وفي الحديث الصحيح يقول النبي لعلي: أنت أخي، وأبو ولدي، تقاتل على سنتي وتبرئ ذمتي، من مات في عهدي فهو كنز الله، ومن مات في عهدك فقد قضى نحبه. ومن مات بحبك بعد موتك ختم الله له بالأمن، والإيمان ما طلعت الشمس أو غربت، ومن مات يبغضك مات ميتة جاهلية وحوسب بما عمل في الإسلام " (6).
____________
(1) رواه مسلم (الصحيح 89 / 2).
(2) النووي شرح مسلم (الصحيح 89 / 2).
(3) تحفة الأحواذي 138 / 6.
(4) سورة الأعراف: الآية 99.
(5) سورة يوسف: الآية 87.
(6) رواه أبو يعلى وقال البوصيري رواته ثقات (كنز العمال 159 / 13).
جداول الدماء
أولا - عاصفة الأمطار الحمضية
1 - بيعة الحسن بن علي:
كان الحسن بن علي علامة بارزة في طريق الدعوة إلى الله. فإذا كان علي بن أبي طالب حجة على عصر فيه أكابر الصحابة، فإن الحسن حجة على جيله أو إن شئت فقل حجة على مقدمة جيل التابعين، أو قل حجة على الساحة الإسلامية من بعد والده عليه السلام. ويكفي لكي ندلل على ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم للحسن والحسين " من أحبهما فقد أحبني ومن أبغضهما فقد أبغضني " (1)، وقوله: " هذان ابناي وابنا ابنتي، اللهم أحبهما فأحبهما وأحب من يحبهما " (2)، يكفي أنهما من أصحاب الكساء، ولقد قال النبي لأصحاب الكساء " أنا حرب لمن حاربكم وسلم لمن سالمكم " (3)، وعلاوة على هذا وذاك
____________
(1) رواه أبو يعلى وقال البوصيري رواته ثقات (كنز العمال 159 / 13).
(2) رواه ابن ماجة وقال البوصيري صحيح ورجاله ثقات. ورواه الإمام أحمد والبزار (الفتح الرباني 1406 / 3)، (الزوائد 179 / 9)، (سنن ابن ماجة 1 / 51) ورواه الحاكم وصححه (المستدرك 166 / 3).
(3) رواه الترمذي وحسنه (الجامع 656 / 5).
فهذه المناقب لم توضع إلا لحكمة ومن وراء هذه الحكمة هدف. والحسن خاض المعارك مع والده، وكان يعلم جيدا ما الذي عليه أهل الشام، وكان يعلم أن معاوية سيملك ما تحت قدمه. هكذا سمع من النبي صلى الله عليه وسلم ومن علي بن أبي طالب عليه السلام. وعلى الرغم من أنه كان يعلم أن نهايته في مربع الشهادة، وأنه سيقتل ويكون سيدا في الجنة بهذه الشهادة. إلا أنه أخذ بالأسباب لإقامة الحجة حتى لا يكون للناس على الله حجة.
والبداية كانت بعد وفاة أمير المؤمنين. روى الطبراني أن الحسن بن علي خطب الناس، فحمد الله وأثنى عليه، وذكر أمير المؤمنين عليا خاتم الأوصياء، ووصى النبي وأمين الصديقين والشهداء... ثم قال: أيها الناس من عرفني فقد عرفني، ومن لم يعرفني، فأنا الحسن بن محمد صلى الله عليه وسلم. أنا ابن البشير، أنا ابن النذير، أنا ابن الداعي إلى الله عز وجل بإذنه، وأنا ابن السراج المنير، وأنا من أهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا.
والذين افترض الله مودتهم في كتابه إذ يقول: " ومن يقترف حسنة نزد له فيها حسنا " (2)، فاقتراف الحسنة مودتنا أهل البيت " (3).
فلما انتهى إلى هذا الموضع من الخطة، قام عبد الله بن عباس بين يديه، فدعا الناس إلى بيعته (4)، وقام رجل فقال: أشهد لقد رأيت رسول الله صلى الله
____________
(1) رواه الترمذي وابن ماجة وأحمد والطبراني والحاكم - وتم تخريجه من قبل.
(2) هذا الحديث عده السيوطي من المتواترات (تحفة الأحواذي 272 / 3) ورواه البخاري والضياء (كنز العمال 120 / 12) والترمذي وأحمد والحاكم وابن حبان وأبو يعلى وقال الهيثمي رجاله رجال الصحيح (الزوائد 201 / 9)، (الجامع الترمذي 656 / 5)، (كنز العمال 112 / 12).
(3) سورة الشورى: الآية 23.
(4) قال الهيثمي رواه الطبراني في الأوسط وفي الكبير باختصار وأبو يعلى والبزار وأحمد وإسناد أحمد وبعض طرق البزار والطبراني في الكبير حسان (الزوائد 146 / 9) ورواه =
وروي أن الحسن رضي الله عنه كتب إلى معاوية يدعوه إلى الطاعة والجماعة وقال له: "... ولقد كنا تعجبنا لتوثب المتوثبين علينا في حقنا وسلطان نبينا، وإن كانوا ذوي فضيلة وسابقة في الإسلام، وأمسكنا عن منازعتهم مخافة على الدين أن يجد المنافقون والأحزاب (5)، في ذلك مغمزا يثلمونه به، أو يكون لهم بذلك سبب إلى ما أرادوا من إفساده. فاليوم فليتعجب المتعجب من توثبك يا معاوية على أمر لست من أهله ولا بفضل في الدين معروف، ولا أثر في الإسلام محمود. وأنت ابن حزب من الأحزاب، وابن أعدى قريش لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولكتاب الله والله حسيبك، فسترد فتعلم لمن عقبى الدار. وبالله لتلقين عن قليل ربك، ثم ليجزينك بما قدمت يداك، وما الله بظلام للعبيد. إن عليا لما مضى لسبيله - رحمة الله عليه يوم قبض، ويوم من الله عليه بالإسلام، ويوم يبعث حيا - ولاني المسلمون الأمر بعده فأسأل الله أن يؤتينا في الدنيا الزائلة شيئا ينقصنا به في الآخرة مما عنده من كرامة، ولك في ذلك إن فعلته الحظ الجسيم، والصلاح للمسلمين، فدع التمادي في الباطل، وأدخل فيما دخل فيه الناس من بيعتي، فإنك تعلم أني أحق بهذا الأمر منك عند الله وعند كل
____________
= الحاكم (المستدرك 143 / 3. 172 / 4)، ورواه الطبري في تاريخ الأمم 95 / 6، وابن أبي الحديد 696 / 4.
(1) رواه أحمد وابن أبي شيبة وابن مندة والحاكم (كنز العمال 651 / 13)، (المستدرك 174 / 3).
(2) رواية أخرى للحاكم بها هذه الزيادة (المستدرك 174 / 3).
(3) الحاكم (المستدرك 173 / 3) الطبري 93 / 6.
(4) ابن أبي الحديد 697 / 4.
(5) الأحزاب هم الذين تحزبوا وتظاهروا على قتال النبي صلى الله عليه وآله وسلم من قريش وغطفان وبني مرة وبني أشجع وبني سليم وبني أسد في غزوة الخندق.
فكتب معاوية إليه ومما جاء في رسالته... ذكرت وفاة النبي صلى الله عليه وسلم وتنازع الأمر بعده، وتغلبهم على أبيك، فصرحت بتهمة أبي بكر وعمر الفاروق، وأبي عبيدة الأمين حواري رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصلحاء المهاجرين والأنصار. فكرهت ذلك لك. إنك امرؤ عندنا وعند الناس غير الظنين، ولا المسئ، ولا اللئيم وأنا أحب لك القول السديد، والذكر الجميل. إن هذه الأمة لما اختلفت بعد نبيها لم تجهل فضلكم ولا سابقتكم ولا قرابتكم من نبيكم، ولا مكانكم في الإسلام وأهله. فرأت الأمة أن تخرج من هذا الأمر لقريش لمكانها من نبيها، ورأى صلحاء الناس من قريش والأنصار وغيرهم من سائر الناس وعوامهم أن يولوا هذا الأمر من قريش أقدمها إسلاما، وأعلمها بالله وأحبها له وأقواها على أمر الله، فاختاروا أبا بكر، وكان ذلك رأي ذوي الدين والفضل والناظرين للأمة. فأوقع ذلك في صدوركم لهم التهمة، ولم يكونوا متهمين، ولا فيما أتوا بالمخطئين ولو رأى المسلمون أن فيكم من يغني غناءه ويقوم مقامه، ويذب عن حريم الإسلام ذبه، ما عدلوا بالأمر إلى غيره رغبة عنه، ولكنهم عملوا في ذلك بما رأوه صلاحا للإسلام وأهله، والله يجزيهم عن الإسلام وأهله خيرا. وقد فهمت الذي دعوتني إليه من الصلح، والحال فيما بيني وبينك اليوم، مثل الحال التي كنتم عليها أنتم وأبو بكر بعد وفاة النبي
____________
(1) للنائرة / العداوة والشحناء.
(2) ابن أبي الحديد 698 / 4.
قال جندب: فلما أتيت الحسن بكتاب معاوية قلت له: إن الرجل سائر إليك، فابدأه بالمسير حتى تقاتله في أرضه وبلاده وعماله. فإما أن تقدر أنه ينقاد لك، فلا والله حتى يرى منا أعظم من يوم صفين (1).
وفي رسالة معاوية نرى أن القوم بعد الرسول صلى الله عليه وسلم عملوا في الخلافة بما رأوه صلاحا للإسلام وأهله، ونرى أن معاوية في زمن الحسن يحسبها بالأقدمية، فهو الأطول ولاية والأقوى على جميع الأموال. ولا ندري لماذا لم يضع عنوان الأطول إسلاما أمام عينيه وهو يقاتل عليا؟ ولماذا رفع عنوان الأقدمية هنا بينما كان هناك يرفع قميص عثمان؟ إن معاوية وإعلامه يبدلون أعلامهم وفقا لمتطلبات كل ساحة. ويدخرون لكل زمان خدعة.
2 - القتال بالذهب والفضة:
عندما بعث معاوية إلى الحسن أن الخلافة له من بعده، كان الحسن ينظر إلى هذا الوعد من نافذة أحاديث الإخبار بالغيب التي وضعها النبي صلى الله عليه وآله وسلم في دائرة ذهن أهل البيت. ولم يكن الحسن يعبأ كثيرا بما يقوله معاوية، نظرا لوزنه بمعيار هذه الأحاديث التي تخبر عن المستقبل.
وروي أن الحسن كتب إلى معاوية: أما بعد فقد وصل إلى كتابك، تذكر فيه ما ذكرت، فتركت جوابك خشية البغي مني عليك، وبالله أعوذ من ذلك فاتبع الحق تعلم أني من أهله، وعلي إثم أن أقول
____________
(1) ابن أبي الحديد 699 / 4.
فلما وصل كتاب الحسن إلى معاوية كتب إلى عماله "... إن الله بلطفه وحسن صنعه، أتاح لعلي بن أبي طالب رجلا من عباده، فاغتاله فقتله، فترك أصحابه متفرقين مختلفين، وقد جاءتنا كتب أشرافهم وقادتهم يلتمسون الأمان لأنفسهم وعشائرهم. فأقبلوا إلى حين يأتيكم كتابي هذا بجهدكم وجندكم وحسن عدتكم. فقد أصبتم بحمد الله الثأر، وبلغتم الأمل، وأهلك الله أهل البغي والعدوان... " (2) فلما اجتمعت العساكر إلى معاوية سار بها قاصدا العراق. وبلغ الحسن خبره ومسيره نحوه. وأنه قد بلغ جسر منبج، فتحرك عند ذلك، وبعث حجر بن عدي، فأمر العمال والناس بالتهيؤ للمسير. ونادي المنادي: الصلاة جامعة.
فخرج الحسن رضي الله عنه، وصعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد فإن الله كتب الجهاد على خلقه. وسماه كرها، ثم قال لأهل الجهاد من المؤمنين: اصبروا إن الله مع الصابرين. فلستم أيها الناس نائلين ما تحبون إلا بالصبر على ما تكرهون، بلغني أن معاوية بلغه أنا كنا أزمعنا على المسير إليه فتحرك لذلك، أخرجوا رحمكم الله إلى معسكركم بالنخيلة حتى ننظر وتنظروا.
ونرى وتروا (3).
وكان في كلامه يتخوف خذلان الناس له. وبعد أن تكلم لم يتكلم أحد من الناس ولا أجابه بحرف. فلما رأى ذلك عدي بن حاتم قام فقال: أنا ابن حاتم، سبحان الله، ما أقبح هذا المقام! ألا تجيبون إمامكم وابن بنت نبيكم؟ أين خطباء مضر؟ أين المسلمون؟ أين الخواضون من أهل المصر الذين ألسنتهم كالمخاريق (4) في الدعة، فإذا جد الجد فرواغون كالثعالب؟ أما تخافون مقت الله
____________
(1) ابن أبي الحديد 701 / 4.
(2) ابن أبي الحديد 701 / 4.
(3) المصدر السابق 701 / 4.
(4) المصدر السابق 702 / 4.
وكان عدي بن حاتم أول الناس عسكر، وقام قيس بن سعد بن عبادة، وزياد بن صعصعة وغيرهما فأنبوا الناس ولاموهم وحرضوهم. وخرج الناس فعسكروا، ونشطوا للخروج، وسار الحسن في عسكره (2)، وفي الوقت الذي كان الحسن يخاف فيه من خذلان الناس له، كان معاوية يتحرك ببيت ماله المملوء بالذهب والفضة. ولقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم " أن لكل أمة فتنة وفتنة أمتي في المال " (3)، وقال: " إن هذا الدينار والدرهم أهلكا من قبلكم وهما مهلكاكم " (4). وكان معاوية يريد أن يشق صف الحسن قبل القتال بسكين الدينار والدرهم. وروى الحاكم أن عبد الله بن جعفر كان على مقدمة الحسن في عشرة آلاف، فراسله معاوية وضمن له ألف ألف درهم. إذا سار إلى الحجاز وخرج من الساحة، فأجابه إلى ذلك. وتفرق الجند الذين كانوا مع عبد الله بن جعفر، وانضم البعض منهم إلى قوات قيس بن سعد (5) الذي كان يعتبر القوة الضاربة في جيش الحسن.
وبعد أن فتت معاوية جانب من جوانب الحسن، بدأ يتفرغ لقوات قيس بن سعد. روى الطبري: حين نزل الحسن عليه السلام المدائن بعث قيس بن سعد على مقدمته في اثني عشر ألفا، وأقبل معاوية في أهل الشام حتى نزل مسكن.
فبينما الحسن في المدائن إذا نادى مناد في العسكر: ألا إن قيس بن سعد قد
____________
(1) المصدر السابق 702 / 4.
(2) رواه الترمذي وصححه (الجامع 569 / 4).
(3) رواه أبو داوود (كنز العمال 191 / 4).
(4) الحاكم (المستدرك 674 / 3).
(5) الطبري 92 / 6، ابن أبي الحديد 702 / 4.
فهذا الهياج داخل المعسكر كان هدفه إحداث أكبر الخسائر في القيادة بواسطة الغوغاء، فالحسن كان الهدف. وأهل الشام لهم خبرات في دس العيون.
ولقد روي أن معاوية دس رجلا من حمير إلى الكوفة، ورجلا من بني القين إلى البصرة. وأمرهما أن يكتبا إليه أخبار الحسن (4) وليس ببعيد أن تكون هذه الإذاعة التي أدت إلى خروج الحسن جريحا من أرض المعركة من صنع هؤلاء.
وروى ابن أبي الحديد: أن الحسن عليه السلام حمل على سرير ودخل إلى المدائن، وبها سعيد بن مسعود واليا عليها من قبله، فأقام عنده يعالج جرحه (5)، وعندما جن الليل أرسل معاوية إلى القادة والجنود يخبرهم بأن الحسن راسله في الصلح وهو مسلم الأمر إليه. وأغراهم بالمال، فانسل بعضهم ليلا ودخلوا معسكر معاوية (6)، ولم يتبق داخل معسكر الحسن سوى قوات قيس بن سعد وبعض الصحابة والتابعين الذين انفض عنهم الناس، بينما على الجانب الآخر تقف قوات الشام التي كسبت معركة ليس بما يملكون من رجال وإنما بما يملكون من ذهب وفضة. ولم يظهر بريق الذهب فجأة، وإنما كانت له أرضية قديمة دق فيها أوتاده، وحول هذه الأوتاد لا تسمع صوتا ترتعش خوفا ويقول:
____________
(1) الطبري 92 / 6.
(2) الطبراني وقال الهيثمي رجاله ثقات (الزوائد 172 / 9).
(3) ابن أبي الحديد 697 / 4.
(4) المصدر السابق 703 / 4.
(5) المصدر السابق 704 / 4.
(6) تم تخريجه من قبل.
وروي أن الحسن عندما تماثل للشفاء كان يحث الناس كي يتصدوا لمعاوية، ومن خطب الحسن رضي الله عنه في بعض مقاماته أنه قال: " نحن حزب الله المفلحون وعترة رسول الله صلى الله عليه وسلم الأقربون، وأهل بيته الطاهرون الطيبون، وأحد الثقلين اللذين خلفهما رسول الله صلى الله عليه وسلم والثاني كتاب الله فيه تفصيل كل شئ، ولا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، والمعول عليه في كل شئ، لا يخطئنا تأويله، بل نتيقن حقائقه، فأطيعونا فإن طاعتنا مفروضة، إذ كانت بطاعة الله والرسول وأولي الأمر مقرونة... " فإن تنازعتم في شئ فردوه إلى الله والرسول "، " ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر لعلمه الذين يستنبطونه منهم " (2)، وأحذركم الاصغاء لهتاف الشيطان، إنه لكم عدو مبين، فتكونون كأوليائه قال لهم، " لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم فلما تراءت الفئتان نكص على عقبيه وقال إني برئ منكم إني أرى ما لا ترون " (3)، (4)، وظل صوت الحسن يدوي في أعماق السكون، في عالم لا نبض فيه ولا ومض ولا صوت.
وبدأ معاوية يتحسس الساحة من قريب ومن بعيد. وروي أنه بعث إلى الحسن بصحيفة بيضاء مختوم على أسفلها، وكتب إليه أن اشترط في هذه
____________
(1) تم تخريجه من قبل.
(2) سورة النساء: الآية 59 - 83.
(3) سورة الأنفال: الآية 48.
(4) مروج الذهب 480 / 2.
وهنا قال الحسن رضي الله عنه كلمته المشهورة: يا أهل العراق إنه سخى بنفسي عنكم ثلاث قتلكم أبي، وطعنكم إياي وانتهابكم متاعي (3). فالذين تخاذلوا عن الإمام علي وقتلوه، لا بد لهم من عقاب في بطن الغيب. فلما جاء الحسن آخذا بأسباب النجاة، لم يتركوه وإنما طعنوه وسرقوا متاعه، فأي جنود هؤلاء الذين احترفوا ظلم أئمتهم؟ ثم إذا كانوا قد سرقوا متاعا بدراهم معدودة، فكيف يكون الحال إذا وضع الذهب في طريقهم وأذن لهم أن يأخذوه نظير خدمة ما يقدمونها إلى جهاز ما.
وبدأ الحسن يتركهم وما يريدون، فلقد اشترط عليهم عند البيعة أن يسمعوا، وأن يطيعوا وأن يحاربوا من حارب ويسالموا من سالم. ولكنهم لم يسمعوا ولم يطيعوا وسالموا من حارب من قبل أن تبدأ الحرب، وروي أن الحسن رضي الله عنه كتب شروطا كثيرة على الصحيفة البيضاء المختوم على أسفلها، وهذه الشروط حجة بذاتها على أصحاب المقاعد الأولى، حتى لا يكون لهم على الله حجة. وبعث الحسن إلى معاوية يطلب الصلح، وكتب إلى قيس بن سعد وكان على مقدمته في اثني عشر ألفا، يأمره بالدخول في طاعة معاوية، فقام قيس في الناس فقال: يا أيها الناس اختاروا الدخول في طاعة إمام ضلالة أو القتال مع غير إمام. قالوا: لا بل نختار أن ندخل في طاعة إمام ضلالة، فبايعوا لمعاوية، وانصرف عنهم قيس بن
____________
(1) الطبري 93 / 6.
(2) الانحرافات الكبرى / للمؤلف ص 478.
(3) الطبري 92 / 6.
قال: نعم. ووضع يده على فخذه ولم يمدها إلى معاوية، فجاء معاوية من سريره، وأكب على قيس حتى مسح يده على يده وما رفع إليه قيس يده (2)، ثم أمر معاوية الحسن أن يخطب. فقام فخطب فقال في خطبته: إنما الخليفة من سار بكتاب الله وسنة نبيه، وليس الخليفة من سار بالجور، ذاك رجل ملك ملكا تمتع به قليلا ثم تتخمه، تنقطع لذته، وتبقى تبعته (وإن أدري لعله فتنة لكم ومتاع إلى حين) (3)... (4).
3 - الغدر:
قبل دخول معاوية الكوفة ظهر الغدر... روي أنه نزل النخيلة، وجمع الناس بها فخطبهم وقال: ألا إن كل شئ أعطيته الحسن بن علي تحت قدمي هاتين لا أفي به. قال أبو إسحاق: وكان والله غادرا (5) فمعاوية لم يدخل الكوفة عنوة، ولم يملك ما حولها قسرة، ولكن دخل بعهود ومواثيق. وما كان لمعاوية أن يلغي ما عاهد عليه إلا بعد أن تأكد أن المبايعة أصبحت في عنق كثير من العامة. وبعد أن تأكد أن الموقف العسكري في صالحه. وفوق كل هذا فهو ألغى شروط الحسن لا شروط العامة، وكان يعلم أن الحسن لو وقف أمام الناس يدعوهم للقتال من أجل أن يوفي معاوية بالشروط، فإن العامة ستفترق عن الحسن مع أول كيس من الذهب يلقيه معاوية على رؤوسهم. وروي أن الحسن عندما التقى بمعاوية وسأله أن يعطيه الشروط التي شرط في السجل الذي ختم
____________
(1) الطبري 92 / 6.
(2) ابن أبي الحديد 707 / 4.
(3) سورة الأنبياء: الآية 111.
(4) ابن أبي الحديد 707 / 4.
(5) المصدر السابق 706 / 4.
ولم تكن هذه المفاجأة الوحيدة قبل دخول الكوفة، فلقد روي عن سعيد بن سويد. قال: صلى بنا معاوية بالنخيلة الجمعة ثم خطبنا فقال: والله إني ما قاتلتكم لتصلوا، ولا لتصوموا، ولا لتحجوا، ولا لتزكوا، إنكم لتفعلون ذلك. وإنما قاتلتكم لأتأمر عليكم. وقد أعطاني الله ذلك وأنتم كارهون (2).
وكان عبد الرحمن بن شريك إذا حدث بذلك يقول: هذا والله هو التهتك (3). ثم سار موكب معاوية ولم يعترض معترض على أي بيان أذاعه، وتوجه نحو الكوفة. وعن حبيب بن أبي ثابت قال: خطب معاوية بالكوفة حين دخلها، فذكر عليا عليه السلام فنال منه ومن الحسن. فقام الحسن وقال: أيها الذاكر عليا، أنا الحسن وأبي علي، وأنت معاوية وأبوك صخر، وأمي فاطمة وأمك هند، وجدي رسول الله وجدك عتبة بن ربيعة، وجدتي خديجة، وجدتك قتيلة، فلعن الله أخملنا ذكرا، وألأمنا حسبا، وشرنا قديما وحديثا، وأقدمنا كفرا ونفاقا.
فقالت طوائف من أهل المسجد: آمين (4). قال الفضل: قال يحيى بن معين: وأنا أقول: آمين. وقال أبو الفرج: قال أبو عبيد: قال الفضل: وأنا أقول: " آمين " ويقول علي بن الحسين الأصفهاني: آمين. وقال عبد الحميد بن أبي الحديد: آمين. قلت: ويقول سعيد أيوب مصنف هذا الكتاب: آمين.
وقال ابن عبد ربه: قعد معاوية بالكوفة يبايع الناس على البراءة من علي بن أبي طالب (5). فأين الشروط؟ أين الوفاء بالوعد؟ أين الأمانة؟ وهل كل من
____________
(1) الطبري 95 / 6.
(2) ابن أبي الحديد 706 / 4، البداية والنهاية 90 / 5.
(3) ابن أبي الحديد 706 / 4.
(4) ابن أبي الحديد 706 / 4.
(5) العقد الفريد 70 / 1.
وروي أن الحسن رضي الله عنه خرج إلى مسجد الكوفة فقال: يا أهل الكوفة اتقوا الله في جيرانكم وضيفانكم، وفي أهل البيت نبيكم صلى الله عليه وسلم الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا (1).
وروى المدائني أن أصحاب الحسن اجتمعوا عنده، فقال المسيب بن نجية للحسن رضي الله عنه: ما ينقضي عجبي منك أعطاك معاوية أمرا فيما بينك وبينه، ثم قال: ما قد سمعت، والله ما أراد بها غيرك. قال الحسن: فما تري؟
قال: أرى أن ترجع إلى ما كنت عليه، فقد نقض ما كان بينه وبينك. فقال: يا مسيب. إني لو أردت بما فعلت الدنيا لم يكن معاوية بأصبر عند اللقاء، ولا أثبت عند الحرب مني، ولكني أردت صلاحكم... فارضوا بقدر الله وقضائه، حتى يستريح بر، أو يستراح من فاجر (2).
وروي أن حجر بن عدي قال للحسن: لوددت أنك كنت من قبل هذا اليوم، ولم يكن ما كان. إنا رجعنا راغمين بما كرهنا، ورجعوا مسرورين بما أحبوا. فقال الحسن: يا حجر، ليس كل الناس يحب ما تحب ولا رأيه كرأيك وما فعلت ما فعلت إلا إبقاء عليك، والله كل يوم في شأن (3)، وروي أن سفيان بن أبي ليلى النهدي دخل عليه فقال: السلام عيك يا مذل المؤمنين. قال الحسن: اجلس يرحمك الله. إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رفع له ملك
____________
(1) الطبري 95 / 6.
(2) ابن أبي الحديد 686 / 4.
(3) الحديث روي بسند صحيح، رواه الحاكم والترمذي والبيهقي وقد خرجناه فيما سبق.
إن القرآن قد نطق بملك بني أمية ومدتهم. قال تعالى: (ليلة القدر خير من ألف شهر) (4). قال أبي: هذه ملك بني أمية (5).
لقد أخذ الحسن رضي الله عنه بالأسباب، وليس معنى أن القرآن قد أخبر بأن أبا لهب لن يؤمن أن الدعوة لا تشمل أبا لهب، فكل حرف يسمعه وكل آية في نفسه وفي الكون حجة عليه. وكذلك أهل الشام ليس معنى أنهم سيجلسون على المقاعد الأولى في الدنيا، أن الدعوة لا تتوجه إليهم لتخبرهم بأحوال الدنيا وأخبار الآخرة. ولله في عباده شؤون. وخرج الحسن رضي الله عنه من الكوفة فلما صار بدير هند نظر إلى الكوفة وقال:
ثم سار إلى المدينة (6) بعد أن أنقذ الكوفة من مجزرة كانت ستؤكل فيها كثير من الأكباد، وروي أنه قال في أهل العراق: " إنهم قوم لا يرجعون إلى الحق، ولا يقصرون عن باطل، أما إني لست أخشاهم على نفسي، ولكن أخشاهم على ذاك - وأشار إلى الحسين (7).
____________
(1) ابن أبي الحديد 686 / 4.
(2) سورة الإسراء: الآية 60.
(3) الحديث رواه غير واحد منهم نعيم بن حماد عن الحسن (كنز العمال 349 / 11).
والديلمي (الخصائص الكبرى 199 / 2).
(4) الحديث روي بسند صحيح كل من الحاكم والترمذي والبيهقي وابن جرير وغيرهم. وقد خرجناه فيما مضى.
(5) ابن أبي الحديد 686 / 4.
(6) ابن أبي الحديد 687 / 4.
(7) رواه الطبراني ورجاله ثقات (الزوائد 244 / 6).
4 - وفاء وحقائق على الطريق:
كان معاوية في الكوفة، وعلى امتداد الطريق من الكوفة إلى المدينة يبعث إلى كل من يعرفه ويسألهم عن علي بن أبي طالب. وكان يريد من وراء ذلك الوقوف على أسباب حب الناس لعلي ليقوم بعد ذلك بوضع منهج ثقافي يتصدى لعلي بعد وفاته. ومن الذين التقى بهم معاوية خالد بن المعمر. قال معاوية له:
كيف حبك لعلي؟ قال: أحبه لثلاث خصال: على حلمه إذا غضب، وعلى صدقه إذا قال، وعلى وفائه إذا وعد (1). وروي أنه بعث إلى امرأة يقال لها دارمية الحجونية وقال لها: أتدري لم بعثت إليك؟ قالت: لا يعلم الغيب إلا الله، قال:
بعثت إليك لأسألك علام أحببت عليا وأبغضتني وواليته وعاديتني؟ قالت: أو تعفيني، قال: لا أعفيك. قالت: أما إذا أبيت، فإني أحببت عليا على عدله في الرعية، وقسمه بالسوية، وأبغضتك على قتالك من هو أولى منك بالأمر، وطلبتك ما ليس لك بحق. وواليت عليا على ما عقد له رسول الله صلى الله عليه وسلم تشير إلى قوله: من كنت مولاه... - وحبه المساكين وحكمك بالهوى. فقال لها: يا هذه، هل رأيت عليا؟ قالت: أي والله. فقال: فكيف رأيته قالت: رأيته والله لم يفتنه الملك الذي فتنك. ولم تشغله النعمة التي شغلتك، فقال: فهل سمعت كلامه؟ قالت: نعم والله، فكان يجلو القلب من العمى كما يجلو الزيت صدأ الطست (2).
وروي أنه بعث إلى امرأة تدعى الزرقاء بنت عدي. فعندما دخلت عليه قال: مرحبا وأهلا. كيف كنت في مسيرك؟ أتدرين فيم بعثت إليك؟ قالت: إني لي بعلم ما لم أعلم! قال: ألست الراكبة الجمل والواقفة بين الصفين يوم صفين تحضين على القتال، وتوقدين الحرب، فما حملك على ذلك؟ فقالت: يا معاوية مات الرأس، وبتر الذنب، ولم يعد ما ذهب، ومن تفكر أبصر، والأمر يحدث
____________
(1) العقد الفريد 282 / 2.
(2) العقد الفريد 115 / 2.
لكني أحفظه. لله أبوك حين تقولين: أيها الناس، إنكم قد أصبحتم في فتنة غشتكم جلابيب الظلم، وجارت بكم عن قصد المحجة، فيا لها من فتنة عمياء صماء بكماء، لا تسمع لناعقها ولا تنساق لقائدها. إن المصباح لا يضئ في الشمس، ولا تنير الكواكب مع القمر، ولا يقطع الحديد إلا الحديد، فصبرا يا معشر المهاجرين والأنصار على الغضض. فكأن قد اندمل شعب الشتات، والتأمت كلمة العدل، دفع الحق باطله، فلا تجهلن أحد فيقول: كيف العدل وأنى ليقضي الله أمرا كان مفعولا. ألا وإن خضاب النساء الحناء، وخضاب الرجال الدماء، ولهذا اليوم ما بعده، والصبر خير في الأمور عواقبا...
ثم قال معاوية: والله يا زرقاء لقد شركت عليا في كل دم سفكه. فقالت:
أحسن الله بشارتك، وأدام سلامتك،، فمثلك بشر بخير وسر جليسه. قال أو يسرك ذلك؟ فقالت: نعم والله. لقد سررت بالخبر فأنى لي بتصديق الفعل.
قال معاوية: والله لوفاؤكم له بعد موته أعجب من حبكم له في حياته (1).
وروي أنه أمر بأن تحمل إليه أم الخير بنت الحريش بن سراقة. وعندما حضرت قال معاوية: أيكم يحفظ كلامها؟ فقال رجل: أنا أحفظ بعض كلامها.
كانت تقول: أيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شئ عظيم. إن الله قد أوضح لكم الحق، وأبان الدليل، وبين السبيل، ورفع العلم، ولم يدعكم في عمياء مبهمة، ولا سوداء - مدلهمة. فأين تريدون رحمكم الله. أفرارا عن أمير المؤمنين. أم فرارا من الزحف. أم رغبة عن الإسلام. أم ارتدادا عن الحق. أما سمعتم الله جل ثناؤه يقول: (ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلوا أخباركم). ثم رفعت رأسها إلى السماء يومئذ وقالت: اللهم قد عيل الصبر، وضعف اليقين، وانتشرت الرغبة، وبيدك يا رب أزمة القلوب، فاجمع اللهم بها الكلمة على التقوى، وألف القلوب على الهدى، وأردد الحق إلى أهله. هلموا رحمكم الله إلى الإمام العادل، والرضي التقي، والصديق الأكبر،
____________
(1) العقد الفريد 108 / 2.
عن ابن عم رسول الله صلى عليه وسلم، وصهره وأبي سبطيه، خلق من طينته وتفرع من نبعته (1)، وخصه بسره (2)، وجعله باب مدينته (3)، وأبان ببغضه المنافقين (4). وها هو ذا مغلق السهام، ومكسر الأصنام (5)، صلى والناس مشركون (6) - وأطاع والناس كارهون،، وقتل مبارزي بدر، وأفنى أهل أحد، وهزم الأحزاب، وقتل الله به أهل خيبر (7)، مفرق به جمع هوزان، فيا لها
____________
(1) تقصد قول النبي: " إن الله تعالى جعل ذريتي في صلب علي "، رواه الطبراني عن جابر وابن عباس (كنز 600 / 11).
(2) تقصد حديث النجوى وغيره في حديث النجوى حديث صحيح رواه الترمذي (الجامع 639 / 5).
(3) تقصد حديث " أنا مدينة العلم وعلي بابها " وهو حديث صحيح وله طرق ضعيفة. وركز القوم على طرقه الضعيفة.
(4) تقصد حديث " لا يبغضه إلا منافق " ورواه مسلم وغيره.
(5) تقصد حديث تكسيره الأصنام مع رسول الله. ورواه البخاري.
(6) تقصد حديث " أنا أول من أسلم " رواه الترمذي وصححه (الجامع 642 / 5) وحديث " أنا أول من صلى " رواه الإمام أحمد ورجاله ثقات (الزوائد 103 / 9).
(7) تقصد حديث " لأدفعن الراية غدا إلى رجل يحبه الله ورسوله " والحديث رواه البخاري
وأحمد (البخاري 166 / 2) الفتح الرباني 122 / 23.