" حسين أتيت بتربته، ورأيت قاتله أما أنه لا يقتل بين ظهراني قوم فلا ينصرونه.
ألا عمهم الله بعقاب " (3).
مما سبق علمنا أن العصر الأول كان على علم بأحداث أبي عبد الله الحسين في خطوطها العريضة، وأنهم كانوا يعلمون أيضا بما سيترتب على قتل الحسين. فالطريق بعد القتل فيه عذاب من الله، وأمروا أن ينصروا الحسين. ومن الثابت والمحفوظ أن معاوية كان يسب أهل البيت على منابر دمشق وغيرها. ولم تقف الأكثرية ضد هذه الثقافة التي ليس فيها نصر للحسين. لم يعملوا بسياسة:
" لو أن الناس اعتزلوهم " (4)، ولم يأخذوا بقول النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع " أيها الناس خذوا العطاء ما كان عطاء، فإذا تجاحفت قريش على الملك، وكان عن دين أحدكم فدعوه " (5) وقال: " خذوا العطاء ما دام عطاء، فإذا كان إنما هو رشا فاتركوه، ولا أراكم تفعلون، يحملكم على ذلك الفقر
____________
(1) رواه الطبراني في الكبير (كنز 128 / 12) ورجاله ثقات وهم: محمد بن عبد الله الحضرمي قال الدارقطني: ثقة والحسين بن حريث بن الحسن من رجال الصحاح غير ابن ماجة، وثقه النسائي وابن حبان، والفضل بن موسى من رجال الصحاح الست وثقه ابن معين وابن سعد، وابن وكيع وغيرهم.
(2) الطبراني (الزوائد 190 / 9)، وإسناده جيد (كنز العمال 167 / 11).
(3) ابن عساكر (كنز العمال 128 / 12).
(4) رواه البخاري (الصحيح 280 / 2) ك. بدء الخلق.
(5) رواه أبو داوود حديث 2958.
إن الأغلبية بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بأقل من خمسين سنة لم يعتزلوا بني أمية، على الأقل عندما تبينوا أن معاوية يتجاحف على الملك وهو من الطلقاء، ويبذر المال بذرا لوقف تقدم الذين يدورون مع الكتاب حيث دار.
ولا يعني هذا أن بني أمية شقوا طريقهم بسهولة ويسر، لأن خير أمية أخرجت للناس ما نامت، إن كان أكثرهم قد قتل. ولو لم يكن هناك غير هذه الفئة القليلة لكان ذلك كفاية، لأن التاريخ قد سجل وعلم الشاهد والغائب أن خير أمة أخرجت للناس وقفت بالمرصاد للظلم والاستكبار وبطر الحق، الذي اتخذ من الدين رداءا له. ولم يحدث على امتداد التاريخ الإنساني أن خرجت أمة على أمة، أمة ترفع راية الإسلام وهي تريد بطر الحق، وأخرى على بينة وترفع راية القرآن والسنة، وتنادي بإقامة العدل. ولم يحدث في أمة من الأمم أن خرج منهم رجال يحملون القرآن في صدورهم، ليأمروا بالمعروف في عالم مدجج بالسلاح، وأهله لا تجاوز القرآن تراقبهم. لم يحدث هذا من قبل، ولكنه حدث في الأمة الخاتمة التي حمل أمانتها خير أمة أخرجت للناس.
رابعا - على مفترق الطرق:
قبل اشتعال الأحداث التي تنتهي بمقتل الحسين كان هناك تغيرات، ذهب معها قديم وجاء عليها جديد منها: موت المغيرة بن شعبة أحد دهاة العرب، والذي يعود الفضل إليه في وضع بذرة الحكم الوراثي في ساحة الملك، في أمة رفضت الحكم الوراثي في دائرة الطهر. وضع بذرة لا تنبت إلا بالسيف والدهاء والمكر. في حين أن هذه البذرة كان يقابلها بذرة أخرى شجرتها التقوى وفروعها اليقين وتسقى من حوض فيه ماء لذة للشاربين. مات المغيرة سنة خمسين بعد أن ضربه الطاعون (2). وفي سنة اثنين وخمسين مات زياد ابن أبيه، ذراع معاوية،
____________
(1) رواه الطبراني عن معاذ، وابن عساكر عن ابن مسعود (كنز 216 / 1).
(2) الطبري 131 / 6.
ومات سمرة بن جندب الذي قتل من المسلمين ثمانية آلاف، وعند ما قيل له: هل تخاف أن تكون قد قتلت بريئا قال: لو قتلت إليهم مثلهم ما خشيت (1). وروي أنه قال في آخر أيام حياته وبعد أن فقد منصبه: لعن الله معاوية، والله لو أطعت الله كما أطعت معاوية ما عذبني أبدا (2). ومات عمرو بن العاص الذي نظر إليه عمر بن الخطاب يوما وقال: " ما ينبغي لأبي عبد الله أن يمشي على الأرض إلا أميرا. (3).
وروي أن ابن العاص عندما احتضر حول وجهه إلى الجدار وقال: اللهم أمرتنا فعصينا، ونهيتنا فما انتهينا ولا يسعنا إلا عفوك. وفي رواية أنه جزع جزعا شديدا، فلما رأى ذلك ابنه عبد الله قال: يا أبا عبد الله ما هذا الجزع، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدنيك ويستعملك؟ قال: أي بني: وسأخبرك عن ذلك، أما والله. ما أدري أحبا كان ذلك أم تألفا يتألفني (4).
ومات أيضا معاوية بن أبي سفيان بن حرب، كان عمر بن الخطاب يقول للناس: " أتذكرون كسرى وعندكم معاوية " (5)، ويقول لهم: " دعوا فتى قريش وابن سيدها، إنه لمن يضحك في الغضب، ولا ينال منه إلا على الرضا " (6)، وإذا قال له معاوية: مرني يا أمير المؤمنين بما شئت. يقول له عمر: لا آمرك ولا أنهاك (7). وعندما استعمله عمر كتبت هند بنت عتبة إلى معاوية: إن هذا الرجل قد استنهضك في هذا الأمر، فاعمل بطاعته فيما أحببت وكرهت. وكتب إليه
____________
(1) الطبري 132 / 6.
(2) الطبري 164 / 6.
(3) الإصابة 3 / 5.
(4) قال الهيثمي في الصحيح طرف منه ورواه أحمد ورجاله رجال الصحيح (الزوائد 353 / 9).
(5) الطبري 184 / 6.
(6) البداية والنهاية 124 / 8، الديلمي (كنز العمال 587 / 13).
(7) البداية والنهاية 125 / 8، الطبري 184 / 6.
لقد ذهب جيل عاصر حذيفة الذي كان يصلي سرا، وجاء جيل آخر على أكتافه تضيع الصلاة ويشق شعر الأديرة وشعر المجون طريقه على أيدي الأقيشر، وحنين الحيرى، والثرفواني، وبكر بن خارجة، وغيرهم من الذين سلموا أعلامهم إلى خليفة ماجن متهتك خليع، نسي أنه خليفة للمسلمين، واندفع في حياة لاهية مستهترة، وهذا الخليفة هو الوليد بن يزيد، وهو فرع أخير من فروع شجرة بني أمية (2).
والجيل الذي ذهب وضع على رقبة الأمة من هو أشد. وروي أن يزيد بن معاوية عندما جلس على أريكة الملك وقام بأبهته، استشار مستشاره النصراني سرجون. ذكر ابن كثير: أن سرجون الرومي كان كاتبا لمعاوية وصاحبا لأمره (3). وقال: عندما تولى يزيد أقر نواب أبيه ولم يعزل أحدا منهم وهذا من ذكاء يزيد (4). وقال ابن حجر في الإصابة: سرجون مستشار يزيد هو الذي أشار عليه بتولية عبيد الله بن زياد الكوفة ليتصدى لأتباع الحسين (5). وذكر الطبري: لما اجتمعت الكتب عند يزيد، دعا يزيد سرجون وقال له: ما رأيك فإن حسينا قد توجه نحو الكوفة. فقال سرجون:
أرأيت معاوية لو بعث لك كنت آخذا برأيه؟ قال يزيد: نعم. فأخرج سرجون عهد عبيد الله على الكوفة، وقال: هذا رأي معاوية وقد أمر بهذا
____________
(1) البداية والنهاية 118 / 8.
(2) راجع سيرته وأخباره وأقوال العلماء فيه في البداية والنهاية 6، 7، 8، 9، 10، 11 / 10.
(3) البداية والنهاية 21 / 8.
(4) ابن كثير البداية والنهاية 146 / 8.
(5) الإصابة 16 / 2.
وبينما كان سرجون يخطط في دار الخلافة، كان مروان بن الحكم يخدمه في مكان آخر سواء أكان في الحكم أو في خارجه. فهو في هذه الآونة كبير بني أمية، وبكر أبناء الحكم بن العاص الذي لعنه النبي صلى الله عليه وسلم ومروان في صلبه. وبين هؤلاء وقف عبد الله بن الزبير، وكان قد تثاقل عن مبايعة يزيد، وذهب إلى مكة ودعا الناس إليه، وعبد الله كان علما من أعلام يوم الجمل، وهو الذي أفسد أبيه، وكان الكرسي أملا من آماله.
وبعيدا عن هؤلاء وقف عبد الله بن عمر بن الخطاب، ولم يكن مصدر خطورة لأحد، فهو لم ينصر علي وبايع يزيد، ووقف في وجه الخارجين عليه يوم الحرة، ثم بايع عبد الملك بن مروان. وبعد ضرب الكعبة طاف ابن عمر بها، وطاف معه الحجاج بن يوسف. وكان قد أمره عبد الملك أن يأخذ مناسكه عن عبد الله وسيأتي ذلك في موضعه.
والخلاصة: كانت الأحداث على أبواب خروج الحسين، يديرها سرجون ومعاوية - وإن كان قد مات - ويزيد، وكان ربان السفينة عبيد الله بن زياد، السفاح الذي تتوارى أمامه خجلا أفعال بسر بن أرطأة، وسمرة بن جندب، وغيرهما رغم قسوتها. وكانت الأحداث تبشر بثقافة لا تنتج إلا جيلا متسلقا يبحث عن السلطة، أو جيلا حاملا ليس عنده المقدرة ليميز بين الصالح وبين الطالح، وبين ما هو رجس وما هو طاهر. وبالجملة: كان الجيل الأول في القرن الأول أمام امتحان لا إجبار فيه، إما أن يختار يزيد ويقف معه لتصفية معارضيه، كابن الزبير والخوارج ليستقيم الملك للأسرة الأموية، وإما أن ينقبوا فيما حولهم ويقرءون الأحداث على وجهها الفطري، بعيدا عن زخرف أعلام المعارضة، وبريق
____________
(1) الطبري 200 / 6.
لقد كانت الساحة تعج بأعلام الزينة والإغواء وعلى طرقها تسير قوافل الاحتناك، وكانت هناك حجة من الله على هذا الأعلام وهذه القوافل، حتى لا تكون لهم على الله حجة يوم القيامة. وحجة الله ظاهرة ولا تفرض نفسها على أحد، وإنما تأخذ الحجة بالأسباب في مخاطبة الناس كي يساعدهم ذلك في الالتفاف حول طوق النجاة.. وشاء الله أن يكون الحجة في هذه الساحة مقتولا، وشاء الله أن يكون الناس على علم بأنه مقتول حتما، وشاء سبحانه أن يكون في الخندق المقابل للحجة أهل دنيا معهم الأعلام التي يزينها البريق، وهنا يكون الابتلاء - فمن سيقف في ساحة الدماء؟ ومن سيقف في ساحة الدينار والدرهم؟
إن الجيل الأول في القرن الأول كان في مفترق طرق. لأن الحجة في سنن الوجود يحب أن يهرع إليه الناس ما دام فيه من الله برهان. لأن الناس مطالبون بحركة لينظر الله كيف يعملون، قال تعالى: " والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا " (1). فالخطوة الأولى منهم، فإذا جاهدوا فيه عند المقدمة، ترتب على ذلك عطاء الله إن كانوا صادقين. وقال تعالى: " ولينصرن الله من ينصره " (2)، وقال: " إنهم فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدى " (3)، لقد آمنوا أولا فزادهم الله هدى، فإذا هرع الناس إلى الحجة، سلك بهم طرق الدنيا عن طريق الدين.
فالدين طريقة خاصة في الحياة تؤمن صلاح الدنيا بما يوافق الكمال الأخروي، والحياة الدائمة الحقيقية. والسعادة الحقيقية يصل إليها الإنسان. أو يعمل في الوصول إليها. عندما يكون مؤمنا بالله وكافرا بالطاغوت.
____________
(1) سورة العنكبوت: الآية 69.
(2) سورة الحج: الآية 40.
(3) سورة الكهف: الآية 13.
خامسا - الرسائل والحصار:
بعد وفاة معاوية، حدث ما توقعه الحسن بن علي، فلقد علم كثير من أهل الحجاز واليمن والعراق أن بني أمية ليسوا بأصحاب دين، بقدر ما هم أصحاب بغي ومكر - وكان الحسن بن علي، بعد أن صالح معاوية، يريد أن ينطلق أهل البيت فيما بعد من هذه الأرضية. فالذين علموا أن حركة بني أمية تدور حول توريث الكرسي وجمع الأموال، سيعيدون التفكير ويردون الحق إلى أصحابه لينالوا علما ونجاة. وأصحاب الحق لن يطمعوا في ما بين أيدي الناس، لأنهم لا يأكلون الصدقة، ولا يريدون إلا نصيبهم الذي كتبه الله لهم من الخمس.
فوفقا لهذا التفكير ينال الناس العلم والمال، ويفتح الله عليهم بركات من السماء، ولكن معاوية قطع طريق هذا الخط بعد أن فرض ابنه على العقل.
وما يهمنا هنا هو إلقاء الضوء على حركة أهل العراق، كيف بدأت؟ وما هي القوة التي أدت إلى فشلها، ثم كيف كانت حركة أبي عبد الله الحسين مع البداية، وكيف كانت حركته مع القوة الغاشمة التي صدت عن سبيل الله؟
روي أن أبا عبد الله الحسين عليه السلام خرج إلى مكة، في الوقت الذي كانت الشيعة مجتمعة في العراق في منزل سليمان بن صرد صحابي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم - قال في الإصابة: كان سليمان خيرا فاضلا شهد صفين مع علي (1) - فقال سليمان: إن معاوية قد هلك، وإن حسينا قد تقبضه على القوم ببيعته، وقد خرج إلى مكة، وأنتم شيعته وشيعة أبيه، فإن كنتم تعلمون.
أنكم ناصروه ومجاهدوا عدوه، فاكتبوا إليه. وإن خفتم الوهن والفشل، فلا تغروا الرجل من نفسه قالوا: بل نقاتل عدوه، ونقتل أنفسنا دونه. قال: فاكتبوا إليه. بسم الله الرحمن الرحيم. لحسين بن علي من سليمان بن صرد، والمسيب بن نجية (2). ورفاعة بن شداد، وحبيب بن مظاهر، وشيعته من
____________
(1) الإصابة 127 / 3.
(2) قال في الإصابة أدرك النبي وهو قول ابن سعد وقيل غير ذلك (الإصابة 175 / 6).
ثم أرسلوا الكتاب مع عبد الله الهمداني، وبعد يومين بعثوا إليه بنحو من ثلاثة وخمسين صحيفة موقعة من الرجل والاثنين والأربعة. ثم لبثوا يومين آخرين، وبعثوا إليه بكتاب قالوا فيه: بسم الله الرحمن الرحيم، لحسين بن علي من شيعته من المؤمنين والمسلمين. أما بعد. فحي هلا. فإن الناس ينتظرونك ولا رأي لهم في غيرك فالعجل العجل والسلام عليك (2)، ثم كتب إليه شبث بن ربعي ومن معه: أما بعد فقد أخضر الجناب، وأينعت الثمار، وطمت الجمام، فإذا شئت فاقدم على جند لك مجند. والسلام عليك (3).
وروي أن الرسل تلاقت كلها عند الحسين عليه السلام، فقرأ الكتب، وسأل الرسل عن أمر الناس. ثم كتب مع هانئ بن هانئ السبيعي، وسعيد بن عبد الله. وكانا آخر الرسل: بسم الله الرحمن الرحيم. من حسين بن علي إلى الملاء من المؤمنين والمسلمين. أما بعد. فإن هانئا وسعيدا أقدما علي بكتبكم، وكانا آخر من قدم علي من رسلكم. وقد فهمت كل الذي اقتصصتم وذكرتم ومقالة جلكم، إنه ليس علينا إمام فأقبل لعل الله أن يجمعنا بك على الهدى والحق. وقد بعثت إليكم أخي وابن عمي وثقتي من أهل بيتي، وأمرته أن يكتب إلي بحالكم وأمركم ورأيكم. فإن كتب إلي أنه قد أجمع رأي ملئكم وذوي الفضل والحجى منكم على مثل ما قدمت علي به رسلكم وقرأت في كتبكم،
____________
(1) الطبري 197 / 6.
(2) الطبري 197 / 6.
(3) الطبري 197 / 6.
وبعث الحسين إليهم مسلم بن عقيل، وكان ذلك لثمان ليال ماضين من ذي الحجة سنة 60. وكان الحسين قد خرج من المدينة إلى مكة لليلتين بقيتا من رجب سنة 60. وأقام بمكة شعبان وشهر رمضان وشوال وذا القعدة، ثم خرج منها لثمان ماضين من ذي الحجة يوم التروية (2)، وكان مسلم بن عقيل قد بعث إليه من الكوفة: " أما بعد، فإن الرائد لا يكذب أهله، وقد بايعني من أهل الكوفة ثمانية عشر ألفا، فعجل الاقبال حين يأتيك كتابي، فإن الناس كلهم معك، ليس لهم في آل معاوية رأي ولا هوى والسلام (3).
وروي أن الحسين بعد أن وصلت إليه رسائل أهل الكوفة، وعلم أن هوى أهل البصرة ليس مع آل معاوية، بعث مع مولى لهم يقال له سليمان بكتاب إلى رؤوس الأخماس بالبصرة وإلى الأشراف قال فيه: أما بعد. فإن الله اصطفى محمدا صلى الله عليه وسلم على خلقه، وأكرمه بنبوته، واختاره لرسالته ثم قبضة الله إليه. وقد نصح لعباده وبلغ ما أرسل به صلى الله عليه وسلم وكنا أهله وأولياءه وورثته، وأحق الناس بمقامه في الناس، فاستأثر علينا قومنا بذلك، فرضينا وكرهنا الفرقة، وأحببنا العافية. ونحن نعلم أنا أحق بذلك الحق المستحق علينا ممن تولاه، وقد أحسنوا وأصلحوا، وتحروا الحق فرحمهم الله وغفر لنا ولهم، وقد بعثت رسولي إليكم بهذا الكتاب. وأنا أدعوكم إلى كتاب الله وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم، فإن السنة قد أميتت، وإن البدعة قد أحييت، وإن تسمعوا قولي وتطيعوا أمري أهدكم سبيل الرشاد. والسلام عليكم ورحمة الله (4). وروى أن أشراف أهل البصرة عندما قرؤا الكتاب كتم غير
____________
(1) الطبري 198 / 6.
(2) الطبري 315 / 6.
(3) الطبري 311 / 6.
(4) الطبري 200 / 6.
أشبهته من بين من وطئ الحصى. ولم ينتزعني شبه خال ولا ابن عم (2). ثم خرج من البصرة، واستخلف أخاه عثمان وأقبل إلى الكوفة. كما أوصى معاوية بن أبي سفيان. وروى أنه عندما دخل الكوفة كانت عليه عمامة سوداء.
وكان متلثما، فظن الناس حين قدم عبيد الله بن زياد أنه الحسين، فأخذ لا يمر على جماعة من الناس إلا سلموا عليه وقالوا: مرحبا بك يا ابن رسول الله، قدمت خير مقدم. فرأى ابن زياد من تباشيرهم بالحسين عليه السلام ما ساءه.
فلما دخل القصر وعلم الناس في الكوفة أنه عبيد الله بن زياد، دخلهم من ذلك كآبة وحزن شديد (3). ولما نزل ابن زياد القصر، نودي الصلاة جامعة. فاجتمع الناس. فخرج وقال: إن أمير المؤمنين ولاني مصركم وثغركم. وأمرني بإنصاف مظلومكم.... وبالشدة على مريبكم وعاصيكم. وأنا متبع فيكم أمره ومنفذ فيكم عهده... (4).
مما سبق علمنا أن الجموع بعثت بالرسائل إلى أبي عبد الله الحسين، ولم يكن النظام الحاكم بعيدا عن ما يحدث. فلقد أغلق الأبواب على البصرة، وأعلن قانونه بصراحة " لئن بلغني عن رجل منكم خلاف لأقتلنه وعريفه ووليه ولآخذن
____________
(1) الطبري 200 / 6.
(2) الطبري 200 / 6.
(3) الطبري 201 / 6.
(4) الطبري 201 / 6.
سادسا - العزيمة والإصرار:
كان الحسين يقف كحجر عثرة في طريق آمال عبد الله بن الزبير، الذي وضع مكة في اعتباره، لينطلق منها ويدعو إلى نفسه. روي أن ابن الزبير قال للحسين: ما تريد أن تصنع؟ فقال الحسين: والله لقد حدثت نفسي بإتيان الكوفة، ولقد كتب إلي شيعتي بها وأشراف أهلها، واستخير الله. فقال له ابن الزبير: أما لو كان لي بها مثل شيعتك ما عدلت بها. وبعد أن قال ذلك، خشي أن يتهمه، فقال للحسين: أما إنك لو أقمت بالحجاز، ثم أردت هذا الأمر ههنا.
ما خولف عليك إن شاء الله. وعندما خرج الحسين من عنده قال الحسين: ها إن هذا ليس شئ يؤتاه من الدنيا أحب إليه من أن أخرج من الحجاز إلى العراق.
وقد علم أنه ليس له من الأمر معي شئ، وأن الناس لم يعدلوه بي فود أني خرجت منها لتخلو له (1). ولقد كان الحسين يعلم أن ابن الزبير سيقتل في مكة على طريق الفتن وذلك وفقا لإخبار النبي صلى الله عليه وسلم بالغيب عن ربه. وروي أن ابن الزبير الذي لزم الكعبة وقد عرف أن أهل الحجاز لا يبايعونه ولا يتابعونه أبدا ما دام حسين بالبلد، لأنه حسينا أعظم في أعينهم وأنفسهم منه قال للحسين: إن شئت أن تقيم أقمت فوليت هذا الأمر... فقال الحسين: إن أبي حدثني أن بها كبشا يستحل حرمتها. فما أحب أن أكون أنا ذلك الكبش (2).
فالحسين يتعامل مع الأحداث وفقا لمعايير دقيقة، فابن الزبير يريد الحكم
____________
(1) الطبري 216 / 6.
(2) الطبري 217 / 6، البداية 166 / 8.
وبعد أن عزم الحسين على الخروج إلى الكوفة، أشفق عليه الكثير من الناس، لأنهم كانوا يعلمون نتيجة هذا الخروج، وعندما كلموه في ذلك قال:
إني رأيت رؤيا فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمرت فيها بأمر. وأنا ماض له عله كان أولى. فقيل له: فما تلك الرؤيا؟ قال: ما حدثت أحدا بها وما أنا محدث بها حتى ألقى ربي (2). وروي أنه قال لابن الزبير، وأيم الله لو كنت في جحر هامة من هذه الهوام، لاستخرجوني حتى يقضوا في حاجتهم، ووالله ليعتدن علي كما اعتدت اليهود في السبت (3). وإني ماض في أمر رسول الله حيث أمرني. وإنا لله وإنا إليه راجعون (4). ثم قال عليه السلام: والله لا يدعوني حتى يستخرجوا هذه العلقة من جوفي، فإذا فعلوا، سلط الله عليهم من يذلهم، حتى يكونوا أذل من فرم الأمة (5).
____________
(1) الطبري 217 / 6.
(2) الطبري 219 / 6، أسد الغابة 21 / 2، البداية 167 / 28.
(3) البداية والنهاية 169 / 8، الطبري 217 / 6.
(4) مقتل الحسين / الخوارزمي 158 / 1.
(5) الطبري 223 / 6، البداية والنهاية 169 / 8.
وخرج الحسين ومعه أهل بيته، وروي أنه لما خرج من مكة، اعترضه رسل عمرو بن سعيد ابن العاص عامل يزيد بن معاوية على مكة، فقالوا له:
انصرف، أين تذهب؟ كانوا يريدون أن يعود إلى مكة، فأبى عليهم ومضى، وتدافع الفريقان، فاضطربوا بالسياط، ثم إن الحسين وأصحابه امتنعوا منهم امتناعا قويا. ومضى الحسين عليه السلام على وجهه. فنادوه: يا حسين ألا تتقي الله، تخرج من الجماعة وتفرق هذه الأمة. فتلى قوله تعالى: (لي عملي ولكم عملكم أنتم بريئون مما أعمل. وأنا برئ مما تعملون) (3).
وكان الحسين قد تلى قوله تعالى: " فخرج منها خائفا يترقب. قال: رب نجني من القوم الظالمين)، وذلك عندما سار نحو مكة بعد أن رفض بيعة يزيد، فلما دخل مكة تلى قوله تعالى: " فلما توجه تلقاء مدين، قال عسى ربي أن يهديني سواء السبيل) (4)، وعندما خرج من مكة تلى قوله تعالى: (لي عملي ولكم عملكم...) الآية.
____________
(1) الطبري 217 / 6.
(2) رواه الطبراني وقال الهيثمي رجاله رجال الصحيح (الزوائد 192 / 9).
(3) الطبري 218 / 6، البداية والنهاية 166 / 8.
(4) الطبري 191 / 6.
فقال له الحسين: كان من موت معاوية ما قد بلغك. فكتب إلي أهل العراق يدعونني إلى أنفسهم. فقال له ابن مطيع:... فوالله لئن طلبت ما في أيدي بني أمية ليقتلنك، ولئن قتلوك لا يهابون بعدك أحدا أبدا. والله إنها لحرمة الإسلام تنتهك، وحرمة قريش، وحرمة العرب، فلا تفعل ولا تأت الكوفة، ولا تعرض لبني أمية. فأبى الحسين إلا أن يمضي (1). وقال له آخر: إني مشفق عليك من مسيرك، إنك تأتي بلدا فيه عماله وأمراؤه، ومعهم بيوت الأموال. وإنما الناس عبيد لهذا الدرهم والدينار. ولا آمن عليك أن يقاتلك من وعدك بالنصر ومن أنت أحب إليه ممن يقاتلك (2). فأبى الحسين إلا أن يمضي.
سابعا - التخويف والإرهاب:
كتب يزيد بن معاوية إلى عبيد الله بن زياد: كتب إلي شيعتي من أهل الكوفة يخبرونني أن ابن عقيل بالكوفة يجمع الجموع لشق عصا المسلمين، فسر حين تقرأ كتابي هذا، حتى تأتي أهل الكوفة فتطلب ابن عقيل كطلب الخرزة، حتى تثقفه فتوثقه أو تقتله والسلام (3). ولقد بينا كيف دخل ابن زياد الكوفة وعلى رأسه عمامة سوداء، وماذا قال للناس عندما خطبهم وكان قد خطب في أهل البصرة من قبل وهددهم.
وروي أن ابن عقيل نزل في الكوفة على دار هانئ بن عروة، وكان الشيعة يتكتمون أخباره خوفا عليه من ابن زياد. ولكي يصل ابن زياد إلى ابن عقيل وأصحابه، دعا مولى له يقال له: معقل وقال له: خذ ثلاثة آلاف درهم ثم اطلب مسلم بن عقيل، واطلب لنا أصحابه، ثم أعطهم هذه الثلاثة آلاف وقل لهم:
____________
(1) الطبري 224 / 6.
(2) الطبري 216 / 6.
(3) الطبري 200 / 6.
ثم دعا ابن زياد معقلا ذلك العين، فجاء حتى وقف بين يديه فقال لهانئ:
أتعرف هذا، قال: نعم. وعلم هانئ عند ذلك إنه كان عينا عليهم، وأنه قد أتاه بأخبارهم (3). فقال هانئ: آمره أن يخرج من داري إلى حيث شاء من الأرض.
____________
(1) الطبري 204 / 6، البداية والنهاية 153 / 8.
(2) الطبري 205 / 6، البداية 154 / 8.
(3) الطبري 205 / 6، البداية 154 / 8.
فتدخل بينهما رجل فقال: أصلح الله الأمير خلني وإياه أكلمه. فقال له: يا هانئ إني أنشدك الله ألا تقتل نفسك، وتدخل البلاء على قومك وعشيرتك... فادفع الرجل إليه، فإنه ليس عليك بذلك، مخزاه ولا منقصة. إنما تدفعه إلى السلطان قال: بلى والله إن علي في ذلك للخزي والعار. أنا أدفع جاري وضيفي وأنا حي صحيح أسمع وأرى، شديد الساعد كثير الأعوان! والله لو لم أكن إلا واحدا ليس لي ناصر، لم أدفعه حتى أموت دونه. فسمع ابن زياد ذلك فقال: ادنوه مني فأدنوه فقال: والله لتأتينني به أو لأضربن عنقك... ثم قال للعسكر: ادنوه مني فأدنوه فاستعرض وجهه بالقضيب. فلم يزل يضرب أنفه وجبينه وخده، حتى كسر أنفه وسيل الدماء على ثيابه ونثر لحم خديه وجبينه على لحيته. ثم قال: خذوه فألقوه في بيت من البيوت وأغلقوا عليه بابه واجعلوا عليه حرسا (2).
وعندما علم ابن عقيل بما حدث، أمر عبد الله بن حزم أن ينادي في أصحابه، وقد ملأ منهم الدور حوله. وقد بايعه ثمانية عشر ألفا. وفي الدور أربعة آلاف رجل. وتنادى أهل الكوفة فاجتمعوا إليه وعقد ابن عقيل للرجال على القبائل. وسارت الخيل في اتجاه القصر. فلما بلغ ابن زياد إقباله تحرز في القصر وغلق الأبواب. وروي عن عباس الجدلي أنه قال: خرجنا مع ابن عقيل في أربعة آلاف فما بلغنا القصر إلا ونحن ثلثمائة (3).
وبينما كانت خيل ابن عقيل تتقدم نحو القصر، كانت أبواق السلطان تتجه نحو دور الكوفة. روي أن ابن زياد دعا كثير بن شهاب وأمره أن يخرج فيمن أطاعه، فيسير بالكوفة، ويخذل الناس عن ابن عقيل، ويخوفهم ويحذرهم عقوبة
____________
(1) الطبري 205 / 6.
(2) الطبري 206 / 6، البداية 154 / 8.
(3) الطبري 207 / 6، البداية 154 / 8.
يقول الطبري: وتكلم الأشراف بنحو من كلام هذا. فلما سمع مقالتهم الناس أخذوا يتفرقون وأخذوا ينصرفون وروي أن المرأة كانت تأتي ابنها أو أخاها فتقول: انصرف، ويجيئ الرجل إلى ابنه أو أخيه فيقول: غدا يأتيك أهل الشام، فما تصنع بالحرب والشر؟ انصرف، فما زالوا يتفرقون ويتصدعون، حتى أمسى ابن عقيل وما معه ثلاثون نفسا في المسجد، فلما أمسى وليس معه إلا أولئك النفر. خرج متوجها نحو أبواب كنده. فما بلغ الأبواب وما معه منهم عشرة، ثم خرج من الباب. وإذا ليس معه إنسان، والتفت فإذا هو لا يحس أحدا يدله على الطريق، ولا يدله على منزل ولا يواسيه بنفسه إن عرض له عدو.
فمضى على وجهه يتلدد في أزقة الكوفة لا يدري أين يذهب، حتى خرج إلى دور بني جبلة من كندة، فمشى حتى انتهى إلى باب امرأة يقال لها: طوعة كانت للأشعث بن قيس فأعتقها فتزوجها أسيد الحضرمي. فولدت له بلالا، وبعد أن عرفها بنفسه وأن القوم كذبوه، أدخلته بيتا في دارها غير البيت الذي تكون فيه (3).
ومن قصر الإمارة أعلن ابن زياد على أهل الكوفة: إن برئت ذمة الله من رجل وجدنا ابن عقيل في داره ومن جاء به فله ديته. وقال: اتقوا الله عباد الله، والزموا طاعتكم وبيعتكم ولا تجعلوا على أنفسكم سبيلا، ثم نادى على صاحب
____________
(1) الطبري 207 / 6، البداية 154 / 8.
(2) الطبري 208 / 6.
(3) الطبري 209 / 6، البداية 155 / 8.
وظل يقاتلهم وفد أثخن بالحجارة، وعجز عن القتال. وأسند ظهره إلى جدار الدار، فقال ابن الأشعث: لك الأمان واجتمعوا حوله فقال ابن عقيل: أما لو لم تؤمنوني ما وضعت يدي في أيديكم. وعندما انتزعوا سيفه، دمعت عيناه ثم قال: هذا أول الغدر... أين أمانكم أنا لله وإنا إليه راجعون... وبكى، فقيل له: إن من يطلب مثل الذي تطلب، إذ نزل به مثل الذي نزل بك لم يبك.
فقال: والله ما لنفسي أبكي، ولا لها من القتل أرثي... ولكن أبكي لأهلي المقبلين إلي. أبكي الحسين وآل حسين. ثم أقبل على بن الأشعث فقال: يا عبد الله إني أراك والله ستعجز عن أماني فهل عندك خير تستطيع أن تبعث من عندك رجلا على لساني يبلغ حسينا؟ فإني لا أراه إلا قد خرج إليكم اليوم مقبلا، أو هو خارج غدا هو وأهل بيته. فيقول: أن ابن عقيل بعثني إليك، وهو في أيدي القوم أسير، لا يرى أن تمشي حتى تقتل، وهو يقول لك ارجع بأهل بيتك، ولا يغرك أهل الكوفة، فإنهم أصحاب أبيك، الذي كان يتمنى فراقهم
____________
(1) الطبري 210 / 6، البداية 155 / 8.
فقال ابن الأشعث: والله لأفعلن، ولأعلمن ابن زياد إني قد أمنتك (1).
وروي أن ابن عقيل عندما دخل على ابن زياد دار بينهما حوار طويل، منه أن ابن زياد قال له: إن نفسك تمنيك ما حال الله دونه ولم يرك أهله. فقال ابن عقيل: فمن أهله يا ابن زياد؟ قال: أمير المؤمنين يزيد. فقال: الحمد لله على كل حال، رضينا بالله حكما بيننا وبينكم. قال: كأنك تظن أن لكم في الأمر شيئا. فقال ابن عقيل: ما هو بالظن ولكنه باليقين. قال: قتلني الله إن لم أقتلك قتلة لم يقتلها أحد في الإسلام. فقال: أما أنك أحق من أحدث في الإسلام ما لم يكن فيه، أما أنك لا تدع سوء القتلة، وقبح المثلة، وخبث السيرة، ولؤم الغلبة، ولا أحد من الناس أحق بها منك. فأقبل ابن زياد يشتمه ويشتم حسينا وعليا وعقيلا، وأخذ مسلم لا يكلمه (2). وكان ابن عقيل قد عرى نظامه فقال له: إن أباك قتل خيار الناس، وسفك دماءهم، وعمل فيهم أعمال كسرى وقيصر (3). ووصفهم بأنهم يلغون في دماء المسلمين ولغا. ويقتلون النفس التي حرم الله قتلها، ويقتلون النفس بغير النفس. ويسفكون الدم الحرام. ويقتلون على الغضب والعداوة وسوء الظن. وهم يلهون ويلعبون كأن لم يصنعوا شيئا (4).
وأمر ابن زياد بضرب عنق ابن عقيل فوق سطح القصر، فصعد به وهو يكبر ويستغفر ويصلي على ملائكة الله ورسله وهو يقول: " اللهم احكم بيننا وبين قوم غرونا وكذبونا وأذلونا وقتلونا " ثم ضرب عنقه (5) وروي أنهم أحضروا هانئ بن عروة من السجن. حتى انتهوا به إلى مكان من السوق كان يباع فيه
____________
(1) الطبري 211 / 6.
(2) الطبري 213 / 6، البداية 156 / 8.
(3) الطبري 213 / 6، البداية 156 / 8.
(4) الطبري 213 / 6، البداية 156 / 8.
(5) الطبري 213 / 6، البداية 156 / 8.
من الكتاف ثم قال: أما من عصا أو سكين أو حجر أو عظم. فوثبوا عليه، فضربه رجل بالسيف فلم يصنع سيفه شيئا، فقال هانئ: إلى الله المعاد اللهم إلى رحمتك ورضوانك. ثم ضربه الرجل أخرى فقتله (1).
وكتب ابن زياد إلى يزيد بن معاوية: " الحمد لله الذي أخذ لأمير المؤمنين بحقه وكفاه مؤنة عدوه "، ثم أخبره بما تم من لجوء ابن عقيل إلى دار هانئ وإنه جعل عليهما العيون ودس إليهما الرجال، إلى آخر القصة، ثم قال: " وقد بعثت إليك برؤوسهما... " والسلام فكتب يزيد بن معاوية، فأخبره بأنه عنده قد عمل عمل الحازم، وصال صولة الشجاع الرابط الجأش ثم قال له: " إنه قد بلغني أن الحسين بن علي قد توجه نحو العراق، فضع المناظر والمسالح واحترس على الظن. وخذ على التهمة غير أن لا تقتل إلا من قاتلك واكتب إلي - في كل ما يحدث من الخبر - والسلام " (2) وهكذا نزل الستار على رسول الحسين، ومما سبق رأينا أن الجماهير خذلت الحسين، لأن الدولة الأموية أرهبت الجماهير. أرهبتهم بصورة تأنف منها الفطرة. فإذا كان الخوف من الأمور الفطرية، فيجب أن يتم التعامل مع الإنسان بما لا يرعب الخوف الفطري، إن الإسلام نهى عن ترويع المسلم، بل ووضع أسس راقية للتعامل مع الحيوان والطير والنبات. فإذا جئت بقانون فيه: " أخذ البرئ بالسقيم، والشاهد بالغائب " و " لئن بلغني عن رجل منكم خلافا لأقتلنه وعريفه ووليه، ولآخذن الأدنى بالأقسى " و " احترس من السلطان فإنه يغضب غضب الصبيان، ويأخذ أخذ الأسد، وقليلة يغلب كثير من الناس " فمثل هذا القانون لا علاقة له بالإسلام. وقانون مثل هذا يكون حجر عثرة في طريق الفطرة لأن الاختيار فيه لا يتم إلا بعقل السلطان وعينه. بمعنى أن الناس لا يرون إلا ما يرى السلطان. وهذا في حد ذاته ضد طبيعة الوجود لأنه ينتج إنسانا مشوها.
____________
(1) الطبري 214 / 6، البداية 157 / 8.
(2) الطبري 215 / 6، البداية والنهاية 165 / 8.
إن التخويف والإرهاب يضرب بصورة أو بأخرى دائرة الاختيار، بل ويجتث شجرة الحرية الحقيقية التي تتغذى بماء الفطرة، ولما كانت الدولة الأموية قد عملت من أجل تنمية شجرة الارهاب، ولما كانت هذه الشجرة قد وضعت عليها عباءة القداسة والدين، بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بأقل من خمسين عاما، وهذا يمثل خطرا على الأجيال وحتى قيام الساعة، فإن الحسين بن علي إذا كان له رأي في الذين خذلوه، فإن حركته ستكون نحو الجذور أي نحو صناع الارهاب. وهذه الحركة ليست من أجل وقف الارهاب، وإنما لوضع لباس العار الذي ما بعده عار على رؤوس صناع التخويف والإرهاب حتى يرث الله الأرض ومن عليها.
ثامنها - صمود على الطريق:
كان الحسين عليه السلام في الطريق إلى الكوفة، ولم يكن يعلم بالأحداث التي جرت هناك، لذا بعث قيس بن مسهر إلى أهل الكوفة، وكتب معه إليه:
بسم الله الرحمن الرحيم من الحسين بن علي إلى إخوانه من المؤمنين والمسلمين. سلام عليكم. فإني أحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو. أما بعد.
فإن كتاب مسلم بن عقبة قد جاءني يخبرني فيه بحسن رأيكم، واجتماع ملئكم على نصرنا والطلب بحقنا... فإذا قدم عليكم رسول فاكمشوا أمركم وجدوا، فإني قادم عليكم في أيامي هذه إن شاء الله " (1)، وأقبل قيس بن مسهر إلى الكوفة بكتاب الحسين، حتى إذا انتهى إلى القادسية. أخذه الحصين بن نمير فبعث به إلى ابن زياد، الذي كان قد شدد الرقابة على جميع المنافذ والأبواب. وعندما علم ابن زياد بأسباب قدوم قيس بن مسهر، أمر قيس أن يصعد القصر حتى يراه الناس وقال له: سب الكذاب ابن الكذاب... فصعد ثم قال: أيها الناس، إن
____________
(1) الطبري 223 / 6.
وقد فارقته بالحاجر فأجيبوه، ثم لعن عبيد الله بن زياد وأباه واستغفر لعلي بن أبي طالب. وعندئذ أمر ابن زياد أن يرمي به من فوق القصر فرمي به فتقطع فمات (1).
لقد كان بيان قيس بن مسهر فيه كفاية ليهب الناس هبة رجل واحد، ولكن القوى الطاغية كانت قد نشرت الذل في الطرقات بما فيه كفاية، ولكي يطوقهم الحسين بطوق الحجة مرة أخرى، بعث إليهم عبد الله بن يقطر. وما حدث لقيس حدث لابن يقطر. فلقد تلقته خيل الحصين بن نمير بالقادسية، وبعث به إلى ابن زياد، فأمره أن يصعد القصر، وأن يلعن الكذاب ابن الكذاب. فصعد فلما أشرف الناس قال: أيها الناس إني رسول الحسين بن فاطمة بن بنت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، لتنصروه وتوازروه على ابن مرجانة بن سمية الدعي.
فأمر ابن زياد بأن يلقى من فوق القصر، فرمي به فكسرت عظامه وبقي به رمق، فأتاه رجل يقال له عبد الملك بن عمير. (2) فذبحه فما عيب ذلك عليه قال:
إنما أردت أن أريحه (3).
فالطريق إلى الفطرة ودعوتها كان ابن زياد قد أغلقه تماما. في أثناء ذلك كان الحسين لا يمر بأهل ماء إلا اتبعوه (4). وبينما هو في " ماء زبالة " سقط إليه خبر قتل رسله بالكوفة فأخرج الحسين للناس كتابا فقرأ عليهم وفيه: " بسم الله الرحمن الرحيم. أما بعد، فإنه قد أتانا خبر فظيع، قتل مسلم بن عقيل، وهانئ بن عروة. وعبد الله بن يقطر. وقد خذلتنا شيعتنا. فمن أحب منكم الانصراف، فليس عليه منا ذمام " (5). فتفرق الناس عنه تفرقا، فأخذوا يمينا
____________
(1) الطبري 224 / 6، البداية 118 / 8.
(2) وقيل إنه رجل غيره كان يشبهه.
(3) الطبري 226 / 6، البداية 168 / 8.
(4) الطبري 226 / 6، البداية 168 / 8.