الصفحة 316
هددوا سلطان ابنه يزيد. وعلى هذه الوصية سار يزيد. يقول المسعودي: كان يزيد صاحب طرب، وجوارح، وكلاب، وقرود، وفهود، ومنادمة على الشراب، وجلس ذات يوم على شرابه، وعن يمينه ابن زياد، وذلك بعد مقتل الحسين فأقبل على ساقيه فقال:

اسقني شربة تروي مشاشي * ثم مل فاسق مثلها ابن زياد
صاحب السر والأمانة عندي * ولتسديد مغنمي وجهادي

ثم أمر المغنيين فغنوا، وغلب على أصحاب يزيد وعماله، ما كان يفعله من الفسوق، وفي أيامه ظهر الغناء بمكة والمدينة، واستعملت الملاهي، وأظهر الناس شرب الشراب، وكان له قرد يكنى، بأبي قيس يحضره مجلس منادمته، ويطرح له متكئا (1). وقال المسعودي: ولما شمل الناس جور يزيد وعماله، وعمهم ظلمه، وما ظهر من فسقه، ومن قتله ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنصاره، وما أظهر من شرب الخمر، سيره سيرة فرعون، بل كان فرعون أعدل منه في رعيته، وأنصف منه لخاصته وعامته، أخرج أهل المدينة عامله عليهم، وهو: عثمان بن محمد بن أبي سفيان (2).

وروي أن عبد الله بن حنظلة الغسيل قال: والله ما خرجنا على يزيد، حتى خفنا. أن نرمى بالحجارة من السماء، إنه رجل ينكح أمهات الأولاد، والبنات، والأخوات، ويشرب الخمر، ويدع الصلاة (3).

وبدأ يزيد في تنفيذ وصية والده معاوية، وأرسل إلى مسلم بن عقبة، ووضعه على رأس الجيش وقال له: إذا قدمت إلى المدينة، فمن عاقك عن دخولها أو نصب لك حربا، فالسيف السيف، ولا تبقي عليهم، وانتهبها عليهم ثلاثا، واجهز على جريحهم، واقتل مدبرهم. وإن لم يعرضوا لك، فامض إلى مكة، فقاتل ابن الزبير، فأرجو أن يظفرك الله

____________

(1) مروج الذهب 82 / 3.

(2) مروج الذهب 83 / 3، الكامل 310 / 3.

(3) تاريخ الخلفاء 195 / 1.

الصفحة 317
به (1). وسار مسلم بن عقبة إلى المدينة، وكان أهلها قد حفروا خندق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، الذي كان حفره يوم الأحزاب، ووقف شاعر المدينة مخاطبا يزيد فقال:

أن بالخندق المكلل بالمجد * لضربا بيدي عن النشوات
لست منا وليس خالك منا * يا مضيع الصلوات للشهوات
فإذا ما قتلتنا فتنضر * واشرب الخمر واترك الجمعات (2)

وتقدم مسلم بن عقبة، واجتاح أهل المدينة، وكانت وقعة عظيمة. قتل فيها خلق كثير من الناس، من بني هاشم، وسائر قريش، والأنصار، وغيرهم من سائر الناس (3). وأباح مسلم بن عقبة المدينة ثلاثة أيام... وانتهبت أموالا كثيرة منها، ووقع شر عظيم، وفساد عريض، على ما ذكره غير واحد (4) وذكر ابن كثير أن ابن عقبة قتل ألف بكر (5)، وقتل سبعمائة رجل من حملة القرآن (6).

وقال المسعودي: قتل بضع وتسعون رجلا، من سائر قريش ومثلهم من الأنصار، وأربعة آلاف من سائر الناس، ممن أدركه الاحصاء دون من لم يعرف (7). وقال صاحب كتاب المحن: كان مسلم بن عقبة يقول: من جاء برأس فله كذا وكذا، ومن جاء بأسير فله كذا وكذا، وجعل يغري قوما لا دين لهم، فقتلوا ما لا يحصى ولا يعد (8)، وقتل يوم الحرة، من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ثمانون، ولم يبق بعد ذلك بدري (9). وروى ابن كثير أن ألف امرأة من أهل

____________

(1) التنبيه والإشراف / المسعودي 280 / 1، كتاب المحن 149 / 1، الكامل 311 / 3.

(2) التنبيه والإشراف / المسعودي 280 / 1.

(3) مروج الذهب 84 / 3.

(4) البداية والنهاية 238 / 8.

(5) البداية والنهاية 265 / 8.

(6) البداية والنهاية 266 / 8.

(7) مروج الذهب 85 / 3.

(8) كتاب المحن 151 / 1.

(9) كتاب المحن 158 / 1.

الصفحة 318
المدينة، ولدت بعد وقعة الحرة، من غير زوج (1)، وكان الناس يلبسون المصبوغ، من الثياب قبل الحرة. فلما قتل الناس بالحرة، استحيوا أن يفعلوا ذلك (2).

وهرب يوم الحرة إلى كهوف الجبال، العديد من الصحابة، منهم جابر بن عبد الله وأبو سعيد الخدري (3). وأنشد شاعر الأنصار فقال:

فإن تقتلونا يوم حرة وأقم * فنحن على الإسلام أول من قتل
ونحن تركناكم ببدر أذلة * وأبنا بأسياف لنا منكم تفل (4)

وروي أن مسلم بن عقبة، أتي بعلي بن الحسين، فتبرأ منه ومن آبائه ثم أقعده وقال له: سلني حوائجك، فلم يسأله في أحد ممن قدم إلى السيف إلا شفعه فيه، ثم انصرف عنه. فقيل لعلي: رأيناك تحرك شفتيك، فما الذي قلت؟

قال: قلت: اللهم رب السماوات السبع وما أظللن، والأرضين السبع وما أقللن، رب العرش العظيم، رب محمد وآله الطاهرين، أعوذ بك من شره، وأدرأ بك من نحره، أسألك أن تؤتيني خبره، وتكفيني شره. وقيل لمسلم بن عقبة: رأيناك تسب هذا الغلام وسلفه، فلما أتى رفعت منزلته. فقال: ما كان الرأي مني، لقد ملئ قلبي منه رعبا (5).

ولم تكن الكارثة في قتل أهل المدينة فقط، وإنما كانت الكارثة أيضا في أن الناس بايعوا يزيد على أنهم عبيد له (6). روى الطبري أن مسلم بن عقبة أتى بقرشيان، ومعهم ناس من أهل المدينة، فقال لهم: بايعوا فقال القرشيان:

نبايعك على كتاب الله وسنة نبيه. فقال: لا والله لا أقيلكم هذا أبدا، فقدمهما

____________

(1) البداية 239 / 8، الخصائص الكبرى 240 / 3.

(2) كتاب المحن 159 / 1.

(3) البداية 239 / 8، الطبري 11 / 7.

(4) مروج الذهب 85 / 3، شذرات الذهب / ابن المعاد 71 / 1.

(5) مروج الذهب 85 / 3.

(6) فتح الباري 70 / 13، مروج الذهب 85 / 3، كتاب المحن 155 / 1، والطبري 13 / 7.

الصفحة 319
فضرب أعناقهما (1). وروي أن ابن عقبة قال لأهل المدينة: أتبايعون ليزيد أمير المؤمنين، ولمن استخلف بعده على أن دماءكم، وأموالكم، وأنفسكم، خول له يقضي ما شاء فيها؟ فقال له يزيد بن عبد الله بن زمعة: إنما نحن نفر من المسلمين لنا ما لهم وعلينا ما عليهم. فقال مسلم: والله لأقتلنك، والله لا تشرب البارد أبدا فأمر به فضربت عنقه (2).

وهكذا اكتملت الدائرة، باتخاذ بني أمية عبيد الله خولا، بعد أن اتخذوا دين الله دخلا، ومال الله دولا، ولم يكن هذا بعد وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم بألف عام. لا. لأن هذه الأحداث جرت عام 63 ه‍، ورواها أصحاب التواريخ والتراجم والسير، وأجمعوا على أن يزيد أباح المدينة ونهب الأموال، وهتك الأعراض، وقتل النفس التي حرم الله قتلها إلا بالحق، وبايعه الناس، على أنهم عبيد له!! وفي إجمالي أحداث يوم الحرة يقول ابن حزم:

" قتل يزيد بجيوشه، بقايا المهاجرين، والأنصار، يوم الحرة، وهي أكبر مصائب الإسلام وخرومه. لأن أفاضل المسلمين، وبقية الصحابة، وخيار المسلمين من جلة التابعين، قتلوا جهرا، ظلما في الحرب، وصبرا. وجالت الخيل في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وراثت، وبالت في الروضة بين القبر والمنبر، ولم تصل جماعة في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم... وأكره الناس على أن يبايعوا، يزيد بن معاوية، على أنهم عبيد له، إن شاء باع وإن شاء أعتق، وذكر له بعضهم البيعة على حكم القرآن وسنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فأمر بقتله، فضرب عنقه صبرا. وهتك مسرف (3)، أو مجرم الإسلام هتكا، وأنهب المدينة ثلاثا، واستخف بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومدت الأيادي إليهم، انتهبت دورهم. ثم انتقل الجيش بعد ذلك، إلى مكة شرفها الله تعالى، فحوصرت، ورمى البيت بحجارة

____________

(1) الطبري 11 / 7.

(2) كتاب المحن 155 / 1.

(3) إشارة إلى ابن عقبة.

الصفحة 320
المنجنيق (1).

مما سبق، يمكن القول إن عدم مناصرة الحسين، فتح أبواب، للابتلاء، والعقاب وأن الحسين الذي رفض يزيد، كان أبعد نظرا من الذين جمعوا حريمهم وأولادهم، وأمروهم بعدم الخروج على يزيد، لأن في ذلك شق عصا الجماعة كما قالوا. لقد كان الحسين، أعلم بيزيد وبخطه منهم، لأنه كان يتحرك بعلم من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. أما الكثرة، فكانت حركتهم غير مضبوطة، لأن زيت حركتهم اختلطت به شوائب كثيرة.

لقد رفع يزيد الحراب في وجه الحسين، ثم قام بتوسيع الدائرة بعد ذلك، فرفعها ضد الرأي العام الذي يسير في خط، معاكس للسلطة. وعندما قيل للحسين أن يذهب إلى يزيد ويبايعه. أقسم الحسين أنهم لن يتركوه. فهم لا يريدون البيعة، وإنما يريدون رأسه، ويوم الحرة علمنا أن البعض طلب البيعة على حكم القرآن وسنة رسول الله، فكان جزاؤهم أن ضربت أعناقهم صبرا.

وبايع الناس على أنهم عبيد ليزيد، الذي كان عمره في هذا الوقت، نيف وثلاثون سنة، إن شاء باع وإن شاء أعتق.

وإذا كان يزيد قد أخاف الحسين، وأهله، يوم كربلاء، فلقد قام بتوسيع الدائرة يوم الحرة، فأخاف رسول الله صلى الله عليه وسلم. روي عن محمد وعبد الرحمن، ابن جابر بن عبد الله قالا: خرجنا مع أبينا يوم الحرة، وقد كف بصره، فقال: تعس من أخاف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلنا: وهل يخيف أحد رسول الله؟ قال: سمعت النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: من أخاف أهل هذا الحي من الأنصار، فقد أخاف ما بين هذين، ووضع يده على جنبيه (2).

ثم قام يزيد، بتوسيع الدائرة، واقتحم الباب الأخير الذي يدخل من

____________

(1) رسائل ابن حزم 140 / 2.

(2) قال ابن كثير رواه الدارقطني (البداية 223 / 8).

الصفحة 321
اقتحمه، أو كاد له، أو رماه، في دائرة الذين يؤذون الله. قال تعالى: " إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة وأعد لهم عذابا مهينا " (1). فيزيد سير الجيوش نحو مكة، ورمى جنوده بيت الله بالحجارة. وقبل ذلك، كانوا قد أخافوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحرة. وقبل ذلك آذوه في قتل الحسين، وهو من عترة رسول الله، من أصحاب الكساء والمباهلة، وابن فاطمة ريحانة رسول الله، التي يقول فيها النبي صلى الله عليه وسلم: " إنما فاطمة بضعة مني يؤذيني من آذاها " (2).

إن يزيد دخل إلى جميع الدوائر بعد قتله للحسين، فآذى الخط الذي يسوق الناس إلى الله، ووجه ضربات إلى الثقل، الذي لا ينفصل عن القرآن حتى يردا الحوض، ومن البديهي أن أحدا لن يستطيع أن يؤذي الله سبحانه ولكن صورة الأذى هنا، هي عرقلة الطريق، وعدم احترام المقدسات التي فيها نصوص من الله ورسوله. فأي أذى يصيب الخط الرسالي، المادي أو المعنوي، هو في الحقيقة، موجه إلى المشرع.

ويزيد أعلن، يوم أن نصبه والده، وليا للعهد. بأنه سيسير في الناس بسيرة عمر بن الخطاب، وعمر رضي الله عنه كان له مفهومه الخاص، في الكعبة والحجر، ولكنه كان يعظم أمرهما. فعن الحسن قال: ذكر عمر بن الخطاب الكعبة فقال: والله ما هي إلا حجارة نصبها الله قبلة لأحيائنا، وتوجه إليها موتانا (3). ولكي لا يفتتن الناس بالكعبة، وفي نفس الوقت لكي يحافظ عليها عمر. روى البخاري: " لم يكن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم حول البيت حائط، فكانوا يصلون حول البيت، حتى كان عمر، فبنى حوله حائطا جدره قصير، فبناه ابن الزبير " (4). وروى البخاري أن عمر بن الخطاب قال

____________

(1) سورة الأحزاب الآية 57.

(2) رواه مسلم (الصحيح 3 / 16).

(3) المروزي في الجنائز (كنز العمال 100 / 14).

(4) البخاري (كنز العمال 100 / 14).

الصفحة 322
للركن: " أما والله إني لأعلم أنك حجر، لا تضر، ولا تنفع، ولولا أني رأيت النبي صلى الله عليه وسلم استلمك، ما استلمتك. فاستلمه " (1).

فأين يزيد من سيرة عمر؟ وقد أخذ على عاتقه أن يقوم في الناس بها. إن يزيد تعامل مع المقدسات. على أساس أنها حجارة، ولم ينظر في أعماق رؤية عمر لهذه المقدسات. بل إنه لم يهتم بما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه المقدسات. فعن ابن عباس قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحجر: " والله ليبعثنه الله يوم القيامة له عينان يبصر بهما ولسان ينطق به يشهد على من استلمه بحق " (2). وروى الطبراني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الكعبة: " لا يزال الناس بخير ما عظموا هذه الحرمة - يعني الكعبة (3).

وقال: " إذا رأيتم قريشا قد هدموا البيت ثم بنوه، فزوقوه، فإن استطعت أن تموت فمت " (4).

ولقد ضرب يزيد المعول الأول، في الكعبة، ثم قام ابن الزبير بعملية الهدم، والتعمير. فجاء إليه الحجاج بن يوسف حامل سيف عبد الملك بن مروان، فقام بهدم البيت على رأس ابن الزبير. وبعد ذلك، قام بعمليات الترميم، والتعمير، والتزويق. وليس معنى قوله صلى الله عليه وسلم: " فإن استطعت أن تموت فمت " أن يسارع الناس إلى الانتحار، بأي طريقة من الطرق، وإنما المقصود أن تموت في سبيل الله تحت راية مبصرة.

لقد تعاملوا مع عترة النبي، التعامل الذي لا يليق بهم. ثم تعاملوا مع المقدسات، من منظور حماية السلطة من الخارجين عنها، قد خلت خيولهم المسجد النبوي، وهدموا البيت العتيق، وفي جميع الحالات لم يصب ابن

____________

(1) قال في تحفة الأحواذي رواه البخاري. ورواه أحمد وأبو عوانة (كنز 175 / 5).

(2) رواه الترمذي وصححه ورواه ابن ماجة والدارمي، وابن خزيمة في صحيحه (تحفة الأحواذي 305 / 4).

(3) ذكره ابن حجر في ترجمة عامر بن ربيعة (الإصابة 8 / 4) وابن ماجة (كنز 198 / 14).

(4) رواه ابن أبي شيبة (كنز العمال 251 / 11).

الصفحة 323
الزبير، وغيره في الاحتماء بالبيت، من أجل الملك، فعلى امتداد التاريخ، لم نسمع بواحد من أهل البيت الأطهار، قد احتمى بالمساجد. وإنما كانت حركتهم مضبوطة، لأنها حركة في جميع الحالات لا علاقة لها بالملك، وإنما بإقامة الحجة. وهل يسعى قتيل يعلم مكان قتله من أجل الملك؟

ثانيا - الوحل:

لقد بدأ يزيد شق الطريق إلى مكة التي كان ابن الزبير فيها وفي هذا الحصار، احترقت الكعبة، واحترق فيها قرنا الكبش، الذي فدي به إسماعيل بن إبراهيم. ودام الحصار إلى أن مات يزيد (1). وقال المسعودي في حرق البيت:

نصب أهل الشام المجانيق، والعرادات (2)، على مكة والمسجد من الجبال والفجاج... فتواردت أحجار المجانيق، والعرادات، على البيت ورمي مع الأحجار، بالنار، والنفط، ومشاقات الكتان، وغير ذلك من المحرقات وانهدمت الكعبة واحترقت البنية (3).

وبعد وفاة يزيد بن معاوية، جلس على العرش معاوية بن يزيد بن معاوية.

فكانت أيامه أربعين يوما، إلى أن مات. ولما حضرته الوفاة، اجتمعت إليه بنو أمية فقالوا له: أعهد إلى من رأيت من أهل بيتك. فقال: والله ما ذقت حلاوة خلافتكم، فكيف أتقلد وزرها، وتتعجلون أنتم حلاوتها، وأتعجل مرارتها، اللهم إن برئ منها، متخل عنها. اللهم إني لا أجد نفرا كأهل الشورى، فأجعلها إليهم، ينصبون لها من يرونه أهلا لها (4).

وقد اختلفوا في سبب وفاته، فمنهم من رأى أنه سقي شربة، ومنهم من رأى أنه مات حتف أنفه، ومنهم من رأى أنه طعن. وقبض وهو ابن

____________

(1) أسد الغابة 243 / 3.

(2) العرادات / آلة حربية لدك الحصون.

(3) مروج الذهب 86 / 3.

(4) مروج الذهب 88 / 3.

الصفحة 324
اثنين وعشرين سنة (1). وبعد معاوية بن يزيد، بدأ نجم مروان بن الحكم طريد رسول الله صلى الله عليه وسلم في الظهور. ومروان سبب من الأسباب الرئيسية في قتل عثمان، وهو أيضا قاتل طلحة يوم الجمل، وكان يعلم أن الخلافة، ستكون له في يوم من الأيام، وعلى هذا الأساس كان يتصرف، ويفسح الطريق لنفسه. كما كان معاوية يصلح الطريق لنفسه بعد أن ألقى إليه كعب الأحبار، بما كان يتمناه.

ومروان هو إنتاج الفرع الثاني من بني أمية، أما معاوية فكان إنتاج الفرع الأول. والنبي صلى الله عليه وسلم حذر من الفرعين. فقال: " إذا بلغ بنو أمية أربعين رجلا... وفي رواية، ثلاثين رجلا - اتخذوا مال الله دولا ودين الله دخلا، وعباد الله خولا " (2). فهذا تحذير من الفرع الأول. وقال صلى الله عليه وآله وسلم: " إذا بلغ بنو الحكم ثلاثين رجلا، اتخذوا مال الله دولا ودين الله دخلا، وعباد الله خولا " (3). وهذا تحذير من الفرع الثاني. ولقد أخذ النبي صلى الله عليه وسلم بالأسباب، فوضع أبا سفيان، عميد الفرع الأول، في دائرة المؤلفة قلوبهم، ووضع الحكم بن العاص، عميد الفرع الثاني، على طريق النفي فنفاه، ليكون في إبعاده علامة وإرشاده ولكن الذي حدث، أن سهم المؤلفة بعد النبي لم يكن لوجود. فظهر أبو سفيان ولمع ولده. ثم جاء الحكم بن العاص من منفاه، فظهر الحكم " ولمع ولده، ومروان أخبر النبي بأنه أبو الجبابرة الأربعة (4). وروي أن علي بن أبي طالب قال لمروان: " ويل لأمتك منك، ومن بنيك، إذا شابت ذراعاك " (5)، ومروان الذي كان يمهد الطريق

____________

(1) مروج الذهب 89 / 3.

(2) ذكره ابن كثير في البداية (274 / 6، 279 / 8) ورواه ابن عساكر (كنز العمال 165 / 11).

(3) ذكره ابن كثير في البداية (279 / 8، 258 / 8) ورواه الطبراني والبيهقي (كنز 162 / 11).

(4) رواه البيهقي في الدلائل وابن عساكر (كنز 361 / 11).

(5) ابن عساكر (كنز العمال 361 / 11).

الصفحة 325
لنفسه، عليه من رسول الله صلى الله عليه وسلم علامة. فلقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم لعن الحكم وما ولد (1). وروي أن الحسن بن علي قال لمروان: لقد لعنك الله على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم وأنت في صلب أبيك (2).

وكانت ولاية مروان، تسعة أشهر وأياما، دق فيها أوتادا لا يستهان بها.

وروي أنه أول من أخذ البيعة بالسيف، كرها بغير رضا من الناس... وقد كان غيره ممن سلف، يأخذها بعدد وأعوان. إلا مروان (3). وذكر ابن عبد البر والذهبي وغيرهما مخازي مروان بأنه أول من شق عصا المسلمين بلا شبهة (4).

وفي عهد مروان، خرج سليمان بن صرد، وهو صحابي على رأس جماعة عرفت في التاريخ باسم " التوابين " (5). ولقد رأى بن صرد وأتباعه أنهم كانوا سببا في قدوم الحسين، وأنهم خذلوه حتى قتل هو، وأهل بيته، لذلك أقدموا على التوبة من هذا الذنب، بأخذ خطوة في اتجاه السلطة، لأنهم رأوا أنهم لا يغسل عنهم ذلك الجرم إلا قتل من قتله أو القتل فيه (6). وتوجه إليهم من الشام لحربهم، عبيد الله بن زياد على رأس جيش من ثلاثين ألفا. ودارت بين الطرفين المعارك في موقعة عين الوردة، فحمل سليمان وأتباعه على جيش الشام.

واستشهد سليمان بن صرد. وروي أنه عندما وقع على الأرض قال: فزت ورب الكعبة. وكان عمره يوم قتل، ثلاث وتسعين سنة. وعندما قتل سليمان استقتل أتباعه وكسروا أجفان السيوف، وخاضوا معارك عظيمة، وقتل منهم خلق كثير. ولما علم من بقي من التوابين أن لا طاقة لهم بمن بإزائهم من أهل الشام،

____________

(1) رواه البزار وأحمد بلفظ: لعن رسول الله فلانا وما ولد من صلبه. وقال الهيثمي رجاله رجال الصحيح (الزوائد 241 / 5).

(2) رواه أبو يعلى (الزوائد 240 / 5).

(3) مروج الذهب 103 / 3.

(4) شذرات الذهب / ابن العمال الحنبلي 69 / 1.

(5) وعند المسعودي (الترابين) أي أصحاب أبي تراب علي بن أبي طالب.

(6) مروج الذهب 111 / 3.

الصفحة 326
انحازوا عنهم. وطلب منهم أهل الشام المكافة، والمتاركة، لما رأوا من بأسهم وصبرهم مع قلتهم. فلحق أهل الكوفة بمصرهم، وأهل المدائن والبصرة ببلادهم (1).

وحمل أهل الشام رأس ابن صرد إلى مروان بن الحكم، فجمع الناس وقال: أهلك الله رؤوس الضلال، ابن صرد وأتباعه. ثم أمر فعلقت الرؤوس بدمشق (2). وكانت حركة ابن صرد في عام 65 ه‍، وهو نفس العام الذي مات فيه مروان بن الحكم، واختلفوا في سبب وفاته، فمنهم من رأى أنه مات مطعونا، ومنهم من رأى أنه مات حتف أنفه، ومنهم من رأى أن أم خالد بن يزيد بن معاوية هي التي قتلته (3).

لقد كانت حركة سليمان بن صرد، مقدمة صحيحة، لو تكاتف الناس فيها لأعطت نتائج أفضل. وأقوى. إنه الرأي العام داخل مربع سليمان بن صرد، كان قد احتقن احتقانا شديدا، ما لبث أن عبر عن نفسه وأشهد الله على ذلك بينما كان الرأي العام في مكان آخر، تقع عليه الضربات من كل جانب، ورغم هذا، لم يقم من نومه، وينشط ذاكرته، ويتحرك التحرك الذي يستقيم مع سنة الابتلاء، لينظر الله كيف يعمل عباده. فيصيبهم إما الثواب وإما العقاب.

ولما كان الغالب الأعم من الرأي العام في سبات عميق، مكبلين بنصوص ليس فيها من كتاب الله، ولا من سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم برهان، تدعوهم للاستسلام، وترك الدنيا، وهذه النصوص لا يستفيد منها إلا الذين يتخذون مال الله دولا، ودين الله دخلا، وعباد الله خولا. ولما كان الغالب الأعم يتصرف على اعتبار أنه كحصى على الأرض تلهو بها كل ريح، ولا يملك لنفسه سببا من الأسباب ليدفع المخاطر عن نفسه، تاركا الساحة للذين يأخذون بالأسباب للوصول إلى أهداف أهوائهم، في الوقت الذي يرى من حوله نجوم

____________

(1) مروج الذهب 114 / 3.

(2) البداية والنهاية 254، 255 / 8.

(3) مروج الذهب 107 / 3.

الصفحة 327
الهدى يأخذون بالأسباب، وهم يعلمون نتائج حركتهم مسبقا، ولم يدعوهم هذا إلى الاستسلام والترهب. لما كان الغالب الأعم على هذا النحو في القرن الأول الهجري، توالت الابتلاءات من الله سبحانه لتكون حركة التاريخ، حركة صحيحة أمام كل باحث.... وفي هذه الامتحانات يضرب العذاب أقواما، ويقتل أقوام في سبيل الله، وتسير طائفة الحق شامخة، لا يضرها من خذلها، أو من عاداه، أو من ناوأها. وبعد مروان، جاء ابنه عبد الملك، الذي وصف قبل أن يولد بأنه أحد الجبابرة الأربعة وعبد الملك اختار من بين الناس الحجاج ابن يوسف الثقفي الذي وصف قبل أن يولد بأنه فتى ثقيف الذيال الميال.

وقبل أن يتقلد عبد الملك بن مروان السلطة، كان الناس يعلمون أنه سيصير خليفة (1). وذلك بعد أن وضعوا أحاديث التحذير، في دائرة التبشير. وروي أن يزيد بن معاوية قال: إن الناس يزعمون أن هذا يصير خليفة، فإن صدقوا، فقد صانعناه. وإن كذبوا، فقد وصلناه، وكان يزيد قد أعطى لعبد الملك قطعة أرض (2).

وذكر ابن كثير، أنه لما سلم على عبد الملك بالخلافة، كان في حجره مصحف فأطبقه، هذا فراق بيني وبينك (3). وقال السيوطي: عبد الملك هو أول خليفة بخل، وهو أول من غدر في الإسلام، وأول من نهى عن الكلام بحضرة الخلفاء، وأول من نهى عن الأمر بالمعروف (4). وذكر ابن كثير: أن عبد الملك كان له إقدام على سفك الدماء، وكان حازما، فطنا لأمور الدنيا لا يكل أمر دنياه إلى غيره (5). وقال المسعودي: وكان له إقدام على الدماء وكان عماله على مثل مذهبه (6). وروى صاحب الفتح الرباني: أن عبد الملك منع

____________

(1) مروج الذهب 82 / 3.

(2) مروج الذهب 82 / 3.

(3) البداية والنهاية 63 / 9، تاريخ الخلفاء / السيوطي 202 / 1.

(4) تاريخ الخلفاء / 203 / 1.

(5) البداية والنهاية 63 / 9.

(6) مروج الذهب 109 / 3.

الصفحة 328
الناس من الحج، خوفا أن يبايعوا ابن الزبير (1).

وروي أن عبد الملك بن مروان، هادن ملك الروم، وبعث إليه بأموال وهدايا ليتفرغ للأمة. وكان عبيد الله بن زياد، أمير بني أمية المطيع قد قتل، بعد موقعة عين الوردة وقتل معه أشراف أهل الشام، عندما التقى هو وإبراهيم بن الأشتر النخعي (2)، وبينما كان عبد الملك يعيد ترتيب أوراقه، وأوتاده، كانت الأحداث في الحجاز والعراق تشتعل. فعبد الله بن الزبير كان قد بسط يده على رقعة كبيرة من الأرض، وكان يريد أن يضم الشام إلى سلطانه. وروي أن المختار بن أبي عبيد الثقفي، قال لابن الزبير: إني لأعرف قوما، لو أن لهم رجل له رفق، وعلم مما يأتي، لاستخرج لك منهم جندا تغلب بهم أهل الشام. قال:

من هم. فقال: شيعة بني هاشم بالكوفة. فقال له: كن أنت ذلك الرجل. وبعثه إلى الكوفة.

فنزل ناحية منها، وجعل يظهر البكاء على الطالبيين وشيعتهم، ويظهر الحنين والجزع لهم، ويحث على أخذ الثأر لهم، المطالبة بدمائهم (3). وبهذه المقدمة سار إلى قصر الإمارة، وغلب على الكوفة، وابتنى لنفسه دارا، وفرق الأموال على الناس، وخلع طاعته لابن الزبير، وجحد بيعته، وكان من قبل قد بايعه.

وتتبع المختار قتلة الحسين فقتلهم. قتل عمر بن سعد بن أبي وقاص، وهو الذي تولى حرب الحسين يوم كربلاء. فزاد ميل أهل الكوفة إليه ومحبتهم له. ولقد حاول المختار أن يضع على حركته رداء أهل البيت، فكتب إلى علي بن الحسين يريد أن يبايعه، ولكن علي بن الحسين أبى أن يقبل ذلك منه، وأظهر كذبه وفجوره، ودخوله على الناس بإظهار الميل إلى آل أبي طالب. فلما يئس المختار من علي بن الحسين، كتب إلى عمه محمد بن الحنفية، يريده على

____________

(1) الفتح الرباني 171 / 11.

(2) مروج الذهب 116 / 3.

(3) مروج الذهب 89 / 3.

الصفحة 329
مثل ذلك، فأشار عليه علي بن الحسين ألا يجيبه إلى شئ من ذلك، فإن الذي يحمله على ذلك، اجتذابه لقلوب الناس بهم، وتقربه إليهم بمحبتهم، وباطنة مخالف لظاهره، في الميل إليهم والتولي لهم والبراءة من أعدائهم. بل هو من أعدائهم لا من أوليائهم، والواجب عليه، أن يشهر أمره، ويظهر كذبه على حسب ما فعل هو، عندما أظهر للناس كذب المختار (1).

وأتى محمد بن الحنفية ابن عباس، يستشيره في هذا الأمر. فأوصاه بالسكوت لأن تأييد حركة المختار التي لا تقوم على أرضية إيمانية لا قيمة لها، ثم إن إظهار حقيقة المختار، لن تأتي بفائدة من عند ابن الزبير، خصم المختار الأول. لأن ابن الزبير بايعه كل الناس إلا محمد بن الحنفية (2). وابن الزبير من المبغضين لأهل البيت. فكان ينال من علي بن أبي طالب في خطبه (3). وكان ينتقص بن عباس (4). وبالجملة: كانت حركة المختار، وابن الزبير، حركة هدفها الدنيا وليس لأهل البيت فيها أي نصيب اللهم إلا قتل أعدائهم، تحت راية المختار. ولقد جعل ابن حزم هذا القتل من مناقب المختار فقال: تتبع المختار بعض الذين شاركوا في قتل ابن الزهراء الحسين، فقتل منهم ما أقدره الله عليهم، وفعل أفاعيل يعفى فيها على هذه الحسنة (5).

وحركة المختار، دليل عظيم على أن أهل البيت لا يركبون باطلا ليصلوا به إلى حق. فلو كانوا طلاب دنيا، لهرولوا إلى المختار، في وقت كان البيت الأموي يعيد ترتيب أوراقه وأوتاده، بعد الخسائر التي مني بها في موقعة مرج راهط بين مروان والضحاك بن قيس، ثم الخسائر التي أصابته في موقعة عين الوردة، وما بعدها لكنهم لم يفعلوا ذلك، لأن الدين لا يخضع للتجارة، وحركة

____________

(1) مروج الذهب 90 / 3.

(2) مروج الذهب 93 / 3.

(3) مروج الذهب 97 / 3.

(4) مروج الذهب 97 / 3.

(5) رسائل ابن حزم 141 / 2.

الصفحة 330
أهل البيت حركة واحدة على امتداد التاريخ، فهم في انتظار الناس، فإذا جاء الناس، على الإمام أن يتحرك بهذه الحركة التي تستقيم مع الواقع لإقامة الحجة بهم على من خالفهم. وفي عالم القتال على الدنيا، يكون التحرك خاضعا لقول النبي صلى الله عليه وسلم: " إذا رأيت رجلين من أمتي يقتتلان على المال، فأعدد عند ذلك سيفا من خشب " (1)، وقوله: " إذا رأيت الأخوين المسلمين يختصمان في شبر من أرض، فاخرج من تلك الأرض " (2). فكل حركة في هذه الأمور لا بد لها من فقه، وفقيه على بصيرة.

والدليل على أن الدولة الأموية، وابن الزبير وغيرهما كانوا يقاتلون على الدنيا، ما رواه البخاري عن أبي المنهال قال: لما كان ابن زياد ومروان بالشام، ووثب ابن الزبير بمكة، ووثب القراء بالبصرة. انطلقت مع أبي، إلى أبي برزة الأسلمي حتى دخلنا عليه في داره. فقال أبي: يا أبا برزة، ألا ترى ما وقع فيه الناس. فقال: إني احتسبت عند الله كأني أصبحت ساخطا على أحياء قريش، إنكم يا معشر العرب كنتم على الحال الذي علمتم من الذلة، والقلة، والضلالة، وأن الله أنقذكم بالإسلام، وبمحمد صلى الله عليه وسلم، حتى بلغ بكم ما ترون، وهذه الدنيا التي أفسدت بينكم. إن ذاك الذي بالشام والله إن يقاتل إلا على الدنيا. وإن هؤلاء الذين بين أظهركم والله إن يقاتلون إلا على الدنيا، وإن ذاك الذي بمكة، والله أن يقاتل إلا على الدنيا (3). ورواه الحاكم بزيادة: فقيل له: فما تأمرنا؟ قال: لا أرى خير الناس إلا عصابة ملبدة، خماص البطون من أموال الناس، خفاف الظهور من دمائهم " (4). وفي هذه الدائرة ترى أعلام أهل البيت، الذين لا يأخذون من أموال الناس إلا ما كتب الله لهم.

ومن أجل المصالح دارت المعارك بين المختار، وبين ابن الزبير، سنة

____________

(1) رواه الطبراني (كنز العمال 148 / 11).

(2) رواه الطبراني (كنز 149 / 11).

(3) البخاري (الصحيح 230 / 4) ك الأحكام.

(4) رواه الحاكم وصححه (المستدرك 471 / 4).

الصفحة 331
سبع وستين هجرية. وانتهت المعارك بقتل المختار، وقتل معه سبعة آلاف رجل.

وتتبعت قوات ابن الزبير الشيعة، بالكوفة وغيرها، وقتلت منهم خلقا كثيرا (1)، ولم يبق بالساحة سوى بني أمية وابن الزبير. ودخلت سنة سبعين هجرية، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد قال عن فترة الستينيات " تعوذوا بالله من رأس الستين ومن إمارة الصبيان " (2). وكما علمنا أن الحسين قتل على رأس الستين، ثم اجتاح صبيان قريش الحرة، وحاصروا مكة، ثم وقعت معارك عديدة من أجل الدنيا، حتى دخل عام 70 ه‍. وفي الاستفتاح يقول النبي صلى الله عليه وسلم: " تعوذوا بالله من رأس السبعين ومن إمارة الصبيان " (3).

وعلى رأس السبعين، قويت شوكة الروم يقول الطبري: في هذه السنة ثارت الروم واستجاشوا على من بالشام من المسلمين، فصالح عبد الملك بن مروان ملك الروم، على أن يؤدي إليه في كل جمعة ألف دينار، خوفا منه على المسلمين " (4). وفي هذا الصلح، تسلل العديد من أهل الديانة النصرانية إلى بلاد الشام، وتقربوا إلى أمراء الأمصار، وفي هذا العام أيضا قتل عبد الملك، عمرو بن سعيد الأشدق، وكان عبد الملك يظن بأن ابن الأشدق يزاحمه على الخلافة. وبدأ عبد الملك يعد العدة لبسط نفوذه على الأراضي التي يسيطر عليها ابن الزبير، فخرج متوجها إلى العراق وعلى مقدمته، الحجاج بن يوسف الثقفي، وقيل كان على ساقته (5). واجتاحت خيل عبد الملك الكوفة، وقتل مصعب بن الزبير، وبايعه الناس. وغرس عبد الملك ولاته على أرض العراق، وكان على رأسهم الحجاج بن يوسف. وكانت وصية عبد الملك للحجاج: إن أردت أن يستقيم لك من قبلك، فخذهم بالجماعة، وأعطهم عطاء الفرقة وألصق بهم

____________

(1) مروج الذهب 119 / 3.

(2) رواه الإمام أحمد وأبو يعلى (كنز العمال 119 / 11).

(3) رواه أحمد وأبو يعلى ورجاله ثقات (الزوائد 220 / 7) (الفتح الرباني 34 / 23)، (البداية والنهاية 234 / 6)، (كنز العمال 119 / 11).

(4) الطبري 184 / 7.

(5) مروج الذهب 125 / 3.

الصفحة 332
الحاجة (1).

والحجاج أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بمجيئه، كعقاب لأمة، رفعت سيوفها وألسنتها على الحق. لينظر الله إلى أين يفر الناس من العذاب، إلى الله، أم إلى بيوت المال؟ حيث الانحناء إلى السلطان؟ إن العذاب ليس من أجل العذاب، ولكن العذاب امتحان تظهر فيه المعادن، وهو في خطوطه العريضة رحمة، لأنه يدعو الناس إلى الشكر لأن الشكر نجاة من عذاب يوم عظيم، فمن فر إلى الله من عذاب الدنيا، لم يجمع الله عليه عذاب الآخرة. أما المنافقين والمنافقات، والمشركين والمشركات، فإنهم بعذاب الدنيا يعبرون إلى عذاب القبر، إلى عذاب يوم أليم، لأنهم يتعاملون مع العذاب، وفقا لأهوائهم، فتحت العذاب تراهم يصالحون ويحاربون، وليس لله في أعمالهم نصيب. وفي سنة العذاب يقول تعالى: (وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون) (2). وقال:

(ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم) (3)، وقال: (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا) (4)، والحجاج عذاب، ولقد أخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم عنه، لأن هوى الحجاج لن يكون على خط الهدى، وإنما سيختار خط الكذب، وسفك الدماء. وهذا إخبار بالغيب، ولقد شهدت حركة التاريخ بذلك.

قال النبي صلى الله عليه وسلم " سيخرج من ثقيف كذابان الآخر منهما شر من الأول. وهو مبير " (5). قيل إن الأول هو المختار الثقفي، الذي تتبع قتلة الحسين. أما الثاني فهو الحجاج. وكان الإمام علي، قد دعى على أهل العراق، بأن يبعث الله عليهم فتى ثقيف. وأخرج البيهقي. أن عليا قال لرجل: لا مت حتى تدرك فتى ثقيف. قال: وما فتى ثقيف؟ قال: ليقالن له يوم القيامة، أكفنا

____________

(1) مروج الذهب 143 / 3.

(2) سورة الأنفال: الآية 33.

(3) سورة النساء: الآية 147.

(4) سورة الإسراء: الآية 15.

(5) رواه ابن سعد ونعيم ابن حماد والحاكم والطبراني (كنز العمال 201، 202 / 214).

الصفحة 333
زاوية من زوايا جهنم، رجل يملك عشرين أو بضعا وعشرين، لا يدع لله معصية إلا ارتكبها. حتى لو لم يبق إلا معصية واحدة، وكان بينه وبينها باب مغلق، لكسره حتى يرتكبها، يقتل بمن أطاعه من عصاه (1). وروي أن الإمام علي قال لأهل الكوفة، فيما أخرجه الإمام أحمد عن الحسن: " اللهم كما ائتمنتهم فخانوني، ونصحت لهم فغشوني، فسلط عليهم فتى ثقيف الذيال الميال، يأكل خضرتها ويلبس فروتها، ويحكم فيهم بحكم الجاهلية. قال الحسن: ما خلق الحجاج يومئذ (2). وكان الإمام الحسين قد دعا عليهم يوم كربلاء فقال: اللهم احبس عنهم قطر السماء، وابعث عليهم سنين كسنين يوسف، وسلط عليهم غلام ثقيف يسقهم كأسا مصبرة، فإنهم كذبونا وخذلونا (3). فالحجاج عذاب دق أوتاده نظام. وحكمة الوجود عمودها الفقري، لينظر الله كيف تعملون. إن الحجاج بقعة حمراء جاهلية في ثوب به جميع الألوان، كلها تحمل زخارف الدنيا، فإلى أين يكون الفرار؟ وكيف سيدون القرن الأول الهجري تاريخه في هذه الحقبة الزمنية، التي عليها تنبت عقائد، وعلى مساحتها تشق أكثر من سبعين فرقة طريقها.

والحجاج وضع شذوذا، وارتكب جرائم من شأنها أن تحرك الناس، طلبا للتغيير على طريق العودة إلى الله. ويكفي أن يقول عمر بن عبد العزيز في أعمال الحجاج: " لو جاءت كل أمة بخبثها وجئناهم بالحجاج لغلبناهم " (4). وقال أبي النجود: " ما بقيت لله حرمة إلا وقد ارتكبها الحجاج " (5). وسألوا مجاهد عن الحجاج فقال: تسألون عن الشيخ الكافر (6). وقال الشعبي: الحجاج يؤمن بالجبت والطاغوت كافر بالله

____________

(1) الخصائص الكبرى 226 / 2، البداية 132 / 9.

(2) الخصائص الكبرى 225 / 2، البداية 132 / 9.

(3) الطبري 359 / 6.

(4) رواه البيهقي (البداية والنهاية 270 / 6).

(5) البداية والنهاية 270 / 6.

(6) البداية والنهاية 136 / 9.

الصفحة 334
العظيم (1). وقال الأوزاعي سمعت القاسم بن ضميرة يقول: كان الحجاج ينقض عرى الإسلام (2).

فهذا هو الحجاج في نظر علماء الإسلام. أما القيادة التي دقت وتد الحجاج في جسد الأمة روي أنه قيل للوليد بن عبد الملك: ما تقول في عبد الملك بن مروان؟ فقال: ما أقول في رجل الحجاج خطيئة من بعض خطاياه (3). ونحن هنا سنسلط الضوء على أهم الأقوال والأفعال التي أتى بها الحجاج، والتي تعتبر دعوة صريحة للخروج عليه، والالتفاف حول راية الهدى التي لم تكن خافية على أحد في هذا الزمان.

روى أبو داود عن جعفر بن عوف قال: سمعت الحجاج يخطب وهو يقول: إن مثل عثمان عبد الله كمثل عيسى بن مريم، ثم قرأ هذه الآية ويفسرها (إذ قال الله يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلي ومطهرك من الذين كفروا)، يشير إلينا بيده، وإلى أهل الشام (4). ثم قام الحجاج بتوسيع الدائرة، فروي عن سليمان الأعمش، أن الحجاج قال: " اسمعوا وأطيعوا لخليفة الله، وصفيه عبد الملك بن مروان " (5). وقال: " اسمعوا وأطيعوا ليس فيها مثنوية لأمير المؤمنين عبد الملك، والله لو أمرت الناس أن يخرجوا من باب من أبواب المسجد فخرجوا من باب آخر، لحلت لي دماؤهم وأموالهم " (6).

وذكر الجاحظ أن الحجاج قال: والله لطاعتي أوجب من طاعة الله، لأن الله يقول: (اتقوا الله ما استطعتم)، فجعل منها مثنوية (7). وقال الله: " واسمعوا وأطيعوا)، ولم يجعل منها مثنوية ولو قلت لرجل: ادخل من هذا الباب فلم

____________

(1) البداية والنهاية 136 / 9.

(2) البداية والنهاية 136 / 9.

(3) البداية والنهاية 135 / 9.

(4) أبو داوود حديث رقم 4641 ص 209 / 4.

(5) أبو داوود حديث 4645 ص 210 / 4.

(6) أبو داوود حديث 4643، ص 210 / 4.

(7) المثنوية / الاستثناء.

الصفحة 335
يدخل لحل لي دمه (1). قال الجاحظ: لقد فهم الحجاج أن المراد طاعة أولي الأمر. وليس كما ظن. بل المراد: اسمعوا المواعظ وأطيعوا الأوامر الإلهية. أو اسمعوا لله ولرسوله وأطيعوا الله فيما يأمركم (2).

وروي أن سجون الحجاج كان يوجد فيها شئ يلجأ الناس إليه، من حر، أو برد، وأن المسجونين كانوا يسقون الماء مشوبا بالرماد (3). وذكر أن الحجاج مر في يوم جمعة، فسمع استغاثة فقال: ما هذا؟ فقيل له: أهل السجون يقولون، قتلنا الحر، قال: قولوا لهم اخسئوا فيها ولا تكلمون (4).

ولم تقف أعمال الحجاج عند هذا الحد. ففي عصره كان الصحابة يعايرون بالصحبة. وروي أنه كان يختم الصحابة بخاتم، حتى يعرفهم الناس، ويعايرونهم بصحبتهم للنبي صلى الله عليه وآله وسلم. يقول السيوطي: في سنة أربع وسبعين. سار الحجاج إلى المدينة، وصار ينعت على أهلها ويستخف ببقايا من فيها من صحابة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وختم أعناقهم وأيديهم يذلهم بذلك، كأنس، وجابر، وسهل بن سعد (5). وقد قتل من الصحابة والتابعين ما لا يحصى (6). وهذه الأمور كانت دعوة في حقيقة الأمر ليتحرك الناس الحركة التي يحبون أن ينظر الله إليهم، وهم يقومون بها. كان هذا دعوة مفتوحة، للفراو إلى الله، موجه إلى جيل حديث عهد برائحة النبوة الزكية. ونحن هنا سنلقي الضوء على صور محددة لحركة الناس في هذا الجيل.

1 - حركة عبد الله بن عمر بن الخطاب:

فعبد الله عند المقدمة، رفض القتال مع أمير المؤمنين علي بن أبي

____________

(1) حياة الحيوان 16 / 3.

(2) أنظر تفسير الزمخشري والرازي والبيضاوي.

(3) التنبيه والإشراف / المسعودي 291 / 1.

(4) البداية والنهاية 137 / 9.

(5) تاريخ الخلفاء 200 / 1.

(6) تاريخ الخلفاء 205 / 1.

الصفحة 336
طالب (1). وفي أكثر الأقوال رفض أن يبايع علي. ويقول ابن حزم في الذين لم يبايعوا عليا: وتأخر عن بيعة علي، قوم من الصحابة بغير عذر شرعي، إذ لا شك في إمامته (2). وعبد الله الذي لم يبايع عليا. بايع فيما بعد معاوية، ثم يزيد بن معاوية، ثم عبد الملك بن مروان. وكان عنوان عبد الله بن عمر على امتداد هذه الأحداث، من عثمان إلى عبد الملك بن مروان هو: " لا أقاتل، وأصلي وراء من غلب " (3). وكان على امتداد هذا الزمان لا يأتي أمير إلا صلى خلفه، وأدى إليه زكاة ماله (4).

روي أن عليا طلب من ابن عمر الخروج معه لقتال أهل الشام فقال: أنا رجل من أهل المدينة إن خرجت خرجوا، ولكن لا أخرج للقتال في هذا العام (5). والمعنى: هو مع أهل المدينة ما يجري عليهم، جرى عليه، فإن خرج أهل المدينة مع علي، فإن ابن عمر لن يخرج هذا العام. وبعد مقتل الإمام علي، لم يبايع ابن عمر الحسن بن علي، فلما تم الصلح بين الحسن ومعاوية بايع معاوية. وعندما أراد معاوية أن يبايع ليزيد من بعده، بعث إلى ابن عمر وقال: يا ابن عمر إنك كنت تحدثني أنك لا تحب أن تبيت ليلة سوداء، ليس عليك فيها أمير. وإني أحذرك أن تشق عصا المسلمين، أو تسعى في فساد ذات بينهم.. فقال ابن عمر: إنك تحذرني أن أشق عصا المسلمين، ولم أكن أفعل، وإنما أنا رجل من المسلمين، فإذا اجتمعوا على أمر فأنا رجل منهم. فقال له معاوية:

يرحمك الله (6).

وذكر ابن كثير: حين قدم نعي معاوية، لم يكن ابن عمر بالمدينة. وعندما لقي الحسين وابن الزبير قال: ما وراءكما؟ قالا: موت معاوية، والبيعة ليزيد.

____________

(1) البداية والنهاية 231 / 7.

(2) رسائل ابن حزم الأندلسي 138 / 2.

(3) الطبقات الكبرى 149 / 4.

(4) الطبقات الكبرى 149 / 4.

(5) البداية والنهاية 231 / 7.

(6) تاريخ الخلفاء 113 / 1.

الصفحة 337
فقال لهما: اتقيا الله ولا تفرقا بين جماعة المسلمين. وعندما قدم ابن عمر إلى المدينة، بايع يزيد (1). وعن محمد بن المنكدر قال: لما بويع يزيد بن معاوية، قال ابن عمر: إن كان خيرا رضينا، وإن كان بلاء صبرنا (2).

وعندما خلع أهل المدينة يزيد، روى أحمد، ومسلم، والترمذي، أن ابن عمر أنكر على أهل المدينة خلعهم ليزيد. وروي أنه دعا بنيه، وجمعهم وقال:

أنا بايعنا هذا الرجل على بيع الله ورسوله وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن الغادر ينصب له لواء يوم القيامة، فيقول هذه غدرة فلان.... فلا يخلعن أحد منكم يزيد، ولا يسرعن أحد منكم في هذا الأمر فتكون الصيلم بيني وبينه (3).

وبعد مجزرة الحرة، وموت يزيد. وعندما جاءت دولة مروان التي لعن النبي صلى الله عليه وسلم رأسها في أحاديث صحيحة، منها قول عائشة:

لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الحكم، ومروان في صلبه. فمروان قصص من لعنة الله عز وجل (4)، بعد أن جاءت هذه الدولة. روى البخاري عن عبد الله بن دينار قال: شهدت ابن عمر، حيث اجتمع الناس على عبد الملك كتب: إني أقر بالسمع والطاعة لعبد الملك أمير المؤمنين، على سنة الله وسنة رسوله، ما استطعت، وإن بني قد أقروا بذلك (5).

إن ما قدمناه ما هو إلا ضوء على حركة ابن عمر خلال هذه الأحداث، وللأسف الشديد، أن هذه الحركة أصبحت فيما بعد أصلا من أصول الدين، زرعه فقهاء السلاطين، والغائر الوحيد تحت شجرتهم هم الطلقاء، والملعونين، والمطرودين، وأعداء الفطرة، والإنسانية، إن فقهاء السوء التقطوا موقف ابن

____________

(1) البداية والنهاية 148 / غير واضح في المصدر (541).

(2) الطبقات الكبرى 184 / 4.

(3) البداية والنهاية 233، 251 / 8، الطبقات الكبرى 183 / 4.

(4) رواه الحاكم وصححه (المستدرك 481 / 4).

(5) البخاري (الصحيح 245 / 4) ك الأحكام.