وهكذا عاد الحجاج من جديد، ولكن في عالم يغلب عليه حياة الجواري تلك الحياة التي خرجت بذرتها من غابة بني أمية ليستظل تحتها القادم الجديد.
وسارت أحوال خط علي بن أبي طالب في النظام العباسي بين أذى الدولة المكشوف، وبين أذى الطرق الخفية المضمونة النتائج والتي تتدثر في رداء من الطيبة الظاهرة. حتى جاء عهد المتوكل فأمر بهدم قبر الحسين، وهدم ما حوله من الدور. يقول السيوطي: وكان المتوكل معروفا بالتعصب، فتألم المسلمون من ذلك، وهجاه الشعراء، فمما قيل في ذلك:
وقال السيوطي: قتل المتوكل يعقوب بن السكيت، الإمام في العربية، فإنه ندبه إلى تعليم أولاده، فنظر المتوكل يوما إلى ولديه. المعتز والمؤيد وقال لابن السكيت: من أحب إليك هما أو الحسن والحسين. فقال: قنبر مولى علي بن أبي طالب خيرا منهما. وعندئذ أمر المتوكل الأتراك فداسوا بطنه حتى مات،
____________
(1) جديد الأرض / وجهها.
(2) موج الذهب 364 / 3.
(3) تاريخ الخلفاء 321.
وهكذا جمع بني العباس في منتصف رحلتهم الهلع المروع إلى الخوف المرتجف وألقوه على خط الإمام علي بن أبي طالب. وعلى الرغم من ذلك ظل هذا الخط يعمل على امتداد الثلاثة قرون الأولى يقول النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم: " سئل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أي الناس خير؟ قال: قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم... " (2)، وفي رواية عدد أربعة قرون (3). وقال النووي: قال الحسن وغيره القرن عشر سنين، وقال قتادة:
سبعون، وقال النخعي أربعون، وقال زرارة: مائة وعشرون، وقال عبد الملك:
مائة (4).
والخيرية هنا لا تقاس بالفتوحات أو بالهجوم على المدينة أو مكة من أجل الملك، وإنما الخيرية عمودها الفقري هو دعوة الناس إلى الخير والعمل على إصلاح ما أفسدوه. والخيرية هي التي تعمل من أجل بناء الإنسان العابد الصالح أولا. لأن شرط التمكين في الأرض أن يكون العابد صالحين. قال تعالى:
(ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون * إن في هذا لبلاغا لقوم عابدين) (5)، وشرط نزول البركات أن يكون الناس مؤمنين قال تعالى: (ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض) (6). فالخيرية تسوق الناس إلى الله وتذكرهم بما نسوه، كي يرفع الله عنهم العذاب الذي تعددت أشكاله وألوانه، لأن من السنن الإلهية أن الذين نسوا ما ذكروا به، كان حقا على الله أن يفتح عليهم أبواب كل شئ حتى إذا فرحوا بما
____________
(1) راجع كتاب مقاتل الطالبين لأبي الفرج الأصفهاني (284 - 356 ه).
(2) رواه مسلم (الصحيح 85 / 16).
(3) مسلم (الصحيح 87 / 16).
(4) النووي شرح مسلم 85 / 16.
(5) سورة الأنبياء: الآية 105 - 106.
(6) سورة الأعراف: الآية 96.
والخيرية لها أعلام ومشاعل روى الترمذي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يكون بعدي اثنا عشر أميرا كلهم من قريش " (2). وروى الطبراني:
" لا يزال هذا الأمر ظاهرا على من ناوأه لا يضره مخالف ولا مفارق حتى يمضي اثنا عشر خليفة من قريش " (3)، وروى ابن عساكر: " لا يزال أمر أمتي صالحا حتى يمضي منهم اثنا عشر خليفة كلهم من قريش " (4).
وروى نعيم بن حماد: " يكون بعدي من الخلفاء عدة نقباء موسى " (5).
والطريق إلى نقباء بني إسرائيل لا بد وأن يأخذ في حسابه منزلة هارون من موسى، ودائرة الخيرية لا يضرها من خذلها أو من عاداها أو من ناوأها. روى البخاري قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق يقاتلون. وهم أهل العلم (6) ولقد علمنا من هم أهل العلم الذين قاتلوا، ولم يقاتل أحد من أهل العلم من أجل إقامة الدين، أو على تأويل القرآن إلا خط علي بن أبي طالب. وروى مسلم: " لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي من الله أمر الله وهم كذلك " (7). وفي رواية: " لا تزال طائفة من أمتي قائمة بأمر الله لا يضرهم من خذلهم أو خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون على
____________
(1) سورة الأنعام: الآية 44 و 45.
(2) رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح (كنز العمال 24 / 12) والبخاري بلفظ: يكون اثنا عشر أميرا فقال كلمة لم أسمعها. فقال أبي أنه قال: كلهم من قريش (الصحيح 248 / 4).
(3) رواه الطبراني (كنز العمال 23 / 12).
(4) رواه ابن عساكر (كنز العمال 32 / 12).
(5) كنز العمال 33 / 12 ورواه أحمد والحاكم (كنز العمال 33 / 12).
(6) البخاري (الصحيح 263 / 4) ك الاعتصام.
(7) مسلم (الصحيح 65 / 13) ك البهاء.
إن دائرة الخيرية دائرة أصيلة في الوجود، لم يكسرها ظلم بني أمية وبني العباس. ولا تعرف الدائرة بالكثرة، لأن الحق حق وإن قل أتباعه، والباطل باطل وإن كثر أتباعه. ولا يمكن لباحث أن يهمل الكثرة من هذه الأمة، وأن يحسبها ضمن مربع الحكام. فالتاريخ يشهد بأن الحكام كانوا في واد والجماهير في واد آخر. إن السواد الأعظم من الجماهير لم يلتف حول الحكام، وإنما انطلقوا في ربوع الأرض ينشرون الإسلام وتعاليمه السمحة التي تحتضنها فطرة الباحثين عن الحقيقة. لقد التفت الجماهير حول الزهاد الأوائل الذين لا يملكون من حطام الدنيا شيئا، وبنوا لهم الأضرحة بينما لم يلتفوا حول الطغاة ولم يسألوا عنهم أين دفنوا. وبصرف النظر عن شرعية بنا الأضرحة إلا أن هذا العمل كان تعبيرا مقصودا أو غير مقصود للنفسية الإسلامية المحتقنة من دائرة الحكام الذين فرضوا أنفسهم فرضا على الجماهير وساقوهم إلى عالم الجبرية والطاغوت.
إن الجماهير الإسلامية قامت بنشر الدعوة، وأقامت حضارة فطرية غير حضارة الملوك، وهذه الحضارة هي الباقية ولن تعلوا عليها حضارة حتى يأتي أمر الله.
ب - إفرازات فكرية:
ذكرنا فيما سبق المذاهب القديمة التي قامت في العصر الأموي، ونبتت
____________
(1) مسلم (الصحيح 67 / 13) ك الجهاد.
(2) (الفتح الرباني 210 / 23).
وفي هذا الوقت دخل الإسلام طوائف من المجوس واليهود والنصارى وغير هؤلاء وأولئك، رؤوسهم ممتلئة بكل ما في هذه الأديان من تعاليم جرت في نفوسهم مجرى الدم. ومنهم من كان يظهر الإسلام ويبطن غيره. إما خوفا ورهبة، أو رجاء نفع دنيوي، وإما بقصد الفساد والإفساد وتضليل المسلمين.
وقد أخذ ذلك الفريق ينشر بين المسلمين ما يشككهم في عقائدهم. وظهرت ثمار غرسهم في فرق هادمة للإسلام تحمل اسمه ظاهرا وهي معاول هدمه في الحقيقة... وقد تصدى للدفاع عن الإسلام أمام هؤلاء، فرقة درست المعقول وفهمت المنقول فكانت المعتزلة (1). ولم يجد المعتزلة من الأمويين معارضة.
لأنهم لم يثيروا شغبا عليهم ولا حربا. إذ أنهم كانوا فرقة لا عمل لها إلا الفكر وقرع الحجة، ووزن الأمور بمقاييسها الصحيحة. ومع أن الأمويين لم يعارضوهم فهم أيضا لم يعاونوهم (2).
ويختلف العلماء في أساس بذرة المعتزلة. فبعضهم يرى أنها ابتدأت في قوم من أصحاب علي بن أبي طالب اعتزلوا السياسة، وانصرفوا إلى العقائد عندما صالح الحسن معاوية، ولزموا منازلهم ومساجدهم وقالوا: نشتغل بالعلم والعبادة. وبعضهم يرى أن رأس المعتزلة هو واصل بن عطاء... والمعتزلة في كتبهم يرون أن مذهبهم أقدم في نشأته من " واصل " ويعدون من رجال مذهبهم كثيرين من آل البيت (3). ويقول الشيخ أبو زهرة: والذي نراه أن المذهب أقدم من " واصل " وأن كثيرين من آل البيت قد نهجوا منهجه، كزيد بن علي الذي كان صديقا لواصل. ولكن واصلا من أبرز الدعاة، فكان عند الأكثرين رأسه لأنه أبرز
____________
(1) تاريخ المذاهب الإسلامية 131 / 1.
(2) المصدر السابق 132 / 1.
(3) المصدر السابق 124 / 1.
ومذهب المعتزلة يقوم على أصول خمسة: التوحيد، والعدل، والوعد والوعيد، والمنزلة بين المنزلتين، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
والتوحيد، هو لب مذهبهم وأس نحلتهم، فقالوا: إن الله واحد أحد. ليس كمثله شئ، وهو السميع البصير. وليس بجسم ولا شبح ولا جثة ولا صورة، ولا لحم ودم، ولا شخص ولا جوهر ولا غرض. ولا بذي لون ولا طعم ولا رائحة ولا مجسة. ولا بذي حرارة ولا برودة ولا رطوبة ولا يبوسة. ولا طول ولا عرض ولا عمق. ولا اجتماع ولا افتراق. ولا يتحرك ولا يسكن ولا يتبعض. ولا بذي أبعاض وأجزاء. ولا جوارح وأعضاء. وليس ذي جهات. ولا بذي يمين وشمال وأمام وخلف وفوق وتحت ولا يحيط به مكان. ولا يجري عليه زمان. ولا تجوز عليه المماسة ولا العزلة. ولا الحلول في الأماكن. ولا يوصف بشئ من صفات الخلق الدالة على حدوثهم ولا يوصف بأنه متناه. ولا يوصف بمساحة ولا ذهاب في الجهات. وليس بمحدود ولا والد ولا مولود. لا تحيط به الأقدار، ولا تحجبه الأستار. ولا تدركه الحواس. ولا يقاس بالناس ولا يشبه الخلق بوجه من الوجوه. ولا تجري عليه الأوقات. ولا تحل به العاهات، وكل ما يخطر بالبال وتصور بالوهم فغير مشبه له. ولم يزل أولا سابقا. متقدما للمحدثات. موجودا قبل المخلوقات. ولم يزل عالما قادرا حيا. ولا يزال كذلك لا تراه العيون. ولا تدركه الأبصار ولا تحيط به الأوهام. ولا يسمع بالأسماع.
شئ لا كالأشياء عالم قادر حي. لا كالعلماء القادرين الأحياء. وأنه القديم وحده. ولا قديم غيره. ولا إله سواه ولا شريك له في ملكه ولا وزير له في سلطانه. ولا معين له على إنشاء ما أنشأ وخلق ما خلق. لم يخلق الخلق على مثال سابق. وليس خلق شئ بأهون عليه من خلقه شئ آخر. ولا بأصعب عليه منه. ولا يجوز عليه اجترار المنافع، ولا تلحقه المضار ولا يناله السرور واللذات. ولا يصل إليه الأذى والآلام. ليس بذي غاية فيتناهى. ولا يجوز عليه
____________
(1) المصدر السابق 124 / 1.
وقد بنوا على هذا الأصل استحالة رؤية الله سبحانه وتعالى يوم القيامة، لاقتضاء ذلك الجسمية والجهة (1). أما قولهم في العدل بينه المسعودي في مروج الذهب فقال: هو أن الله لا يحب الفساد. ولا يخلق أفعال العباد. بل يفعلون ما أمروا به ونهوا عنه بالقدرة التي جعلها الله لهم وركبها فيهم. وأنه لا يأمر إلا بما أراد. ولم ينه إلا عما كره. وأنه ولي كل حسنة أمر بها. وبرئ عن كل سيئة نهي عنها (2). لم يكلفهم ما لا يطيقون. ولا أراد لهم ما لا يقدرون. وأن أحدا لا يقدر على قبض ولا بسط إلا بقدرة الله تعالى التي أعطاهم إياها. وهو المالك لها دونهم يفنيها إذا شاء. ولو شاء لجبر الخلق على طاعته. ومنعهم اضطرارا عن معصيته. ولكنه لا يفعل. إذ كان في ذلك رفع للمحنة وإزالة للبلوى.
وقد ردوا بهذا الأصل على الجبرية الذين قالوا: أن العبد في أفعاله غير مختار. فعدوا العقاب على ذلك يكون ظلما، إذ لا معنى لأمر الشخص بأمر هو مضطر إلى مخالفته، ونهيه عن أمر هو مضطر إلى فعله (3).
وفيما يتعلق بالعدل يقول الشيخ محمد خليل الزين: قال المعتزلة: إن الله عادل لا يصدر منه الظلم ولا يجدر أن يتصف به. وقالوا: إن الأجسام تدل بما فيها من العقول والنعم التي أنعم الله بها على خلقه، تدل أن الله لا يصدر منه الظلم والعقول تدل بأنفسها على أن الله ليس بظالم. ولا يجوز أن يجامع الظلم ما دل بنفسه على أن الظلم لا يقع منه تعالى.
والظلم والجور منفيان عنه، بدليل قوله تعالى: (وما ربك بظلام للعبيد).
وقد فرعوا على العدل غايات ثلاث:
____________
(1) المصدر السابق 126 / 1.
(2) استدلوا على هذا بقوله تعالى: (ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك).
(3) المصدر السابق 127 / 1.
وسبحانه لا يفعل شيئا به غاية لنفسه. فالوجود ومن فيه يسير ويمشي وراء غاية ومصلحة. والغاية تختلف بحسب المعنى وأهميته، فتارة تكون ظاهرة المنفعة ففعلها صلاح، وتارة تكون خفية لا تدرك العقول مصلحتها، وهذه إما أن يقنع العقل بوجودها، أو يشكك، فإن شكك يجب تزن بالمقياس البرهاني، فإن توافقا وإلا وجب طرحها.
الثانية: من لوازم العدل، أن الأوامر والنواهي الشرعية، ذات حسن وقبح ذاتي. وهي قبل أمر الشارع فيها حسن وقبح ذاتي - فالوديعة إذا ردت فيها حسن ذاتي قبل أمر الشارع فالحسن والقبح في الموجودات من الأمور الذاتية. وقالوا:
إن العقل هو المرجح، فما حكم بقبحه فلا بد أن يأتي به نهي من الشارع.
فالحسن من مقومات الذات لأنه عرض يتحكم به الشارع. وقالوا: إنا نعلم بالضرورة حسن بعض الأشياء وقبح بعضها من غير نظر إلى أمر الشارع. فإن كل عاقل يجزم بحسن الاحسان ويمدح فاعله، ويعلم بقبح الإساءة والظلم. وهذا الحكم ضروري لا يقبل الشك. وقالوا: لم نعلم حسن الأشياء وقبحها عقلا.
وقالوا: إن الله داعيا لفعل الحسن وليس له صارف عنه. وله صارف عن فعل القبيح وليس له داع إليه، وهو قادر على كل مقدور، ومع وجود المقدرة والداعي يجب الفعل. لأنه تعالى غني يستحيل عليه الحاجة وهو عالم بحسن الحسن وقبح القبيح. ومن المعلوم بالضرورة، أن العالم بالقبيح الغني عنه لا يصدر عنه. وأن العالم بالحسن القادر عليه إذا خلا عن جهات المفسدة فإنه يوجد. وتحريره أن الفعل بالنظر لذاته ممكن وواجب النظر إلى علته، وكل ممكن مستند إلى قادر. وعلته تتم بواسطة القدرة والداعي، فإذا وجد ما تقدم تم السبب. وعند تمام السبب يجب وجود الفعل. ولو جاز فعل القبيح منه تعالى أو الاخلال بالواجب، لارتفع الوثوق بوعده ووعيده، وأمكن تطرف الكذب عليه تعالى. ولجاز منه إظهار المعجزة على يد الكاذب. وذلك يقتضي الشك في صدق الأنبياء. وبطل الاستدلال بالمعجزة.
وقالوا في الوعد والوعيد: إن الوعد والوعيد نازلان لا محالة. فوعد الله بالثواب واقع. ووعيده بالعقاب واقع أيضا. ووعده بقبول التوبة النصوح واقع أيضا. وهكذا فمن أحسن يجازي بالإحسان إحسانا، ومن أساء يجازي بالإساءة عذابا أليما. فلا عفو عن كبيرة من غير توبة، كما لا حرمان من ثواب لمن عمل خيرا. وإن هذا فيه رد على المرجئة الذين قالوا: لا يضر مع الإيمان معصية، كما لا تنفع مع الكفر طاعة. إذ لو صح هذا، لكان وعيد الله في مقام اللغو. قال
____________
(1) تاريخ الفرق ص 137، 138.
ومن قولهم في المنزلة بين المنزلتين: إن الإيمان إقرار باللسان ومعرفة وعمل بالجوارح. وإن كل عمل فرضا أو نقلا هو إيمان، وكلما ازداد الإنسان خيرا ازداد إيمانا، وكلما عصى نقص إيمانه.
فالإيمان مركب من أمور، فلو أخل المكلف بأحدها يسلب عنه اسم الإيمان. فلا يقال له مؤمن أو كافر. بل هو بمنزلة من المنزلتين. ومرتكب الكبيرة لا كافر ولا مؤمن. والكبيرة عندهم أنواع، منها ما تؤول إلى الكفر.
ومنها ما يطلق على مرتكبها اسم الفسوق فقط (2). ويقول الشيخ أبو زهرة: من اعتقادهم، أن العاصي من أهل القبلة في منزلة بين المنزلتين. يرون أنه لا مانع من أن يطلق عليه اسم المسلم تمييزا له عن الذميين لا مدحا ولا تكريما. وأنه في الدنيا يعامل معاملة المسلمين، لأن التوبة له مطلوبة. والهداية مرجوة. وقد قال في ذلك " ابن أبي الحديد " وهو من شيوخ المعتزلة: إنا وإن كنا نذهب إلى أن صاحب الكبيرة لا يسمى مؤمنا ولا مسلما. نجيز أن يطلق عليه هذا اللفظ.
إذا قصد به تمييزه عن أهل الذمة وعابدي الأوثان، فيطلق مع قرينة حال أو لفظ يخرجه عن أن يكون مقصودا به التعظيم والثناء أو المدح (3).
ومن قولهم في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: أنهما واجبان عقلا ونقلا. ويذهبون إلى أنهما واجبان باللسان والقلب واليد، وقد فسر الزمخشري صاحب الكشاف. إلى أن الأمر بهما من فروض الكفاية، لأنه لا يصلح له إلا من علم المعروف، وعلم كيف يرتب الأمر في إقامته وكيف يباشره. وأن الجاهل ربما نهى عن معروف وأمر بمنكر وقد يغلط في موضع اللين ويلين بموضع الغلظة. وينكر على من لا يزيده إنكاره إلا تحاديا. والأمر بالمعروف تابع للمأمور به، إن كان واجبا فواجب، وإن كان ندبا فندب، وأما النهي عن المنكر
____________
(1) المصدر السابق 128 / 1.
(2) تاريخ الفرق الإسلامية / الزين ص 141.
(3) تاريخ المذاهب الإسلامية ص 128 / 1.
وقالوا في النبوة يقول فيه ابن أبي الحديد: إن الذي عليه أصحابنا، أن النبي منزه قبل البعثة. عما فيه تنفير عن الحق الذي يدعو إليه. وعما فيه غضاضة وعيب. مثل: الكفر أو الفسق، لأنا نجد أن التائب العائد إلى الصلاح بعد أن عهد منه السخف والمجون والفسق لا يقع بالمعروف ونهيه عن المنكر عند الناس موقعهما ممن لم يعهدوه، إلا على السعد والصلاح. كما أنه لا يجوز أن يكون محترفا بحرفة يستخفون الناس بصاحبها. هذا قبل البعثة، أما بعد البعثة.
فقد منع أصحابنا وقوع الكبائر منهم عليهم السلام أصلا. ومنعوا أيضا وقوع الصغائر المستخفة منهم (2).
مما سبق نعلم أن المعتزلة لم يهضموا نظرية الجبر، ونفوا القول بالقدر.
ورفضوا أن يكون الإنسان مجرد آلة صماء، لا رأي له ولا حرية ولا اختيار، إنما تسيره يد القضاء من وراء ستار، فأثبتوا أنهم يحترمون الحرية الفردية. حرية الفكر والعمل. ويقدرون المواهب العقلية. ويقول الشيخ / محمد خليل: وإني لأعتقد أن المعتزلة بنفيهم القدر عن أفعال العباد الاختيارية المكتسبة، قد أصابوا هدفين في وقت واحد، فإنهم لم ينفوا الظلم عن الله ودافعوا عن العدالة الإلهية فحسب، بل دافعوا أيضا عن الحرية الإنسانية. لأنهم اعتبروا الإنسان حرا في أفعاله فرفعوا من شأنه. وجعلوه مخلوقا عاقلا حرا جديرا بتحمل المسؤولية (3).
والمعتزلة لم تظهر شجرتهم في العهد الأموي على الرغم من أنهم بدؤوا في هذا العهد، فما كانت الدولة لتسمح بهذه الأفكار. وهي التي تحارب كل فكر لا يتفق مع سياستها. ولكن الشجرة بدأت في الظهور عندما شاخت الدولة الأموية، ثم تفرعت شجرتهم وأورقت عندما جاء العهد العباسي، ففي هذا العهد
____________
(1) تاريخ الفرق الإسلامية 143.
(2) المصدر السابق 145.
(3) المصدر السابق 134.
واستمر على ذلك حتى توفى سنة 218 ه (2). ومن أقوال المأمون: من علامة الشريف أن يظلم من فوقه ويظلمه من هو دونه. وقال أيضا: لوددت أن أهل الجرائم عرفوا رأيي في العفو، ليذهب عنهم الخوف. ويخلص السرور إلى قلوبهم (3). وقال: أول العدل أن يعدل الرجل في بطانته، ثم الذين يلونهم حتى يبلغ إلى الطبقة السفلى. وقال: غلبة الحجة أحب إلي من غلبة القدرة، لأن غلبة القدرة تزول بزوالها. وغلبة الحجة لا يزيلها شئ. وقال: لا نزهة ألذ من النظر في عقول الرجال (4).
وكان المأمون يقرب آل البيت إليه، وعلى رأسهم الإمام أبي الحسن الرضا رضي الله عنه. وروي أن المأمون أراد أن يقلد الرضا ولاية العهد من بعده، لتكون الخلافة في أفضل آل أبي طالب. ولكن الرضا أبى عليه إباءا شديدا لأسباب عديدة نراها. منها: أن قرار مثل هذا هو بمثابة قرار فوقي. وهذا لا يستقيم مع حركة أهل البيت التي لا تبحث عن الحكم وإنما تبحث عن الجماهير
____________
(1) تاريخ المذاهب الإسلامية 140 / 1.
(2) المصدر السابق 132 / 1.
(3) تاريخ الخلفاء 297، 298 / 1.
(4) المصدر السابق 308 / 1.
وروي أنه في أيام المأمون أحصيت أولاد العباس، فبلغوا ثلاثة وثلاثين ألفا، ما بين ذكر وأنثى وذلك عام مأتين. الكثير منهم على رأس العسكر وعلى بيوت المال، وكل منهم ينتظر دوره في الحكم. والإمام الرضا يرى أن لكل زمان حركة، ولكل أحداث فقه. وربما تتطلب هذه الحركة أن يجلس في دائرة الضوء، بينما تتطلب الأحداث أن لا يكون له أي نشاط ملحوظ.
وعندما أصر المأمون على أن يكون الرضا وليا للعهد، قال له الرضا: إني أجيبك إلى ما تريد على أني لا آمر ولا أنهي ولا أفتي ولا أقضي ولا أولي ولا أعزل. فأجابه المأمون إلى ذلك كله.
وعلى الرغم من أن الرضا لم يباشر أي سلطة إلا أن هذا لم يلق قبولا من بني العباس. يقول المسعودي: بايع المأمون للرضا علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب بالعهد من بعده، فاضطرب من بمدينة السلام من الهاشميين. وعظم ذلك على أهل بغداد عامة، وعلى الهاشميين خاصة. لزوال الملك عنهم ومصيره إلى ولد أبي طالب، فأخرجوا الحسن بن سهل وكان خليفة المأمون على العراق. وبايعوا المنصور بن المهدي، فلم يتم له أمر، وكان مضعفا فبايعوا أخاه إبراهيم بن المهدي بالخلافة لخمس من المحرم سنة 202 ه، ودعي له على المنابر بمدينة السلام وغيرها، فوجه الجيوش لمحاربة الحسن بن سهل خليفة المأمون على العراق، وهو يناجيه المدائن، فكانت الحروب بينهم سجالا سنة 201 ه (1). ومات الإمام الرضا عام 203 ه. وقيل قتل (2). وبعد وفاة المأمون عام 218 ه. بدأت شجرة المعتزلة
____________
(1) التنبيه والإشراف 318 / 1، دول الإسلام / الذهبي 113.
(2) قال المسعودي: قبض الرضا بطوس لعنب أكله وقيل أنه كان مسموما (مروج الذهب =
وفي ذلك يقول علي بن الجهم:
وفي عام 235 ه أمر المتوكل بهدم قبر الحسين وهدم ما حوله من الدور، وخرب وبقي صحراء. يقول السيوطي: وكان المتوكل معروفا بالتعصب (4).
وسارت الأمور بعد المتوكل إلى ما ذكرناه. يقول الدكتور أحمد أمين: إن السلطات الحكومية من عهد المتوكل. قد تخلت عن نصرة المعتزلة، وأغلب الناس يمالؤون السلطة أينما كانت ويخافون أن يعتنقوا مذهبا لا ترضاه. فهربوا من الاعتزال إلى من يهاجم الاعتزال (5). وفي أثناء ذلك، ظهر أبو الحسن الأشعري، الذي ولد بالبصرة عام 260 ه. وكان قد التحق بالمعتزلة مبكرا
____________
= 233 / 4).
(1) مروج الذهب 98 / 3، دول الإسلام 126 / 1.
(2) المصدر السابق 100 / 4.
(3) المصدر السابق 100 / 4.
(4) تاريخ الخلفاء 321 / 1.
(5) تاريخ الفرق الإسلامية ص 150.
إني كما خرجت من هذه العباءة، أعلن برائتي من كل أخطائي السابقة، وأصرح بأن جميع آرائي الماضية باطلة (2). ويقول الشيخ أبو زهرة: إن الأشعري وجد من نفسه ما يبعده عن المعتزلة، مع أنه تغذى من موائدهم. ونال من ثمرات تفكيرهم، ثم وجد ميلا إلى آراء الفقهاء والمحدثين، مع أنه لم يغش مجالسهم ولم يدرس العقائد على طريقتهم (3).
وبدأ الأشعري يشن هجومه على المعتزلة. يقول الصعيدي في كتاب المجد دون في الإسلام: أنه كان الأجدر بالأشعري ألا يتنكر لمذهب مكث معتنقا صوابه أربعين سنة، كل هذا التنكر، لأنه بلا شك كان مخلصا في اعتقاده له كل هذه المدة، بل كان له وجهه من النظر يعتمد عليها فيه. ويرى معها أنه لا تنافي في الإسلام إن لم يكن هو الإسلام، فلا يصح أن ينفي الإسلام عن المعتزلة أو يقال أنهم فساق مسلمون، وإنما هم يثابون على صوابهم ويعذرون في خطأهم.
وقد انتفع) بهم خلقا كثيرا.. لم يكن من اللائق أن يبالغ في خصومتهم بعد مخالفته لهم لأنهم كانوا أساتذته (4). ويقول الدكتور حمودة في كتابه الأشعري:
كثير من الباحثين تعرض لأسباب تحول الأشعري. ويذكره ناقدوه تبعا لبعض الروايات عن معاصريه، أنه كان خاضعا في ذلك لضغط من أفراد أسرته، كما يحاول البعض الآخر تعليل ذلك برغبة إلى الحسن أن يستغل كراهة الشعب للمعتزلة، وأن يظفر بالبطولة والمجد على حسابهم (5).
____________
(1) تاريخ بغداد 347 / 11.
(2) تاريخ الفرق الإسلامية، ص 151.
(3) تاريخ المذاهب الإسلامية 160 / 1.
(4) تاريخ الفرق الإسلامية ص 152.
(5) المصدر السابق 153 / 1.
يقول الشيخ أبو زهرة: إن الأشعري جاء لإحياء آراء الإمام أحمد بن حنبل في نظره إذ يعتبر منهاجه هو منهاجه (3). وأنه يرى أن ما يعتقده هو رأي الإمام أحمد. ويعتبره الإمام المقدم والعالم المفهم (4). وأن الدارس لحياة الأشعري يجد أن الذي يتفق مع اطلاعه هو أن يختار مذهبا وسطا (5). فرأيه في الصفات وسط بين المعتزلة ومعهم الجهمية، وبين الحشوية والمجسمة. فالأولون نفوا الصفات ولم يثبتوا إلا الوجود والقدم والبقاء والوحدانية، ونفوا السمع والبصر والكلام وغيرها من الأوصاف الذاتية، وقالوا: ليست شيئا غير الذات وإنها في القرآن أسماء لله تعالى كالرحمن والرحيم. وجاء الأشعري فأثبت الصفات التي وردت كلها في القرآن والسنة، وقرر أنها صفات تليق بذات الله.. فسمع الله ليس كسمع الحوادث وبصره ليس كبصرهم وكلامه ليس ككلامهم.
ويقول الشيخ خليل الزين في هذا المجال: وجاء في دائرة المعارف الإسلامية. أن الأشعري خالف المعتزلة بقوله: إن لله صفات أزلية مثل العلم والبصر والكلام. وأنه عالم بعلم بصير يبصر متكلم بكلام وينكر المعتزلة أن لله
____________
(1) تاريخ المذاهب الإسلامية 168.
(2) تاريخ الفرق الإسلامية 164.
(3) تاريخ المذاهب الإسلامية 162.
(4) المصدر السابق 165.
(5) المصدر السابق 165.
إذ كيف يجوز لهم أن يسلموا بوجود الله في كل مكان وينكرون أنه عليه العرش.
ويقول: لو كان الاستواء على العرش هو القدرة والاستيلاء لما كان هناك فارق بين العرش والأرض (1).
أما عقيدته في مرتكب الكبيرة، يقول الشيخ أبو زهرة: وبالنسبة لمرتكب الكبيرة قال المعتزلة: إن صاحب الكبيرة مع إيمانه وطاعته إذا لم يتب عن كبيرته لا يخرج من النار. وقال المرجئة: من أخلص لله وآمن فلا تضره كبيرة مهما تكن. فسلك الأشعري طريقا وسطا وقال: المؤمن الموحد الفاسق هو في مشيئة الله تعالى، إن شاء عفا عنه وأدخله الجنة، وإن شاء عاقبه بفسقه ثم أدخله النار (2).
وأما عقيدته في قدرة الله يقول الشيخ أبو زهرة: ورأيه في قدرة الله وأفعال الإنسان وسط بين الجبرية والمعتزلة. فالمعتزلة قالوا: أن العبد هو الذي يخلق أفعال نفسه بقوة أودعها الله تعالى إياه. والجبرية قالوا: أن الإنسان لا يستطيع إحداث شئ ولا كسب شئ، بل هو كالريشة في مهب الريح فقال الأشعري:
إن الإنسان لا يستطيع إحداث شئ ولكن يقدر على الكسب (3).
وبالنسبة لرؤية الله يوم القيامة يقول الشيخ أبو زهرة: قال المعتزلة: الله سبحانه وتعالى لا يرى... وقال الأشعري، يرى من غير حلول ولا
____________
(1) تاريخ الفرق الإسلامية 158.
(2) تاريخ المذاهب ص 167.
(3) المصدر السابق 166.
وعرضوا واستدلوا على صحة دعواهم بالكثير من الأدلة. نفوا رؤية الباري تعالى بنفي الجسمية، فإذا انتفت الجسمية انتفت الجهة، وإذا انتفت الجهة انتفت الرؤية، لأن المرئي له حيز وجهه وشكل، والجميع محال تحققها في ذات الله.
نفوا الجسمية بقولهم: أن كل جسم حادث ومحتاج إلى الإعراض، وأن الذي لا يتخلى عن الحوادث لا بد أن يكون حادثا. نفوا الرؤية بالدليل العقلي والنقلي بقول تعالى: (لا تدركه الأبصار وهو يدرك) وقوله تعالى مخاطبا موسى عليه السلام: (لن تراني) فأدلتهم في التوحيد مركبة من العقلية والنقلية (2). وذهب الأشعري إلى جواز رؤية الله تعالى في الآخرة، وقال: إن كل موجود يصح أن يرى. فإن المصحح للرؤية هي إنما هو الوجود. والباري موجود فيصح أن يرى (3).
ويقول الشيخ أبو زهرة: وبالنسبة للألفاظ التي وردت موهمة للتشبه في القرآن مثل... (يد الله فوق أيديهم)، وقال المعتزلة: المراد سلطان الله فوقهم.
وقال الحشوية: يده يد جارحة. وقال الأشعري: يده يد تليق بذاته (4).
كانت هذه أهم ملامح مذهب الأشعري. ويقول الشيخ أبو زهرة: وجاء من بعد الأشعري علماء يخالفونه. فابن حزم يعد الأشعري من الجبرية، لأن رأيه في أفعال الإنسان لا يثبت الاختيار للعبد (5)، وعن منهج الأشاعرة يقول الدكتور محمود قاسم في كتاب مناهج الأدلة في عقائد الملة: إنهم أنكروا ضرورة وجود الغاية والحكمة والصلاح في العالم. وحقروا من شأن العقل في التفرقة بين الحسن والقبيح. وزعموا أن الشرع لو مدح الكاذب لكان حسنا ولو ذم الصدق
____________
(1) المصدر السابق 166.
(2) تاريخ الفرق 136.
(3) المصدر السابق 156.
(4) تاريخ المذاهب 166.
(5) تاريخ المذاهب الإسلامية 199.
والله تعالى لم يترك معرفته للعباد كي يقولوا فيها بآرائهم، وإنما بعث الأنبياء والرسل ليبينوا ذلك لأممهم، لأن الهدف من خلق الجن والإنس أن يعبدوا الله.
ولا تصح عبادة لله إلا بمعرفة الله. فالمنحرفين من أهل الكتاب يعبدون الله، ولكنهم انحرفوا عن المعرفة الحقة. فأصبحت العبادة هباء ضائع في خلاء.
. في رأينا أن أسباب هذا الاختلاف، يعود إلى إبعاد الراسخين في العلم عن مزاولة عملهم الرسالي وسوق الناس إلى صراط العزيز الحميد، لينالوا سعادة الدنيا بما يتوافق مع الكمال الأخروي. وهذا الاختلاف يصرخ في أعمال الوجود. إن الكتاب لو كان في غير حاجة إلى الراسخين في العلم أصحاب التأويل، لأجمع الناس على مدلوله ولم تفترق الأمة. ولكن الاختلاف قد وقع عندما جلس الذين يحتاجون إلى التعليم والإرشاد على المقاعد الأولى. ليصبحوا قرين القرآن الذي اشتمل تبيان كل شئ، وأول هذه الأشياء معرفة الباري جل وعلا. ولقد تحدثنا من قبل أن الله تعالى جعل المودة والرحمة بين الزوجين. لتكون أرضية إنشاء البيت المسلم وانتصارا للفطرة. وأخر مودة ذي القربى أجرا للرسالة الخاتمة. والفرق بين المودة بين الزوجين وبين مودة ذي القربى، أن الأولى مجعولة داخل النسيج الإنساني. أما الثانية فمأمور بها لتكون حركة لينظر الله إلى عباده كيف يعملون. فالدائرة الأولى وقود للدائرة الثانية،
____________
(1) تاريخ الفرق الإسلامية 157.
وعندما أبعد أهل العلم الذين رفعهم الله درجات وجعلهم قرين الكتاب ولا ينفصلا حتى يردا على الحوض. والله يزكي من يشاء. عندما أبعدوا وانتهى المطاف بعدم رواية الحديث. وظهور الذين وضعهم الرسول في دائرة التحذير، بعد أن خمد التحذير منهم في عالم اللارواية، بدأ هؤلاء يضعون الحديث على رسول الله. ومن هذه التربة خرجت القدرية والجبرية والمرجئة وغيرهم، فكل مذهب كان له وقوده من الحديث والتأويل. ويشرف على أكثرهم علماء أهل الكتاب الذين لا يتركون فتنة إلا سارعوا إليها. ومن تربة الأحاديث الموضوعة جاء اختلاف الرواية والفتيا والسيرة والأخلاق وطريق الهداية والإرشاد وكل شئ، ونحن نرى أن الكثير من الحديث وضع الخدمة أصحاب المقاعد الأولى وتحقيق أهدافهم. وأن الكثير من الحديث الصحيح تم تأويله لخدمة نفس الأهداف، التي منها اتخاذ مال الله دولا ودين الله دخلا وعباد الله خولا، وأول خطوة لتحقيق هذه الأهداف كانت فتح باب المواجهة مع أهل البيت ولا اختلاف ولا خلاف بين أهل العلم على أن عليا كان مصيبا في قتاله لأهل البغي وأن أهل البغي عندما ركبوا على رقبة الأمة قاموا بسب الإمام على منابرهم وقتلوا أتباعه، ثم فتحوا الأبواب أمام أغيلمة قريش الذين أقاموا لجعل الإمام على المجازر.
لقد كان أهل البيت حلقة وجهوا إليها الضربات ليكون الطريق أمام الحلقة الثانية مفتوحا فتوجه إليها الضربات بما يستقيم معها، وبما يتقبله العامة في هدوء. وذلك بطرح مجموعة من الأحاديث يكون الهدف منها التقليل من شأن النبوة ومن تحت عباءة ثقافة التقليل يحققون هدف التماس الأعذار. بمعنى إذا كان هذا هو شأن النبي فلا عصمة لأحد. ومن هذا الباب تلتقي هذه الأعذار مع العقائد التي تشرف عليها الدولة. بمعنى يكفي أن يكون قلبك عامرا بالإيمان وأنت على طريق ضاعت فيه الصلاة.
روي البخاري عن أبي هريرة قال: أقيمت الصلاة. وعدلت الصفوف قياما. فخرج إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما قام في مصلاه ذكر أنه جنب. فقال لنا: مكانكم. ثم رجع فاغتسل. ثم خرج إلينا ورأسه يقطر.
وفي رواية: فقال له ذو اليدين: أقصرت الصلاة أم نسيت يا رسول الله؟ قال النبي: أصدق ذو اليدين قال الناس: نعم. فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى اثنتين أخريين ثم سلم... الحديث (3).
وروى البخاري أن عمر بن الخطاب جاء يوم الخندق بعدما غربت الشمس، فجعل يسب كفار قريش، وقال: يا رسول الله ما كدت أصلي العصر حتى كادت الشمس تغرب. فقال النبي: والله ما صليتها... الحديث (4). وروى البخاري عن قتادة قال: سرنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ليلة فقال بعض القوم: لو عرست بنا يا رسول الله. قال: أخاف أن تناموا عن الصلاة. فقال بلال: أنا أوقظكم فاضطجعوا. وأسند بلال ظهره إلى راحلته فغلبته عيناه فنام.
فاستيقظ النبي صلى الله عليه وسلم. وقد طلع حاجب الشمس. فقال: يا بلال أين ما قلت... الحديث (5).
روى مسلم عن عائشة: اعتم رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى رقد ناس واستيقظوا. ورقدوا واستيقظوا فقام عمر بن الخطاب فقال: الصلاة. وفي رواية:
الصلاة نام النساء والصبيان. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما كان لكم أن تنزروا رسول الله على الصلاة.. الحديث (6). معنى ما كان لكم أن تنزروا:
أي تلحوا عليه فيها.
____________
(1) البخاري (الصحيح 60 / 1) ك الغسل.
(2) البخاري (الصحيح 212 / 1) ك الكسوف باب ما جاء في السهو.
(3) البخاري (الصحيح 212 / 1) ب ما جاء في السهو.
(4) البخاري (الصحيح 112 / 1).
(5) البخاري (الصحيح 112 / 1) ك الصلاة، باب الأذان بعد ذهاب الوقت.
(6) رواه مسلم (137، 138 / 5 الصحيح)، في كتاب المساجد وقت العشاء.
لا حرج على أصحاب المقاعد الأولى في نسيان كل شئ ما دام القلب عامرا بالإيمان وهذا باب كبير في عقيدة المرجئة التي نسجت خيوطها على حساب الدعوة. إن هذه الأحاديث وغيرها تم تأويلها لخدمة أهداف الذين ضيعوا الصلاة، ثم كيف يجري على النبي صلى الله عليه وسلم النسيان وهو القائم بدعوة الناس إلى صراط العزيز الحميد. وما هي الحكمة من محافظة عمر بن الخطاب على الصلاة بينما رسول الله إما ناسيا أو نائما.
ولم يقفوا في التأويل عند هذه الأحاديث وإنما ذهبوا إلى أبعد من هذا.
روى البخاري عن عائشة قالت: سحر رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل من بني زريق يقال له: لبيد بن الأعصم، حتى كان النبي صلى الله عليه وسلم يخيل إليه أن يفعل الشئ وما فعله.. الحديث (3). كيف تكون هناك قدرة للساحر على نبي الله ورسوله؟ كيف والله تعالى نفى السحر عن رسوله فقال: (وقال الظالمون إن تتبعون إلا رجلا مسحورا * انظر كيف ضربوا لك الأمثال فضلوا فلا يستطيعون سبيلا) (4).
ومن دائرة السحر هبطوا، فرفعوا بعض الصحابة على مقام النبوة. ليعطوا لأنفسهم المبرر في ركوب رقبة الأمة مع وجود السابقين عليهم والأفضل منهم.
روى البخاري: استأذن عمر بن الخطاب على رسول الله صلى الله عليه
____________
(1) البخاري (الصحيح 233 / 3) في فضائل القرآن باب نسيان القرآن.
(2) البخاري (الصحيح 233 / 3).
(3) البخاري ك الطب باب هل يستخرج السحر (الصحيح 20 / 4).