وحينما تولى عمر بن الخطاب الأمر نجده يسير على نفس هذا الخط أيضاً، ويعتمد نفس ذلك النهج، وهو التمهيد المدروس لبني أمية..
ونذكر على سبيل المثال.. ذلك التدبير الذكي والدقيق لقصة الشورى. وذلك بحيث يطمئن وفقاً لمحاسبات دقيقة إلى أن الذي سيفوز بالأمرهو عثمان، وعثمان فقط.. ولو فرض جدلاً إخفاقه في ذلك، فإن علياً (عليه السلام) لن يكون هو الفائز قطعاً.. وقد كان أمير المؤمنين يعلم بذلك بلا ريب، كما صرح به هو نفسه لابن عباس، فور خروجه من الجلسة (2).
ومما يدل على أن عمر كان يهتم في تكريس الأمر في بني أمية: أنه كان يُفرَش لعمر فراش في بيته في وقت خلافته، فلا يجلس عليه أحد، إلا العباس بن عبد المطلب (3). وأبو سفيان بن حرب.. وزاد المبرد قوله: «ويقول: هذا عم رسول الله. وهذا شيخ قريش» (4).
وأعطى عمر بن الخطاب لسعيد بن العاص أرضاً في المدينة، فاستزاده، فقال له عمر: «حسبك. واختبىء عندك: أن سيلي الأمر بعدي من يصل رحمك، ويقضي حاجتك.
قال: فمكث خلافة عمر بن الخطاب حتى استخلف عثمان، وأخذها عن شورى ورضى، فوصلني، وأحسن، وقضى حاجتي» (5).
وحينما أعتق عمر سبي العرب اشترط عليهم خدمة الخليفة
____________
(1) شرح النهج للمعتزلي ج 1 ص 164 وتاريخ الطبري ج 2 ص 613.
(2) البحار ط قديم ج 8 ص 330. وليراجع كلام المعتزلي في شرح النهج ج 1.
(3) لعله يريد أن يخلق شخصيات أخرى من بني هاشم لا خطر منهم على الحكم ـ وذلك في مقابل علي (عليه السلام).
(4) راجع العقد الفريد ج 2 ص 289. والكامل للمبرد ج 1 ص 319.
(5) طبقات ابن سعد ج 5 ص 31 ومنتخب كنز العمال بهامش مسند أحمد ج 4 ص 389/390.
وعن أبي ظبيان الأزدي قال: قال لي عمر بن الخطاب: ما مالك يا أبا الظبيان؟ قال: قلت: أنا في ألفين: قال فاتخذ سائماً، فإنه يوشك أن يجيء اغيلمة من قريش يمنعون هذا العطاء» (2).
وحتى بالنسبة لعمرو بن العاص، نجد عمر بن الخطاب يقول: «ما ينبغي لعمرو أن يمشي على الأرض إلا أميراً» (3).
وبعد ذلك كله.. فقد قال معاوية لابن حصين: «إنه لم يشتت بين المسلمين، ولا فرق أهواءهم، ولا خالف بينهم إلا الشورى، التي جعلها عمر إلى ستة نفر.. إلى أن قال: فلم يكن رجل منهم إلا رجاها لنفسه، ورجاها له قومه. وتطلعت إلى ذلك نفسه» (4).
وأخيراً.. فإننا نجد عمر يستشير كعب الأحبار فيمن يوليه الأمر بعده (!!) حسبما يجدونه في كتبهم (!!) فينفي كعب أن يصل إليها عل ووُلْدُه، ويؤكد على انتقالها بعد الشيخين إلى بني أمية، فيصدق عمر ذلك، ويستشهد له بما ورد عن النبي في شأن بني أمية (5).
ب: التمهيد لبعض الناس:
لقد كان ثمة تركيز خاص من قبل الخليفة الثاني عمر بن الخطاب على
____________
(1) المصنف لعبد الرزاق ج 8 ص 380 و 381 و ج 9 ص 168 وراجع المسترشد في إمامة علي بن أبي طالب ص 115.
(2) جامع بيان العلم ج 2 ص 18.
(3) فتوح مصر وأخبارها ص 180 والإصابة ج 3 ص 2 وسير أعلام النبلاء ج 3 ص 70 وفي هامشه عن ابن عساكر ج 13 ص 257: ب.
(4) العقد الفريد ج 2 ص 281.
(5) راجع شرح النهج للمعتزلي ج 12 ص 81، فإنها قضية هامة. وليراجع أيضاً الفتوح لابن أعثم ج 3 ص 87 و 88 فإنها قضية هامة أيضاً.
أنه أبقاه على ولاية الشام لسنوات عدة، من دون أن يعرضه في كل عام لتلك الحسابات الدقيقة، التي كان يتعرض لها عماله في سائر الأقطار (1)، والتي كانت ربما تصل في كثير الأحيان إلى حد الإهانة، والمس بالكرامة، مع أنه كان لا يولي أحداً أكثر من عامين (2).
وحينما يطلب منه معاوية: أن يصدر له أوامره لينتهي إليها، يقول له: لا آمرك ولا أنهاك (3).
هذا بالإضافة إلى أمور أخرى يراها ويعرفها عنه، ويغضي عنها، كتعامل معاوية بالربا، وغير ذلك.
وحول تظاهر معاوية بالقبائح راجع: دلائل الصدق (4) للمظفر رحمه الله تعالى...
وقد ذُمَّ معاوية مرة عند عمر، فقال: دعونا من ذم فتى قريش، من يضحك في الغضب الخ (5)..
وكان يجري عليه في كل شهر ألف دينار. وفي رواية أخرى: في السنة عشرة آلاف دينار، ومع ذلك يزعمون: أن عمر حج سنة عشر من خلافته، فكانت نفقته ستة عشر ديناراً، فقال: أسرفنا في هذا
____________
(1) دلائل الصدق ج 3 قسم 1 ص 209 و 211. وراجع النص والاجتهاد ص 271.
(2) التراتيب الإدارية ج 1 ص 269.
(3) دلائل الصدق ج 3 قسم 1 ص 212 عن الطبري ج 6 ص 184 وعن الاستيعاب وراجع: العقد الفريد ج 1 ص 14.
(4) دلائل الصدق للمظفر ج 3 قسم 1 ص 212 و 213 عن مسند أحمد ج 5 ص 347 وعن المعتزلي ج 4 ص 60.
(5) الاستيعاب بهامش الأصابة ج 3 ص 397، ودلائل الصدق ج 3 قسم 1 ص 211 وفي العقد الفريد ج 1 ص 25 نسبة هذه الكلمات إلى عمرو بن العاص في معاوية.
وقال فيه عمر: «إحذروا آدم قريش، وابن كريمها، من لا ينام إلا على الرضا، ويضحك في الغضب، ويأخذ ما فوقه من تحته» (2).
وكان عمر إذا نظر إلى معاوية يقول: هذا كسرى العرب (3).
وقال مرة لجلسائه: تذكرون كسرى وقيصر، ودهاءهما، وعندكم معاوية (4)؟!.
وفي محاولة لفتح وإذكاء شهية معاوية للخلافة، نجده يقول: إياكم والفرقة بعدي، فإن فعلتم، فاعلموا: أن معاوية بالشام، فإذا وكلتم إلى رأيكم كيف يستبزها منكم» أو «وستعلمون إذا وكلتم إلى رأيكم كيف يستبزها دونكم» (5).
ويقول لأهل الشورى: «إن تحاسدتم، وتقاعدتم، وتدابرتم، وتباغضتم، غلبكم على هذا الأمر معاوية بن أبي سفيان..
وكان معاوية يومئذ أمير الشام من قبل عمر» (6).
وفي نص آخر: أنه قال لأهل الشورى: «إن اختلفتم دخل عليكم معاوية بن أبي سفيان من الشام، وبعده عبد الله بن أبي ربيعة من اليمن، فلا يريان لكم فضلاً إلا بسابقتكم» (7).
____________
(1) دلائل الصدق ج 3 قسم 1 ص 212 عن تاريخ الخلفاء، والصواعق المحرقة في سيرة عمر.
(2) عيون الأخبار لابن قتيبة ج 1 ص 9.
(3) الاستيعاب بهامش الإصابة ج 3 ص 369/397 وفيه أنه كان إذا دخل الشام، ونظر إليه، قال ذلك، والإصابة ج 3 ص 434 وأسد الغابة ج 4 ص 386، والغدير ج 10 ص 226 عنهم ودلائل الصدق ج 3 قسم 1 ص 212 وسير أعلام النبلاء ج 3 ص 134 والبداية والنهاية ج 8 ص 125.
(4) الفخري في الآداب السلكانية ص 105.
(5) الإصابة ج 3 ص 434 والبداية والنهاية.
(6) راجع: شرح النهج للمعتزلي ج 1 ص 187، والنص والاجتهاد هامش ص 281 عنه.
(7) كنز العمال ج 5 ص 436 عن ابن سعد.
كما واحتج معاوية نفسه على صعصعة، وعلى صلحاء الكوفة بتولية عمر له أيضاً (2).. الأمر الذي يعني: أن قول عمر كان قد أصبح كالشرع المتبع، كما أوضحناه في بحثنا حول الخوارج.
وبعد.. فإننا نرى: أن كعب الأحبار يلوح بالخلافة لمعاوية في عهد عثمان (3).. كما أن معاوية نفسه يصرح: بأنه قد دبر الأمر من زمن عمر (4).
ج: التمييز العنصري:
وإن سياسة التمييز العنصري، التي انتهجها الحكام آنئذٍ.. فرووا عن النبي (صلى الله عليه وآله) تفضيل قريش على غيرها، وأن الخلافة في قريش.. واستثنوا بني هاشم (5) حيث لا تجتمع النبوة والخلافة في بيت واحد، وإن كان عمر قد ناقض نفسه في ذلك، بإشراك علي (عليه السلام) في الشورى.
ثم كان التمييز بالعطاء، وتفضيل العرب على غيرهم في ذلك.
ثم كان التمييز العنصري في الإرث، وفي الزواج، وفي العتق، وفي
____________
(1) أنساب الإشراف ج 5 ص 60 وتاريخ ابن خلدون ج 2 قسم 2 ص 143 والغدير ج 9 ص 160 عنهما وعن تاريخ الطبري ج 5 ص 97 وعن الكامل لابن الأثير ج 3 ص 63، وعن تاريخ أبي الفداء ج 1 ص 168. والنصائح الكافية ص 174 عن الطبري.
(2) الغدير ج 9 ص 35 عن المصادر التالية: تاريخ الطبري ج 5 ص 88 ـ 90 والكامل لابن الاثير ج 3 ص 57 ـ 60 وشرح النهج للمعتزلي ج 1 ص 158 ـ 160 وتاريخ ابن خلدون ج 2 ص 387 ـ 389 وأبو الفداء ج 1 ص 168.
(3) البداية والنهاية ج 8 ص 127.
(4) الأذكياء لابن الجوزي ص 28.
(5) مع أن القضية كانت على عكس ذلك تماماً.
____________
(1) راجع حول كل ما يرتبط بتفضيل قريش، والعرب، والتمييز العنصري البغيض، المصادر التالية:
لطف التدبير ص 199 والمسترشد في الإمامة ص 115 والفائق للزمخشري ج 2 ص 353، وتلخيص الشافي ج 4 ص 14 والمعرفة والتاريخ ج 2 ص 483 ومحاضرات الراغب ج 1 ص 351 و ج 3 ص 208 وعيون الأخبار لابن قتيبة ج 1 ص 330 و 268/269 والمحاسن والمساوي ج 2 ص 278 وتاريخ جرجان ص 486 والإلمام ج 1 ص 186 والتراتيب الإدارية ج 2 ص 20 و 21 و 313 و ج 1 ص 205 و 207 و 208 و 225 و 331 و 444 والعقد الفريد ج 3 ص 412 ـ 418 و ج 2 ص 233 وربيع الأبرار ج 1 ص 796 و 810 و 402 والأوائل ج 2 ص 61 والموطأ المطبوع مع تنوير الحوالك ج 2 ص 60 وتاريخ اليعقوبي ج 2 ص 153 و 154 والهدى إلى دين المصطفى ج 2 ص 316 ـ 317 ولسان الميزان ج 1 ص 406 و 354 وكتاب بغداد لطيفور ص 38 وكشف الأستار ج 1 ص 51 و ج 2 ص 161 و 227 و 292 حتى 295 ومجمع الزوائد ج 4 ص 275 و 192 و ج 6 ص 3 و ج 1 ص 89 و ج 10 ص 32 ومسند أحمد ج 4 ص 475 والمجروحون ج 1 ص 129 والخراج لأبي يوسف ص 45 ـ 50 والغدير ج 6 ص 187 وحياة الصحابة ج 2 ص 82 و 230 حتى233 و 413 و 415 و 447 و 753 و 754 و 801 و ج 3 ص 488 عن الطبري ج 5 ص 19 و 23 وعن كنز العمال ج 3 ص 148 و ج 2 ص 215 و 219 وعن البيهقي ج 6 ص 349 و 350 وعن ابن سعد ج 3 ص 122 و 212 و 216 وعن مصادر أخرى. وميزان الاعتدال ج1 ص230 والإيضاح لابن شاذان ص 187 والمنار المنيف ص 101 وأنساب الأشراف (بتحقيق المحمودي) ج 2 ص 141، وشرح النهج للمعتزلي ج 8 ص 109 وبهج الصباغة ج 12 ص 204 وتاريخ الطبري ج 3 ص 273 و ج 2 ص 549 ط الاستقامة والمصنف لعبد الرزاق ج 5 ص 441 و 496 و 497 و 474 و 476 و ج 11 ص 55 و 56 ق و 58 و 325 و 86 و 439 و ج 10 ص 103 و 104 و 302 و 300 و 301 و ج 1 ص 411 و ج 7 ص 278 و 279 و ج 6 ص 47 و ج 4 ص 485 و ج 8 ص 380 وفي هوامشه عن مصادر كثيرة وكنز العمال ص 206 وطبقات ابن سعد ج 4 قسم 1 ص 117 و ج 3 قسم 1 ص 219 ط ليدن و ط صادر ج 2 ص 388 و ج 3 ص 349 و 338 و 345 و 293 و 337 وقضاء أمير المؤمنين للتستري ص 263 و 264 و 265. وثمة كتب أخرى قد تعرضت لبحث هذا الموضوع ولبحث موضوع القومية والقوميات، لا بأس بمراجعتها..
وقد ذكرنا طائفة من النصوص مع مصادرها في كتابنا: سلمان الفارسي في مواجهة التحدي، فراجع.
وإن صح هذا، فيرد سؤال: إنه لماذا تعلم ذلك من كسرى؟ وَلِمَ لَمْ يتعلمه من النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله)؟!!.
وأية خشية كانت لدى كسرى؟! وأية سيرة له أعجبته، فقاس عليها عمل نفسه؟!.
أما سياسة أمير المؤمنين (عليه السلام)، فقد كانت على العكس من ذلك تماماً.
ولم يكن يفضل أحداً على أحد، حيث لم يكن يرى لبني إسماعيل فضلاً على بني إسحاق (2).. ولم يكن يميز أحداً على أحد، لا في العطاء ولا في غيره. وقد أشير عليه بأن يفعل ذلك، فرفض، حيث إنه لم يكن ليطلب النصر بالجور (3)..
وفي مناسبة أخرى، في مقام التدليل على أنه (عليه السلام) يسير فيهم بسيرة الإسلام قال (عليه السلام): «أرأيتم لو أني غبت عن الناس منكان يسير فيهم بهذه السيرة» (4)..
وقد كتب ابن عباس للإمام الحسن (عليه السلام): «وقد علمت أن أباك علياً إنما رغب الناس عنه، وصاروا إلى معاوية، لأنه واسى بينهم في الفيء، وسوى
____________
(1) أحسن التقاسيم ج 18.
(2) الغارات ج 1 ص 74 ـ 77 وأنساب الأشراف، بتحقيق المحمودي ج 2 ص 141، وسنن البيهقي ج 6 ص 349، وحياة الصحابة ج 2 ص 112 عنه والغدير ج 8 ص 240 وبهج الصباغة ج 12 ص 197 ـ 207 وتاريخ اليعقوبي ج 2 ص 183 والكافي (الروضة) ص 69.
(3) الأمالي للمفيد ص 175/176، والأمالي للطوسي ج 1 ص 197/198 والغارات ج 1 ص 75 وبهج الصباغة ج 12 ص 196، ونهج البلاغة بشرح عبده ج 2 ص 10 وشرح النهج للمعتزلي ج 2 ص 197 والإمامة والسياسة ج 1 ص 153 وتحف العقول ص 126 والكافي ج 4 ص 31 وعن البحار ج 8 باب النوادر والوسائل ج 11 ص 81/82.
(4) المصنف ج 10 ص 124.
وقال رجل لأبي عبد الرحمن السلمي: «أنشدك الله، متى أبغضت علياً (عليه السلام)، أليس حينما قسم قسماً في الكوفة، فلم يعطك ولا أهل بيتك؟ قال أما إذا نشدتني، فنعم» (2).
وعل كل حال.. فإن سياسة أمير المؤمنين في العطاء، قد كانت من أهم أسباب خلاف الناس عليه (عليه السلام). والنصوص في ذلك كثيرة (3).
ولكن هذه السياسة العادلة قد أثرت على المدى البعيد آثاراً إيجابية كبيرة، حتى إننا لنجد السودان يثورون على ابن الزبير، انتصاراً لابن الحنفية والهاشميين.
قال عيسى بن يزيد الكناني: «سمعت المشايخ يتحدثون: أنه لما كان من أمر ابن الحنفية ما كان تجمع بالمدينة قوم من السودان غضباً له، ومراغمة لابن الزبير، فرأى ابن عمر غلاماً له فيهم، وهو شاهر سيفه، فقال له: رباح؟
قال: رباح. والله، إنا خرجنا لنردكم عن باطلكم إلى حقنا، فبكى ابن عمر، وقال: «اللهم إن هذا لذنوبنا» (4).
وكان الموالي أيضاً هم أنصار المختار، وكان ذلك هو السبب في تخاذل العرب عن نصرته، كما هو معلوم (5).
وليراجع كتابنا: سلمان الفارسي في مواجهة التحدي للوقوف على كثير من النصوص ومصادرها، مما يدخل في نطاق التمييز العنصري، وآثاره ومناشئه..
____________
(1) الفتوح لابن اعثم ج 4 ص 149 وشرح النهج للمعتزلي ج 16 ص 23 وحياة الحسن بن علي للقرشي ج 2 ص 26 وعن جمهرة رسائل العرب ج 2 ص 1.
(2) بهج الصباغة ج 12 ص 197.
(3) راجع بعض النصوص المهمة في بهج الصباغة ج 12 ص 197 ـ 207، وشرح النهج للمعتزلي ج 7 ص 37 ـ 40.
(4) أنساب الأشراف ج 3 ص 295 بتحقيق المحمودي...
(5) راجع: الخوارج والشيعة ص 228 و 227.
د: استبدال أهل البيت (عليهم السلام) بغيرهم:
كما أن مما زاد في تأكيد رفعة شأن قوم، وخمول ذكر آخرين: أن العرب قد استفادوا كثيراً من تلك الفتوح التي جرت في عهد الخلفاء الثلاثة: أبي بكر، وعمر، وعثمان.. على صعيد التوسعة، والرفاهية المادية، وإرضاء المشاعر القومية.
وقد كان ثمة سياسة تهتم بترسيخ الاعتقاد بأن الولاة والأمراء كانوا هم السبب في ذلك كله.. الأمر الذي ساعد ـ بالإضافة إلى سياسة التمييز العنصري المشار إليها آنفاً ـ على المزيد من التعلق بأولئك الحكام والأمراء، وحب استمرار حكمهم وسلطانهم، وعدم الرغبة في التغيير حتى وإن كان ذلك التغيير لصالح القيم والمثل العليا..
أضف إلى ذلك: أن الخليفتين الأولين كانا يظهران الزهد في الدنيا، والانصراف عنها..
وقد نتج عن ذلك كله.. أن علا شأن قوم، وتألق نجمهم، وخمل ذكر آخرين، وخبت نارهم.. قال أمير المؤمنين عليه الصلاة السلام: مشيراً إلى ذلك: «إن أول ما انتُقِضنا بعده، إبطال حقنا في الخمس، فلما رق أمرنا طمعت رعيان البهم من قريش فينا» (1).
وقال (عليه السلام): «إن العرب كرهت أمر محمد (صلى الله عليه وآله)، وحسدته على ما آتاه الله من فضله، واستطالت أيامه.. حتى قذفت زوجته، ونقرت به ناقته، مع عظيم إحسانه إليها، وجسيم مننه عندها. وأجمعت مذ كان حياً على صرف الأمر عن أهل بيته بعد موته.
____________
(1) أمالي الشيخ المفيد ص 224.
ثم فتح الله عليها الفتوح، فأثرت بعد الفاقه، وتمولت بعد الجهد والمخمصة، فحسن في عيونها من الإسلام ما كان سمجاً، وثبت في قلوب كثير منها من الدين ما كان مضطرباً. وقالت: لو لا أنه حق لما كان كذا..
ثم نسبت تلك الفتوح إلى آراء ولاتها، وحسن تدبير الأمراء القائمين بها، فتأكد عند الناس نباهة قوم، وخمول آخرين، فكنا نحن ممن خمل ذكره، وخبت ناره، وانقطع صوته وصيته، حتى أكل الدهر علينا وشرب، ومضت السنون والأحقاب بما فيها ومات كثير ممن يعرف، ونشأ كثير ممن لا يعرف» (2).
هذا كله.. بالإضافة إلى السياسة التي كانت تهدف إلى القضاء على أهل البيت، وإخماد ذكرهم، وإبطال أمرهم، ففي صفين، في قضية ترتبط بإقدام الحسنين، وابن جعفر على الحرب، نجد أمير المؤمنين (عليه السلام) يشير إلى أن الأمويين لو استطاعوا لم يتركوا من بني هاشم نافخ نار ـ كما سيأتي ـ.
وقال عمرو بن عثمان بن عفان للإمام الحسن (عليه السلام): «ما سمعت كاليوم، إن بقي من بني عبد المطلب على وجه الأرض من أحد بعد قتل الخليفة عثمان.. إلى أن قال: فياذلاه، أن يكون حسن وسائر الناس بني عبد المطلب قتلة عثمان، أحياء يمشون على مناكب الأرض».
ثم تذكر الرواية اتهام عمرو بن العاص، والمغيرة بن شعبة أمير المؤمنين (عليه السلام)، بأنه أراد قتل النبي (صلى الله عليه وآله)، وأنه سم أبا بكر، وشارك في قتل عمر، ثم قتل عثمان (3).
____________
(1) البازل: الذي فطر نابه.
(2) شرح النهج للمعتزلي ج 20 ص 298/299.
(3) الاحتجاج ج 1 ص 403 والبحار ج 44 ص 71.
قال عدي: كله. وإذا ذكر ازداد.
قال معاوية: ما أريد بذلك إلا إخلاق ذكره.
فقال عدي: «قلوبنا ليست بيدك يامعاوية» (1).
واجتمع عند معاوية عمرو بن العاص، والوليد بن عقبة، والمغيرة، وغيرهم، فقالوا له: «إن الحسن قد أحيا أباه وذكره، وقال فصدِّق، وأمر فأطيع، وخفقت له النعال، وإن ذلك لرافعه إلى ماهو أعظم.. ثم طلبوا منه إحضاره للحط منه الخ..»(2). والشواهد على ذلك كثيرة..
وقد بدأت بوادر نجاح هذه السياسة تجاه أهل البيت تظهر في وقت مبكر، ويكفي أن نشير إلى ما تقدم من أن عمر يسأل عمن يقول الناس: إنه يتولى الأمر بعده، فلا يسمع ذكراً لعلي (عليه السلام).
هـ: عقائد جاهلية وغريبة:
ثم يأتي دور الاستفادة من بعض العقائد الجاهلية، أو العقائد الموجودة لدى أهل الكتاب، وذلك من أجل تكريس الحكم لصالح أولئك المستأثرين، والقضاء على مختلف عوامل ومصادر المناوأة والمنازعة لهم. هذه العقائد التي قاومها الأئمة بكل ما لديهم من قوة وحول..
____________
(1) الفتوح لابن أعثم ج 3 ص 134.
(2) شرح النهج للمعتزلي ج 6 ص 285 والاحتجاج ج 1 ص 402 والبحار ج 44 ص 70 والغدير ج 2 ص 133 عن المعتزلي وعن المفاخرات للزبير بن بكار، وعن جمهرة الخطب ج 2 ص 12. ونقل عن شرح النهج للآملي ج 18 ص 288 وعن أعيان الشيعة ج 4 ص 67.
تركيز الاعتقاد بلزوم الخضوع للحاكم، مهما كان ظالماً ومتجبراً وعاتباً ـ وهي عقيدة مأخوذة من النصارى، حسب نص الإنجيل (1) ـ وقد وضعوا الأحاديث الكثيرة على لسان النبي محمد (صلى الله عليه وآله) لتأييد ما يرمون إليه في هذا المجال (2) وقد أصبح ذلك من عقائدهم (3).
ومن قبيل الإصرار على عقيدة الجبر، التي هي من بقايا عقائد المشركين، وأهل الكتاب (4). الأمر الذي يعني: أن كل تحرك ضد حكام الجور لا يجدي
____________
(1) راجع رسالة بولس إلى أهل رومية، وراجع الهدى إلى دين المصطفى ج 2 ص 316.
(2) راجع: سنن البيهقي ج 8 ص 157 و 159 و 164 و ج 4 ص 115 و ج 6 ص 310. وصحيح مسلم ج 6 ص 17 و 20 ج 2 ص 119 و 122 وكنز العمال ج 5 ص 465 و ج 3 ص 168 و 167 و 170 والعقد الفريد ج 1 ص 8 و 9 والمصنف لعبد الرزاق ج 11 ص 329 ـ 335 و 339 ـ 344 ولباب الآداب ص 260 والدر المثور ج 2 ص 177 و178 و 176 ومقدمة ابن خلدون ص 194 والإسرائيليات في التفسير والحديث، ونظرية الإمامة ص 417 وقبلها وبعدها، وتاريخ بغداد ج 5 ص 274 وطبقات الحنابلة ج 3 ص 58 و ص 56، والإبانة للأشعري ص 9 ومقالات الإسلاميين ج 1 ص 323 ومسند أحمد ج 2 ص 28 و ج 4 ص 382/383 البداية والنهاية ج 4 ص 249 و 226 ومجمع الزوائد ج 5 ص 229 و 224 وحياة الصحابة ج 2 ص 68 و 69 و 72 و ج 1 ص 12 والإصابة ج 2 ص 296 والكنى والألقاب ج 1 ص 167 والاذكياء ص 142 و الغدير ج 7 ص 136 حتى ص 146 و ج 6 ص 117 و 128 و ج 9 ص 393 و ج 10 ص 46 و 302 و ج 8 ص 256 ومستدرك الحاكم ج 3 ص 513 و 290 والسنة قبل التدوين ص 467 ونهاية الإرب ج 6 ص 12 و 13 ولسان الميزان ج 3 ص 387 و ج 6 ص 226 عن أبي الدرداء رفعه: «صلوا خلف كل إمام، وقاتلوا مع كل أمير» وراجع: المجروحون لابن حبان ج 2 ص 102.
(3) راجع كتابنا: الحياة السياسية للإمام الرضا (ع) ص 312 متناً وهامشاً.
(4) راجع: الكفاية في علم الرواية للخطيب ص 166 وجامع بيان العلم ج 2 ص 148 و 149 و 150 وضحى الإسلام ج 3 ص 81 وشرح نهج البلاغة للمعتزلي ج 1 ص 340 و ج 12 ص 78/79 وقاموس الرجال ج 6 ص 36، والإمامة والسياسة ج 1 ص 183 والغدير ج 9 ص 34 و 95 و 192 و ج 5 ص 365 و ج 10 ص 333 و 245 و 249 و ج 7 ص 147 و 154 و 158 و ج 8 ص132 والإخبار الدخيلة (المستدرك)
=>
ثم هناك عقيدة: أنه لا تضر مع الإيمان معصية. وأن الإيمان اعتقاد بالقلب، وإن أعلن الكفر..
قالوا: «الإيمان عقد بالقلب، وإن أعلن الكفر بلسانه بلا تقية، وعبد الأوثان، أو لزم اليهودية، أو النصرانية في دار الإسلام، وعبد الصليب، وأعلن
____________
<=
ج 1 ص 193 و 197 ومقارنة الإديان (اليهودية) ص 271 و 249 وأنيس الأعلام ج 1 ص 279 و 257 والتوحيد وإثبات صفات الرب ص 82 و 80 و 81 ومقدمة ابن خلدون ص 143 و 144 والإغاني ج 3 ص 76، وتأويل مختلف الحديث ص 35 والعقد الفريد ج 1 ص 206 و ج 2 ص 112 وتاريخ الطبري ط الاستقامة ج 2 ص 445 وبحوث مع أهل السنة والسلفية من ص 43 حتى 49 عن العديد من المصادر، والمغزي للواقدي ص 904 وربيع الأبرار ج 1 ص 821 والموطأ ج 3 ص 92 و 93 وطبقات ابن سعد ج 7 ص 417 و ج 5 ص 148 وأنساب الأشراف (بتحقيق المحمودي) ج 2 ص 265 و 83 /84 ومصابيح السنة للبغوي ج 2 ص 67 ومناقب الشافعي ج 1 ص 17 والبخاري ج 8 ص 208 وفي خطط المقريزي ج 3 ص 297: إن جهماً انفرد بالقول بجواز الخروج عل السلطان الجائر.. وحياة الصحابة ج 2 ص 12 و 95 و 94 و 330 و ج 3 ص 229 و 487 و 492 و 501 و 529 عن المصادر التالية: كنز العمال ج 3 ص 138/139 و ج 8 ص 208 و ج 1 ص 86. وصحيح مسلم ج 2 ص 86 وأبي داود ج 2 ص 16 والترمذي ج 1 ص 202 وابن ماجة ج 1 ص 209 وسنن البيهقي ج 9 ص 50 و ج 6 ص 349 ومسند أحمد ج 5 ص 245 ومجمع الزوائد ج 6 ص 3 و ج 1 ص 135 والطبري في تاريخه مقتل برير و ج 4 ص 124 و ج 3 ص 281 والبداية والنهاية ج 7 ص 79. انتهى.
والمعتزلة ص 7 و 87 و 39/40 و 91 و 201 و 265 عن المصادر التالية: المنية والأمل ص 12 وعن الخطط ج 4 ص 181/182 و 186 والملل والنحل ج 1 ص 97/98 والعقائد النسفية ص 85 ووفيات الأعيان ص 494 والإمام الصادق والمذاهب الأربعة ج 3 ص 45 عن الطبري ج 6 ص 33 و ج 3 ص 207 وعن الترمذي ص 508 في رسالة عمر بن عبد العزيز..
والتصريح بذلك في الكتب الكلامية، وكتب فرق أهل السنة، لا يكاد يحصى كثرة. وكنت قد جمعت فيما مضى قسماً كبيراً من كلمات التوراة وغيرها حول هذا الموضوع، أسأل الله التوفيق لإتمامه.
وهذه العقيدة، وإن كانت هي عقيدة المرجئة، إلا أنها كانت عامة في الناس آنئذٍ، حيث لم يكن المذهب العقائدي لأهل السنة قد غلب وشاع بعد.
ومعنى هذا.. هو أن الحكام مؤمنون مهما ارتكبوا من جرائم وعظائم.
بل إنهم ليقولون: إن يزيد بن عبد الملك أراد أن بسيرة عمر عمر بن عبد العزيز، فشهد له أربعون شيخاً: أن ليس على الخليفة حساب ولا عذاب (2).
وحينما دعا الوليد الحجاج ليشرب النبيذ معه، قال له: «يا أمير المؤمنين، الحلال ما حللت» (3).
بل إننا لنجد الحجاج نفسه يدَّعي نزول الوحي عليه، وأنه لا يعمل إلا بوحي من الله تعالى (4).. كما يدعي نزول الوحي على الخليفة أيضاً (5)..
و: قدسية النبي (صلى الله عليه وآله):
هذا كله.. فضلاً عن سياستهم القاضية بتقليص نسبة الاحترام والتقديس للرسول (صلى الله عليه وآله)، وتفضيل الخليفة عليه.. بل وسلب معنى العصنة عن النبي (صلى الله عليه وآله)، حتى لقد قالت قريش ـ في حياة الرسول ـ في محاولة منها لمنع عبد الله بن عمرو بن العاص من كتابه أقواله (صلى الله عليه وآله): إنه بشر يرضى
____________
(1) الفصل في الملل والأهواء والنحل ج 4 ص 204.
(2) البداية والنهاية ج 9 ص 232 وراجع: تاريخ الخلفاء ص 246 وراجع ص 223.
(3) تهذيب تاريخ دمشق ج 4 ص 70.
(4) تهذيب تاريخ دمشق ج 4 ص 73 وراجع الإمام الصادق والمذاهب الأربعة ج 1 ص 115.
(5) تهذيب تاريخ دمشق ج 4 ص 72.
بل لقد حاولوا المنع من التسمية باسمه (صلى الله عليه وآله)، وقد نجحوا في ذلك بعض الشيء (2)..
كما أن معاوية يتأسف، لأنه يرى: أن اسم النبي المبارك يذكر في الاذان ويُقْسِم على دفن هذا الاسم (3)..
إلى غير ذلك من الوقائع الكثير جداً.. وقد ذكرنا شطراً منها في تمهيد كتابنا: الصحيح من سيرة النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله)، فمن أراده فليراجعه.
ولعل ذلك قد كان يهدف إلى فسح المجال للمخالفات، التي كان يمكن أن تصدر عن الحكام، والتقليل من شأن وأثر وأهمية ما كان يصدر عنه (صلى الله عليه وآله) من أقوال ومواقف سلبية تجاه بعض أركان الهيئة الحاكمة، أو من تؤهلهم لتولي الأمور الجليلة في المستقبل، ثم التقليل من شأن مواقفه (صلى الله عليه وآله) الإيجابية تجاه خصوم الهيئة الحاكمة، أو من ترى فيهم منافسين لها.
ز: تولية المفضول:
ويدخل أيضاً في خيوط هذه السياسة: القول بجواز تولية المفضول مع
____________
(1) راجع: سنن الدرامي ج 1 ص 125 وجامع بيان العلم ج 1 ص 85 وليراجع ج 2 ص 62 و 63 ومستدرك الحاكم ج 1 ص 104/105 وتلخيصه للذهبي بهامشه وليراجع أيضاً سنن أبي داود ج 3 /318 والزهد والرقائق ص 315 والغدير ج 11 ص 91 و ج 6 ص 308 و 309 والمصنف لعبد الرزاق ج 7 ص 34 و 35 و ج 11 ص 237 وإحياء علوم الدين ج 3 ص 171 وتمهيد كتابنا: الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلى عليه وآله وسلم.. وغير ذلك كثير.
(2) الغدير ج 6 ص 309 عن عمدة القاري ج 7 ص 143 والجزء الأول من كتابنا: الصحيح في سيرة النبي (ص).
(3) الموفقيات ص 577 ومروج الذهب ج 3 ص 454 وشرح النهج للمعتزلي ج 5 ص 129 و 130 وقاموس الرجال ج 9 ص 20.