المأمون يدرك حراجة الموقف:
تلك هي باختصار حالة الحكم العباسي بشكل عام. وحالة المأمون، وظروفه في الحكم بشكل خاص.. في تلك الفترة من الزمن.. وقد اتضح لنا بجلاء: أن الوضع كان بالنسبة إلى المأمون، ونظام حكمه، قد ازداد سوءاً، بعد وصول المأمون إلى الحكم، وتضاعفت الأخطار، التي كان يواجهها، وأصبح ـ هو وعرشه ـ في مهب الريح. وتحت رحمة الأنواء..
وإذا كان ليس من الصعب علينا: أن نتصور مدى الخطر الذي كان يتهدد المأمون، وخلافته، وبالتالي مستقبل الخلافة العباسية بشكل عام.. فإنه من الطبيعي أن لا يكون من الصعب على المأمون أفعى الدهاء والسياسة أن يدرك ـ بعمق، إلى أي حد كان مركزه ضعيفاً، وموقفه حرجاً، حيث إنه هو الذي كان يعيش ـ أكثر من أي إنسان آخر ـ في ذلك الخضم الزاخر بالمشاكل، والمتاعب، والأخطار. وخصوصاً وهو يواجه الثورات. وبالأخص ثورات العلويين، أقوى خصوم الدولة العباسية، تظهر من كل جانب ومكان، وكل ناحية من نواحي مملكته. كما أنه لم يكن ليصعب عليه أن يدرك أن الكثير من المشاكل التي يعاني منها إنما كان نتيجة السياسات الرعناء. التي انتهجها أسلافه، مع الناس عامة، ومع العلويين خاصة. وأن يدرك أن الاستمرار في تلك السياسة. أو حتى مجرد الاهمام، والتواني في علاج الوضع، سوف يكون من أبسط نتائجه أن تلقى خلافة العباسيين على أيدي العلويين نفس المصير الذي لقيته خلافة الأمويين على أيدي أسلافه من قبل..
ماذا يمكن للمأمون أن يفعل:
ولكن.. وبعد أن نجح المأمون في الوصول إلى ما كان يتمناه، وهو
وأيضاً.. إذا كانت ثورات العلويين، فضلاً عن غيرهم.. تظهر من كل جانب ومكان.. وإذا كان الكثيرون، بل عامة المسلمين لم يبايعوا له بعد..
وهكذا إلى آخر ما تقدم. فهل يمكن للمأمون أن يقف تجاه كل تلك العواصف، والأنواء التي تتهدده، ونظام حكمه، مكتوف اليدين؟!
وماذا يمكن للمأمون بعد هذا أن يفعل، ليبقى محتفظا بالحكم والسلطان، الذي هو أعز ما في الوجود عليه؟!.
هذا ـ ما سوف نحاول الإجابة عليه في الفصل التالي.
ظروف البيعة وأسبابها
إنقاذ الموقف!. كيف؟!
قد قدمنا في الفصل السابق لمحة عن ظروف المأمون في الحكم، وأشرنا إلى أن الوضع كان يزداد سوءا يوماً عن يوم.. وإلى أنه كان لا بد للمأمون من التحرك، والعمل بسرعة، شرط أن لا يزيد الفتق اتساعا، والطين بلة. وأن يستعمل كل ما لديه من حنكة ودهاء، في سبيل إنقاذ نفسه، ونظام حكمه، وخلافة العباسيين بشكل عام..
وكان المأمون يدرك: أن إنقاذ الموقف يتوقف على:
1 ـ إخماد ثورات العلويين، الذين كانوا يتمتعون بالاحترام والتقدير، ولهم نفوذ واسع في جميع الفئات والطبقات..
2 ـ أن يحصل من العلويين على اعتراف بشرعية خلافة العباسيين. وليكون بذلك قد أفقدهم سلاحا قويا، لن يقر له قرار، إذا أفقدهم إياه..
3 ـ استئصال هذا العطف، وذلك التقدير والاحترام. الذي كانوا يتمتعون به، وكان يزداد يوماً عن يوم ـ استئصاله ـ من نفوس الناس نهائياً، والعمل على تشويههم أمام الرأي العام، بالطرق، والأساليب
4 ـ اكتساب ثقة العرب ومحبتهم..
5 ـ استمرار تأييد الخراسانيين، وعامة الإيرانيين له.
6 ـ إرضاء العباسيين، والمتشيعين لهم، من أعداء العلويين.
7 ـ تعزيز ثقة الناس بشخص المأمون، الذي كان لقتله أخاه أثر سيء على سمعته، وثقة الناس به.
8 ـ وأخيراً.. أن يأمن الخطر الذي كان يتهدده من تلك الشخصية الفذة، التي كانت تملأ جوانبه فرقاً، ورعباً.. وأن يتحاشى الصدام المسلح معها. ألا وهي شخصية الإمام الرضا (عليه السلام)، وأن يمهد الطريق للتخلص منها، والقضاء عليها، قضاء مبرماً، ونهائياً.
لا بد من الاعتماد على النفس:
وبعد هذا.. فإن من الواضح أن المأمون كان يعلم قبل كل أحد، أنه:
لم يكن يستطيع أن يستعين في مواجهة تلك المشاكل بالعباسيين، بني أبيه، بعد أن كانوا ينقمون عليه، قتله أخاه، العزيز عليهم، وعلى العرب، وبعد مواقفه، التي تقدم بيان جانب منها تجاههم.. وأيضاً. بعد أن كانوا لا يثقون به، ولا يأمنون جانبه، بسبب موقفهم السابق منه.
والأهم من ذلك أنه لم يكن فيهم الرجال الكفاة، الذين يستطيع
وفيه يقول دعبل:
نعر ابن شكلة بالعراق وأهلـه | فهفا إليه كل أطلس مائـــق |
إن كان إبراهيم مضطلعا بهـا | فلتصلحن من بعده لمخــارق |
ولتصلحن من بعد ذاك لزلزل | ولتصلحن من بعده للمــارق |
أنى يكون. وليس ذاك بكائن | يرث الخلافة فاسق عن فاسق(2) |
كما أنه عندما أصبح إبراهيم هذا خليفة، قال بعض الأعراب، عندما جاء الخبر بأنه: لا مال عند الخليفة ليعطي الجند، الذين ألحوا في طلب أعطياتهم، قال: «فليخرج الخليفة إلينا، فليغن لأهل هذا الجانب ثلاثة أصوات، فتكون عطاءهم، ولأهل هذا الجانب مثلها..» فقال في ذلك دعبل ـ شاعر المأمون ـ يذم إبراهيم بن المهدي:
يا معشر الأجناد لا تقنطــوا | خذوا عطاياكم، ولا تسخطوا |
فسوف يعطيكم حنينيــــة | لا تدخل الكيس، ولا تربـط |
والمعبديات لقوادكـــــم | وما بها من أحد يغبــــط |
فهكذا يرزق أصحابــــه | خليفة مصحفه البربـــط(3) |
____________
(1) وقد كان بينهم الكثيرون في أول عهد الدولة العباسية. ونقصد ب «الكفاءة» هنا: الكفاءة الظاهرية، التي يقرها منطق الجبارين المتغطرسين، لا الكفاءة الحقيقية التي يريدها الله، وجاء بها محمد. وقد أشرنا إلى ذلك من قبل.
(2) وفيات الأعيان، طبع سنة 1310 ه ج 1 ص 8. والورقة لابن الجراح ص 22، ومعاهد التنصيص ج 1 ص 205، والشعر والشعراء ص 541، والكنى والألقاب ج 1 ص 330. والأطلس: هو الرجل يرمى بالقبيح..
(3) معاهد التنصيص ج 1 ص 205، 206، وشرح ميمية أبي فراس ص 281، والبداية والنهاية ج 10 ص 290، والبحار ج 49 ص 143، والغدير ج 2 ص
=>
وأما العرب: فهو أعرف الناس بحقيقة موقفهم منه.
والخراسانيون: لا يستطيع أن يعتمد على ثقتهم به طويلا، بعد أن كشف لهم عن حقيقته وواقعه الأناني البشع، بقتله أخاه، وإبعاده طاهرا بن الحسين، مشيد أركان حكمه، عن مسرح السياسة: «ولقد ذكره الرضا بذلك. عندما استعرض معه حقيقة الوضع القائم آنذاك.».
أي الأساليب أنجع:
وبعد ذلك.. فإنه من الواضح أنه:
لم يكن لينقذ الموقف القسوة والعنف، وهو الذي يعاني المأمون من نتائجه السيئة ما يعاني.
ولا المنطق والحجاج، لأن العلويين ـ بناء على ما شاع عند الأمة، بتشجيع من خلفائها، من أن السبب في استحقاق الخلافة، هو القربى النسبية منه (صلى الله عليه وآله) ـ إن العلويين بناء على هذا: أقوى حجة من العباسيين، لأنهم يمتلكون اعترافاً صريحاً منهم بأن المستحق للخلافة هو
____________
<=
377، والأغاني ج 18 ص 68، و ص 101 طبع دار الفكر، والورقة لابن الجراح ص 22، ونزهة الجليس ج 1 ص 404، وعيون أخبار الرضا ج 2 ص 166، والحنينيات: منسوبة إلى حنين النجفي العبادي. المغني المشهور، والمعبديات: منسوبة إلى معبد المغني المشهور، والبربط: ملهاة، تشبه العود، وهو فارسي معرب. وأصله: بربت: لأن الضارب يضعه على صدره.. انتهى عن نزهة الجليس.
هذا.. وإذا ما أراد العباسيون، أو غيرهم الاحتجاج بالأهلية والجدارة لقيادة الأمة. فإن العلويين لا يدانيهم أحد في ذلك، وذلك لما كانوا يتمتعون به من الجدارة والأهلية الذاتية لقيادة الأمة قيادة صالحة وسليمة..
وأما النص فمن هو ذلك الذي يجرؤ على الاستدلال به، وهو يرى أنه كله في صالح آل علي، وأئمة أهل البيت منهم بالخصوص.
وهكذا.. نرى ويرى المأمون: أنه لم يكن لينقذ الموقف أي من تلك الأساليب، ولا غيرها من الطرق والأساليب الملتوية، واللاإنسانية، التي اتبعها أسلافه من قبل.
وإذن.. فلا بد وأن يعود السؤال الأول ليطرح نفسه بكل جدية.
والسؤال هو: ماذا يمكن للمأمون إذن أن يفعل؟! وكيف يقوي من دعائم حكمه، الذي هو بالنسبة إليه كل شيء، وليس قبله، ولا بعده شيء.. حتى لا يطمع فيه طامع، ولا تزعزعه العواصف، ولا تنال منه الانواء، مهما كانت هوجاء وعاتية؟!.
خطة المأمون:
وكان أن اتبع المأمون من أجل إنقاذ موقفه، الذي عرفت أنه يتوقف على نقاط ثمانية.. ومن أجل الاحتفاظ بالخلافة لنفسه، وأن تبقى في بني أبيه ـ كان أن اتبع ـ أسلوباً جديداً، وغيبيا، لم يكن مألوفاً، ولا معروفاً من قبل.. وأحسب أن لم يتوصل إليه إلا بعد تفكير طويل، وتقييم عام وشامل للوضع الذي كان يعيشه، والمشاكل التي كان يواجهها.
لقد كانت خطته غريبة وفريدة من نوعها، وكانت في غاية الإتقان، والإحكام في نظره.
لا يذكر أحداً من الخلفاء، ولا غيرهم من الصحابة بسوء، بل هو يتحرج من المساس بغير الصحابة، وحتى بأولئك الذين كان حالهم في الخروج على الدين، وتعاليم الشريعة، معروفاً ومشهوراً «كالحجاج بن يوسف»! وذلك من أجل أن لا يثير عواطف أولئك الذين يلتقي معهم فكرياً وسياسياً، ومصلحياً، والذين سوف يكونون له في المستقبل الدرع الواقي، والحصن الحصين..
فاستمع إليه يقول ـ كما يروي لنا التغلبي المعاصر له: «.. وظنوا أنه لا يجوز تفضيل علي إلا بانتقاص غيره من السلف! والله، ما أستجيز أن أنتقص الحجاج بن يوسف، فكيف بالسلف الطيب؟!»(1).
وكذلك نراه يركن إلى رأي يحيى بن أكثم، الذي قال له ـ عندما أراد الإعلان بسب معاوية على المنابر ـ: «والرأي أن تدع الناس كلهم على ما هم عليه، ولا تظهر أنك تميل إلى فرقة من الفرق، فإن ذلك أصلح في السياسة، وأحرى في التدبير..»، ثم يدخل عليه ثمامة، فيقول له المأمون: «يا ثمامة، قد علمت ما كنا دبرناه في معاوية، وقد عارضنا رأي هو أصلح في تدبير المملكة، وأبقى ذكراً في العامة الخ.»(2).
وأيضاً.. نرى شعره الذي يرويه لنا غير واحد:
أصبح ديني الذي أدين به | ولست منه الغداة معتذرا |
حب علي بعد النبـي ولا | أشتم صديقا ولا عمـرا |
____________
(1) عصر المأمون ج 1 ص 369، نقلاً عن: تاريخ بغداد، لابن طيفور ج 6 ص 75.
(2) المحاسن والمساوي ص 141، وضحى الإسلام ج 2 ص 58، و ج 3 ص 152، و 156، وعصر المأمون ج 1 ص 371، والموفقيات ص 41، وكتاب بغداد ص 54.
ثم ابن عفان في الجنان مع | الأبرار ذاك القتيل مصطبرا |
ألا ولا أشتم الزبيــر ولا | طلحة إن قال قائل غــدرا |
وعائش الأم لست أشتمـها | من يفتريها فنحن منه برا(1) |
ونراه أيضاً يتجسس على عبد الله بن طاهر، ليعلم: هل له ميل إلى آل أبي طالب أو لا(2).
ونراه يقدم على قتل الرضا (عليه السلام)، وإخوته، وآلاف من العلويين غيرهم، ويصدر أمراً لأمرائه، وقواده بالقضاء عليهم، وفض جمعهم، كما سيأتي.
ونراه كذلك.. يرسل إلى عامله على مصر، يأمره بغسل المنابر، التي دعي عليها لعلوي [هو الإمام الرضا (عليه السلام)].. إلى غير ذلك مما لا مجال لنا هنا لاستقصائه..
بينما نراه كذلك..
نراه من جهة ثانية
يقدم على الإعلان ببراءة الذمة ممن يذكر معاوية بن أبي سفيان بخير أي أنه أراد أن يجعل تفضيل علي (عليه السلام)، والبراءة من معاوية ديناً رسمياً، يحمل الناس كلهم عليه، كما كان الحال بالنسبة لقضية خلق القرآن..
وقضية الإعلان بسب معاوية، وإن كان الإقدام عليه في سنة 212 ه. لكن تفضيله علياً، على جميع الخلق، وتقربه لولده، وإظهاره التشيع
____________
(1) البداية والنهاية ج 10 ص 277، وفوات الوفيات ج 1 ص 241، ما عدا البيت الرابع.
(2) الطبري ج 11 ص 1094، طبع ليدن، والعقد الفريد للملك السعيد ص 84، 85، وتجارب الأمم ج 6 المطبوع مع العيون والحدائق ص 461.
ثم نراه بعد ذلك يبيح المتعة، ويصف الخليفة الثاني، عمر بن
____________
(1) قال في النجوم الزاهرة ج 2 ص 201، 202،، ومثله في تاريخ الخلفاء للسيوطي ص 308، وغيرهما: «أن المأمون كان يبالغ في التشيع، ويقول: إن أفضل الخلق بعد النبي علي بن أبي طالب. وأمر أن ينادى ببراءة الذمة ممن يذكر معاوية بخير، لكنه لم يتكلم في الشيخين بسوء بل كان يترضى عنهما، ويعتقد إمامتهما.».
وهذا بعينه هو مذهب المعتزلة في بغداد ابتداء من بشر بن المعتمر، وبشر بن غياث المريسي وغيرهم من معتزلة بغداد، حتى لقد قال بشر المريسي المعتزلي المعروف على ما في البداية والنهاية ج 10 ص 279:
قد قال مأموننا وسيدنــا | قولاً له في الكتب تصديق |
إن علياً أعني أبا حسـن | خير من قد أقلت النـوق |
بعد نبي الهدى، وإن لنا | أعمالنا والقرآن مخلـوق |
وصرح بأنه يذهب مذهب المعتزلة كثيرون، منهم: البداية والنهاية ج 10 ص 275، وضحى الإسلام ج 3 ص 295، وإمبراطورية العرب ص 600، وغيرهم، بل لقد قال خيري حماد، في تعليقته على ص 601، من إمبراطورية العرب بقوله: «أجمعت كتب التاريخ العربي على أن المأمون مال إلى الأخذ بمذهب المعتزلة، فقرب أتباع هذا المذهب إليه إلخ.»، ويدل على ذلك أيضاً أقوال. وأشعار المأمون المتقدمة.. ولعل وصف بعض المؤرخين بالتشيع هو الذي أوهم البعض بأن المأمون كان يتشيع بالمعنى المعروف للتشيع، فجزم بذلك، وبدأ يحشد الدلائل، والشواهد، التي لا تسمن، ولا تغني من جوع، وقد غفل عن أنهم يقصدون بكلمة «التشيع» المعنى اللغوي، لا المعنى الخاص المعروف الآن..
وبعد.. فإن من الواضح: أن عقيدة المأمون تلك، لم تكن تثمر على الصعيد العملي العام، فإنه كان من السياسيين. الذين لا ينطلقون في سلوكهم، ومواقفهم الخارجية ن منطلقات عقائدية، ومفاهيم إنسانية. وإنما يكون المنطلق لهم في مواقفهم، وتصرفاتهم، هو ـ فقط ـ مصالحهم الشخصية، وما له مساس في استمرار فرض سلطتهم، وتأكيد سيطرتهم..
ونراه أيضاً أنه عندما سأل أصحابه عن: أنبل من يعلمون نبلاً، وأعفهم عفة، فقال له علي بن صالح: «أعرف القصة في عمر بن الخطاب، فأشاح بوجهه، وأعرض، وذكر كلاما ليس من جنس هذا الكتاب، فنذكره، إلخ..»(2) على حد تعبير البيهقي.. وذكر طيفور: أن أبا عمر الخطابي دخل على المأمون: فتذاكروا عمر بن الخطاب فقال المأمون: إلا أنه غصبنا، فقال له أبو عمر يا أمير المؤمنين، يكون الغصب إلا بحق يد فهل كانت لكم يد، قال فسكت المأمون عنه، واحتملها له(3).
ولكن اعتراض الخطابي اعتراض بارد وتوجيه فاسد فهل الخلافة من الأموال أم هي حق جعله الله لهم؟ ولا ندري سر سكون المأمون عنه، واحتماله منه، إلا ما قدمناه..
بل إن الأهم من ذلك كله.. أننا نراه يصف الخلفاء الثلاثة، وغيرهم من الصحابة بأنهم: «ملحدين» ناسياً، أو متناسياً كل أقواله السابقة، وخصوصاً شعره، وقوله: إنه يتحرج حتى من تنقص
____________
(1) وفيات الأعيان ترجمة يحيى بن أكثم ج 2 / 218 ط سنة 1310 ه والسيرة الحلبية ج 3 / 46 والنص والاجتهاد ص 193، وفي قاموس الرجال 9 / 397، نقلاً عن الخطيب في تاريخ بغداد: أنه كان يقول: «ومن أنت يا أحول الخ..» ولا يخفى أنهم أرادوا تلطيف العبارة بقدر المستطاع، فحرفوها إلى ما ترى.
هذا.. وقد يرى البعض: أن تفضيله علياً، وإعلانه بسب معاوية، وإباحته المتعة، وقوله بخلق القرآن، ليس إلا لإشغال الناس بعضهم ببعض، وصرف الناس عن التفكير بالخلافة، التي هي أعز ما في الوجود عليه، والتي ضحى من أجلها بأخيه، وأشياعه، ووزرائه، وقواده. وكذلك من أجل صرف الناس عن أهل البيت (عليهم السلام)، وإبعادهم عنهم.. ولعل هذا الرأي لا يعدم بعض الشواهد التاريخية، التي تؤيده، وتدعمه.
(2) المحاسن والمساوي ص 150.
(3) كتاب بغداد ص 51.
ومن غاو يغص علي غيظاً | إذا أدنيت أولاد الوصــــي |
يحاول أن نور الله يطفـى | ونور الله في حصن أبــــي |
فقلت: أليس قد أوتيت علماً | وبان لك الرشيد من الغــوي |
وعرفت احتجاجي بالمثاني | وبالمعقول والأثر الجلــي(1) |
بأية خلة، وبأي معنــى | تفضل «ملحدين» على «علي» |
علي أعظم الثقلين حقــاً | وأفضلهم سوى حق النبــي(2) |
بل وزاد على ذلك وضرب العقيدة التي تقدم أن العباسيين قد أتوا بها لمقابلة العلويين وروجوا لها من أن الحق كان للعباس وأنه أجاز علياً فصحت خلافته وذلك بأن أظهر تقديم علي على العباس فقد قال السندي بن شاهك للفضل بن الربيع يوماً عن المأمون: «سمعته اليوم قدم علي بن أبي طالب على العباس بن عبد المطلب، وما ظننت أني أعيش حتى أسمع عباسياً يقول هذا، فقال الفضل له: تعجب من هذا؟ هذا والله كان قول أبيه قبله»(3) ولكن الظاهر: أن أباه كان يكتم ذلك حتى خفي على مثل السندي المقرب، لكن الآن قد اضطرت السياسة المأمون إلى الجهر بذلك، وإظهاره.
وهكذا.. فإن المأمون لم يكن يرى أن بين كل تصرفاته المتقدمة أي تناقض، أو منافاة، بل كانت كلها في نظره صحيحة، ومنطقية، لأنها كانت في ظروف مختلفة، وكان لا بد له من مسايرة تلك
____________
(1) القوي خ ل.
(2) المحاسن والمساوي، طبع دار صادر ص 68، وطبع مصر ج 1 / 105.
(3) كتاب بغداد ص 7.
وأيضاً. لا بد من خطوة أخرى.
ولكن ذلك وحده لم يكن كافياً لإخماد ثورات العلويين، ولا لتحقيق كافة الأهداف، التي قدمنا، وسيأتي شطر منها. فكانت خطوته التالية غريبة ومثيرة في نفس الوقت، لكنها إذا ما أخذت الظروف آنذاك بنظر الاعتبار يتضح أنها كانت طبيعية للغاية. ألجأته إليها الظروف والأحداث.
وتلك الخطوة هي: «أخذ البيعة للإمام علي الرضا (عليه السلام) بولاية العهد بعده..» وجعله أمير بني هاشم طراً، عباسيهم، وطالبيهم(1)، ولبس الخضرة.
لم يبق إلا خيار واحد:
ومن نافلة القول هنا: أن نقول: إن ذلك يدل على فهم المأمون للداء، مما ساعده على معرفة الدواء، الذي تجرعه المأمون ـ رغم مرارته القاسية، التي لم تكن لتقاس أبداً بما سوف يعقبها من راحة وطمأنينة وهناء ـ تجرعه ـ بكل رضا، ورجولة، وشجاعة.
إن المأمون ـ على ما أعتقد ـ وإن كان قد ثقل عليه أمر البيعة لرجل غريب، ومن أسرة هي أقوى وأخطر المنافسين للحكم العباسي في
____________
(1) غاية الاختصار ص 68.
ما الحيلة له.. بعد أن رأى أنه لن تنقاد له الرعية والقواد، ولن تستقيم له الأمور إلا إذا أقدم على مثل تلك اللعبة الجريئة.
ولقد صرح المأمون نفسه للريان، بعد أن أخبره الريان بأن الناس يقولون: بأن البيعة للإمام كانت من تدبير الفضل بن سهل ـ صرح بقوله: «.. ويحك يا ريان، أيجسر أحد أن يجئ إلى خليفة، قد استقامت له الرعية، والقواد، واستوت له الخلافة، فيقول له: إدفع الخلافة من يدك إلى غيرك؟ أيجوز هذا في العقل؟!(1).».
مع رسالة الفضل بن سهل للإمام:
وكاتب الإمام، وألح عليه، وكاتبه الفضل بن سهل أيضاً.. وبما أن في رسالة الفضل مواضع جديرة بالملاحظة، فقد أحببت أن أشير ـ باختصار ـ إلى بعض ما يمكن استخلاصه من هذه الرسالة.
كما أنني أوردت نص هذه الرسالة بتمامه مع الوثائق الهامة، ليطلع القارئ عليها بنفسه، ويستخلص منها ما يراه مناسباً وضرورياً..
أما الملاحظات التي رأيت أن من الضروري الإشارة إليها هنا، فتتلخص بما يلي:
____________
(1) أعيان الشيعة ج 4 قسم 2 ص 113، والبحار ج 49 / 137، وعيون أخبار الرضا ج 2 / 151، ومسند الإمام الرضا ج 1 / 75.
ملاحظات لا بد منها:
أول ما يطالعنا في هذه الرسالة هو استعمال الفضل لكلمة: «الرضا»، التي تنص وثيقة العهد، وغيرها: على أن المأمون هو الذي جعلها لقباً للإمام (عليه السلام) ـ كما سيأتي ـ.. فإطلاق الفضل بن سهل لكلمة «الرضا» عليه (عليه السلام) يجعلنا نقول ـ إن لم نقل أنه كان لقباً مشهوراً ومعروفاً له ـ: إن جعل المأمون هذا اللفظ لقباً رسميا للإمام (عليه السلام) كان بوحي من ذي الرياستين نفسه. وإن كان يمكن أن يقال عكس ذلك تماماً: أي أن استعمال الفضل لهذه الكلمة كان بإيحاء من المأمون.
وثانياً: إننا بينما نرى الرسالة تشتمل على تطمين الإمام (عليه السلام): بأن قضية ولاية العهد ليست لعبة من المأمون، وإنما هي من آثار سعي ذي الرئاستين، الأمر الذي لا داعي معه للخوف والوجل على الإطلاق ـ بينما الرسالة تشتمل على ذلك ـ نراها تنص على أن قضية ولاية العهد أمر قد قضي بليل. وعلى أن هناك تصميم من ذي الرئاستين والمأمون على إمضاء هذا الأمر.
وهذا يعني: أن الممانعة والمقاومة لا تجدي ولا تفيد، ولذا فإن من الأفضل له (عليه السلام) أن يكف عن ذلك، ويمتنع عنه.
وهذا ما أشار إليه الفضل بقوله: «.. وإن كتابي هذا عن إزماع من أمير المؤمنين، عبد الله الإمام المأمون ومني الخ..».
وثالثاً: يلاحظ: أن الرسالة تتناسب في صياغتها، وانتقاء جملها وألفاظها مع ذوق الإمام (عليه السلام) ومذهبه العقائدي، ومذهب شيعته.
وتنسجم مع ما يدعيه هو، ويدعيه آباؤه، وكان قد اشتهر وشعاع بين الناس: من أن الحق في خلافة النبي (صلى الله عليه وآله) لهم دون غيرهم. وأن الغير ـ أياً كانوا ـ ظالمون لهم، ومعتدون عليهم في هذا الحق.
ثم يحاول الفضل أن يفهم الإمام: أنه وإن كان هو والمأمون
فالفضل يحاول بهذا أن يتقرب من الإمام، ويكتسب محبته وثقته. ولعل إظهار هذا الاختلاف، مما اتفق عليه كل من المأمون والفضل. وهكذا كان السياسيون، وما زالوا يتكلمون مع أندادهم باللغة، التي يرون أنها توصلهم إلى أهدافهم. وتحقق لهم مأربهم.
ورابعاً: وأخيراً.. إنه بعد أن يطلب منه أن لا يضع الرسالة من يده، حتى يصير إلى باب المأمون!. نراه يضمن الرسالة إشارة واضحة: إلى أن ذلك منه (عليه السلام) يوجب صلاح الأمة به.. وما ذلك إلا لأنه كان يعلم، كما كان الكل يعلم: أنه إذا تأكد لدى الإمام (عليه السلام): أن صلاح الأمة متوقف على عمل ما من جهته، فإنه لا يتوانى، ولا يألو جهداً في العمل بوظيفته، والقيام بواجبه.. هذا بالإضافة إلى أن في ذلك إشارة للحالة العامة، التي وصفناها في بعض فصول هذا الكتاب.
ملاحظات هامة:
هذا.. وقبل الخوض في تفصيل أسباب البيعة، لا بد من ملاحظة:
أ ـ: إن من الطبيعي أن يثير تصرفه هذا حفيظة العباسيين، الذين ناصبوه العداء، وشجعوا أخاه الأمين عليه، ولسوف يزيد من حنقهم، وغضبهم: حتى إنهم رضوا بإبراهيم بن شكلة المغني خليفة عليهم، عندما سمعوا بهذا النبأ الذي كان له وقع الصاعقة عليهم.
كما أن من الطبيعي أن يثير دهشتهم، ويذهلهم.. بعد أن لم يكن
فلا جزيت بنو العباس خيراً | على رغمي ولا اغتبطت بري |
أتوني مهطعين، وقد أتاهـم | بوار الدهر بالخبر الجلـــي |
وقد ذهل الحواضن عن بنيها | وصد الثدي عن فمه الصبـي |
وحل عصائب الاملاك منهـا | فشدت في رقاب بني علــي |
فضجت أن تشد على رؤوس | تطالبها بميراث النبــي(1) |
ب ـ ولكن دهشتهم وغضبهم لا قيمة لهما، في جانب ذهاب الخلافة عنهم بالكلية، وسفك دمائهم.. وقد أوضح لهم ذلك في رسالة منه إليهم، حيث قال: «.. وأما ما كنت أردته من البيعة لعلي بن موسى، بعد استحقاق منه لها في نفسه، فما كان ذلك مني إلا أن أكون الحاقن لدمائكم، والذائد عنكم، باستدامة المودة بيننا وبينهم.». والرسالة مذكورة في أواخر هذا الكتاب.
وقريب من ذلك ما جاء في وثيقة العهد، مخاطباً «أهل بيت أمير المؤمنين» حيث قال لهم: «.. راجين عائدته في ذلك [أي في البيعة للرضا (عليه السلام)] في جمع ألفتكم، وحقن دمائكم، ولم شعثكم، وسد ثغوركم.» فليغضبوا إذن قليلاً، فإنهم سوف يفرحون في نهاية الأمر كثيراً، وذلك عندما يعرفون الأهداف الحقيقية، التي كانت تكمن وراء تلك اللعبة، وأنها لم تكن إلا من أجل الابقاء عليهم، واستمرار وجودهم
____________
(1) التنبيه والإشراف ص 303، والولاة والقضاة للكندي ص 168.