الصفحة 268
له: إدفع الخلافة من يدك إلى غيرك؟! أيجوز هذا في العقل؟!.. الخ» لا.. أبداً.. لا يمكن أن نتصور، ولا يجوز في العقل: أن يأتي وزير ملك إليه، ويطلب منه التنازل عن عرشه، ويسلمه إلى رجل غريب، وهو يعلم أن ذلك الملك، قد قتل أخاه، وغيره، وهدم البلاد، وأهلك العباد، من أجل ذلك العرش.. هذا مع علمه أنه سوف لا يكون له هو في دولة ذلك الرجل الجديد الغريب، أي شأن، أو دور يذكر. أو على الأقل لن يكون له من النفوذ، والسلطة والطول، ما كان له مع ذلك الملك الأول. بل سوف يكون كأي فرد عادي آخر، محكوماً لا حاكماً، بكل ما لهذه الكلمة من معنى.. اللهم إلا أن يكون قد تآمر مع ذلك الملك الأول، لتنفيذ خطة معينة. قد رسماها معاً من قبل، وعملاً على أن تكون الأمور في نهاية الأمر في صالحهما، ومن أجل تعزيز نفوذهما وسلطتهما.

أما حصيلة هذه الجولة:

وهكذا.. تأبى الأحداث، ويأبى المنطق أن يكون للفضل في هذه القضية شيء، إلا على طريق التآمر والتواطؤ مع سيده المأمون، أفعى الدهاء والسياسة، بعد دراسة دقيقة مشتركة للوضع، وتقييم عام له.

اتفقا على أثره على خطة للتخلص من المشاكل التي كانت تعترض سبيلهما، وتشكل ـ إلى حد ما ـ خطراً على وجودهما في الحكم، وتفردهما بالسلطة.. وبذلك فقط نستطيع أن نفسر قول إبراهيم بن العباس في مدح الفضل في جملة أبيات له:


وإذا الحروب غلت بعثت لهارأياً تفل به كتائبهــا
رأيا إذا نبت السيوف مضىعزم به فشفى مضاربها


الصفحة 269

أجرى إلى فئة بدولتهـــاوأقام في أخرى نواد بها(1)

ولعل الفضل كان مخدوعاً!.

ولكن ألا يحتمل قريباً: أن يكون الفضل مخدوعاً في هذه المرة على الأقل؟ وأنه هو أيضاً راح ضحية تآمر وتضليل من نفس سيده: المأمون؟!.

الحقيقة أن ذلك أمر محتمل جداً، لأننا نرى في النصوص التاريخية، ما يشير لنا بوضوح إلى أن الفضل لم يكن سوى لعبة بيد المأمون، وأنه قد جازت عليه حيلة في بادئ الأمر، بادعائه: أنه إنما يوليه العهد، لأنه يريد خير الأمة ومصلحتها. أو لأنه يريد أن يفي بنذره [أي أنه نذر إن ظفر بأخيه الأمين، فلسوف يسلم الخلافة لرجل غريب!]..

وقد تقدم أن ابن القفطي يرى أن الفضل لم يكن عارفا بسر القضية، ولا عالماً بواقع الأمر.. ولعلنا نستطيع: أن نستدل على ذلك بقوة بممانعة الفضل وأخيه الحسن في هذا الأمر.

كما أننا رأينا المأمون: يرفض أن يطلب من الإمام (عليه السلام) كتاب الأمان للفضل، بحجة أن الإمام كان قد اشترط: أن لا يتدخل في شيء من أمور الدولة وشؤونها(2).

ثم نرى المأمون نفسه يطلب من الإمام: أن يولي فلاناً، أو أن يكتب إلى فلان بكذا، أو أن يساعده في إدارة شؤون الخلافة، أو أن

____________

(1) الأغاني ط ساسي ج 9 ص 31 ـ 32.

(2) أعيان الشيعة ج 4 قسم 2 ص 139، وعيون أخبار الرضا ج 2 ص 162. والبحار ج 49 ص 168. ومسند الإمام الرضا ج 1 ص 88.


الصفحة 270
يصلي بالناس، إلى غير ذلك من الأمور.. مع أن ما كان يريده الفضل من الإمام، لم يكن له من الأهمية مثل ما كان يطلبه منه المأمون.

وعلى كل فقد يجوز للمأمون ـ حتى مع الشرط ـ ما لا يجوز لغيره بدونه.

الفضل يقع في الشرك:

وأخيراً.. فلا يسعنا في ختام هذا الفصل إلا أن نقول: مسكين الفضل بن سهل، لقد استطاع المأمون أن يبرئ ساحة نفسه، من كل الذنوب العظيمة والخطيرة التي ارتكبها، وأن يجعل هذا الوزير المسكين، الذي كان عدوا للإمام، والذي لم يشعر إلا وهو في الفخ، هو المسؤول عن أكثر جرائمه وموبقاته، بل وعنها جميعاً، حتى البيعة للرضا (عليه السلام) بل وحتى عن قتل أخيه الأمين! ولقد أدرك الفضل أنه قد وقع في الشرك، ولكن.. بعد فوات الأوان، ولذا نراه يمتنع عن الذهاب إلى بغداد، لأنه يعرف ما سوف يواجهه من مشاكل وأخطار، وما سوف يتعرض له من مؤامرات، وحاول بكل وسيلة أن يقنع المأمون بالعدول عن رأيه، وبين له صراحة أنه هو المتهم بالبيعة للرضا، وبقتل الأمين، فلقد قال له:

«.. يا أمير المؤمنين، إن ذنبي عظيم عند أهل بيتك، وعند العامة، والناس يلومونني بقتل أخيك المخلوع، وبيعة الرضا، ولا آمن السعاة والحساد، وأهل البغي أن يسعوا بي، فدعني أخلفك بخراسان الخ.»(1).

____________

(1) أعيان الشيعة ج 4 قسم 2 ص 139، وعيون أخبار الرضا ج 2 ص 162، ومسند الإمام الرضا ج 1 ص 87، والبحار ج 49 ص 167.


الصفحة 271
ولكن أنى له أن يتركه المأمون، الذي كان يريد التخلص منه، من أجل أن ترضى عنه بغداد، مضافاً إلى أنه هو أيضاً كان يخشاه ويخافه. فلقد كان قد أعد العدة، وأحكم الخطة في أمره، ولم يبق إلا التنفيذ [كما سيأتي بيانه].

وبعد أن يئس الفضل من إقناع المأمون، حاول أن يحتاط لنفسه ما أمكنه ذلك. فطلب منه أن يكتب له كتاب ضمان وأمان. فاستجاب المأمون لهذا الطلب، وكتب له كتاباً(1)، يسمى كتاب الحباء والشرط يظهر بوضوح الدور الذي لعبه الفضل في تشييد صرح خلافة المأمون، وتوطيد سلطانه.

ونلاحظ: أن المأمون قد كتب للفضل كل ما يريد، بل وزاد على ما كان يتوقعه الفضل الشيء الكثير، إذ لم يكن يرى في ذلك أي ضرر عليه، ما دام أنه قد أحكم الخطة، ودبر له النهاية.

وكما رسم ودبر. كانت النهاية!.

لماذا الاصرار على اتهام الفضل:

وهكذا.. فإننا بعد كل ما تقدم، لا نرى مجالاً للإصرار على نسبة التشيع للفضل، أو القول: بأن المأمون كان واقعا في أمر البيعة تحت تأثيره، وخاضعا لإرادته، فقد يكون الفضل قد أعطي أكثر مما يستحقه من النفوذ والقدرة.. ولعل إصرار أولئك أو هؤلاء على اتهام الفضل بذلك، حتى وإن أنكره المأمون نفسه، وكذبته جميع الوقائع والأحداث ـ لعله ـ يرجع إلى حرصهم على أن لا يتهم المأمون ـ السلطة ـ بما

____________

(1) الكتاب موجود في: البحار ج 49 ص 160، 162، وعيون أخبار الرضا ج 2 ص 157، 159، وأوعز إليه اليعقوبي في تاريخه ج 2 ص 451 طبع صادر

الصفحة 272
لا يحبون اتهامه به، كالتشيع، والحب لآل علي (عليهم السلام)، أو ليبرءوا ساحته من هذه التهمة، لو فرض وجودها فعلاً.. أو لعل لأنهم لم يكونوا على درجة من الوعي تؤهلهم لإدراك حقيقة ظروف المأمون، وأهدافه من البيعة..

هذا.. وقد رأينا: أن العباسيين في بغداد، بمجرد وصول نبأ البيعة لهم، يتهمون الفضل بن سهل بتدبيرها(1).. مع أنهم لم يكونوا قد اطلعوا بعد على حقيقة الأمر وواقع القضية، وما ذلك إلا لما قلناه، وليبقوا على علاقاتهم مع المأمون، وليبقى باب الصلح معه في المستقبل مفتوحاً. وكذلك ليحافظوا على شخصية المأمون، حتى لا تلصق بها تهمة، يعلمون هم أكثر من غيرهم ـ وأهل البيت أدرى بما فيه ـ ببراءته منها، ألا وهي تهمة: الحب لعلي، وآل بيته.

ولعله أيضاً لهذه الأسباب نفسها جعلوا المأمون لعبة في يد الفضل، وأنه لا يملك معه من الأمر شيئاً، حتى لقد قالوا عنه: إنه مسجون ومسحور(2). وإن كان لا شاهد لهذه الدعوى أصلاً إلا البيعة للرضا (عليه السلام) ولولاها لكان العكس عندهم هو الصحيح فعلاً..

جميل.. وجميل جداً.. فلقد أصبح المأمون لعبة بيد الفضل، وإن كانت جميع الدلائل والشواهد متضافرة على العكس من ذلك.. ولو لم يكن ذلك يكفي لتبرئة المأمون، فهم على استعداد لاتهامه بعقله، كما قد حدث ذلك بالفعل، فذلك عندهم خير من اتهامه بالحب لآل علي والتشيع لهم..

____________

(1) فقد اتهموا الفضل بذلك بمجرد وصول رسالة الحسن بن سهل إليهم، يخبرهم فيها بأمر البيعة. راجع: الطبري ج 11 ص 1013، طبع ليدن وتجارب الأمم ج 6 ص 436 وغير ذلك من كتب التاريخ.

(2) راجع: البداية والنهاية ج 10 ص 248، والطبري ج 11، وغير ذلك..


الصفحة 273

احتمال وجيه جداً:

على أننا لا نستبعد كثيراً.. أن يكون المأمون نفسه قد شجع وغذي هذه التبريرات والتمويهات، وخصوصاً بعد مقتل الفضل، ليبرئ نفسه أمام العباسيين، وليشوه الفضل.. كما أننا لا نشك أبداً في أن كثيراً مما يذكر عن الأمين هو في عداد الخرافات والأساطير التي شجعها المأمون وحزبه، لأن الأمين كان هو المغلوب، والمأمون كان هو الغالب.. وللغالب القدرة، بل والحق أيضاً ـ في نظر قاصري النظر ـ في أن يشوه المغلوب، ويصوره بالصورة التي يريد.

ويدلنا على أن المأمون هو المسؤول عن ذلك، ما رواه الحصري في زهر الآداب من: «أنه لما خلع المأمون أخاه أمين، ووجه بطاهر ابن الحسين لمحاربته. كان يعمل كتبا بعيوب أخيه، تقرأ على المنابر بخراسان الخ..»(1).

وطبيعي بعد ذلك: أن على الكتاب والمؤرخين الذين ما كانوا أحراراً، ولا يعتمدون النزاهة في كتاباتهم: أن يؤرخوا كما يريد المأمون، وأن يكتبوا ما يمليه عليهم، لا ما هو حق وواقع. يرونه بأم أعينهم. أو تحكم به ـ إن كانت ـ ضمائرهم.

وأخيراً.. وإذا تحقق أن الفضل بريء من تهمة التشيع، وتهمة تدبير أمر البيعة إلا على نحو التآمر، فلا يعني ذلك أنه بريء مما هو أشنع من ذلك وأقبح «فكل إناء بالذي فيه ينضح».

____________

(1) راجع: أمراء الشعر العربي في العصر العباسي ص 86، نقلاً عن: زهر الآداب ج 2 ص 111، تحقيق زكي مبارك، وطبع دار الجيل ج 2 ص 464.


الصفحة 274

الصفحة 275


القسم الثالث


أضواء على الموقف



1 ـ عرض الخلافة، ورفض الإمام.

2 ـ قبول ولاية العهد بعد التهديد.

3 ـ مدى جدية عرض الخلافة.

4 ـ موقف الإمام.

5 ـ خطة الإمام..


الصفحة 276

الصفحة 277

عرض الخلافة، ورفض الإمام (عليه السلام)

نصوص تاريخية:

تحدثنا كتب التاريخ: أن المأمون كان قد عرض الخلافة على الإمام أولاً..(1) لكنه (عليه السلام) رفض قبولها أشد الرفض، وبقي مدة يحاول إقناعه بالقبول، فلم يفلح. وقد ورد أن محاولاته هذه، استمرت في مرو وحدها أكثر من شهرين والإمام (عليه السلام) يأبى عليه ذلك(2).

بل لقد ورد أنه (عليه السلام) كان قد أجاب المأمون بما يكره، فقد: قال المأمون للإمام: «.. يا ابن رسول الله، قد عرفت فضلك، وعلمك، وزهدك، وورعك، وعبادتك، وأراك أحق بالخلافة مني..».

____________

(1) كما نص عليه في البداية والنهاية ج 10 ص 250، والفخري في الآداب السلطانية ص 217، وغاية الاختصار ص 67، وينابيع المودة للحنفي ص 384، ومقاتل الطالبيين، وغير هؤلاء كثير.. وسنشير في آخر هذا الفصل إلى طائفة منهم أيضاً..

لكن السيوطي قال في تاريخ الخلفاء «.. حتى قيل: أنه هم أن يخلع نفسه، ويفوض الأمر إليه..» أما رفضه لذلك، فهو أشهر من أن يذكر كما سيأتي..

(2) عيون أخبار الرضا ج 2 ص 149، والبحار ج 49 ص 134، وينابيع المودة وغير ذلك.


الصفحة 278
فقال الإمام (عليه السلام): «.. بالزهد بالدنيا أرجو النجاة من شر الدنيا، وبالورع عن المحارم أرجو الفوز بالمغانم، وبالتواضع في الدنيا أرجو الرفعة عند الله..

قال المأمون: فإني قد رأيت أن أعزل نفسي عن الخلافة، وأجعلها لك، وأبايعك؟!.

فقال الإمام (عليه السلام): إن كانت هذه الخلافة لك، فلا يجوز أن تخلع لباساً ألبسكه الله، وتجعله لغيرك، وإن كانت الخلافة ليست لك، فلا يجوز أن تجعل لي ما ليس لك(1).

قال المأمون: لا بد لك من قبول هذا الأمر!!

فقال الإمام (عليه السلام): لست أفعل ذلك طائعاً أبداً..

فما زال يجهد به أياما، والفضل والحسن(2) يأتيانه، حتى يئس من قبوله..

وخرج ذو الرئاستين مرة على الناس قائلاً: وا عجبا! وقد رأيت عجباً! رأيت المأمون أمير المؤمنين يفوض أمر الخلافة إلى الرضا.

____________

(1) عبارة تاريخ الشيعة ص 51، 52 هكذا: «.. إن كانت الخلافة حقاً لك من الله، فليس لك أن تخلعها عنك، وتوليها غيرك. وإن لم تكن لك، فكيف تهب ما ليس لك.» وهذه أوضح وأدل.

(2) لا ندري ما الذي أوصل الحسن بن سهل إلى مرو، مع أنه كان آنئذٍ في العراق، ولعل ذكر الحسن اشتباه من الراوي، واحتمل السيد الأمين في أعيان الشيعة ج 4 قسم 2 ص 120: أن يكون المأمون قد استدعى الحسن بهذه المناسبة إلى خراسان، فلما تم أمر البيعة عاد إلى بغداد.


الصفحة 279
ورأيت الرضا يقول: لا طاقة لي بذلك، ولا قدرة لي عليه. فما رأيت خلافة قط كانت أضيع منها(1).

____________

(1) راجع في جميع هذه النصوص بالإضافة إلى ما تقدم: روضة الواعظين ج 1 ص 267، 268، 269، وإعلام الورى ص 320، وعلل الشرايع ج 1 ص 236، وينابيع المودة ص 384، وأمالي الصدوق ص 42، 43، والإرشاد ص 310، وكشف الغمة ج 3 ص 65، 66، 66، 87، وعيون أخبار الرضا ج 2 ص 149، 140. والمناقب ج 4 ص 363، والكافي ج 1 ص 489، والبحار ج 49 ص 129، 134، 136. ومعادن الحكمة، وتاريخ الشيعة، ومثير الأحزان ص 261، وشرح ميمية أبي فراس ص 164، 165، وغاية الاختصار ص 68.


الصفحة 280

قبول ولاية العهد بعد التهديد

مع محاولات المأمون لإقناع الإمام:

الذي يبدو من ملاحظة كتب التاريخ والرواية، هو: أن محاولات المأمون لإقناع الإمام بما يريد، كانت متعددة، ومتنوعة، وأنها بدأت من حين كان الإمام (عليه السلام) لا يزال في المدينة. حيث كان المأمون يكاتبه، محاولاً إقناعه بذلك، فلم ينجح، وعلم الإمام أنه لا يكف عنه. ثم أرسل رجاء بن أبي الضحاك، وهو قرابة الفضل والحسن ابني سهل(1)، فأتى بالإمام (عليه السلام) من المدينة إلى مرو رغما عنه.. وبذل المأمون في مرو أيضاً محاولات عديدة، استمرت أكثر من شهرين. وكان يتهدد الإمام بالقتل، تلويحا تارة، وتصريحا أخرى، والإمام (عليه السلام) يأبى قبول ما يعرضه عليه.. إلى أن علم أنه لا يمكن أن يكف عنه، وأنه لا محيص له عن القبول، فقبل ولاية العهد مكرها، وهو باك حزين ـ على حد تعبير الكثيرين ـ، وكانت البيعة له في السابع من شهر رمضان، سنة [201 ه‍ ]، كما يتضح من تاريخ ولاية العهد..

____________

(1) وقيل: أنه عمهما، وقد كان رجاء هذا من قواد المأمون، وقد ولاه المأمون خراسان مدة، لكنه أساء السيرة، فعزله.


الصفحة 281

بعض ما يدل على عدم رضا الإمام (عليه السلام):

والنصوص الدالة على عدم رضا الإمام (عليه السلام) بهذا الأمر كثيرة، ومتواترة، فقد قال أبو الفرج: «.. فأرسلهما [يعني الفضل والحسن ابني سهل] إلى علي بن موسى، فعرضا ذلك [يعني ولاية العهد] عليه، فأبى، فلم يزالا به، وهو يأبى ذلك، ويمتنع منه..

إلى أن قال له أحدهما: «إن فعلت ذلك، وإلا فعلنا بك وصنعنا، وتهدده، ثم قال له أحدهما: والله، أمرني بضرب عنقك، إذا خالفت ما يريد»!. ثم دعا به المأمون، وتهدده، فامتنع، فقال له قولاً شبيهاً بالتهديد، ثم قال له: «إن عمر جعل الشورى في ستة، أحدهم: جدك وقال: من خالف فاضربوا عنقه، ولا بد من قبول ذلك..»(1)!

ويروي آخرون: أن المأمون قال له: «.. يا ابن رسول الله، إنما تريد بذلك [يعني بما أخبره به عن آبائه من موته قبله مسموماً] التخفيف عن نفسك، ودفع هذا الأمر عنك، ليقول الناس: إنك زاهد في الدنيا..

فقال الرضا: والله، ما كذبت منذ خلقني ربي عز وجل، وما زهدت في الدنيا للدنيا، وإني لأعلم ما تريد؟!.

فقال المأمون: وما أريد؟!

قال: الأمان على الصدق؟

قال: لك الأمان.

قال: تريد بذلك أن يقول الناس: إن علي بن موسى لم يزهد في

____________

(1) مقاتل الطالبيين ص 562، 563، وقريب منه ما في إرشاد المفيد ص 310 وغير ذلك.


الصفحة 282
الدنيا، بل زهدت الدنيا فيه: ألا ترون: كيف قبل ولاية العهد طعماً في الخلافة؟!

فغضب المأمون، وقال له: «إنك تتلقاني أبداً بما أكرهه، وقد آمنت سطوتي، فبالله أقسم: لئن قبلت ولاية العهد. وإلا أجبرتك على ذلك، فإن فعلت، وإلا ضربت عنقك..»(1).

وقال الإمام الرضا (عليه السلام) في جواب الريان له، عن سر قبوله لولاية العهد:

«.. قد علم الله كراهتي لذلك، فلما خيرت بين قبول ذلك وبين القتل، اخترت القبول على القتل، ويحهم. إلى أن قال: ودفعتني الضرورة إلى قبول ذلك، على إجبار وإكراه، بعد الإشراف على الهلاك إلخ..»(2).

وقال في دعاء له: «.. وقد أكرهت واضطررت، كما أشرفت من عبد الله المأمون على القتل، متى لم أقبل ولاية العهد..».

وقال في جواب أبي الصلت: «وأنا رجل من ولد رسول الله (صلى الله عليه وآله)

____________

(1) راجع في ذلك. مناقب آل أبي طالب ج 4 ص 363، وأمالي الصدوق ص 43، وعيون أخبار الرضا ج 2 ص 140، وعلل الشرايع ج 1 ص 238، ومثير الأحزان ص 261، 262، وروضة الواعظين ج 1 ص 267، والبحار ج 49 ص 129، وغير ذلك.

وفي تاريخ الشيعة ص 52: أنه بعد أن عرض عليه الخلافة، وأجابه بالجواب المتقدم في الفصل السابق، قال له: «.. إذن، تقبل ولاية العهد». فأبى عليه الإمام أشد الإباء، فقال له المأمون: «.. ما استقدمناك باختيارك، فلا نعهد إليك باختيارك.

والله، إن لم تفعل ضربت عنقك..».

(2) علل الشرايع ج 1 ص 239، وروضة الواعظين ج 1 ص 268، وأمالي الصدوق ص 72، والبحار ج 49 ص 130، وعيون أخبار الرضا ج 2 ص 139.


الصفحة 283
أجبرني على هذا الأمر وأكرهني عليه..».

بل لقد أعرب عن عدم رضاه في نفس ما كتبه على ظهر وثيقة العهد، وأنه يعلم بعدم تمامية هذا الأمر، وإنما يفعل ذلك امتثالاً لأمر المأمون، وإيثاراً لرضاه..

أما الباحثون وغيرهم فيقولون:

أما الباحثون، فلعلنا لا نكاد نعثر على باحث يتعرض لهذا الأمر ينسى أن يؤكد على رفض الإمام (عليه السلام) لهذا الأمر، واستيائه منه..

يقول أحمد أمين: «.. والزم الرضا بذلك، فامتنع، ثم أجاب..»(1).

وقال القندوزي: إنه قبل ولاية العهد، وهو باك حزين(2).

وقال المسعودي: «.. فألح عليه، فامتنع، فأقسم، فأبر قسمه الخ.»(3).

وعلى كل حال: فإن النصوص التاريخية الدالة على عدم رضاه (عليه السلام) بهذا الأمر، وأنه مكره مجبر عليه كثيرة جداً(4). وتضارعها كثرة

____________

(1) ضحى الإسلام ج 3 ص 294.

(2) ينابيع المودة ص 284.

(3) إثبات الوصية ص 205.

(4) وإنه وإن كان سيمر معنا نصوص أخرى تدل على ذلك.. إلا أننا نحيل القارئ على بعض مظان وجودها، فراجع: ينابيع المودة ص 384، ومثير الأحزان ص 261، 262، 263، وكشف الغمة ج 3 ص 65، وأمالي الصدوق ص 68، 72،

=>


الصفحة 284
أقوال الباحثين، الذين تعرضوا لهذا الموضوع. ولذا فليس من اليسير الإحاطة بها واستقصاؤها في مثل هذه العجالة.

ولهذا.. فإننا نكتفي هنا بهذا القدر، حيث إن المجال لا يتسع لأكثر من ذلك..

____________

<=

والبحار ج 49 ص 129، 131، 149، وعلل الشرايع ج 1 ص 237، 238، إرشاد المفيد ص 191، وعيون أخبار الرضا ج 1 ص 19، و ج 2 ص 139، 140، 141، 149، وإعلام الورى 320، والخرائج والجرائح، وغير ذلك..


الصفحة 285

مدى جدية عرض الخلافة

عرض الخلافة ليس جدياً..:

مر معنا أن المأمون كان قد عرض أولاً الخلافة على الإمام، وأنه ألح عليه بقبولها كثيراً، سواء وهو في المدينة، أو بعد استقدامه إلى مرو، وأنه تهدده فلم يقبلها، فلما يئس من قبوله الخلافة، عرض عليه ولاية العهد، فامتنع أيضاً. ولم يقبل إلا بعد أن تهدده بالقتل، وعرف الجد في ذلك التهديد!!

وهنا سؤال لا بد من الإجابة عليه، وهو:

هل كان المأمون جاداً في عرضه الخلافة على الإمام؟!.

ويتفرع على الإجابة على هذا السؤال سؤال آخر، وهو:

إذا لم يكن المأمون جاداً في عرضه ذاك، فماذا ترى سوف يكون موقف المأمون، لو أن الإمام قبل أن يتقلد الخلافة، ويضطلع بشؤونها؟!.

ومن أجل استيفاء الجواب عن هذين السؤالين، لا بد لنا من الإسهاب في المقال، بالقدر الذي يتسع لنا به المجال فنقول:


الصفحة 286

الإجابة على السؤال الأول:

أما عن السؤال الأول، فإن الحقيقة هي: أن جميع الشواهد والدلائل تدل على أنه لم يكن جاداً في عرضه للخلافة:

وقد قدمنا أننا لا يمكن أن نتصور المأمون الحريص على الخلافة حرصه على نفسه، والذي قتل من أجلها أخاه. وأتباعه، بل وحتى وزراءه هو وقواده، وغيرهم. وأهلك العباد، وخرب البلاد، حتى لقد خرب بغداد بلد آبائه، وأزال كل محاسنها ـ لا يمكن أن نتصور ـ المأمون، الذي فعل كل ذلك وسواه من أجل الحصول على الخلافة.. أن يتنازل عنها بهذه السهولة، بل ومع هذا الالحاح والإصرار منه، لرجل غريب، ليس له من القربى منه ما لأخيه، ولا من الثقة به ماله بقواده، ووزرائه!.

أم يعقل أن تكون الخلافة أعز من هؤلاء جميعاً، والرضا فقط هو الأعز منها؟!.

وهل يمكن أن نصدق، أو يصدق أحد: أن كل ذلك، حتى قتله أخاه، كان في سبيل مصلحة الأمة ومن أجلها، ولكي يفسح المجال أمام من هو أجدر بالخلافة، وأحق بها من أخيه، ومنه؟!.

وكيف يمكن أن نعتبر إصراره الشديد على الإمام، والذي استمر أشهراً عديدة، قبل استقدامه إلى مرو وبعده، والذي انتهى به إلى حد تهديده إياه بالقتل ـ كيف يمكن أن نعتبره رفقاً منه بالأمة، وحبا لها، وغيرة على صالحها.. مع أننا نسمعه من جهة ثانية هو نفسه يصرح: بأن نفسه لم تسنح بالخلافة، عندما عرضها على الإمام؟!(1).

وإذا لم تسنح نفسه بالخلافة، فلماذا يهدده بالقتل إن لم يقبلها؟!.

____________

(1) قاموس الرجال ج 10 ص 371، وغيبة الشيخ الطوسي ص 49.


الصفحة 287
وكيف يمكن أن نوفق بين تهديداته تلك، وجدية عرضه للخلافة.. وبين قوله: إنه لم يقصد إلا أن يوليه العهد، ليكون دعاء الإمام له، وليعتقد فيه المفتونون به الخ. ما سيأتي؟!.

وإذا كان قد نذر أن يوليه «الخلافة»، لو ظفر بأخيه الأمين، حسبما ورد في بعض النصوص التاريخية، فلماذا، وكيف جاز له الاكتفاء بتوليته العهد؟!.

وكيف استطاع إجباره على قبول ولاية العهد، ولم يستطع إجباره على قبول الخلافة؟!

وأيضاً.. ولماذا بعد أن رفض الإمام (عليه السلام) العرض، لا يتركه وشأنه؟

وأين هي أنفة الملوك، وعزة السلطان؟!.

وإذا كان يأتي به المدينة ليجعله خليفة المسلمين، ويرفع من شأنه، فلماذا يأمره ويؤكد عليه في أن لا يمر عن طريق الكوفة وقم، وحتى لا يفتتن به الناس؟!.

وأيضاً.. هل يتفق ذلك مع إرجاعه للإمام (عليه السلام) عن صلاة العيد مرتين، لمجرد أنه جاءه من ينذره بأن الخلافة سوف تكون في خطر، لو أن الإمام (عليه السلام) وصل إلى المصلى؟!.. حتى لقد خرج هو بنفسه مسرعاً، وصلى بالناس، رغم تظاهره بالمرض، ورغم زعمه، أنه: كان يريد من الإمام أن يصلي بالناس، من أجل أن تطمئن قلوبهم على دولته المباركة ـ على حد تعبيره ـ بسبب مشاركة الإمام (عليه السلام) في ذلك..

وأيضاً.. هل يتفق عرضه الخلافة على الإمام، وتنازله عنها له، ثم توليته العهد، وبكاؤه عليه حين وفاته، وبقاؤه على قبره ثلاثة أيام، حسبما سيأتي بيانه.. هل يتفق كل ذلك، مع كتابته لعامله على

الصفحة 288
مصر: يأمره بغسل المنابر التي دعي عليها للإمام (عليه السلام)، فغسلت؟!(1).

وبعد.. وإذا كان الإمام (عليه السلام) حجة الله على خلقه، وأعلم أهل الأرض على حد تعبير المأمون، فلماذا يفرض عليه نظرية لا يراها مناسبة، ويتهدده، ويتوعده على عدم قبولها، والأخذ بها؟!.

وأخيراً.. هل يتفق ذلك كله، مع ما أشرنا، ولسوف نشير إليه، من ذلك السلوك اللاإنساني مع الإمام (عليه السلام)، قبل البيعة، وبعدها، في حياة الإمام، وحين وفاته، وبعدها.. وكذلك سلوكه مع العلويين.

وإخوة الإمام الرضا (عليه السلام) بالذات، ذلك السلوك الذي يترفع حتى الأعداء عن انتهاجه، والالتزام به، إلى آخر ما هنالك مما عرفت، وستعرف جانباً منه في هذا الكتاب إن شاء الله تعالى..

المأمون يرتبك في تبريراته:

ولعل من الأمور الجديرة بالملاحظة هنا: هو أن المأمون لم يكن قد حسب حساباً للأسئلة التي سوف تواجهه في هذا الصدد، ولذا نرى أنه كان مرتبكاً جداً في تبريراته لما أقدم عليه، فهو تارة يعلل ذلك بأنه:

____________

(1) ولا منافاة بينهما في نظر المأمون، فإنه لم يكن يخشى من ردة الفعل في مصر، لأنها بالإضافة إلى بعدها، لم تكن من المناطق الحساسة في الدولة، ولم تكن أيضاً شديدة التعاطف مع العلويين، فهي إذن مأمونة الجانب.. وما كان يخشى منه قد أمنه، بتظاهره أمام الملأ بالحزن الشديد على الإمام (عليه السلام)، حيث يكون بذلك قد طمأنهم، وأبعد التهمة عن نفسه في المنطقة التي يخشى منها في الوقت الحاضر.. وإلى أن تصل أخبار مصر إلى هذه المناطق الحساسة، فإنه يكون قد تجاوز المرحلة الخطيرة، ولم يعد يخشى شيئاً على الإطلاق..


الصفحة 289
أراد مكافأة علي بن أبي طالب في ولده!(1).

وأخرى: بأن ذلك كان منه حرصا على طاعة الله، وطلب مرضاته، ولما يعلمه من فضل الرضا، وعلمه، وتقاه. وأنه أراد بذلك الخير للأمة. ومصلحة المسلمين!(2).

وثالثة: بأنه أراد أن يفي بنذره: أنه إن أظفره الله بالمخلوع ـ يعني أخاه الأمين الذي قتله ـ أن يجعل ولاية العهد في أفضل آل أبي طالب!(3).

بل ورابعة: بأنه أراد أن يجعله ولي عهده، ليكون دعاؤه له، وليعتقد فيه المفتونون به إلخ(4).. ما سيأتي تفصيله.

مع تبريرات المأمون تلك:

ومن الواضح أن تلك العلل والتبريرات وسواها، مما كان يتعلل

____________

(1) الفخري في الآداب السلطانية ص 219، والبحار ج 49 ص 312، وتاريخ الخلفاء للسيوطي ص 308، والتذكرة لابن الجوزي ص 356، ونقل أيضاً: عن شذرات الذهب، لابن العماد، وغير ذلك..

(2) صرح بذلك وفي وثيقة العهد، وفي الفخري في الآداب السلطانية ص 217، قال: «كان المأمون قد فكر في حال الخلافة بعده، وأراد أن يجعلها في رجل يصلح لها، كذا زعم..».

وفي البداية والنهاية ج 10 ص 247 قال: «إن المأمون رأى علياً الرضا خير أهل البيت، وليس في بني العباس مثله، في علمه، ودينه، فجعله ولي عهده من بعده». ومثل ذلك كثير..

(3) الفصول المهمة لابن الصباغ المالكي ص 241، ومقاتل الطالبيين ص 563، وإعلام الورى ص 320، والبحار ج 49، ص 143، 145، وأعيان الشيعة ج 4 قسم 2 ص 112، وعيون أخبار الرضا، وإرشاد المفيد، وغير ذلك.

(4) لكن هذا الكلام لم يكن إلا لخصوص العباسيين، كما عرفت وستعرف!!.