الخطة الحكيمة:
وعندما أراد المأمون أن ينفذ خطته في البيعة له بولاية العهد، وعرف الرضا: أن لا مناص له من قبول ذلك، كان من الطبيعي أن يعد (عليه السلام) العدة، ويضع خطة لمواجهة خطط المأمون، وإحباط أهدافه الشريرة، والتي كان أهونها القضاء على سمعة الإمام (عليه السلام)، وتحطيمه معنوياً واجتماعياً.
ولقد كانت حطة الإمام هذه في منتهى الدقة والإحكام، وقد نجحت أيما نجاح في إفشال المؤامرة وتضييع كثير من أهدافها، وجعل الأمور في صالح الإمام (عليه السلام)، وفي ضرر المأمون.. حتى لقد ضاع رشد المأمون [بل ورشد أشياعه أيضاً]، وهو أفعى الدهاء والسياسة، ولم يعد يدري ما يصنع، ولا كيف يتصرف..
مواقف لم يكن يتوقعها المأمون:
ولعلنا نستطيع أن نسجل هنا بعض المواقف للإمام (عليه السلام)، التي لم يكن المأمون قد حسب لها حسابا، والتي كانت ضمن خطة الإمام (عليه السلام) في مواجهة مؤامرات المأمون..
الموقف الأول:
إننا نلاحظ أن الإمام (عليه السلام) قد رفض دعوة المأمون، وهو في المدينة
وما ذلك إلا ليعلم المأمون: أن حيلته لم تكن لتجوز عليه، وأنه (عليه السلام) على علم تام بأبعاد مؤامرته وأهدافها.. كما أنه بذلك يثير شكوك الناس وظنونهم حول طبيعة هذا الحدث، وسلامة النوايا فيه.
الموقف الثاني:
إنه رغم أن المأمون كان قد طلب من الإمام (عليه السلام) ـ وهو في المدينة ـ أن يصطحب معه من أحب من أهل بيته في سفره إلى مرو.
إنه رغم ذلك.. نلاحظ: أنه (عليه السلام) لم يصطحب معه حتى ولده الوحيد الإمام الجواد (عليه السلام)، مع علمه بطول المدة، التي سوف يقضيها في هذا السفر، الذي سوف يتقلد فيه زعامة الأمة الإسلامية، حسب ما يقوله المأمون.. بل مع علمه بأنه سوف لن يعود من سفره ذاك، كما تؤكد عليه كثير من النصوص التاريخية.
شكوك لها مبرراتها:
ونرى أننا مضطرون للشك في نوايا المأمون وأهدافه من وراء طلبه هذا «أن يصطحب الإمام (عليه السلام) من شاء من أهل بيته إلى مرو».
بعد أن رأينا: أنه لم يرجع أحد ممن ذهب مع محمد بن جعفر إلى مرو، ولا رجع محمد بن جعفر نفسه، ولا رجع محمد بن محمد بن زيد، ولا غير هؤلاء، كما سيأتي بيانه في الفصل التالي وغيره..
فلعل الإمام (عليه السلام) بل إن ذلك هو المؤكد، الذي تدل عليه
الموقف الثالث:
سلوكه في الطريق، كما وصفه رجاء بن أبي الضحاك(1)، حتى اضطر المأمون لأن يظهر على حقيقته، ويطلب من رجاء هذا: أن لا يذكر ما شاهده منه لأحد، بحجة أنه لا يريد أن يظهر فضله إلا على لسانه(2)، ولكننا لم نره يظهر فضله هذا، حتى ولو مرة واحدة، فلم يدع أحد أنه سمع شيئاً من المأمون عن سلوك الإمام (عليه السلام)، وهو في طريقه إلى مرو. وأما رجاء، فلعله لم يحدث بذلك إلا بعد أن لم يعد في ذلك ضرر على المأمون، وبعد أن ارتفعت الموانع، وقضي الأمر.
الموقف الرابع:
موقفه في نيشابور، الذي لم يكن أبداً من المصادفة. كما لم يكن ذكره للسلسلة التي يروي عنها من المصادفة أيضاً، حيث أبلغ الناس في ذلك الموقف، الذي كانت تزدحم فيه أقدام عشرات بل مئات الألوف(3) ـ أبلغهم ـ: «كلمة لا إله إلا الله حصني، فمن دخل
____________
(1) راجع: البحار ج 49 من ص 91 حتى 95، وعيون أخبار الرضا ج 2 ص 181 فما بعدها: وهو كلام معروف لا نرى أننا بحاجة لتكثير مصادره هنا.
(2) البحار ج 49 ص 95، وعيون أخبار الرضا ج 2 ص 183.
(3) وذلك يدل على مدى تعاطف الناس مع أهل البيت، ومحبتهم لهم. الأمر الذي كان يرعب المأمون ويخيفه. حتى لقد كان يحاول كبت عواطف الناس هذه، وهذا هو السبب في منع الإمام من المرور عن طريق الكوفة وقم، كما سيأتي.
هذه الكلمة.. التي عد أهل المحابر والدوي، الذين كانوا يكتبونها، فأنافوا على العشرين ألفاً.. هذا على قلة من كانوا يعرفون القراءة والكتابة آنذاك، وعدا عمن سواهم ممن شهد ذلك الموقف العظيم..
«.. ونلاحظ: أنه (عليه السلام) ـ في هذا الظرف ـ لم يحدثهم عن مسألة فرعية، ترتبط ببعض مجالات الحياة: كالصوم، والصلاة، وما شاكل. ولم يلق عليهم موعظة تزهدهم في الدنيا، وترغبهم في الآخرة، كما كان شأن العلماء آنذاك.
كما أنه لم يحاول أن يستغل الموقف لأهداف شخصية، أو سياسية، كما جرت عادة الآخرين في مثل هذه المواقف.. مع أنه يتوجه إلى مرو، ليواجه أخطر محنة تحدد وجوده، وتهدد العلويين، ومن ثم الأمة بأسرها.
وإنما كلم الناس باعتباره القائد الحقيقي، الذي يفترض فيه: أن يوجه الناس ـ في ذلك الظرف بالذات ـ إلى أهم مسألة ترتبط بحياتهم، ووجودهم، إن حاضراً، وإن مستقبلاً، ألا وهي مسألة: التوحيد..
التوحيد: الذي هو في الواقع الأساس للحياة الفضلى، بمختلف جوانبها، وإليه تنتهي، وعلى وبه تقوم..
التوحيد: الذي ينجي كل الأمم من كل عناء وشقاء وبلاء. والذي إذا فقده الإنسان، فإنه يفقد كل شيء في الحياة حتى نفسه..
مدى ارتباط مسألة الولاية بمسألة التوحيد:
هذا.. ولأنه قد يكون الكثيرون ممن شهدوا ذلك الموقف لم يتهيأ
____________
(1) قد ذكرنا بعض مصادر هذه القضية في فصل: «شخصية الإمام الرضا» فمن أراد فليراجع.
نرى الإمام (عليه السلام) يتصرف بنحو آخر، حيث إنه عندما سارت به الناقة، وفي حين كانت أنظار الناس كلهم. وقلوبهم مشدودة إليها.. نراه يخرج رأسه من العمارية، فيسترعي ذلك انتباه الناس، الذين لم يكونوا يترقبون ذلك منه. ثم يملي عليهم ـ وهم يلتقطون أنفاسهم، ليستمعوا إلى ما يقول ـ كلمته الخالدة الأخرى: «بشروطها، وأنا من شروطها».
لقد أملى الإمام (عليه السلام) كلمته هذه عليهم، وهو مفارق لهم، لتبقى الذكرى الغالية، التي لا بد وأن يبقى لها عميق الأثر في نفوسهم(1).
لقد أبلغهم (عليه السلام) مسألة أساسية أخرى، ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالتوحيد، ألا وهي مسألة: «الولاية».
وهي مسألة بالغة الأهمية، بالنسبة لأمة تريد أن تحيا الحياة الفضلى، وتنعم بالعيش الكريم، إذ ما دامت مسألة القيادة الحكيمة. والعادلة، والواعية لكل ظروف الحياة. وشؤونها، ومشاكلها ـ ما دامت هذه
____________
(1) ويلاحظ: أن هذه الكلمة قد صيغت بنحو لا بد معه من الرجوع إلى الكلمة الأولى، ومعرفتها.
وبعد.. فما أشبه موقفه (عليه السلام) هنا بموقف النبي (صلى الله عليه وآله) في غدير خم، حيث إنه (صلى الله عليه وآله) كان أيضاً قد أبلغ المسلمين مسألة الولاية، في ذلك الموقف الحاشد، وفي المكان الذي لا بد فيه من تفرق الناس عنه (صلى الله عليه وآله)، وذهاب كل منهم إلى بلده، ولعل إرجاع المتقدمين، وحبس المتأخرين يشبهها إخراج الإمام (عليه السلام) رأسه من العمارية..
يضاف إلى ذلك: أن موقفه (صلى الله عليه وآله) كان آخر مواقفه العامة في حياته إلى آخر ما هنالك من وجوه الشبه بين الواقعتين.
ولعلنا نجد تشابهاً بين هذه الواقعة، وبين قضية إرجاع أبي بكر عن تبليغ آيات سورة براءة، ثم إرسال علي مكانه..
وإننا إذا ما أدركنا بعمق مدى ارتباط مسألة: «الولاية» بمسألة «التوحيد» فلسوف نعرف: أن قوله (عليه السلام): «وأنا من شروطها» لم تمله عليه مصلحته الخاصة، ولا قضاياه الشخصية..
ولسوف ندرك أيضاً: الهدف الذي من أجله ذكر الإمام (عليه السلام) سلسلة سند الرواية، الأمر الذي ما عهدناه، ولا ألفناه منهم (عليهم السلام). إلا في حالات نادرة، فإنه (عليه السلام) قد أراد أن ينبه بذلك على مدى ارتباط مسألة القيادة للأمة بالمبدأ الأعلى..
الإمام ولي الأمر من قبل الله، لا من قبل المأمون:
وعدا عن ذلك كله.. فإننا نجد أن الإمام (عليه السلام)، حتى في هذا الموقف، قد اهتبل الفرصة، وأبلغ ذلك الحشد الذي يضم عشرات بل مئات الألوف: أنه الإمام للمسلمين جميعاً، والمفترض الطاعة عليهم، على حد تعبير القندوزي الحنفي، وغيره.. وذلك عندما قال لهم: «وأنا من شروطها».
وبذلك يكون قد ضيع على المأمون أعظم هدف كان يرمي إليه من استقدام الإمام (عليه السلام) إلى مرو. ألا وهو: الحصول على اعتراف بشرعية خلافته، وخلافة بني أبيه العباسيين.
____________
(1) قد استرشدنا في بعض ما ذكرناه بما ذكره الأستاذ علي غفوري، في كتابه: «ياد بود هشتمين امام» [فارسي].
وقد أكد (عليه السلام) على هذا المعنى كثيراً، وفي مناسبات مختلفة، حتى للمأمون نفسه في وثيقة العهد كما سيأتي، وأيضاً في الكتاب الجامع لأصول الإسلام والأحكام، الذي طلبه منه المأمون، حيث كتب فيه أسماء الأئمة الاثني عشر (عليهم السلام)، مع أن عدداً منهم لم يكونوا قد ولدوا بعد، كما أنه ذكر أسماءهم في احتجاجه على العلماء والمأمون في بعض مجالسهم العلمية، وفي غير ذلك من مواقفه الكثيرة (عليه السلام).
الإمام يبلغ عقيدته لجميع الفئات:
وأخيراً.. لا بد لنا في نهاية حديثنا عن هذا الموقف التاريخي من الإشارة إلى أنه كان من الطبيعي أن يضم ذلك الحشد العظيم، الذي يقدر بعشرات. بل بمئات الألوف:
1 ـ حشداً من أهل الحديث واتباعهم، الذين جعلوا صلحاً جديداً بين الخلفاء الثلاثة، وبين علي (عليه السلام) في معتقداتهم، بشرط أن يكون هو الرابع في الخلافة والفضل. ولفقوا من الأحاديث في ذلك ما شاءت لهم قرائحهم، حتى جعلوه إذا سمع ذكراً لأبي بكر يبكي حباً، ويمسح عينيه ببرده(1).
وجعلوه أيضاً ضراباً للحدود بين يدي الثلاثة: أبي بكر، وعمر،
____________
(1) تاريخ الخلفاء ص 120، وغيره.
2 ـ وحشداً من أهل الإرجاء، الذين ما كانوا يقيمون وزناً لعلي، وعثمان. بل كانت المرجئة الأولى لا يشهدون لهما بإيمان، ولا بكفر..
3 ـ وأيضاً.. أن يضم حشداً من أهل الاعتزال، الذين أحاطوا بالمأمون، بل ويعد هو منهم، والذين تدرجوا في القول بفضل علي (عليه السلام) حسبما اقتضته مذاهبهم ومشاربهم، فقد كان مؤسسا نحلة الاعتزال: واصل بن عطاء، وعمرو بن عبيد، لا يحكمان بتصويبه في وقعة الجمل مثلاً، ولكن أتباعهما تدرجوا على مر الزمان في القول بفضله، فقد شكك أبو الهذيل العلاف في أفضليته على أبي بكر، أو القول بتساويهما في الفضل.
ولكن رئيس معتزلة بغداد: بشر بن المعتمر، قد جزم بأفضليته على الخلفاء الثلاثة، ولكنه قال بصحة خلافتهم.. وقد تبعه جميع معتزلة بغداد، وكثير من البصريين.
وإذا كان ذلك الحشد الهائل يضم كل هؤلاء. وغيرهم ممن لم نذكرهم.. فمن الطبيعي أن تكون كلمة الإمام هذه: «وأنا من شروطها» ضربة موفقة ودامغة لكل هؤلاء، وإقامة للحجة عليهم جميعا. على اختلاف أهوائهم، ومذاهبهم..
ويكون قد بلغ بهذه الكلمة: «وأنا..» صريح عقيدته، وعقيدة
____________
(1) تاريخ الخلفاء ص 119، 120، والمحاسن والمساوي ج 1 ص 79 طبع مصر. والفتوحات الإسلامية لدحلان ط مصطفى محمد ج 2 ص 368.
(2) فقد قال بعد أن ضرب الوليد بن عقبة الحد، لشربه الخمر: «لتدعوني قريش بعد هذا جلادها». الغدير ج 8 ص 121. وقد صدقت نبوءته، صلوات الله وسلامه عليه، فقد جعلوه ـ كما ترى ـ ضرابا للحدود بين يدي الثلاثة!!.
بل لقد قال الشهرستاني: «.. وأعظم خلاف بين الأمة خلاف الإمامة، إذ ما سل سيف في الإسلام على قاعدة دينية مثلما سل على الإمامة في كل زمان.»(1).
وبعد كل ما قدمناه.. لا يبقى مجال للقول: إن قوله هذا: «وأنا..» لا ينسجم مع ما عرف عنه (عليه السلام) من التواضع البالغ، وخفض الجناح، إذ ليس ثمة من شك في أن للتواضع وخفض الجناح موضع آخر. وأنه كان لا بد للإمام في ذلك المقام، من بيان الحق الذي يصلح به الناس أولاً وآخراً، ويفتح عيونهم وقلوبهم على كل ما فيه الخير والمصلحة لهم، إن حاضرا، وإن مستقبلا، وإن جزع من ذلك قوم. وحنق آخرون.
تعقيب هام وضروري:
ومما هو جدير بالملاحظة هنا، هو أن أئمة الهدى (عليهم السلام) كانوا يستعملون التقية في كل شيء إلا في مسألة أنهم (عليهم السلام) الأحق بقيادة
____________
(1) الملل والنحل، ج 1 ص 24، وقال الخضري في محاضراته ج 1 ص 167: «.. والخلاصة: أن مسألة الخلافة الإسلامية والاستخلاف، لم تسر مع الزمن في طريق يؤمن فيه العثار. بل كان تركها على ما هي عليه، من غير محل محدد ترضاه الأمة، وتدفع عنه سبباً لأكثر الحوادث التي أصابت المسلمين، وأوجدت ما سيرد عليكم من أنواع الشقاق والحروب المتواصلة، التي قلما يخلو منها زمن، سواء كان ذلك بين بيتين، أو بين شخصين.» انتهى.
وأقول: إذن. كيف جاز للنبي (صلى الله عليه وآله) أن يترك الأمة هكذا هملا، ثم لا يضع حلاً لأعظم مشكلة تواجهه، مع أن شريعته كاملة وشاملة، وقد بين فيها كل ما تحتاجه الأمة، حتى أرش الخدش.
وذلك يدل على مدى ثقتهم بأنفسهم، وبأحقيتهم بهذا الأمر.
فنرى الإمام موسى (عليه السلام) يواجه ذلك الطاغية الجبار هارون بهذه الحقيقة، ويصارحه بها، أكثر من مرة، وفي أكثر من مناسبة(1). بل لقد رأينا الرشيد نفسه يعترف بأحقيتهم تلك في عدد من المناسبات على ما في كتب السير والتاريخ.
ولقد نقل غير واحد(2) أنه: عندما وقف الرشيد على قبر النبي (صلى الله عليه وآله)، وقال مفتخرا: السلام عليك يا ابن عم. جاء الإمام موسى (عليه السلام)، وقال: السلام عليك يا أبة. فلم يزل ذلك في نفس الرشيد إلى أن قبض عليه: وعندما قال له الرشيد: أنت الذي تبايعك الناس سراً؟!
أجابه الإمام (عليه السلام): أنا إمام القلوب، وأنت إمام الجسوم(3). وأما الحسن، والحسين، وأبوهما، فحالهما في ذلك أشهر من أن يحتاج إلى بيان.
بل إن أعظم شاهد على مدى ثقتهم بأحقية دعواهم الإمامة ما قاله الإمام الرضا (عليه السلام) للقائل له: إنك قد شهرت نفسك بهذا الأمر، وجلست مجلس أبيك، وسيف هارون يقطر الدم؟!.
____________
(1) راجع: الصواعق المحرقة، وينابيع المودة، ووفيات الأعيان، والبحار، وقاموس الرجال، وغير ذلك.
(2) البداية والنهاية ج 10 ص 183، والكامل لابن الأثير ج 6، ص 164 ط صادر، والصواعق المحرقة ص 122، والإتحاف بحب الأشراف ص 55، ومرآة الجنان ج 1 وأعيان الشيعة، وينابيع المودة، وغير ذلك.
(3) الإتحاف بحب الأشراف ص 55، والصواعق المحرقة ص 122.
وفي هذا المعنى روايات عديدة(2).
ولكنهم (عليهم السلام) قد انصرفوا بعد الحسين (عليه السلام) عن طلب هذا الأمر بالسيف. إلى تربية الأمة، وحماية الشريعة من الانحرافات التي كانت تتعرض لها باستمرار، ولأنهم كانوا يعلمون: أن طلب هذا الأمر من دون أن يكون له قاعدة شعبية قوية وثابتة، وواعية، لن يؤدي إلى نتيجة، ولن يقدر له النجاح، الذي يريدونه هم، ويريده الله. ولكنهم ـ كما قلنا ـ ظلوا (عليهم السلام) يجاهرون بأحقيتهم بهذا الأمر، حتى مع خلفاء وقتهم، كما يظهر لكل من راجع مواقفهم وأقوالهم في المناسبات المختلفة.
الموقف الخامس:
رفضه الشديد لكلا عرضي المأمون: الخلافة، وولاية العهد، وإصراره على هذا الرفض الذي استمر أشهراً، وهو في مرو نفسها، حتى لقد هدده المأمون أكثر من مرة بالقتل.
وبذلك يكون قد مهد الطريق ليواجه المأمون بالحقيقة، حيث قال له: إنه يريد أن يقول للناس: إن علي بن موسى لم يزهد بالدنيا، وإنما الدنيا هي التي زهدت فيه، وليكون بذلك قد أفهم المأمون أن
____________
(1) المناقب لابن شهرآشوب ج 4 ص 339، وعيون أخبار الرضا ج 2 ص 213.
(2) راجع: البحار ج 49، وروضة الكافي: وعيون أخبار الرضا، وإرشاد المفيد، وغير ذلك.
الموقف السادس:
ولم يكتف الإمام (عليه السلام) بذلك كله.. بل كان لا يدع فرصة تمر إلا يؤكد فيها على أن المأمون قد أكرهه على هذا الأمر، وأجبره عليه، وهدده بالقتل إن لم يقبل.
يضاف إلى ذلك.. أنه كان يخبر الناس في مختلف المناسبات: أن المأمون سوف ينكث العهد، ويغدر به.. حتى لقد قال في نفس مجلس البيعة للمستبشر: «لا تستبشر، فإنه شيء لا يتم» بل لقد كتب في نفس وثيقة العهد ما يدل على ذلك دلالة واضحة، كما سيأتي بيانه في الموقف الثامن.
هذا عدا عن أنه كان يصرح بأنه لا يقتله إلا المأمون، ولا يسمه إلا هو، حتى لقد واجه نفس المأمون بهذا الأمر.
بل إنه لم يكن يكتفي بمجرد القول، وإنما كانت حالته على وجه العموم في فترة ولاية العهد تشير إلى عدم رضاه بهذا الأمر، وإلى أنه مكره مجبر عليه.
حيث إنه كان على حد تعبير الرواة: «في ضيق شديد، ومحنة عظيمة» و «لم يزل مغموماً مكروباً حتى قبض»، و «قبل البيعة، وهو باك حزين» وكان كما يقول المدائني: «إذا رجع يوم الجمعة من
إلى آخر ما هنالك، مما لا يمكن استقصاؤه في مثل هذه العجالة..
وواضح: أن كل ذلك سوف يؤدي إلى عكس النتيجة، التي كان يتوخاها المأمون من البيعة، وخصوصاً إذا ما أردنا الملائمة بين مواقفه هذه، وموقفه في نيشابور، وموقفه صلاتي العيد في مرو.
الموقف السابع:
إنه كان لا يدع فرصة تمر إلا ويؤكد فيها على أن المأمون لم يجعل له إلا ما هو حق له، وأنه لم يزد بذلك على أن أرجع الحق إلى أهله، بعد أن كانوا قد اغتصبوه منهم، بل وإثبات أن خلافة المأمون ليست صحيحة ولا هي شرعية.
أما ما يتعلق به بصحة خلافة المأمون:
فنلاحظ: أنه (عليه السلام) حتى في كيفية البيعة يشير ـ على ما صرح به كثير من المؤرخين ـ إلى أن المأمون، الذي يحتل عنوة مجلس رسول الله (صلى الله عليه وآله)، يجهل حتى كيفية ذلك العقد الذي خوله ـ بنظره ـ أن يكون في ذلك المجلس الخطير، حيث إنه (عليه السلام): «.. رفع يده، فتلقى بظهرها وجه نفسه، وبطنها وجوههم، فقال له المأمون: إبسط
____________
(1) البحار ج 49 ص 140، وعيون أخبار الرضا ج 2 ص 15.
ونظير ذلك أيضاً: ما روي من أن المأمون قد أمر الناس: أن يعودوا للبيعة من جديد، عندما أعلمه الإمام (عليه السلام): بأن كل من كان قد بايعه، قد بايعه بفسخ البيعة إلا الشاب الأخير.. وهاج الناس بسبب ذلك. وعابوا المأمون على عدم معرفته بالعقد الصحيح والكيفية الصحيحة للبيعة وهذه القضية مذكورة في العديد من المصادر أيضاً(2).
وأما أن الخلافة حق للإمام (عليه السلام) دون غيره:
فلعله لا يكاد يخفى على من له أدنى اطلاع على حياة الإمام (عليه السلام) ومواقفه وقد تحدثنا آنفاً عن موقفه في نيشابور، وهو في طريقه إلى مرو، وكيف أنه (عليه السلام) جعل نفسه الشريفة والاعتراف بإمامته شرطا لكلمة التوحيد، والدخول في حصن الله الحصين..
وأشرنا أيضاً: إلى أنه قد عدد الأئمة الشرعيين، وهو أحدهم في عديد من المناسبات والمواقف حتى فيما كتبه للمأمون. بل لقد المح إلى ذلك أيضاً بل لقد ذكره صراحة فيما كتبه على حاشية وثيقة العهد بخط يده.
كما أن من الأمور الجديرة بالملاحظة هنا خطاب الإمام (عليه السلام) حينما بويع له بولاية العهد، وهو ما يلي:
____________
(1) راجع: المناقب ج 4 ص 369، 364 والبحار ج 49 ص 14 4. وعلل الشرايع، ومقاتل الطالبيين، ونور الأبصار، ونزهة الجليس، وعيون أخبار الرضا.
(2) راجع: على سبيل المثال: شرح ميمية أبي فراس ص 204.
ولم يؤثر عنه في ذلك المجلس غير ذلك.. وهو معروف ومشهور بين أرباب السير والتاريخ..
ومن الواضح:أن اقتصاره على هذه الكلمة في ذلك المجلس الذي يقتضي إيراد خطبة طويلة، يتعرض فيها لمختلف المواضيع، وعلى الأقل لشكر المأمون على ما خصه به من ولاية العهد بعده ـ إن اقتصاره على هذا ـ يعتبر أسلوباً رائعاً لتركيز المفهوم الذي يريده الإمام (عليه السلام) في أذهان الناس، وإعطائهم الانطباع الحقيقي عن البيعة، وعن موقفه منها، ومن جهاز الحكم، في نفس مجلس البيعة، حتى لا يبقى هناك مجال للتكهن بأن: الإمام كان يرغب في هذا الأمر، ثم حدث ما أوجب غضبه وسخطه. وقد يكون له الحق في ذلك وقد لا يكون.
يضاف إلى كل ذلك:أنه (عليه السلام) قال لحميد بن مهران، حاجب المأمون: «.. وأما ذكرك صاحبك [يعني المأمون، والمأمون جالس]، الذي أجلني، فما أحلَّني إلا المحل الذي أحلَّه ملك مصر ليوسف الصديق (عليه السلام)، وكانت حالهما ما قد علمت.».
كما أنه (عليه السلام) قد قال أكثر من مرة وفي أكثر من مناسبة: «إن من أخذ برسول الله، لحقيق بأن يعطي به»، وذلك عندما عرض له المأمون بالمن عليه بأن جعله ولي عهده، وفي غير هذه المناسبة أيضاً.
المأمون يعترف بأحقية آل علي بالأمر:
ولعل من أعظم المواقف الجديرة بالتسجيل هنا موقفة (عليه السلام) مع المأمون،
فكانت النتيجة: أن نجح الإمام (عليه السلام) في انتزاع اعتراف من المأمون بأن العلويين هم الأقرب.. وتكون النتيجة ـ على حسب منطق المأمون، ومنطق أسلافه كما قدمنا ـ هي: أن العلويين هم الأحق بالخلافة والرياسة، وأنه هو، وآباءه غاصبون، ومعتدون..
فبينما المأمون والرضا (عليه السلام) يسيران، إذ قال المأمون:
«.. يا أبا الحسن، إني فكرت في شيء، فنتج لي الفكر الصواب فيه: فكرت في أمرنا وأمركم، ونسبنا ونسبكم، فوجدت الفضيلة فيه واحدة، ورأيت اختلاف شيعتنا في ذلك محمولا على الهوى والعصبية.
فقال له أبو الحسن الرضا (عليه السلام): إن لهذا الكلام جوابا، إن شئت ذكرته لك، وإن شئت أمسكت..
فقال له المأمون: إني لم أقله إلا لأعلم ما عندك فيه..
قال له الرضا (عليه السلام): أنشدك الله يا أمير المؤمنين، لو أن الله تعالى بعث نبيه محمداً (صلى الله عليه وآله)، فخرج علينا من وراء أكمة من هذه الآكام، يخطب إليك ابنتك، كنت مزوجه إياها؟.
فقال: يا سبحان الله، وهل أحد يرغب عن رسول الله (صلى الله عليه وآله)؟!.
فقال له الرضا (عليه السلام)، أفتراه كان يحل له أن يخطب إلي؟.
قال: فسكت المأمون هنيئة، ثم قال: «أنتم والله، أمس برسول الله رحماً»(1).
____________
(1) كنز الفوائد للكراجكي ص 166، والفصول المختارة من العيون والمحاسن ص 15، 16، والبحار ج 49 ص 188، ومسند الإمام الرضا (عليه السلام) ج 1 ص 100.
وبعد كل ذلك فقد قدمنا قول ابن المعتز:
وأعطاكم المأمون حق خلافة | لنا حقها، لكنه جاد بالدنيا |
وخلاصة الأمر:
إنه (عليه السلام) لم يكن يدخر وسعا في إحباط مسعى المأمون، وتضييع الفرصة عليه، وإفهام الناس أنه مكره على هذا الأمر، مجبر عليه. والتأكيد على أن المأمون لم يجعل له إلا ما هو حق له، ولذا فلا يمكن أن يعتبر قبوله بولاية العهد اعترافا بشرعية الخلافة العباسية، أو بشرعية أي تصرف من تصرفاتها. كما أنه إذا كان ذلك حقاً للإمام اغتصبه الغاصبون، واعتدى عليه فيه المعتدون، فليس المأمون حق في أن يعرض له (عليه السلام) بالمن عليه، بما جعل له من ولاية العهد.
وكذلك ليس للمأمون بعد: أن يدعي العدل والإنصاف، فضلاً عن الإيثار والتضحية في سبيل الآخرين، بعد أن فضح الإمام أهدافه من لعبته تلك، وعرف كل أحد أنها لم تكن شريفة ولا سليمة.
الأكذوبة المفضوحة:
وبعد.. فقد ذكر بعض أهل الأهواء، كابن قتيبة، وابن عبد ربه، واقعة خيالية، غير تلك التي ذكرناها آنفاً وهي:
أن المأمون قال لعلي بن موسى: علام تدعون هذا الأمر؟!.
قال: «بقرابة علي وفاطمة من رسول الله (صلى الله عليه وآله)..».
وهي واقعة مزيفة ومجعولة من أجل التغطية على الواقعة الحقيقية، التي جرت بينهما، والتي تنسجم مع كل الأحداث والوقائع، وجميع الدلائل والشواهد متظافرة على صحتها، ألا وهي تلك التي قدمناها آنفاً..
والدليل على زيف هذه الرواية: أنها لا توافق نظرة أئمة أهل البيت ورأيهم في الخلافة ومستحقها، لأنهم يرون ـ كما تدل عليه تصريحاتهم المتكررة، وأقوالهم المتضافرة ـ: «أن منصب الإمامة لا يكون إلا بالنص.
وأما الاستدلال بالقرابة، فقد قلنا في الفصل الأول من هذا الكتاب: أن أول من التجأ إليه أبو بكر، ثم عمر. ثم الأمويون، فالعباسيون، ثم أكثر، إن لم يكن كل مطالب بالخلافة.. وأنه إذا كان في كلام الأئمة وشيعتهم ما يفهم منه ذلك، فإنما اقتضاه الحجاج مع خصومهم.
وبعد.. فهل يخفى على الإمام (عليه السلام) ضعف ووهن هذه الحجة، مع أننا نراه يصرح في أكثر من مناسبة بأن القرابة لا تجدي ولا تفيد ـ كما سنشير إليه ـ وأنه لا بد في الإمام من جدارة وأهلية في مختلف الجهات، وعلى جميع المستويات.
ولقد كان على المأمون ـ لو صحت هذه الرواية ـ أن يغتنمها فرصة،
____________
(1) راجع: عيون الأخبار ج 2 ص 140، 141، طبع مصر سنة 1346، والعقد الفريد ج 5 ص 102، و ج 2 ص 386، طبع دار الكتاب العربي..
وعدا عن ذلك كله. كيف يمكن أن تنسجم هذه الرواية مع مواقف الإمام، وتصريحاته المتكررة حول مسألة الإمامة، وبأي شيء تثبت، وحول أوصاف الإمام ووظائفه، والتي لو أردنا استقصاءها لاحتجنا إلى عشرات الصفحات؟!.
وكذلك.. مع احتجاج الإمام (عليه السلام) على العلماء والمأمون في أكثر من مناسبة بالنص، وأيضاً مع موقفه (عليه السلام) في نيشابور؟!
اللهم إلا أن يكون أعلم أهل الأرض ـ باعتراف المأمون قد نسي حجته، وحجة آبائه، وكل من ينتسب إليهم، ويذهب مذهبهم..
تلك الحجة ـ التي عرفوا وكل المتشيعين لهم بها على مدى الزمان ـ نسيها ـ في تلك اللحظة فقط، لأن المأمون هو الذي يسأل، والرضا هو الذي يجيب!!.
وبعد، فهل يستطيع أن يشك في ذلك أحد.. وهو يرى رسالة الرضا، التي كتبها للمأمون تلبية لطلبه، وجمع له بها أصول الإسلام، والتي صرح فيها بالنص على علي (عليه السلام). بل وذكر فيها الأئمة الاثني عشر، الذين نص عليهم النبي (صلى الله عليه وآله) كلهم بأسمائهم، حتى من لم يكن قد ولد بعد منهم؟!. وهذه الرسالة مشهورة وقد أوردها واستشهد بها غير واحد من المؤرخين والباحثين(1).
____________
(1) وكان آخرهم الدكتور أحمد محمود صبحي في كتابه: نظرية الإمامة ص 388، وقال: إنها من المخطوطات الموجودة في دار الكتب المصرية تحت رقم 1258.