وسارعوا إلى طاعة الله، وطاعة أمير المؤمنين، فإنه الأمن إن سارعتم إليه، وحمدتم الله عليه، عرفتم الحظ فيه إن شاء الله.
وكتب بيده يوم الاثنين، لسبع خلون من شهر رمضان، سنة إحدى ومائتين.
قال القلقشندي: «ثم إنه تقدم إلى علي بن موسى، وقال له: اكتب خطك بقبول هذا العهد، وأشهد الله، والحاضرين عليك بما تعده في حق الله، ورعاية المسلمين، فكتب علي الرضا تحته إلخ».
صورة ما كان على ظهر العهد، بخط الإمام علي بن موسى الرضا (عليهما السلام)
الحمد لله الفعال لما يشاء، ولا معقب لحكمه، ولا راد لقضائه، يعلم خائنة الأعين، وما تخفي الصدور. وصلاته على نبيه محمد، خاتم النبيين، وآله الطيبين الطاهرين.
أقول ـ وأنا علي بن موسى الرضا بن جعفر ـ: إن أمير المؤمنين عضده الله بالسداد، ووفقه للرشاد، عرف من حقنا ما جهله غيره،
وإنه جعل إلي عهده، والإمرة الكبرى ـ إن بقيت ـ بعده، فمن حل عقدة أمر الله بشدها، وفصم عروة أحب الله إيثاقها، فقد أباح الله حريمه، وأحل محرمه، إذ كان بذلك زارياً على الإمام، منتهكاً حرمة الإسلام. بذلك جرى السالف، فصبر منه على الفلتات، ولم يعترض على العزمات، خوفاً من شتات الدين، واضطراب حبل المسلمين، ولقرب أمر الجاهلية، ورصد فرصة تنتهز، وبايقة تبتدر..
وقد جعلت الله على نفسي، إن استرعاني أمر المسلمين، وقلدني خلافته: العمل فيهم عامة، وفي بني العباس بن عبد المطلب خاصة بطاعته، وطاعة رسوله (صلى الله عليه وآله) وأن لا أسفك دماً حراماً، ولا أبيح فرجاً. ولا مالاً، إلا ما سفكته حدود الله، وأباحته فرائضه. وأن أتخير الكفاة جهدي وطاقتي، وجعلت بذلك على نفسي عهده مؤكداً، يسألني الله عنه، فإنه عز وجل يقول: (وأوفوا بالعهد، إن العهد كان مسؤولاً).
وإن أحدثت، أو غيرت، أو بدلت، كنت للغير مستحقاً، وللنكال متعرضاً. وأعوذ بالله من سخطه. وإليه أرغب في التوفيق لطاعته، والحول بيني وبين معصيته، في عافية لي وللمسلمين.
والجامعة والجفر يدلان على ضد ذلك، وما أدري ما يفعل بي ولا بكم. إن الحكم إلا لله، يقضي بالحق(1)، وهو خير الفاصلين..
____________
(1) الظاهر أن الصواب هو «يقص الحق» كما في معالم الإنافة.
وكتبت بخطي، بحضرة أمير المؤمنين، أطال الله بقاءه، والفضل ابن سهل، وسهل بن الفضل، ويحيى بن أكثم، وعبد الله بن طاهر، وثمامة بن أشرس، وبشر بن المعتمر، وحماد بن النعمان، في شهر رمضان، سنة إحدى ومائتين.
الشهود على الجانب الأيمن:
شهد يحيى بن أكثم على مضمون هذا المكتوب، ظهره، وبطنه. وهو يسأل الله: أن يعرف أمير المؤمنين، وكافة المسلمين ببركة هذا العهد، والميثاق. وكتب بخطه في تاريخ المبين فيه..
عبد الله بن طاهر بن الحسين، أثبت شهادته فيه بتاريخه.
شهد حماد بن النعمان بمضمونه: ظهره وبطنه، وكتب بيده في تاريخه بشر بن المعتمر يشهد بمثل ذلك.
الشهود على الجانب الأيسر:
رسم أمير المؤمنين، أطال الله بقاءه قراءة هذه الصحيفة. التي هي صحيفة الميثاق. نرجو أن نجوز بها الصراط، ظهرها وبطنها، بحرم سيدنا رسول الله (صلى الله عليه وآله)، بين الروضة والمنبر، على رؤوس الأشهاد، بمرأى ومسمع من وجوه بني هاشم، وساير الأولياء والأجناد، بعد استيفاء شروط البيعة عليهم، بما أوجب أمير المؤمنين الحجة به على جميع
وكتب الفضل بن سهل بأمر أمير المؤمنين بالتاريخ فيه(1).
____________
(1) وفي هامش نسخة مصححة قال: مصححها: «قال العبد الفقير إلى الله تعالى، الفضل بن يحيى عفى الله عنه: قابلت المكتوب الذي كتبه الإمام علي بن موسى الرضا صلوات الله عليه، وعلى آبائه الطاهرين بأصله الذي كتبه الإمام المذكور (عليه السلام) بيده الشريفة، حرفاً فحرفاً. وألحقت ما فات منه، وذكرت أنه من خطه. وذلك يوم الثلاثاء، مستهل المحرم، من سنة تسع وتسعين وست مأة الهلالية بواسط، والحمد لله، وله المنة» انتهى أقول: والذي ألحقه هو ما قدمناه في هوامش الصفحات المتقدمة..
رسالة المأمون إلى العباسيين
مصادر الكتاب:
هذا الكتاب مذكور في طرائف ابن طاووس، الترجمة الفارسية من ص 131، إلى ص 135، نقلاً عن كتاب نديم الفريد، لابن مسكويه، صاحب كتاب حوادث الإسلام.. وفي البحار للعلامة المجلسي ج 49 من ص 208 إلى ص 214، وفي قاموس الرجال ج 10 ص 356، إلى 360، وفي ينابيع المودة للقندوزي الحنفي ص 484، 485 مختصراً، ونقل في الغدير ج 1 ص 212 قسما منه عن عبقات الأنوار للهندي ج 1 ص 147، وأشار إليه غير واحد من المؤلفين.
نص الكتاب:
كتب العباسيون كتاباً إلى المأمون، وطلبوا منه الإجابة عليه، فأجابهم بما يلي:
«والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وآل محمد. على رغم أنف الراغمين..
أما بعد:
عرف المأمون كتابكم، وتدبير أمركم. ومخض زبدتكم. وأشرف على قلوب صغيركم وكبيركم، وعرفكم مقبلين ومدبرين، وما آل إليه كتابكم قبل كتابكم. في مراوضة الباطل، وصرف وجوه الحق عن مواضعها، ونبذكم كتاب الله والآثار، وكلما جاءكم به الصادق محمد (عليه السلام)، حتى كأنكم من الأمم السالفة، التي هلكت بالخسفة، والغرق، والريح، والصيحة، والصواعق، والرجم..
أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها؟. والذي هو أقرب إلى المأمون من حبل الوريد، لولا أن يقول قائل: إن المأمون ترك الجواب عجزا لما أجبتكم، من سوء أخلاقكم، وقلة أخطاركم. وركاكة عقولكم، ومن سخافة ما تأوون إليه من آرائكم، فليستمع مستمع، فليبلغ شاهد غائباً..
أما بعد:
فإن الله تعالى بعث محمداً على فترة من الرسل، وقريش في أنفسها، وأموالها، لا يرون أحداً يساميهم، ولا يباريهم، فكان نبينا (صلى الله عليه وآله) أميناً من أوسطهم بيتاً، وأقلهم مالاً، فكان أول من آمن به خديجة بنت خويلد، فواسته بمالها. ثم آمن به أمير المؤمنين علي بن أبي طالب سبع سنين، لم يشرك بالله شيئاً طرفة عين، ولم يعبد وثناً، ولم يأكل رباً، ولم يشاكل الجاهلية في جهالاتهم، وكانت عمومة رسول الله إما مسلم مهين، أو كافر معاند، إلا حمزة فإنه لم يمتنع من الإسلام، ولا يمتنع الإسلام منه، فمضى لسبيله على بينة من ربه.
وأما أبو طالب: فإنه كفله ورباه، ولم يزل مدافعاً عنه، ومانعاً منه، فلما قبض الله أبا طالب، فهم القوم، وأجمعوا عليه ليقتلوه،
فلم يقم مع رسول الله (صلى الله عليه وآله) أحد من المهاجرين كقيام علي بن أبي طالب (عليه السلام): فإنه آزره ووقاه بنفسه، ونام في مضجعه. ثم لم يزل بعد مستمسكاً بأطراف الثغور، وينازل الأبطال، ولا ينكل عن قرن، ولا يولي عن جيش، منيع القلب، يؤمر على الجميع، ولا يؤمر عليه أحد. أشد الناس وطأة على المشركين، وأعظمهم جهاداً في الله، وأفقههم في دين الله، وأقرأهم لكتاب الله، وأعرفهم بالحلال والحرام.
وهو صاحب الولاية في حديث «غدير خم» وصاحب قوله: «أنت مني بمنزلة هارون من موسى، إلا أنه لا نبي بعدي» وصاحب يوم الطائف، وكان أحب الخلق إلى الله تعالى، وإلى رسول الله (صلى الله عليه وآله). وصاحب الباب، فتح له، وسد أبواب المسجد. وهو صاحب الراية يوم خبير. وصاحب عمرو بن عبد ود في المبارزة. وأخو رسول الله (صلى الله عليه وآله) حين آخى بين المسلمين.
وهو منيع جزيل. وهو صاحب آية: (ويطعمون الطعام على حبه مسكيناً، ويتيماً، وأسيراً). وهو زوج فاطمة سيدة نساء العالمين، وسيدة نساء أهل الجنة، وهو ختن خديجة (عليه السلام). وهو ابن عم رسول الله (صلى الله عليه وآله)، رباه وكفله. وهو ابن أبي طالب في نصرته وجهاده. وهو نفس رسول الله (صلى الله عليه وآله) في يوم المباهلة.
وهو الذي لم يكن أبو بكر وعمر ينفذان أمراً حتى يسألانه عنه، فما رأى إنفاذه أنفذاه، وما لم يراه رداه. وهو دخل من بني هاشم في
فأما تقديمكم العباس عليه، فإن الله تعالى يقول: (أجعلتم سقاية الحاج، وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر، وجاهد في سبيل الله، لا يستوون عند الله).
والله، لو كان ما في أمير المؤمنين من المناقب والفضائل، والآي المفسرة في القرآن خلة واحدة في رجل من رجالكم. أو غيره، لكان مستأهلاً متأهلاً للخلافة، مقدماً على أصحاب رسول الله بتلك الخلة.
ثم لم يزل الأمور تتراقى به إلى أن ولي أمور المسلمين، فلم يعن بأحد من بني هاشم إلا بعبد الله بن عباس، تعظيماً لحقه، ووصلة لرحمه، وثقة به، فكان من أمره الذي يغفر الله له..
ثم.. نحن وهم يد واحدة ـ كما زعمتم ـ حتى قضى الله تعالى بالأمر إلينا، فأخفناهم. وضيقنا عليهم، وقتلناهم أكثر من قتل بني أمية إياهم.. ويحكم، إن بني أمية إنما قتلوا من سل منهم سيفاً، وإنا معشر بني العباس قتلناهم جملاً، فلتسألن أعظم الهاشمية بأي ذنب قتلت، ولتسألن نفوس ألقيت في دجلة والفرات، ونفوس دفنت بغداد والكوفة أحياء، هيهات، إنه من يعمل مثقال ذرة خيراً يره، ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره..
وأما ما وصفتم في أمر المخلوع، وما كان فيه من لبس، فلعمري ما لبس عليه أحد غيركم، إذ هونتم عليه النكث، وزينتم له الغدر، وقلتم له: ما عسى أن يكون من أمر أخيك، وهو رجل مغرب، ومعك الأموال والرجال، نبعث إليه، فيؤتى به، فكذبتم، ودبرتم،
____________
(1) في الترجمة الفارسية هكذا: «على دفع علي (عليه السلام) عنها إلخ».
وأما ما ذكرتم: من استبصار المأمون في البيعة لأبي الحسن الرضا (عليه السلام)، فما بايع له المأمون إلا مستبصرا في أمره، عالما بأنه لم يبق أحد على ظهرها أبين فضلاً، ولا أظهر عفة، ولا أورع ورعاً، ولا أزهد زهداً في الدنيا، ولا أطلق نفساً، ولا أرضى في الخاصة والعامة، ولا أشد في ذات الله منه. وإن البيعة له لموافقة رضا الرب عز وجل. ولقد جهدت وما أجد في الله لومة لائم.
ولعمري، لو كانت بيعتي بيعة محاباة، لكان العباس ابني، وسائر ولدي أحب إلى قلبي، وأجلى في عيني، ولكن أردت أمراً، وأراد الله أمراً، فلم يسبق أمري أمر الله وأما ما ذكرتم: مما مسكم من الجفاء في ولايتي: فلعمري ما كان ذلك إلا منكم بمظافرتكم عليه، علي [خ د] وممايلتكم إياه، فلما قتلته وتفرقتم عباديد، فطوراً أتباعاً لابن أبي خالد، وطوراً أتباعاً لأعرابي، وطوراً أتباعاً لابن شكلة، ثم لكل من سل سيفاً علي، ولولا أن شيمتي العفو، وطبيعتي التجاوز ما تركت على وجهها منكم أحداً، فكلكم حلال الدم، محل بنفسه.
وأما ما سألتم: من البيعة للعباس ابني.. أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير؟! ويلكم، إن العباس غلام حدث السن، ولم يؤنس رشده، ولم يمهل وحده، ولم تحكمه التجارب. تدبره النساء، وتكفله الإماء، ثم.. لم يتفقه في الدين، ولم يعرف حلال من حرام، إلا معرفة لا تأتي به رعية، ولا تقوم به حجة، ولو كان مستأهلاً، قد أحكمته التجارب، وتفقه في الدين، وبلغ مبلغ أمير العدل في الزهد في الدنيا، وصرف النفس عنها.. ما كان له عندي في الخلافة، إلا ما كان لرجل من عك وحمير، فلا تكثروا من هذا المقال، فإن لساني لم
فإذ أبيتم إلا كشف الغطاء، وقشر العظاء، فالرشيد أخبرني عن آبائه، وعما وجده في كتاب الدولة، وغيرها: أن السابع من ولد العباس، ولا تقوم لبني العباس بعده قائمة، ولا تزال النعمة متعلقة عليهم بحياته، فإذا أودعت فودعها، فإذا أودع فودعاها، وإذا فقدتم شخصي، فاطلبوا لأنفسكم معقلاً، وهيهات، ما لكم إلا السيف، يأتيكم الحسني الثائر البائر، فيحصدكم حصداً، أو السفياني المرغم، والقائم المهدي لا يحقن دماءكم إلا بحقها.
وأما ما كنت أردته من البيعة لعلي بن موسى، بعد استحقاق منه لها في نفسه، واختيار مني له، فما كان ذلك مني إلا أن أكون الحاقن لدمائكم، والذائد عنكم، باستدامة المودة بيننا وبينهم. وهي الطريق أسلكها في إكرام آل أبي طالب، ومواساتهم في الفيئ بيسير ما يصيبهم منه.
وإن تزعموا: أني أردت أن يؤول إليهم عاقبة ومنفعة، فإني في تدبيركم، والنظر لكم ولعقبكم، وأنبائكم من بعدكم.. وأنتم ساهون، لاهون، تائهون، في غمرة تعمهون، لا تعلمون ما يراد بكم، وما أظللتم عليه من النقمة، وابتزاز النعمة. همة أحدكم أن يمسي مركوباً، ويصبح مخموراً تباهون بالمعاصي، وتبتهجون بها، وآلهتكم البرابط، مخنثون. مؤنثون لا يتفكر متفكر منكم في إصلاح معيشة، ولا استدامة نعمة، ولا اصطناع مكرمة، ولا كسب حسنة يمد بها عنقه، يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.
أضعتم الصلاة، واتبعتم الشهوات، وأكببتم على اللذات، فسوف تلقون غياً. وأيم الله، لربما أفكر في أمركم. فلا أجد أمة من الأمم استحقوا
وأما ما ذكرتم: من العثرة كانت في أبي الحسن (عليه السلام) نور الله وجهه، فلعمري، إنها عندي للنهضة والاستقلال الذي أرجو به قطع الصراط، والأمن والنجاة من الخوف يوم الفزع الأكبر. ولا أظن عملا هو عندي أفضل من ذلك، إلا أن أعود بمثلها إلى مثله، وأين لي بذلك، وأنى لكم بتلك السعادة.
وأما قولكم: إني سفهت آراء آبائكم، وأحلام أسلافكم، فكذلك قال مشركوا قريش: (إنا وجدنا آباءنا على أمة. وإنا على آثارهم مقتدون). ويلكم، إن الدين لا يؤخذ إلا من الأنبياء، فافقهوا، وما أراكم تعقلون.
وأما تعييركم إياي: بسياسة المجوس إياكم، فما أذهبكم الآنفة(1) من ذلك، ولو ساستكم القردة والخنازير، وما أردتم إلا أمير المؤمنين.
ولعمري، لقد كانوا مجوساً فأسلموا، كآبائنا، وأمهاتنا في القديم، فهم المجوس الذين أسلموا وأنتم المسلمون الذين ارتدوا، فمجوسي أسلم خير من مسلم ارتد، فهم يتناهون عن المنكر، ويأمرون بالمعروف، ويتقربون من الخير، ويتباعدون من الشر، ويذبون عن حرم المسلمين،
____________
(1) الظاهر أن الصواب: «فما أذهبكم عن الآنفة».
وليس منكم إلا لاعب بنفسه، مأفون في عقله وتدبيره: إما مغن، أو ضارب دف، أو زامر. والله، لو أن بني أمية الذين قتلتموهم بالأمس نشروا، فقيل لهم: لا تأنفوا من معائب تنالوهم بها، لما زادوا على ما صيرتموه لكم شعاراً ودثاراً، وصناعة وأخلاقاً..
ليس منكم إلا من إذا مسه الشر جزع، وإذا مسه الخير منع، ولا تأنفون، ولا ترجعون إلا خشية، وكيف يأنف من يبيت مركوباً، ويصبح بإثمه معجبا، كأنه قد اكتسب حمدا، غايته بطنه وفرجه، لا يبالي أن ينال شهوته بقتل ألف نبي مرسل، أو ملك مقرب، أحب الناس إليه من زين له معصية، أو أعانه في فاحشة، تنظفه المخمورة، وتربده المطمورة، فشتت الأحوال.. فإن ارتدعتم مما أنتم فيه من السيئات والفضائح. وما تهذرون به من عذاب ألسنتكم.. وإلا فدونكم تعلوا بالحديد..
ولا قوة إلا بالله، وعليه توكلي، وهو حسبي».
رسالة عبد الله بن موسى إلى المأمون
النص الأول للرسالة:
قال أبو الفرج الأصفهاني، صاحب كتاب «الأغاني»، في كتابه: مقاتل الطالبيين ص 630، 631، في معرض حديثه عن عبد الله بن موسى، بن عبد الله بن الحسن، بن علي بن أبي طالب (عليه السلام)، الذي كان قد توارى في أيام المأمون:
«.. وأخبرني جعفر بن محمد الوراق الكوفي، قال: حدثني عبد الله بن علي بن عبيد الله العلوي الحسيني، عن أبيه، قال: كتب المأمون إلى عبد الله بن موسى، وهو متوار منه، يعطيه الأمان، ويضمن له: أن يوليه العهد بعده، كما فعل بعلي بن موسى، ويقول:
«.. ما ظننت أن أحداً من آل أبي طالب يخافني، بعدما عملته بالرضا..».
وبعث الكتاب إليه. فكتب إليه عبد الله بن موسى:
«.. وصل كتابك، وفهمته، تختلني فيه عن نفسي ختل القانص، وتحتال علي حيلة المغتال، القاصد لسفك دمي.
أفي الملك الذي قد غرتك نضرته وحلاوته؟!. فوالله، لأن أقذف ـ وأنا حي ـ في نار تتأجج أحب إلي من أن ألي أمراً بين المسلمين، أو أشرب شربة من غير حلها، مع عطش شديد قاتل..
أم في العنب المسموم، الذي قتلت به الرضا؟!.
أم ظننت أن الاستتار قد أملني، وضاق به صدري؟!. فوالله، إني لذلك، ولقد مللت الحياة، وأبغضت الدنيا، ولو وسعني في ديني أن أضع يدي في يدك، حتى تبلغ من قبلي مرادك. لفعلت ذلك، ولكن الله قد حظر علي المخاطرة بدمي. وليتك قدرت علي، من غير أن أبذل نفسي لك. فتقتلني، ولقيت الله عز وجل بدمي، ولقيته قتيلاً مظلوماً، فاسترحت من هذه الدنيا.
واعلم: أني رجل طالب النجاة لنفسي، واجتهدت فيما يرضي الله عز وجل عني، وفي عمل أتقرب به إليه، فلم أجد رأيا يهدي إلى شيء من ذلك. فرجعت إلى القرآن. الذي فيه الهدى والشفاء، فتصفحته سورة سورة، وآية آية، فلم أجد شيئاً أزلف للمرء عند ربه، من الشهادة في طلب مرضاته.
ثم تتبعته ثانية، أتأمل الجهاد أيه أفضل، ولأي صنف، فوجدته جل وعلا يقول: (قاتلوا الذين يلونكم من الكفار، وليجدوا فيكم غلظة) فطلبت أي الكفار أضر على الإسلام. وأقرب من موضعي، فلم أجد أضر على الإسلام منك، لأن الكفار أظهروا كفرهم، فاستبصر الناس في أمرهم، وعرفوهم فخافوهم. وأنت ختلت المسلمين بالإسلام، وأسررت الكفر، فقتلت بالظنة، وعاقبت بالتهمة، وأخذت مال الله من غير حله، فأنفقته في غير حله، وشربت الخمر المحرمة صراحاً،
وثمة نص آخر:
وكان أبو الفرج قد ذكر قبل ذلك أي في ص 628، 629 من نفس الكتاب نصاً آخر هو إما رسالة أخرى. أو نص آخر لهذه الرسالة نفسها.. والظاهر أنه رسالة أخرى.. وكيف كان فقد قال أبو الفرج:
«وكان عبد الله توارى في أيام المأمون، فكتب بعد وفاة الرضا يدعوه إلى الظهور، ليجعله مكانه، ويبايع له، واعتد عليه بعفوه عمن عفا من أهله، وما أشبه هذا من القول:
فأجابه عبد الله برسالة طويلة يقول فيها:
فبأي شيء تغرني؟ ما فعلته بأبي الحسن ـ صلوات الله عليه ـ بالعنب الذي أطعمته إياه فقتلته.
والله، ما يقعدني عن ذلك خوف من الموت، ولا كراهة له، ولكن لا أجد لي فسحة في تسليطك على نفسي، ولولا ذلك لأتيتك حتى تريحني من هذه الدنيا الكدرة.
ويقول فيها:
هبني لا ثأر لي عندك وعند آبائك المستحلين لدمائنا، الآخذين حقنا،
فما أدري من يلينا منهم، فأعدت النظر، فوجدته يقول: (لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله، ولو كانوا آباءهم، أو إخوانهم، أو عشيرتهم) فعلمت أن علي أن أبدأ بما قرب مني..
وتدبرت، فإذا أنت أضر على الإسلام والمسلمين من كل عدو لهم، لأن الكفار خرجوا منه، وخالفوه، فحذرهم الناس، وقاتلوهم، وأنت دخلت فيه ظاهراً، فأمسك الناس. وطفقت تنقض عراه عروة عروة، فأنت أشد أعداء الإسلام ضرراً عليه..
ثم قال أبو الفرج: وهي رسالة طويلة أتينا بها في الكتاب الكبير..
رسالة سفيان إلى هارون
مصادر الرسالة:
ذكر هذه الرسالة الدميري في حياة الحيوان ج 2 ص 188، 189، نقلاً عن ابن بليان، والإمام الغزالي، ودحلان في الفتوحات الإسلامية ط مصطفى محمد ج 2 ص 449 حتى 453.
وأشار إليها ابن خلدون في مقدمته، ص 17 مستدلا بها على تدين الرشيد والتزامه.. وذكر جرجي زيدان شطراً منها في كتابه: تاريخ التمدن الإسلامي المجلد الأول، جزء 2 ص 385، 386، والمجلد الثاني جزء 4 ص 480، ونحن نذكرها هنا عن الدميري مع بعض تعديلات عن دحلان.
مناقشة لا بد منها:
ولكن الرسالة تذكر أن الذي كاتبه الرشيد، والمجيب له هو سفيان الثوري.. وهذا لا يمكن أن يكون صحيحاً، فإن سفيان قد توفي في خلافة المهدي متخفيا، في سنة 161 ه، وهارون لم يتول الخلافة إلا في سنة 170 ه.
ولعل الراوي قد اشتبه عليه الأمر، عفوا، أو عمداً! لحاجة في نفسه قضاها. وأياماً كانت الحقيقة، فإن هذه الرسالة تعتبر وثيقة تاريخية هامة، لأنها تصور لنا حقيقة الوضع في تلك الفترة من الزمن..
وتعطينا شأنها شأن رسالة الخوارزمي، ورسالة عبد الله بن موسى إلى المأمون صورة واضحة عما كان يمارسه خلفاء ذلك الوقت من مآثم، وما يرتكبونه من موبقات..
نص الرسالة:
وملخص حكاية هذه الرسالة هي: أن الرشيد أرسل إلى سفيان الثوري! ـ وقد قلنا: إن الظاهر: أنه ابن عيينة ـ كتاباً يتودد إليه فيه، ويطلب منه أن يقدم عليه.
فلما وصل الكتاب إلى سفيان، رماه من يده، وقال لإخوانه: ليقرأه بعضكم، فإني أستغفر الله أن أمس شيئاً مسه ظالم.
فلما قرأوه، أمرهم أن يكتبوا إلى الظالم في الجواب ما يلي:
«من العبد الميت سفيان، إلى العبد المغرور بالآمال هارون، الذي سلب حلاوة الإيمان، ولذة قراءة القرآن.
أما بعد:
فإني كتبت إليك أعلمك: أني قد صرمت حبلك، وقطعت ودك، وقليت موضعك، وأنك جعلتني شاهداً عليك، بإقرارك على نفسك في كتابك: بما هجمت على بيت مال المسلمين، فأنفقته في غير حقه،
يا هارون، هجمت على بيت مال المسلمين بغير رضاهم. هل رضي بفعلك المؤلفة قلوبهم، والعاملون عليها في أرض الله، والمجاهدون في سبيل الله، وابن السبيل؟ أم رضي بذلك حملة القرآن، وأهل العلم؟!
أم رضي بفعلك الأيتام والأرامل؟!.
أم رضي بذلك خلق من رعيتك؟!.
فشد يا هارون مئزرك، وأعد للمسألة جوابا، وللبلاء جلباباً، واعلم أنك ستقف بين يدي الله الحكم العدل، فاتق الله في نفسك، إذا سلبت حلاوة العلم والزهد، ولذة قراءة القرآن. ومجالسة الأخيار، ورضيت لنفسك أن تكون ظالماً، وللظالمين إماماً.
يا هارون، قعدت على السرير، ولبست حرير، وأسبلت ستوراً دون بابك. وتشبهت بالحجبة برب العالمين، ثم أقعدت أجنادك الظلمة دون بابك وسترك، يظلمون الناس ولا ينصفون. ويشربون الخمر، ويحدون الشارب، ويزنون، ويحدون الزاني، ويسرقون، ويقطعون السارق. ويقتلون، ويقتلون القاتل، أفلا كانت هذه الأحكام عليك، وعليهم، قبل أن يحكموا بها على الناس؟! فكيف بك يا هارون غداً، إذا نادى المنادي من قبل الله:
احشروا الظلمة. وأعوانهم أين الظلمة، وأعوان الظلمة، فتقدمت بين يدي الله، ويداك مغلولتان إلى عنقك، لا يفكهما إلا عدلك وإنصافك، والظالمون حولك، وأنت لهم إمام، أو سائق إلى النار.
وإياك، ثم إياك أن تكتب إلي بعد هذا، فإني لا أجيبك.. والسلام».
ثم بعث بالكتاب منشوراً، من غير طي، ولا ختم..
قصيدة الأمير أبي فراس الحمداني
نقاط رئيسية:
كنت قد وعدت القارئ الكريم في فصل: سياسة العباسيين ضد العلويين، بأن أورد في أواخر هذا الكتاب قصيدة الأمير أبي فراس الحمداني المعروفة ب: «الشافية».
وقد حان الآن موعد الوفاء بذلك الوعد. وقبل ذلك، لا بأس بالإشارة إلى:
أن أبا فراس قد ولد في سنة 320 ه. وتوفي في سنة 357 ه. عليه الرحمة والرضوان..
وفي زمانه: كان بنو العباس الخلفاء، وآل بويه السلاطين، وآل حمدان الأمراء.
ولاء. وشجاعة:
وأما عن سبب نظم هذه القصيدة، فهو أن أبا فراس وقف على قصيدة ابن سكرة، التي يتحامل فيها على العلويين، والتي أولها:
بني علي دعوا مقالتكم | لا ينقص الدر وضع من وضعه |
فحمي أبو فراس، ونظم هذه القصيدة، التي سارت بها الركبان، ودخل بغداد، وأمر أن يشهر في المعسكر خمسمأة سيف، وقيل: أكثر من ذلك.. ثم أنشد هذه القصيدة، وخرج من الناحية الأخرى(1) وقد شرح هذه القصيدة عدد من الأدباء والعلماء منهم ابن خالويه، ومنهم محمد بن أمير الحاج حسيني.
والقصيدة هي:
الدين مخترم والحق مهتضــم | وفيء آل رسول الله مقتســــم |
والناس عندك لا ناس فيحفظهم | سوم الرعاة ولا شاء ولا نعـــم |
إني أبيت قليل النوم أرقنــي | قلب تصارع فيه الهم والهمـــم |
وعزمة لا ينام الدهر صاحبهـا | إلا على ظفر في طيه كــــرم |
يصان مهري لأمر لا أبوح بـه | والدرع والرمح والصمصامة الخذم |
وكل مائرة الضبعين مسرحهـا | رمث الجزيرة والحذراف والعنـم |
وفتية قلبهم قلب إذا ركبـــوا | يوماً ورأيهم رأي إذا عزمـــوا |
يا للرجال أما لله منتصــــر | من الطغاة، أما للدين منتقــــم |
بنو علي رعايا في ديارهـــم | والأمر تملكه النسوان والخـــدم |
____________
(1) راجع: شرح الشافية، لمحمد بن أمير حاج حسيني ص 6، وقاموس الرجال ج 10 ص 157، ورجال المامقاني ج 3 ص 30 من باب الكنى، ورجال أبي علي ص 349، والغدير ج 3 ص 403، والكنى والألقاب ج 1 ص 137، والفتوني في كشكوله، وغير ذلك.
محلاون فأصفى وردهم وشـل | عند الورود وأوفى شربهم لمــم |
فالأرض إلا على ملاكها سعـة | والمال إلا على أربابه ديــــم |
فما السعيد بها إلا الذي ظلمـوا | وما الشقي بها إلا الذي ظلمــوا |
للمتقين من الدنيا عواقبهـــا | وإن تعجل فيها الظالم الإثـــم |
لا يطغين بني العباس ملكهــم | بنو علي مواليهم، وإن رغمـوا |
أتفخرون عليهم لا أبا لكـــم | حتى كأن رسول الله جدكـــم |
وما توازن يوماً بينكم شـرف | ولا تساوت لكم في موطن قـدم |
ولا لكم مثلهم في المجد متصل | ولا لجدكم مسعاة جدهــــم |
ولا لعرقكم من عرقهم شبــه | ولا نثيلتكم من أمهم أمــــم |
قال النبي بها «يوم الغدير» لهــم | والله يشهد، والأملاك، والأمـم |
حتى إذا أصبحت في غير صاحبها | باتت تنازعها الذؤبان والرخـم |
وصيروا أمرهم شورى كأنهـــم | لا يعلمون ولاة الحق أيهـــم |
تالله ما جهل الأقوام موضعهـــا | لكنهم ستروا وجه الذي علمـوا |
ثم ادعاها بنو العباس ملكهـــم | وما لهم قدم فيها، ولا قدـــم |
لا يذكرون إذا ما معشر ذكــروا | ولا يحكم في أمر لهم حكـــم |
ولا رآهم أبو بكر وصاحبـــه | أهلاً لما طلبوا منها وما زعمـوا |
فهل هم يدعوها غير واجبـــة | أم هل أئمتهم في أخذها ظلمـوا |
أما علي فقد أدنى قرابتكـــــم | عند الولاية إن لم تكفر النعـم |
أينكر الحبر عبد الله نعمتـــــه | أبوكم، أم عبيد الله، أم قثــم |
بئس الجزاء جزيتم في بني حسـن | أباهم العلم الهادي، وأمهــم |
لا بيعة ردعتكم عن دمائهــــم | ولا يمين، ولا قربى ولا ذمـم |
هلا صفحتم عن الأسرى بلا سبب | للصافحين ببدر عن أسيركـم |
هلا كففتم عن الديباج سوطكــم | وعن بنات رسول الله شتمكـم |
ما نزهت لرسول الله مهجتـــه | عن السياط فهلا نزه الحــرم |
ما نال منهم بنو حرب وإن عظمت | تلك الجرائر إلا دون نيلكــم |
كم غدرة لكم في الدين واضحـة | وكم دم لرسول الله عندكـــم |
أأنتم آله فيما ترون وفــــي | أظفاركم من بنيه الطاهرين دم |
هيهات لا قربت قربى ولا رحم | يوماً إذا أقصت الأخلاق والشيم |
كانت مودة سلمان لهم رحمــاً | ولم تكن بين نوح وابنه رحـم |
يا جاهداً في مساويهم يكتمهــــا | غدر الرشيد بيحيى كيف ينكتـم |
ذاق الزبيري عبء الحنث وانكشفت | عن ابن فاطمة الأقوال والتهـم |
ليس الرشيد كموسى في القياس ولا | مأمونكم كالرضا إن أنصف الحكم(1) |
باؤا بقتل الرضا من بعد بيعتـــه | وأبصروا بعض يوم رشدهم وعموا |
يا عصبة شقيت من بعد ما سعدت | ومعشر هلكوا من بعد ما سلمـوا |
لبئسما لقيت منهم وإن بليــــت | بجانب الطف تلك الأعظم الرمـم |
____________
(1) كان هذا البيت مقدما على الذي قبله في بعض مصادر هذه القصيدة. لكن الصواب تأخيره، ليتحد السياق، وينسجم المعنى..
لا عن أبي مسلم في نصحه صفحوا | ولا الهبيري نجى الحلف والقسم |
ولا الأمان لأهل الموصل اعتمـدوا | فيه الوفاء، ولا عن غيهم حلموا |
أبلغ لديك بني العباس مألكـــــه | لا تدعوا ملكها ملاكها العجــم |
أي المفاخر أمست في منابركـــم | وغيركم آمر فيها، ومحتكـــم |
أنى يفيدكم في مفخر علــــــم | وفي الخلاف عليكم يخفق العلم |
يا باعة الخمر كفوا عن مفاخركــم | لمعشر بيعهم يوم الهيــاج دم |
خلوا الفخار لعلامين إن سئلـــوا | يوم السؤال، وعمالين إن علموا |
لا يغضبون لغير الله إن غصبــوا | ولا يضيعون حكم الله إن حكموا |
تنشى التلاوة في أبياتهم سحـــراً | وفي بيوتكم الأوتار والنغـــم |
إذا تلوا آية غني إمامكــــــم | قف بالديار التي لم يعفها قــدم |
منكم عُلّية أم منهم، وكان لكـــم | شيخ المغنين إبراهيم، أم لهــم |
ما في بيوتهم للخمر معتصــــر | ولا بيوتهم للشر معتصــــم |
ولا تبيت لهم خنثى تنادمهــــم | ولا يرى لهم قرد له حشـــم |
الركن والبيت والأستار منزلهم | وزمزم والصفا والحجر والحرم |
وليس من قسم في الذكر نعرفه | إلا وهم دون شك ذلك القســم |
وبذلك ينتهي هذا الكتاب، والحمد لله أولاً وآخراً، وصلى الله على خير خلقه أجمعين، محمد وآله الطيبين الطاهرين..
جعفر مرتضى الحسيني العاملي