الصفحة 95


الفصل الثالث

الإكراه.. إشارات ودلائل





الصفحة 96

الصفحة 97

الإكراه في مصادر الشيعة:

قد تقدم في الفصل الأول من القسم الأول في هذا الكتاب روايات كثيرة، وردت في الكافي وفي غيره من كتب الشيعة، تصرح بأن عمر قد هدد بقطع يد علي (عليه السلام)، وبقتله، وبتعوير زمزم، وهدم السقاية، وكل مأثرة لبني هاشم..

وأنه أمر الزبير بأن يطرح درعاً على سطح علي (عليه السلام)، تمهيداً لاتهامه بالسرقة. وأنه خطب الناس ليمهد لهذا الأمر.

وتقدم أيضاً أن العباس كان هو الواسطة بينه وبين علي (عليه السلام).. وقد أصرّ العباس على علي (عليه السلام) بأن يجعل أمر أم كلثوم إليه.. وأنه هو الذي بادر إلى تزويجها من عمر، ليدفع هذا المكروه العظيم.

كيف روي الإكراه في كتب السنة:

وحين عدنا إلى روايات أهل السنة، وجدنا أنها قد ألمحت بوضوح إلى الإكراه والإجبار الذي مارسه عمر.. وألمحت أيضاً إلى ما ورد في كتب الشيعة من تفاصيل، حتى إنك لتستطيع أن تجد معظم عناصر رواية الإستغاثة متوفرة في كتب أهل السنة، الذين كانوا وما زالوا حريصين كل

الصفحة 98
الحرص على إبعاد أي شبهة عن ساحة عمر بن الخطاب الذي لا نبالغ إذا قلنا: إنه أعز الخلفاء عليهم، وأحبهم إليهم..

ولكنها قد جاءت مجزأة ومتفرقة في الأبواب المختلفة، لا يلتفت أحد إلى وجود أي رابط بينها، إلا إذا اطلع على رواية الإستغاثة.. وسنقرأ في هذا الفصل بعضاً مما يوضح ذلك.. فنقول:

هل للحاكم أن يعمل بعلمه:

إن رواياتهم قد أشارت إلى أن عمر قد حاول أن ينتزع من الناس اعترافاً بأن له أن يعمل بعلمه، فيعاقب من يشاء لمجرد زعمه أنه رآه على فاحشة. ولكن علياً، أو علي وعبد الرحمن بن عوف، يرفض ذلك منه.

فقد روي: أن عمر كان يعس ذات ليلة بالمدينة، فلما أصبح قال للناس: "أرأيتم لو أن إماماً رأى رجلاً وامرأة على فاحشة، فأقام عليهما الحد، ما كنتم فاعلينقالوا: إنما أنت إمام.

فقال: علي بن أبي طالب: ليس ذلك لك، إذن يقام عليك الحد، إن الله لم يأمن على هذا الأمر أقل من أربعة شهود"(117).

وجاء في نص آخر: ثم تركهم ما شاء الله أن يتركهم، ثم سألهم فقال القوم مثل مقالتهم الأولى، وقال علي مثل مقالته الأولى(118).


الصفحة 99

ممانعة علي (عليه السلام) وتلويح عمر بالسوء:

وقد تقدمت اعتذارات علي (عليه السلام)، بأن له أمراء يريد أن يستأذنهم.

وبأنه حبس بناته على أبناء جعفر، ثم اعتذاره بصغر سن أم كلثوم، وبين هذه النصوص: نص يقول:

إنه (عليه السلام) قال لعمر: "إنها صبية".

فقال: إنك ـ والله ـ ما بك ذلك. ولكن قد علمنا ما بك، فأمر بها علي فصنعت، ثم أمر ببرد فطواه الخ..(119).

فقول عمر: ولكن قد علمنا مابك.. لا يخلو من لحن تهديد ووعيد.

وعند ابن اسحاق: خطب عمر إلى علي ابنته أم كلثوم، فأقبل علي وقال: إنها صغيرة.

فقال عمر: لا والله، ما ذاك بك، ولكن أردت منعي، فإن كانت كما

الصفحة 100
تقول فابعثها إلي، فرجع علي فدعاها فأعطاها حلة الخ..(120).

وفي نص آخر: أنه قال له: إنها صغيرة. فقيل لعمر: إنما يريد بذلك منعها، فكلمه الخ..(121).

وعن الإمام الصادق (عليه السلام)، عن أبيه (عليه السلام): إن عمر بن الخطاب خطب إلى علي بن أبي طالب (عليه السلام) ابنته أم كلثوم، فقال علي: إنما حبست بناتي على بني جعفر.

فقال عمر انكحنيها يا علي، فوالله ما على وجه الأرض رجل يرصد من حسن صحابتها ما أرصد الخ..(122).

عمر يكثر التردد على علي (عليه السلام):

وقال عقبة بن عامر الجهني: "خطب عمر بن الخطاب إلى علي بن أبي طالب ابنته من فاطمة، وأكثر تردده إليه، فقال: يا أبا الحسن ما يحملني على كثرة ترددي إليك إلا حديث سمعته من رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: كل سبب وصهر منقطع يوم القيامة إلا سببي ونسبي، فأحببت أن يكون لي منكم أهل البيت نسب وصهر.


الصفحة 101
ثم تذكر الرواية ما تقدم من أنه (عليه السلام): أمر بابنته فزينت، ثم بعث بها إلى عمر، فأخذ بساقها(123).

وقد قدمنا: أن هذا الكلام ساقط وغير مقبول، فلا نعيد(124).

عمر يعترف بإلحاحه على علي (عليه السلام):

وروى ابن المغازلي بسنده عن عبد الله بن عمر قال: صعد عمر بن الخطاب المنبر، فقال: "أيها الناس، إنه والله ما حملني على الإلحاح على علي بن أبي طالب في ابنته إلا أني سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: كل سبب ونسب وصهر منقطع إلا نسبي وصهري فإنهما يأتيان يوم القيامة يشفعان لصاحبهما"(125).

فهذا النص صريح في أنه قد ألح على علي (عليه السلام) بدرجة ألجأته إلى الإعتذار للناس حتى على المنبر..

ألف: دور العباس.

ب: درة عمر.

ج: عقيل سفيه أحمق.

ومما يشير إلى دور العباس في هذا الزواج، وإلى غضب عمر من عقيل، بسبب معارضته لزواجه من أم كلثوم..


الصفحة 102
النص التالي:

عن أسلم مولى عمر، قال: "دعا عمر بن الخطاب علي بن أبي طالب، فساره، ثم قام علي. فجاء الصفّة, فوجد العباس، وعقيلاً، والحسين، فشاورهم في تزويج عمر أم كلثوم، فغضب عقيل، وقال: يا علي ما تزيدك الأيام والشهور إلا العمى في أمرك، والله لئن فعلت ليكونن وليكونن، لأشياء عددها، ومضى يجر ثوبه.

فقال علي للعباس: والله، ما ذلك منه نصيحة، ولكن درة عمر أخرجته إلى ما ترى. أما والله ما ذاك رغبة فيك يا عقيل. ولكن أخبرني عمر يقول: سمعت رسول الله(صلى الله عليه وآله) يقول: كل سبب ونسب منقطع يوم القيامة إلا سببي ونسبي، فضحك عمر وقال: ويح عقيل سفيه أحمق(126).

لكن أبا نعيم قد ذكر: أن علياً (عليه السلام) استشار العباس وعقيلاً، ولم يذكروا أكثر من ذلك(127).

ونحن لا يمكن أن نصدق ما ورد في هذه الرواية من جرأة عقيل على علي(عليه السلام)، بطريقة تفقد أدنى درجات الأدب واللياقة؛ فإن عقيلاً يجلّ عن إرتكاب هذا الخطأ الفادح، وهو أتقى من أن يجترئ على من قال فيه رسول الله (صلى الله عليه وآله): إنه مع الحق، والحق معه.. والذي طهره الله تطهيراً بنص القرآن الكريم.


الصفحة 103
ولعل مواقف عقيل الجارحة لكبريائهم من خلال إطلاعه على مثالبهم في أنسابهم قد دفعتهم إلى نسبة هذا الأمر الشنيع إليه..

ومهما يكن من أمر، فإن هذا النص يشير إلى شدة عمر حتى على عقيل، وإلى أنه قد كان لدرّة عمر دور في حدة عقيل، وشدته في موقفه..

كما أن كلمة عمر الأخيرة: "ويح عقيل، سفيه، أحمق" تشير إلى شدة نفوره من عقيل، وعمق بغضه له.

وقد ظهر من هذا النص أيضاً: أن للعباس مشاركة من نوع ما في أمر هذا الزواج.. وقد أوضحت رواية الكافي ورواية الاستغاثة هذا الدور، كما تقدم في فصل النصوص والآثار في أول هذا الكتاب.

كيد عمرو بن العاص:

وأخيراً، فإننا نلفت النظر هنا إلى أن: بعض النصوص قد ذكرت أن عمرو بن العاص هو الذي أشار على عمر بالتزوج من أم كلثوم(128).

ونحن نعرف أن هذا الرجل المنحرف عن علي (عليه السلام)، لا يمكن أن يكون ناصحاً لأمير المؤمنين، ولا يشير على أحد بما يمكن أن يكون في مصلحة علي صلوات الله وسلامه عليه، أو يجلب إليه السرور والراحة.

فبأي شيء كان يفكر عمرو بن العاص يا ترى؟! وإلى أي شيء كان يسعى ويخطط، ويتآمر..؟! هذا ما يحق لنا أن نثير حوله أكثر من احتمال، ويثير في نفوسنا الكثير من الشكوك.


الصفحة 104

الصفحة 105


الفصل الرابع

ماذا أراد علي (ع)؟
وماذا أراد عمر؟!





الصفحة 106

الصفحة 107

بـدايـة:

هنا سؤالان:

أحدهما: لماذا يصر عمر على هذا الزواج..

الثاني: كيف رضخ علي (عليه السلام) للتهديد، ووافق على زواج قد يقال: إن الإكراه يسلب عنه صفة المشروعية.

وللإجابة عليهما نقول:

لماذا الإصرار على الزواج:

إننا نعيد طرح السؤال الأول ليصبح كما يلي:

لماذا يصر عمر على الزواج ببنت علي (عليه السلام)، الذي لم تكن العلاقة معه علاقة طيبة، ولا أقل من أنها لم تكن علاقة طبيعية، خصوصاً وأن عمر قد كان رأساً في التيار المناهض لإمامة أمير المؤمنين(عليه السلام)، وهو الغاصب لمقام الخلافة منه (عليه السلام).

وقد تجرأ حتى على رسول الله (صلى الله عليه وآله)، في هذا السبيل إلى حد أنه رماه

الصفحة 108
بالهجر(129) وهو في مرض موته.

بل هو قد ضرب الزهراء(عليها السلام)، وأسقط جنينها. حتى ماتت شهيدة مظلومة(130).


الصفحة 109
نعم لماذا يصر على ذلك ويلح، ويكثر تردده، وهو يرى ممانعة علي (عليه السلام) له، ويواجه رفضه المتكرر؟!!..

ثم لماذا هذا التهديد والوعيد العظيم، الذي يصل إلى حد تعوير زمزم، وهدم السقاية، وقطع يد علي، وقتله صلوات الله وسلامه عليه؟!..

لا بد أن في الأمر سراً عظيماً، وهائلاً، ومؤامرة خطيرة، تهون أمامها هذه الجرائم التي يهدد بارتكابها رجل قد أفهم الناس عملاً: أنه ينفذ تهديداته تلك..

إننا لن نحاول في إجاباتنا على هذا السؤال البسط في القول، ولا التوسع في البيان، بل نكتفي بالقول:

1 ـ إنه قد يروق للبعض أن يعتبر المبادرة إلى هذا الزواج إشارة إلى رغبة عمر الجامحة في إصلاح الحال بين بني هاشم من جهة وبين خصومهم من جهة أخرى، حيث يسهم هذا الزواج في تهدئة النفوس، وعودة المياه إلى مجاريها، من خلال ما يترتب عليه من تلاق يفسح المجال لبث الشكوى، وغسل القلوب، وتصفية النوايا..

ونقول:

إن هذه الإجابة غير دقيقة، بل هي غير صحيحة، وذلك لما يلي:

أولاً: إن ذلك لا يمكن أن يبرر التهديد بتعوير زمزم، وهدم السقاية، وقتل علي، سيد المسلمين، ووصي رسول رب العالمين.. وهل يمكن غسل جريمة بجريمة أعظم منها؟!

ثانياً: إن هذه الزيجات ـ لم تستطع عبر التاريخ أن تحقق ما هو أبسط

الصفحة 110
من ذلك.. فكيف بأمر أزهقت من أجله الأرواح، واستشهدت فيه أعظم امرأة خلقها الله تعالى، وهي أم تلك الزوجة، وقاتلها هو نفس هذا الزوج!!!.

على أن الوقائع التي تجلى فيها هذا الزواج قد أظهرت: أن بطل هذه القضية يهدف إلى الإذلال والقهر، أكثر مما يهدف إلى الإعزاز والتكريم، وتوحيد عرى الصداقة، وإظهار المحبة.

ثالثاً: إن قضية الإمامة واغتصاب مقام الرسول ليست من الأمور التي يتم التصالح فيها بمثل هذه التصرفات؛ لأنها قضية عقائدية وإيمانية بالدرجة الأولى. فما لم يتم التصرف بالقناعات، فإن الأمور لا بد أن تبقى على حالها، ولا تَنحَلّ أية مشكلة من هذا القبيل كما هو معلوم.

2 ـ وقد يحاول البعض أن يجد تفسير ما جرى في بعض النصوص التي تحدثت عن رغبة عمر في أن تكون له صلة نسبية برسول الله (صلى الله عليه وآله)، وذلك من خلال الرغبة الإيمانية لديه بالإتصال بالرسول، وتنفيذ ما سمعه منه (صلى الله عليه وآله)، انطلاقاً من الحرص على نيل هذا المقام التقوائي، ورغبة بالثواب الأخروي.

ونقول:

أولاً: إن ذلك أيضاً لا يتلاءم مع التهديد بارتكاب جرائم بحق المقدسات، والإفتراء على علي لقطع يده أو قتله.

ولا يبرر الإلحاح على علي (عليه السلام) إلى درجة الإحراج، ثم تكذيبه واتهامه، فإن التقوى والورع لا يلتقيان مع مثل هذه الأساليب في شيء..

ثانياً: إن تقوى إنسان لا تجعل له حقاً في عرض ولا في كرامة غيره،

الصفحة 111
ولا تبرر له إحراج إنسان آخر. وإسقاط حقوقه وإذلاله.

وهل تتبدل حقوق الناس بحسب أهواء ورغبات هذا التقي أو ذاك؟!

3 ـ إن الأقرب إلى الاعتبار هو أن يجاب بما يلي:

إن ما يريده عمر بهذا الزواج لا بد أن يكون في خطورته وأهميته بالنسبة إليه بدرجة يوازي عنده قتل علي (عليه السلام)، وتدمير المقدسات. وذلك لا يكون إلا أمراً مصيرياً وخطيراً جداً كما قلنا..

ولا نجد ما يصلح مبرراً لذلك إلا القول بأن عمر كان يفكر في مصير الخلافة من بعده، وإلى من تؤول، وهو مدى قوة من تؤول إليه في الإمساك بها.. أي إنه كان يريد بهذا الزواج أن يركزها في ذريته هو على أساس أن تستمر فيهم بصورة أقوى، وأشد رسوخاًً وتجذراً، حيث يكون تعامل الناس معها من موقع التقديس، والإلتزام الديني، والعاطفي، والوجداني، حين يكون الخليفة هو ابن بنت نبيهم، ويريد - حسب دعواه - أن يحكمهم باسم الشرع، ويقوم بمهمات النبي الأقدس(صلى الله عليه وآله)..

ويجتمع ويتلاقى بذلك الغرور القومي، مع العصبية العرقية ثم يندمج بالتقديس الديني، والواجب الشرعي، ويقوي بعضها بعضا في الإمساك بهذا الأمر بقوة.

وبذلك يتم إسقاط مطالبات علي (عليه السلام) وآل علي عن صلاحية التأثير على الناس، ولا يبقي لها تلك الفاعلية، وتتلاشى ـ بالتدريج ـ دعوتهم، وتتضاءل هممهم، وينتهي أمرهم.

وهذا غاية ما يتمناه، وأقصى ما يسعى إليه. ولأجل ذلك كان التهديد، وللوصول إلى هذه الغايات كان الإصرار..


الصفحة 112
ولعل احتجاجه بحديث كل سبب ونسب ينقطع يوم القيامة إلا سببي ونسبي يستطيع أن يمنحنا إشارة إلى رغبته في مولود يحمل تلك الصفة التي هي الأساس في هذا التفكير..

لكن صغر سن أم كلثوم، وسياسات عمر العنصرية، وحقده القوي على غير العرب، وشدته عليهم، قد هدم كل ما بناه من آمال وما خطط له من سياسات، حيث قطع الطريق عليه أبو لؤلؤة، حين عاجله بطعناته النافذة التي أودت بحياته، قبل أن يتمكن من أن يتبع خطواته الأولى بأية خطوة أخرى في هذا السبيل.

هل أراد علي (عليه السلام) استصلاح عمر وكفه؟!

وعن سؤال: لماذا رضخ علي للتهديد، وقبل بهذا الزواج الذي قد يقال: إن حديث الإكراه عليه يسلب عنه صفة المشروعية.

نقول:

حكى المفيد في المحاسن، عن ابن هيثم: أنه (عليه السلام) أراد بتزويج عمر استصلاحه، وكفه عنه. وقد عرض لوط بناته على الكفار، ليردهم عن ضلالهم: {هؤلاء بناتي هن أطهر لكم}(131).

وسئل مسعود العياشي عن أم كلثوم، فقال: كان سبيلها سبيل آسية مع فرعون.(132).


الصفحة 113

علم النبي (ص) والإمام (ع) والعمل بالظاهر:

ونقول:

إن من الواضح: أن الحكم الشرعي إنما يؤخذ من الأئمة والأنبياء، فإذا عمل النبي والإمام شيئاً علم أنه سائغ له، فإذا زوّج النبي أو الإمام هذا الصنف من الناس فإن ذلك يدل على جواز هذا التزويج، إذا توفرت جميع الشرائط والحالات التي كانت قائمة، ومنها حالة الإكراه.

فإنه إذ أكره نبي أو لإمام على تزويج ابنته ممن يتظاهر بالدين، وكان باطنه لا يوافق ظاهره، فإن ذلك يدل على جواز التزويج لهذا الصنف من الناس في حال الإكراه، كما أنه لو تزوج النبي أو الوصي بامرأة ثم ظهر من حالها خلاف ما كان يتوقع من مثلها، علمنا: أنه إنما جرى في ذلك وفقاً للأحكام الظاهرية، وذلك كزواج نوح ولوط بتينك المرأتين اللتين كانتا في الإتجاه الآخر.

ويمكن أن نوضح هذا الأمر كما يلي:

إن الأحكام الشرعية فيما يرتبط بالتعامل مع الناس إنما تجري وفقاً للظواهر العادية. وعلى الإمام والنبي أن يعامل الناس وفقاً لهذه الظواهر، لا طبقاً لما عرَّفه الله إياه عن طريق جبرئيل، أو عن طريق الرؤيا الصادقة.

أما بالنسبة لتعامل الأنبياء والأوصياء فيما بينهم، فإنما هو على أساس الواقع، لا الظاهر، كما دلت عليه قصة ذبح إسماعيل على نبينا وآله و وعليهم السلام، وقوله: {يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ} وكما دلت عليه الروايات التي تؤكد أن الإمام يعرف المال المحرم واقعاً فيجتنبه.


الصفحة 114
كما أنهم لا يعاملون الناس طبقاً لما يعرفونه من خلال مقام النبوة الشاهدة، فإن النبي (صلى الله عليه وآله) له مقام الشهادة على الخلق: {إنا أرسلناك شاهداً}.

وإنما يعاملونهم حسب ما يصل إليهم بالطرق العادية المتوفرة لسائر المكلفين، حتى لو علموا - من خلال شاهديتهم - بأن الواقع على خلافها..

توضيح وبيان:

ولنا أن نوضح ذلك ببيان:

إن الله سبحانه قال: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ} (التوبة 105).

وقال تعالى: {وَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ} (التوبة 94).

وقال تعالى حكاية عن عيسى: {وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لاَيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (آل عمران 49).

وقال تعالى: { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً} (الأحزاب 45) وراجع (سورة الفتح 8).

وقال: { إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شَاهِداً عَلَيْكُمْ} (المزمل 15).

وقال: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاَءِ شَهِيداً} (النساء41).


الصفحة 115
وقال تعالى حكاية عن يوسف(عليه السلام): {قَالَ لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلاَ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي} (سورة يوسف الآية37).

ثم جاءت الروايات الشريفة لتفسر لنا المراد، وتعلن بأن الله قد أطلع أنبياءهُ على الغيب وأن الأعمال تعرض على رسول الله (صلى الله عليه وآله) كل صباح. ثم هي تؤكد أن الأئمة (عليهم السلام) أيضاً هم المؤمنون، الشهداء على الخلق.

ويزيد ذلك وضوحاً ما نعرفه من خلال النصوص الشريفة، من أن النبي(صلى الله عليه وآله) يرى من خلفه، وأنه تنام عيناه ولا ينام قلبه، لأن المشاهدة والشهود للأعمال يقتضي ذلك.

كما أننا نقرأ في الزيارة:

أشهد أنك ترى مقامي، وتسمع كلامي، وترد سلامي..

ومن أعمال البشر، نواياهم، وأحقادهم، وحبهم، وبغضهم، وحسدهم، ورياؤهم، وما إلى ذلك..

وقد حفلت مجاميع الحديث والرواية بالأحاديث الشريفة التي تدل على معرفة الأنبياء والأئمة بالأمور، وإطِّلاعهم على الخفايا، حتى على خلجات القلوب، ووساوس الصدور..

فعلم مما ذكرناه: أن ثمة طرقاً غير عادية، هي من مصادر المعرفة للأئمة والأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.

ومن مصادر ذلك أيضاً، إخبار جبرئيل للأنبياء بما أراد الله لهم أن يعرفوه.

كما أن الملك المحدث لهم يخبرهم بما رآه في لوح المحو والإثبات،

الصفحة 116
أو عرفه من أسرار اطلع عليها بنفسه، أو عرفها من الملائكة المقربين، أو غير ذلك.

ثم هناك الإلهام والإشراف المباشر على الحقائق، الذي يسره الله سبحانه لأوليائه..

وهناك كذلك الخطابات الإلهية التي تتجلى بخلق الكلام في الشجرة، أو في غيرها، كما جرى لموسى.

والرؤيا أيضاً من وسائل الوحي للأنبياء كما هو معلوم.

وبعد ما تقدم نقول:

إن النبي (صلى الله عليه وآله) والإمام (عليه السلام) لا يتعامل مع الناس على أساس معارفه التي ينالها بهذه الوسائل والطرق التي ألمحنا إليها، إلا فيما أذن الله سبحانه به في الموارد الخاصة لمصالح معينة، كإظهار علم الإمامة وعلم النبوة، لتيسير اليقين للناس، والربط على قلوبهم في مواضع الخطر الداهم..

وإلا مع الأنبياء والأوصياء أيضاً.. كما هو الحال في قضية ذبح إبراهيم لولده إسماعيل..

وإلا.. في تعامل النبي والإمام نفسه مع الأمور التي تعني شخصه، كطهارة مأكله، وصحة وحلية مصادره.. وسلامتها عن أي شبهة، ونحو ذلك..

فإذا أراد النبي أو الإمام أن يعاشر الآخرين من الناس العاديين ويعاملهم، فإنه يعاملهم وفق وسائل المعرفة المتوفرة لديهم. وبها ينالون علومهم. فإذا علم من خلال الرؤية البصرية بأن فلاناً سرق، أو علم بذلك بواسطة الإقرار من السارق نفسه، أو شهد عنده الصادقون بأنهم رأوا السارق

الصفحة 117
وهو يمارس السرقة..

أو ثبت له أمر ما عن طريق حلف اليمين؛ فإنه يرتب آثار ذلك على مورده، حتى لو كان الواقع على خلافه، بأن كانت الشهادة مخطئة، أو كاذبة, أو كان الحالف كاذباً، أو كان المقر خائفاً من أمر يراه أهم، من مفسدة الكذب في الإقرار بالنسبة إليه..

ولذلك روي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله)، أنه قال: إنما أقضي بينكم بالبينات والأيمان، فأيما رجل قطعت له من أخيه شيئاً، فإنما قطعت له قطعة من النار(133).

فهو إذن يقضي بعلمه العادي، ولا يقضي بعلم النبوة، وبما يأتيه عن طريق غير معروفة ولا مألوفة للناس، ولا تقع في متناول أيديهم.

وقائع ونتائج:

ومن نتائج ما قدمناه: أن يكون العمل بعلمهم العادي هو سبب شرب الإمام الرضا (عليه السلام) من العصير المسموم, وهو المبرر لذهاب أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى محرابه، ولشرب الإمام الحسن (عليه السلام) للسم، وعدم إخباره لهم بالذي دسه إليه، ثم هو السبب في مضي الإمام الحسين (عليه السلام) إلى كربلاء مع علمه بأنه يستشهد.

ومما تقدم يعلم أيضاً: أنه يجوز للنبي والإمام أن يزوج ابنته لمن

الصفحة 118
يتظاهر بالإسلام، ويجوز له أيضاً أن يتزوج بمن تتظاهر بالإسلام أيضاً. حسبما أوضحناه. أو على الأقل لا يمكن لنا الجزم بحرمة ذلك عليه (صلى الله عليه وآله).. حتى لو كان يعلم بعلم النبوة والإمامة بما يخالف هذا الظاهر فكيف إذا انضم إلى ذلك ما صرحت به الآيات بالنسبة للتين تظاهرتا عليه(134).

زواج عمر بأم كلثوم متوقع:

فلا حرج بعد هذا إذا قلنا: إنه لا مانع من أن يكون عمر قد تزوج بأم كلثوم فإن عدداً من الروايات التي تحدثت عن هذا الزواج معتبرة من حيث السند، ومن بينها ما دل على أن هذا التزويج لم يكن عن اختيار ورضا، بل جاء بعد التهديد والوعيد.

وليس ثمة ما يمنع هؤلاء القوم من تنفيذ تهديداتهم، فقد عرفنا: أن هؤلاء القوم قد آذوا الزهراء (عليها السلام) بما هو معروف، فقد أسقطوا جنينها, وكسروا ضلعها الشريف، فكانت الصديقة الشهيدة.. بل إنهم قد رموا رسول الله (صلى الله عليه وآله) بالهجر، وقالوا: إن الرجل ليهجر، أو ما هو بمعنى ذلك..

وقد كان على أمير المؤمنين (عليه السلام) أن يسكت ويداريهم حفظاً وصوناً للإسلام.. فهل يمكن أن يحاربهم أمير المؤمنين من أجل أن يمنعهم من

الصفحة 119
الزواج بابنته، ويخالف بذلك وصية رسول الله (صلى الله عليه وآله) بأن لا يقاتلهم؟!.

وما خطر هذا الزواج في جنب قتل الزهراء (عليها السلام)، وقتل المحسن، ورمي رسول الله (صلى الله عليه وآله) بالهجر؟!.

وكيف لم يجز قتالهم على هذه العظائم، وجاز ذلك لأجل منعهم من الزواج بأم كلثوم؟!.

على أن هذا الزواج، لم يحقق نتائجه المرجوة لهم كما قلنا.. فقد مات عنها عمر قبل أن يدخل بها لأنها كانت صغيرة.. كما في بعض الروايات..

أو كانت ولدت له ولداً اسمه زيد مات وهو صغير، أو أنه مات هو وأمه في يوم واحد، دون أن يكون له أي دور يذكر في الحياة السياسية، يتماشى مع الآمال التي كانت معقودة عليه..

وعلى كل حال.. فإن الله هو الذي يتولى عقوبة من ظلم واعتدى، ويثِّبت من صبر واتقى واهتدى.


الصفحة 120

الصفحة 121


الفصل الخامس

اللمسات الأخيرة





الصفحة 122

الصفحة 123

بـدايـة:

هناك عدة أمور مرت علينا في فصول هذا الكتاب لم تصمد أمام النقد الموضوعي والعلمي. بل ظهر فيها التهافت والإختلاف، وعارضتها الحقائق التاريخية الثابتة..

فهل هي مختلقة ومكذوبة من أساسها؟ أم أن لها نصيباً من الصحة لكن قد حصل بعض التلاعب في النصوص، والتصرف بمتون الأحاديث، تحت ستار التشابه بالأسماء؟ ونحو ذلك؟.

وهل يمكن الإعتماد على الإحتمال الذي يقول: إنه قد كان لعمر ولد اسمه زيد، وأمه اسمها أم كلثوم، لكنها ليست بنت علي (عليه السلام)؟!

مع العلم بأن منشأ هذا الإحتمال هو أن التاريخ يقول: إنه قد كان هناك أم كلثوم أخرى خطبها عمر، فرفضت، وأعلنت أنها تريد الدنيا، وأن يكون الزواج برجل يصب عليها المال صبا.

ونوضح ذلك في ما يلي من مطالب..

من هي أمُّ زيد بن عمر؟!

قـال المسعودي عن عمر: "كان لـه من الولـد عبد الله، وحفصة زوج

الصفحة 124
النبي(صلى الله عليه وآله) وعاصم، وعبيد الله، وزيد من أم. وعبد الرحمن وفاطمة وبنات أخر، وعبد الرحمن الأصغر، وهو المحدود في الشراب، وهو المعروف بأبي شحمة، من أم"(135).

فالمسعودي يرى أن زيداً وحفصة وعاصماً الخ.. كانوا من أم. وهي ليست أم كلثوم قطعاً.. فهل يمكن التماس تفسير ذلك عند غير المسعودي؟! كالطبري مثلاً الذي يقول وهو يعدد أولاد عمر: "وزيد الأصغر وعبيد الله قتلا يوم صفين مع معاوية، وأمهما أم كلثوم بنت جرول بن مالك بن مسيب بن ربيعة. وكان الإسلام فرق بين عمر وأم كلثوم بنت جرول"(136).

وقال ابن الأثير:

"تزوج مليكة بنت جرول الخزاعي في الجاهلية, فولدت له عبيد الله بن عمر، ففارقها في الهدنة (الحديبية)، فخلف عليها أبو جهم بن حذيفة، وقتل عبيد الله بصفين مع معاوية. وقيل: كانت أمه أم زيد الأصغر، أم كلثوم بنت جرول الخزاعي، وكان الإسلام فرق بينها وبين عمر"(137).

ولا ندري لماذا عبر عنه بالأصغر مع أنه بالنسبة لزيد بن أم كلثوم بنت علي (عليه السلام) هو الأكبر، لأنه قد ولد قبل إسلام عمر؟!


الصفحة 125
ألا يجعلنا ذلك نطلق الاحتمال الذي يقول: إنه لا يوجد لعمر إلا زيد واحد، وهو ابن ام كلثوم بنت جرول؟!.

وذكروا: أن عمر قد طلق أم كلثوم بنت جرول الخزاعية، أم عبيد الله بن عمر حين نزول قوله تعالى: {ولا تمسكوا بعصم الكوافر}(138).

وذكر ابن كثير وغيره في زوجات عمر: أم كلثوم وهي مليكة بنت جرول وعد من أولاده أيضاً: زيداً الأكبر، وزيداً الأصغر، وحفصة ورقية، وزينب وفاطمة(139).

تحفظات على الرأي الراجح:

ونحن وإن كنا قد قبلنا بالروايات الصحيحة والمعتبرة الناطقة بزواج أم كلثوم بنت علي (عليه السلام) من عمر بن الخطاب، لكننا بالنسبة لزيد بن عمر نقول:

1 - إن شدة التناقض والإختلاف في الحديث عن زيد بن عمر، وعن أمه، وتاريخ وفاتها ووفاته.

2 – ثم ورود روايات تتحدث عن وفاتها في عهد معاوية، حيث صلى عليها سعيد بن العاص، أو عبدالله بن عمر.

وعن أنه مات وهو صغير، أو أنه عاش حتى صار رجلاً.

3 – بالإضافة إلى ما هو ثابت أيضاً من أن أم كلثوم بنت علي (عليه السلام) قد عاشت إلى ما بعد واقعة كربلاء.