الصفحة 34
قتلتم الليلة رجلاً، والله ما سبقه أحد كان قبله، ولا يدركه أحد يكون بعده، إن كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) ليبعثه في السرية وجبرئيل عن يمينه وميكائيل عن يساره، ما ترك صفراء ولا بيضاء...».

ووقف الامام زين العابدين على قبر جدّه أمير المؤمنين (عليهما السلام)، فقال: «أشهد أنّك جاهدت في الله حق جهاده، وعملت بكتابه، واتبعت سنن نبيه (صلى الله عليه وآله)، حتى دعاك الله إلى جواره فقبضك إليه باختياره، لك كريم ثوابه، وألزم أعداءك الحجة مع مالك من الحجج البالغة على جميع خلقه».

وعن أنس بن مالك ـ كما في العقد الفريد وغيره ـ قال: لمّا فرغنا من دفن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بكت فاطمة ونادت: «يا أبتاه أجاب رباً دعاه، يا أبتاه من ربّه ما أدناه، يا أبتاه إلى جبرئيل ننعاه، يا أبتاه جنة الفردوس مأواه».

ولو أردنا أن نستوفي ما كان من هذا القبيل، لخرجنا عن الغرض المقصود.

وحاصله: أنّ تأبين الموتى من أهل الاثار النافعة بنشر

الصفحة 35
مناقبهم وذكر مصائبهم ممّا حكم بحسنه العقل والنقل، واستمرت عليه سيرة السلف والخلف، وأوجبته قواعد المدنية، واقتضته أصول الترقي في المعارف، إذ به تحفظ الاثار النافعة، وبالتنافس فيه تعرج الخطباء إلى أوج البلاغة.

والقول بتحريمه يستلزم تحريم قراءة التاريخ وعلم الرجال، بل يستوجب المنع من تلاوة الكتاب والسنة، لاشتمالهما على جملة من مناقب الانبياء ومصائبهم، ومن يرضى لنفسه هذا الحمق أو يختار لها هذا العمى، نعوذ بالله من سفه الجاهلين.


الصفحة 36

المطلب الرابع
في الجلوس حزناً على الموتى من أهل الحفائظ والايادي المشكورة

وحسبك في رجحان ذلك: ما تواتر عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من الحزن الشديد على عمّه أبي طالب وزوجته الصديقة الكبرى أم المؤمنين (عليهما السلام)، وقد ماتا في عام واحد، فسمّي عام الحزن، وهذا معلوم بالضرورة من أخبار الماضين.

وأخرج البخاري ـ في باب من جلس عند المصيبة يعرف فيه الحزن من الجزء الاول من صحيحه ـ بالاسناد إلى عائشة، قالت: لمّا جاء النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قتل ابن حارثة وجعفر وابن رواحة، جلس ـ أي في المسجد كما في رواية أبي داود ـ يعرف فيه الحزن.


الصفحة 37
وأخرج البخاري ـ في الباب المذكور أيضاً ـ عن أنس، قال: قنت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) شهراً حين قتل القرآء، فما رأيته حزن حزناً قط أشدّ منه...(1).

والاخبار في ذلك أكثر من أن تحصى أو تستقصى.

والقول: بأنه إنما يحسن ترتيب آثار الحزن إذا لم يتقادم العهد بالمصيبة.

مدفوع: بأنّ من الفجائع ما لا تخبو زفرتها ولا تخمد لوعتها، فقرب العهد بها وبعده عنها سواء.

نعم يتمّ قول هؤلاء اللائمين إذا تلاشى الحزن بمرور الازمنة، ولم يكن دليل ولا مصلحة يوجبان التعبد بترتيب آثاره.

وما أحسن قول القائل في هذا المقام:

خلي أميمة عن ملا مك ما المعزى كالثكول
ما الراقد الوسنان مثـ ـل معذب القلب العليل

____________

(1) وأخرجه مسلم أيضاً في باب التشديد في النياحة من صحيحه «المؤلّف».


الصفحة 38
سهران من الم وهـ ـذا نائم الليل الطويل
ذوقي أميمة ما أذو ق وبعده ماشئت قولي
على أنّ في ترتيب آثار الحزن بما أصاب رسول الله (صلى الله عليه وآله) من تلك الفجائع، وحلّ بساحته من هاتيك القوارع، حكماً توجب التعبد بترتيب آثار الحزن بسببها على كلّ حال، والادلة على ترتيب تلك الاثار في جميع الاعصار متوفرة، وستسمع اليسير منها إن شاء الله تعالى.

وقد علمت سيرة أهل المدينة الطيبة واستمرارها على ندب حمزة وبكائه مع بعد العهد بمصيبته، فلم ينكر عليهم في ذلك أحد، حتّى بلغني أنهم لا يزالوا إلى الان إذا ناحوا على ميت بدوا بالنياحة عليه، وما ذاك إلاّ مواساة لرسول الله (صلى الله عليه وآله) بمصيبته في عمه، وأداءً لحق تلك الكلمة التي قالها في البعث على البكاء عليه، وهي قوله: «لكن حمزة لا بواكي له».

وكان الاولى لهم ولسائر المسلمين مواساته في الحزن على أهل بيته، والاقتداء به في البكاء عليهم، وقد لام بعض أهل البيت (عليهم السلام) مَن لم يواسهم في ذلك فقال: «يا لله

الصفحة 39
لقلب لا ينصدع لتذكار تلك الاُمور، ويا عجباً من غفلة أهل الدهور، وما عذر أهل الاسلام والايمان في إضاعة أقسام الاحزان، ألم يعلموا أن محمداً (صلى الله عليه وآله وسلم) موتور وجيع وحبيبه مقهور صريع»؟، قال: «وقد أصبح لحمه (صلى الله عليه وآله)مجرداً على الرمال، ودمه الشريف مسفوكاً بسيوف أهل الضلال، فيا ليت لفاطمة وأبيها، عيناً تنظر إلى بناتها وبنيها، وهم ما بين مسلوب وجريح، ومسحوب وذبيح...» إلى آخر كلامه.

ومن وقف على كلام أئمّة أهل البيت في هذا الشأن، لا يتوقف في ترتيب آثار الحزن عليهم مدى الدوران، لكنّا منينا بقوم لا ينصفون، فانّا لله وإنا إليه راجعون.


الصفحة 40

المطلب الخامس
في الانفاق على الميت في وجوه البرّ والاحسان

ويكفي في استحبابه:

عموم ما دلّ على استحباب مطلق المبرات والخيرات، على أنّ فعل النبي (صلى الله عليه وآله) وقوله دالان على الاستحباب في خصوص المقام، وحسبك من فعله: ما أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما(1) بطرق متعددة عن عائشة:

ما غرت على أحد من نساء النبي (صلى الله عليه وآله) ما غرت على خديجة، وما رأيتها، ولكن كان النبي (صلى الله عليه وآله) يكثر ذكرها، وربما ذبح الشاة ثم يقطعها أعضاء ثم يبعثها في صدائق خديجة، فربما قلت له: كأن لم يكن في الدنيا إلاّ خديجة، فيقول: «إنما كانت وكان لي منها ولد».

____________

(1) فراجع من صحيح البخاري: باب تزويج النبي خديجة وفضلها، ومن صحيح مسلم: باب فضائل خديجة أم المؤمنين (عليها السلام) «المؤلف».


الصفحة 41
قلت: وهذا يدلّ على استحباب صلة أصدقاء الميت وأوليائه في الله عز وجل بالخصوص.

ويكفيك من قوله (صلى الله عليه وآله وسلم) ما أخرجه مسلم ـ في باب وصول ثواب الصدقة عن الميت إليه، من كتاب الزكاة، في الجزء الاول من صحيحه ـ بطرق متعددة، عن عائشة: أنّ رجلاً أتى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: يا رسول الله إنّ أمّي افتلتت نفسها، ولم توص، أفلها أجر أن تصدقت عنها؟ قال (صلى الله عليه وآله): «نعم».

ومثله: ما أخرجه أحمد من حديث عبد الله بن عباس ـ في ص333 من الجزء الاول ـ من مسنده: من أنّ سعد بن عبادة قال: إنّ ابن بكر أخا بني ساعدة توفيت أمّه وهو غائب عنها، فقال: يا رسول الله، إنّ أمي توفيت وأنا غائب عنها، فهل ينفعها إن تصدقتُ بشيء عنها؟ قال: «نعم»، قال: فاني أشهدك أنّ حائط المخرف صدقة عليها.

والاخبار في ذلك متضافرة، ولا سيما من طريق العترة الطاهرة(1).

____________

(1) وربما كان المنكر علينا فيما نفعله من المبرات عن الحسين (عليه السلام)، لا يقنع بأقوال النبي (صلى الله عليه وآله) ولا بأفعاله، وإنما تقنعه اقوال سلفه وأفعالهم، وحينئذ نحتج عليه بما فعله الوليد بن عقبة بن أبي معيط الاموي، إذ مات لبيد بن ربيعة العامري الشاعر، فبعث الوليد إلى منزله عشرين جزوراً، فنحرت عنه، كما نصّ عليه ابن عبد البر في ترجمة لبيد من الاستيعاب «المؤلف».


الصفحة 42

فصل
[مآتمنا المختصّة بسيّد الشهداء]

كلّ من وقف على ما سلف من هذه المقدمة، يعلم أنه لا وجه للانكار علينا في مآتمنا المختصة بسيد الشهداء (عليه السلام)، ضرورة أنه لا تشتمل إلاّ على تلك المطالب الخمسة، وقد عرفت إباحتها بالنسبة إلى مطلق الموتى من كافة المؤمنين.

وما أدري كيف يستنكرون مآتم انعقدت لمواساة

الصفحة 43
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وأُسست على الحزن لحزنه؟

أيبكي ـ بأبي هو وأمي ـ قبل الفاجعة، ونحن لا نبكي بعدها؟!

ما هذا شأن المتأسّي بنبيه والمقتصّ لاثره، إن هذا إلاّ خروج عن قواعد المتأسين، بل عدول عن سنن النبيين.

بكاء النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) على الحسين (عليه السلام)
في مصادر العامة

ألم يرو الامام أحمد بن حنبل من حديث علي (عليه السلام) ـ في ص85 من الجزء الاول ـ من مسنده، بالاسناد إلى عبد الله بن نجا عن أبيه: أنه سار مع عليّ (عليه السلام)، فلما حاذى نينوى وهو منطلق إلى صفين، نادى: «صبراً أبا عبد الله، صبراً أبا عبد الله بشط الفرات»، قال: قلت: وما ذاك؟ قال: «دخلت على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ذات يوم وعيناه تفيضان، قلت: يا نبي الله، ما شأن عينيك تفيضان؟ قال: قام من عندي جبرئيل قبل، فحدثني أن ولدي الحسين يقتل بشط الفرات، قال: فقال: هل لك إلى أن أشمّك من

الصفحة 44
تربته؟ قال: قلت: نعم، فمدّ يده فقبض قبضة من تراب فأعطانيها، فلم أملك عيني إن فاضتا»(1).

وأخرج ابن سعد ـ كما في الفصل الثالث من الباب الحادي عشر من الصواعق المحرقة لابن حجر(2) ـ عن الشعبي، قال: مرّ علي (رضي الله عنه)بكربلاء عند مسيره إلى صفين، وحاذى نينوى، فوقف وسأل عن اسم الارض؟ فقيل: كربلاء، فبكى حتى بلّ الارض من دموعه، ثم قال: «دخلت على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو يبكي، فقلت: ما يبكيك ـ بأبي أنت وأمي ـ؟ قال: كان عندي جبرائيل آنفاً، وأخبرني أن ولدي الحسين يقتل بشاطئ الفرات، بموضع يقال له كربلاء...»(3).

____________

(1) الصواعق المحرقة 2 / 566.

وراجع أيضاً: مسند أبي يعلى (363)، مسند البزار (884)، والذخائر للمحب الطبري: 148، المعجم الكبير: (2811)، مجمع الزوائد 9 / 187 وقال: رجاله ثقات، سير أعلام النبلاء 3 / 288.

(2) كلّ ما ننقله في هذا المقام عن الصواعق، من هذا الحديث وغيره، موجود في أثناء كلامه في الحديث الثلاثين، من الاحاديث التي أوردها في ذلك الفصل، فراجع «المؤلف».

(3) الصواعق المحرقة 2 / 566.

وراجع أيضاً: المعجم الكبير للطبراني (2811)، مجمع الزوائد 9/187 وقال: رجاله ثقات.


الصفحة 45
وأخرج الملاّ ـ كما في الصواعق(1) أيضاً ـ: أنّ علياً مرّ بموضع قبر الحسين (عليهما السلام)، فقال: «هاهنا مناخ ركابهم، وهاهنا موضع رحالهم، وهاهنا مهراق دمائهم، فتية من آل محمد يقتلون بهذه العرصة، تبكي عليهم السماء والارض»(2).

ومن حديث أم سلمة ـ كما نصّ عليه ابن عبد ربه المالكي(3)، حيث ذكر مقتل الحسين في الجزء الثاني من العقد الفريد ـ قالت: كان عندي النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، ومعي الحسين، فدنا من النبي (صلى الله عليه وآله)، فأخذته، فبكى، فتركته،

____________

(1) الصواعق المحرقة 2 / 566.

(2) وهذا الحديث رواه أصحابنا بكيفية مشجية، عن الباقر عليه الصلاة والسلام، ورووه عن هرثمة وعن ابن عباس، وإن أردت الوقوف عليه فدونك ص108 ومابعدها إلى ص112 من الخصائص الحسينية «المؤلّف».

(3) في سطر 15 من ص243 من جزئه الثاني المطبوع سنة 1305، وفي هامشه زهر الاداب «المؤلّف».


الصفحة 46
فدنا منه، فأخذته، فبكى، فتركته، فقال له جبرئيل: أتحبه يا محمد؟ قال: «نعم»، قال: أما إنّ أمتك ستقتله، وإن شئت أريتك الارض التي يقتل بها، فبكى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)(1).

وروى الماوردي الشافعي ـ في باب إنذار النبي (صلى الله عليه وآله) بما سيحدث بعده(2)، من كتابه أعلام النبوة ـ عن عروة، عن عائشة، قالت: دخل الحسين بن علي على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو يوحى إليه، فقال جبرائيل: إن أُمّتك ستفتتن بعدك وتقتل ابنك هذا من بعدك، ومدّ يده فأتاه بتربة بيضاء، وقال: في هذه يقتل ابنك، اسمها الطف، قال: فلما ذهب جبرائيل، خرج رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)إلى أصحابه والتربة بيده ـ وفيهم: أبو بكر، وعمر، وعلي، وحذيفة، وعثمان، وأبو ذر ـ وهو يبكي، فقالوا: ما يبكيك يا رسول الله؟ فقال: «أخبرني جبرائيل: أن ابني الحسين يقتل بعدي

____________

(1) وأخرج البغوي في معجمه وأبو حاتم في صحيحه من حديث أنس ـ كما في الصواعق ـ نحوه «المؤلّف».

راجع: الصواعق المحرقة 2 / 564 و 565.

(2) وهو الباب الثاني عشر في ص23 من ذلك الكتاب «المؤلّف».


الصفحة 47
بأرض الطف، وجاءني بهذه التربة، فأخبرني أنّ فيها مضجعه».

وأخرج الترمذي ـ كما في الصواعق وغيرها ـ: أنّ أم سلمة رأت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ـ فيما يراه النائم ـ باكياً، وبرأسه ولحيته التراب، فسألته؟ فقال: «قتل الحسين آنفاً»(1).

قال في الصواعق: وكذلك رآه ابن عباس نصف النهار، أشعث أغبر، بيده قارورة فيها دم يلتقطه، فسأله؟ فقال: «دم الحسين وأصحابه، لم أزل أتتبعه منذ اليوم»(2)، قال: فنظروا فوجدوه قد قتل في ذلك اليوم(3) (4).

____________

(1) سنن الترمذي (3774)، الصواعق المحرقة 2 / 567، ذخائر العقبى: 148.

(2) وأخرجه من حديث ابن عباس أحمد بن حنبل في ص283 من الجزء الاول من مسنده، وابن عبد البر والعسقلاني في ترجمة الحسين (عليه السلام)من الاستيعاب والاصابة، وخلق كثير «المؤلف».

(3) وراجع أيضاً: الصواعق المحرقة 2 / 567، المعجم الكبير: (2822)، مختصر تاريخ ابن عساكر 7 / 152، سير أعلام النبلاء 3 / 315، البداية والنهاية 8 / 200، ذخائر العقبى: 148.

(4) وللمزيد حول بكاء النبي (صلى الله عليه وآله) على الحسين (عليه السلام) في مصادر أهل السنة راجع: مستدرك الحاكم 3 / 176 و 4 / 398، تاريخ الخميس 1 / 300 و 418، الامالي للشجري: 165، كنز العمال 13 / 111 و 6 / 223، مقتل الحسين 1 / 158 و 159 و 163، وسيلة المآل: 183، الفصول المهمّة: 154، ينابيع المودة: 318 و 320، الفتح الكبير 1 / 55، روض الازهر: 104، الكواكب الدرية 1 / 56، الخصائص الكبرى 2 / 126، تاريخ الخلفاء: 10، التاج الجامع 3 / 318، الكامل في التاريخ 3 / 303، ذخائر المواريث 4 / 300، تاريخ الاسلام 2 / 350، كفاية الطالب: 286، مصابيح السنة: 207، تاريخ الرقة: 75، نظم درر السمطين: 215، الغنية لطالبي طريق الحق 2 / 56، لسان العرب 11 / 349، النهاية 2 / 212.

وراجع أيضاً: كتاب سيرتنا وسنتنا للعلامة الاميني، وكتاب أنباء السماء برزية كربلاء للمحقق الطباطبائي، وكتاب إحقاق الحق: المجلد 11.


الصفحة 48

بكاء النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) على الحسين (عليه السلام)
في مصادر الشيعة

وأما صحاحنا، فانها متواترة في بكائه (صلى الله عليه وآله وسلم) على الحسين (عليه السلام) في مقامات عديدة: يوم ولادته، وقبلها،

الصفحة 49
ويوم السابع من مولده، وبعده في بيت فاطمة، وفي حجرته، وعلى منبره، وفي بعض أسفاره.

تارة يبكيه وحده، يقبله في نحره ويبكي، ويقبله في شفتيه ويبكي، وإذا رآه فرحاً يبكي، وإذا رآه حزناً يبكي.

بل صحّ أنه قد بكاه: آدم، ونوح، وإبراهيم، وإسماعيل، وموسى، وعيسى، وزكريا، ويحيى، والخضر، وسليمان (عليهم السلام).

وتفصيل ذلك كلّه موكول إلى مظانّه من كتب الحديث(1).

[إقامة الائمة (عليهم السلام) المأتم على الحسين (عليه السلام) وحث أولياؤهم على ذلك]

____________

(1) فراجع: ص105 وما بعدها إلى ص232 من الخصائص الحسينية، وإن شئت فراجع: جلاء العيون، أو البحار، أو غيرهما «المؤلّف».

وراجع: أمالي الصدوق: المجلس 92، كامل الزيارات: 67 و 68 و 83 و 84 و 92 و 115 و 192، علل الشرائع 1 / 154، الكافي 1 / 283 و 534، مناقب آل أبي طالب 4 / 55، المحتضر: 146 و 147، بحار الانوار 45 / 220 ـ 229 الباب 41.


الصفحة 50
وأما أئمّة العترة الطاهرة: الذين هم كسفينة نوح، وباب حطة، وأمان أهل الارض، وأحد الثقلين اللذين لا يضلّ من تمسك بهما ولا يهتدي إلى الله من صدّ عنهما.

فقد استمرت سيرتهم على الندب والعويل، وأمروا أولياءهم باقامة مآتم الحزن، جيلاً بعد جيل.

فعن الصادق (عليه السلام) ـ فيما رواه ابن قولويه في الكامل وابن شهر آشوب في المناقب وغيرهما ـ: أنّ علي بن الحسين (عليهما السلام) بكى على أبيه مدّة حياته، وما وضع بين يديه طعام إلاّ بكى، ولا أتي بشراب إلاّ بكى، حتى قال له أحد مواليه: جعلت فداك يا ابن رسول الله إنّي أخاف أن تكون من الهالكين! قال (عليه السلام): «إنّما أشكو بثّي وحزني إلى الله، وأعلم من الله ما لا تعلمون».

وروى ابن قولويه وابن شهر آشوب أيضاً وغيرهما: أنه لما كثر بكاؤه، قال له مولاه: أما آن لحزنك أن ينقضي؟ فقال: «ويحك، إن يعقوب (عليه السلام) كان له اثنا عشر ولداً، فغيّب الله واحداً منهم، فابيضت عيناه من كثرة بكائه عليه واحدودب ظهره من الغم، وابنه حيّ في الدنيا، وأنا نظرت

الصفحة 51
إلى أبي وأخي وعمومتي وسبعة عشر من أهل بيتي مقتولين حولي، فكيف ينقضي حزني».

وعن الباقر (عليه السلام)(1) قال: «كان أبي ـ علي بن الحسين صلوات الله عليه ـ يقول: أيما مؤمن دمعت عيناه لقتل الحسين بن علي (عليه السلام) دمعة حتى تسيل على خده بوّأه الله تعالى في الجنة غرفاً يسكنها أحقاباً، وأيّما مؤمن دمعت عيناه حتى تسيل على خده فينا لاذى مسّنا من عدوّنا في الدنيا بوّأه الله في الجنة مبوّأ صدق، وأيّما مؤمن مسّه أذى فينا فدمعت عيناه حتى تسيل على خده صرف الله عن وجهه الاذى وآمنه يوم القيامة من سخطه والنار»(2).

وقال الرضا(3) ـ وهو الثامن من أئمة الهدى صلوات الله وسلامه عليهم ـ «إنّ المحرّم شهر كان أهل الجاهلية

____________

(1) فيما أخرجه جماعة، منهم ابن قولويه في كامله «المؤلف».

(2) كامل الزيارات: 100.

وراجع: تفسير القمي: 616، ثواب الاعمال: 47، بحار الانوار 44 / 281.

(3) فيما أخرجه الصدوق في أماليه وغير واحد من أصحابنا «المؤلّف».


الصفحة 52
يحرّمون فيه القتال، فاستُحلّت فيه دماؤنا، وهتكت فيه حرمتنا، وسبيت فيه ذرارينا ونساؤنا، وأضرمت فيه النار في مضاربنا، وانتهب مافيها من ثقلنا(1)، ولم ترع لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حرمة في أمرنا.

إنّ يوم الحسين أقرح جفوننا، وأسبل دموعنا، وأذلّ عزيزنا....

فعلى مثل الحسين فليبك الباكون، فانّ البكاء عليه يحط الذنوب العظام».

ثم قال (عليه السلام): «كان أبي إذا دخل شهر المحرم، لا يرى ضاحكاً، وكانت الكآبة تغلب عليه حتّى يمضي منه عشرة أيام، فاذا كان يوم العاشر كان ذلك اليوم يوم مصيبته وحزنه وبكائه»(2).

وقال (عليه السلام)(3): «من تذكر مصابنا وبكى لما ارتكب منا

____________

(1) الثقل: وزان سبب متاع المسافر، وكلّ شيء نفيس مصون «المؤلّف».

(2) أمالي الصدوق: المجلس 27 الرقم 2.

وراجع: بحار الانوار 44 / 283.

(3) فيما أخرجه الصدوق في أماليه «المؤلّف».


الصفحة 53
كان معنا في درجتنا يوم القيامة، ومن ذكر مصابنا فبكى وأبكى لم تبك عينه يوم تبكي العيون، ومن جلس مجلساً يحيي فيه أمرنا لم يمت قلبه يوم تموت القلوب»(1).

وعن الريان بن شبيب ـ فيما أخرجه الشيخ الصدوق في العيون ـ قال: دخلت على الرضا (عليه السلام) في أول يوم من المحرم، فقال لي: «يا ابن شبيب، إن المحرم هو الشهر الذي كان أهل الجاهلية فيما مضى يحرّمون فيه الظلم والقتال لحرمته، فما عرفت هذه الامة حرمة شهرها ولا حرمة نبيها (صلى الله عليه وآله وسلم); إذ قتلوا في هذا الشهر ذريته وسبوا نساءه وانتهبوا ثقله....

يا ابن شبيب، إن كنت باكياً لشيء فابك للحسين (عليه السلام)، فانه ذبح كما يذبح الكبش(2)، وقتل معه من أهل بيته

____________

(1) أمالي الصدوق: المجلس 17 الرقم 4.

وراجع: عيون أخبار الرضا 1 / 294، بحار الانوار 44 / 278.

(2) إنّ التعبير ـ كهذا ـ مما يدلك على غاية همجية القوم وشقائهم وبُعدهم عن العطف الانساني، بالاضافة على قتلهم ريحانة الرسول الاعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) وهتكهم حرمته في سبطه روحي فداه.

وقد أجمل الامام عليه أفضل الصلاة والسلام لمّا أدى عن الفاجعة واهميتها بهذا الكلام القصير، وأشار به إلى معنى جسيم يدركه الباحث المتعمق بعد التحليل والاختبار، ويندهش المجموع البشري لمثل هذه الرزية عندما علم أنه لم يوجد بين تلك الجموع المحتشدة في كربلاء من يردعهم عن موقفهم البغيض، ولا أقل من تسائل بعضهم: لماذا نقاتل الحسين؟ وبأي عمل استحق ذلك منا؟ أو هل كان دم الحسين (عليه السلام)مباحاً إلى حدّ إباحة دم الكبش؟ ويذبح ـ بأبي هو وأمي ـ بلا ملامة لاثم ومن دون خشية محاسب!! «المؤلّف».


الصفحة 54
ثمانية عشر رجلاً مالهم في الارض من شبيه، ولقد بكت السموات السبع لقتله...».

إلى أن قال: «يا ابن شبيب، إن سرّك أن تكون معنا في الدرجات العلى من الجنان، فاحزن لحزننا وافرح لفرحنا، وعليك بولايتنا...»(1).

وقال (عليه السلام) ـ فيما أخرجه الصدوق في أماليه ـ: «من ترك السعي في حوائجه يوم عاشوراء قضى الله له حوائج

____________

(1) عيون أخبار الرضا 1 / 299.

وراجع: أمالي الصدوق: المجلس 27، بحار الانوار 44 / 285.


الصفحة 55
الدنيا والاخرة، ومن كان يوم عاشوراء يوم مصيبته وحزنه وبكائه جعل الله عزّ وجلّ يوم القيامة يوم فرحه وسروره وقرّت بنا في الجنان عينه...»(1).

وبكى صلوات الله عليه إذ أنشده دعبل بن علي الخزاعي قصيدته التائية السائرة التي أغمي عليه في أثنائها مرتين، كما نصّ عليه الفاضل العباسي في ترجمة دعبل من معاهد التنصيص وغيره من أهل الاخبار.

وفي البحار وغيره: أنه (عليه السلام) أمر قبل إنشادها بستر فضرب دون عقائله، فجلسن خلفه يسمعن الرثاء ويبكين على جدّهن سيد الشهداء، وأنه قال يومئذ: «يا دعبل، من بكى أو أبكى على مصابنا ولو واحداً كان أجره على الله، يا دعبل، من ذرفت عيناه على مصابنا حشره الله معنا».

وحدّث محمد بن سهل ـ كما في ترجمة الكميت من

____________

(1) أمالي الصدوق: المجلس 27 الرقم 4.

وراجع: بحار الانوار 44 / 284.


الصفحة 56
معاهد التنصيص ـ قال: دخلت مع الكميت على أبي عبد الله جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام) في أيام التشريق، فقال له: جعلت فداك ألا أنشدك؟ قال: «إنها أيام عظام»، قال: إنها فيكم، قال: «هات»، وبعث أبو عبد الله إلى بعض أهله فقرب، فأنشده ـ في رثاء الحسين (عليه السلام) ـ فكثر البكاء، حتى أتى على هذا البيت:

يصيب به الرامون عن قوس غيرهم فيا آخراً أسدى له الغي أول
قال: فرفع أبو عبد الله رحمه الله تعالى يديه فقال: «اللهم اغفر للكميت ماقدّم وما أخر وما أسرّ وما أعلن حتى يرضى»(1).

____________

(1) بخ بخ، هنيئاً لمن نال من أئمّة الهدى بعض ذلك، وأنت تعلم أنه (عليه السلام) لم يبتهل بالدعاء للكميت هذا الابتهال إلاّ لما دلّ عليه بيته هذا من معرفته بحقيقة الحال.

وقد أكثر الشعراء من نظم هذا المعنى، فنظمه المهيار في قصيدته اللامية، وقبل ذلك نظمه الشريف الرضي فقال:

بنى لهم الماضون أساس هذه فعلوا على أساس تلك القواعد إلى آخر ما قال.

وكأن سيدة نساء عصرها زينب (عليها السلام) أشارت إلى هذا المعنى بقولها مخاطبة ليزيد: وسيعلم من سوّل لك، ومكّنك من رقاب المسلمين.

بل أشار إليه معاوية إذ كتب إليه محمد بن أبي بكر يلومه في تمرده على أمير المؤمنين (عليه السلام)، ويذكر له فضله وسابقته، فكتب له معاوية في الجواب ما يتضمن الاشارة إلى المعنى الذي نظمه الكميت، فراجع ذلك الجواب: في كتاب صفين لنصر بن مزاحم، أو شرح النهج الحديدي، أو مروج الذهب للمسعودي.

وقد اعترف بذلك المعنى يزيد بن معاوية: إذ كتب إليه ابن عمر يلومه على قتل الحسين، فأجابه: أما بعد، فانا أقبلنا على فرش ممهّدة ونمارق منضدة... إلى آخر الكتاب، وقد نقله البلاذري وغيره من أهل السير والاخبار.

وفي كتابنا سبيل المؤمنين من هذا شيء كثير، فحقيق بالباحثين أن يقفوا عليه «المؤلّف».


الصفحة 57
وفي كامل الزيارات بالاسناد إلى عبد الله بن غالب، قال: دخلت على أبي عبد الله (عليه السلام) فأنشدته مرثية الحسين (عليه السلام)، فلما انتهيت إلى قولي:


الصفحة 58
لبلية تسقو حسيناً بمسقاة الثرى غير التراب
صاحت باكية من وراء الستر يا أبتاه(1).

وروى الصدوق في الامالي وثواب الاعمال، وابن قولويه، بأسانيد معتبرة عن أبي عمارة قال: قال لي أبو عبد الله (عليه السلام): «يا أبا عمارة، أنشدني في الحسين»، فأنشدته فبكى، ثم أنشدته فبكى، قال: فو الله ما زلت أنشده وهو يبكي، حتى سمعت البكاء من الدار، قال: فقال لي: «يا أبا عمارة من أنشد في الحسين بن علي (عليهما السلام)فأبكى خمسين فله الجنة، ومن أنشد في الحسين فأبكى ثلاثين فله الجنة، ومن أنشد في الحسين فأبكى عشرين فله الجنة، ومن أنشد في الحسين فأبكى عشرة فله الجنة، ومن أنشد في الحسين فأبكى واحداً فله الجنة، ومن أنشد في الحسين فبكى فله الجنة، ومن أنشد في الحسين

____________

(1) كامل الزيارات: 105.

وراجع: بحار الانوار 44 / 286.


الصفحة 59
فتباكى فله الجنة»(1).

وروى الصدوق في ثواب الاعمال بالاسناد إلى هارون المكفوف قال: دخلت على أبي عبد الله الصادق (عليه السلام) فقال لي: «يا أبا هارون، أنشدني في الحسين (عليه السلام)»، فأنشدته، فقال لي: «أنشدني كما تنشدون» يعني: بالرقة، قال: فأنشدته:

امرر على جدث الحسين فقل لاعظمه الزكية
قال: فبكى، ثم قال: «زدني»، فأنشدته القصيدة الاخرى، قال: فبكى، وسمعت البكاء من خلف الستر، قال: فلما فرغت، قال: «يا أبا هارون، من أنشد في الحسين فبكى وأبكى عشرة كتبت لهم الجنة...».

إلى أن قال: «ومن ذكر الحسين عنده فخرج من عينيه من الدمع مقدار جناح ذبابة، كان ثوابه على الله عز وجل،

____________

(1) أمالي الصدوق: المجلس 29 الرقم 6، ثواب الاعمال: 47، كامل الزيارات: 105.

وراجع: بحار الانوار 44 / 282.


الصفحة 60
ولم يرض له بدون الجنة»(1).

وروى الكشي بسند معتبر عن زيد الشحام قال: كنّا عند أبي عبد الله (عليه السلام)، فدخل عليه جعفر بن عثمان، فقربه وأدناه، ثم قال: «يا جعفر»، قال: لبيك جعلني الله فداك، قال: «بلغني أنك تقول الشعر في الحسين (عليه السلام) وتجيد»، فقال له: نعم جعلني الله فداك، قال: «قل»، فأنشدته، فبكى ومن حوله حتى صارت الدموع على وجهه ولحيته، ثم قال: «يا جعفر، والله لقد شهدت الملائكة المقربون هاهنا يسمعون قولك في الحسين (عليه السلام)، ولقد بكوا كما بكينا وأكثر...».

إلى أن قال: «مامن أحد قال في الحسين شعراً فبكى وأبكى به إلاّ أوجب الله له الجنة، وغفر له»(2).

وروى ابن قولويه في الكامل بسند معتبر حديثاً عن الصادق (عليه السلام) جاء فيه: «وكان جدي علي بن الحسين (عليهما السلام)

____________

(1) ثواب الاعمال: 47.

وراجع: كامل الزيارات: 100 و 104، بحار الانوار 44 / 288.

(2) رجال الكشي: 187.


الصفحة 61
إذا ذكره ـ يعني الحسين (عليه السلام) ـ بكى حتى تملا عيناه لحيته، وحتى يبكي لبكائه ـ رحمة له ـ من رآه، وأنّ الملائكة الذين عند قبره ليبكون فيبكي لبكائهم كلّ من في الهواء والسماء، وما من باك يبكيه إلاّ وقد وصل فاطمة وأسعدها، ووصل رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأدّى حقنا...».

وفي قرب الاسناد عن بكر بن محمد الازدي قال: قال أبو عبد الله ـ الصادق ـ (عليه السلام) لفضيل بن يسار: «أتجلسون وتحدّثون؟» قال: نعم جعلت فداك، قال (عليه السلام): «إنّ تلك المجالس أحبّها، فأحيوا أمرنا، فرحم الله من أحيى أمرنا، يا فضيل: من ذَكَرَنا أو ذُكِرْنا عنده فخرج من عينه مثل جناح الذباب غفر الله له ذنوبه».

وفي خصال الصدوق، عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: «إن الله تبارك وتعالى اطلع إلى الارض فاختارنا، واختار لنا شيعة ينصروننا، ويفرحون لفرحنا، ويحزنون لحزننا، ويبذلون أموالهم وأنفسهم فينا، أُولئك منا وإلينا».

وفي كامل الزيارات بالاسناد إلى أبي عمارة المنشد قال: ماذكر الحسين (عليه السلام) عند أبي عبد الله ـ الصادق ـ (عليه السلام)

الصفحة 62
في يوم قط فرؤي متبسماً في ذلك اليوم إلى الليل، قال: وكان أبو عبد الله (عليه السلام) يقول: «الحسين عبرة كل مؤمن»(1).

وفيه بالاسناد إلى الصادق (عليه السلام) قال: «قال الحسين (عليه السلام): أنا قتيل العبرة، لا يذكرني مؤمن إلاّ استعبر»(2).

إلى غير ذلك من صحاح الاخبار المتواترة عن أئمة الابرار(3).

[حجّية أقوال الائمة (عليهم السلام) في رجحان إقامة المأتم]

وناهيك بها حجة على رجحان هذه المآتم، واستحبابها شرعاً، فان أقوال أئمة الهدى من أهل البيت (عليهم السلام) وأفعالهم

____________

(1) كامل الزيارات: 108.

وراجع: بحار الانوار 44 / 280.

(2) كامل الزيارات: 108.

وراجع: بحار الانوار 44 / 284.

(3) راجع: بحار الانوار 44 / 278 ـ 296 الباب 34.